تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٧

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٠

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١))

جملة (وَلَوْ أَنَّنا) معطوفة على جملة (وَما يُشْعِرُكُمْ) [الأنعام : ١٠٩] باعتبار كون جملة (وَما يُشْعِرُكُمْ) عطفا على جملة (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) [الأنعام : ١٠٩] ، فتكون ثلاثتها ردّا على مضمون جملة (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ) [الأنعام : ١٠٩] إلخ ، وبيانا لجملة (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٠٩].

روى عن ابن عبّاس : أنّ المستهزئين ، الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطّلب ، والحارث بن حنظلة ، من أهل مكّة. أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رهط من أهل مكّة فقالوا : «أرنا الملائكة يشهدون لك أو ابعث لنا بعض موتانا فنسألهم : أحقّ ما تقول» ، وقيل : إن المشركين قالوا : «لا نؤمن لك حتّى يحشر قصي فيخبرنا بصدقك أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا ـ أي كفيلا ـ» فنزل قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) للردّ عليهم. وحكى الله عنهم (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ـ إلى قوله ـ أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) في سورة الإسراء : [٩٠ ـ ٩٢]. وذكر ثلاثة أشياء من خوارق العادات مسايرة لمقترحاتهم ، لأنّهم اقترحوا ذلك.

وقوله : (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ) يشير إلى مجموع ما سألوه وغيره. والحشر : الجمع ، ومنه : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) [النمل : ١٧]. وضمّن معنى البعث والإرسال فعدّي بعلى كما قال تعالى : (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) [الإسراء : ٥]. و (كُلَّ شَيْءٍ) يعمّ الموجودات كلّها. لكن المقام يخصّصه بكلّ شيء ممّا سألوه ، أو من جنس خوارق العادات والآيات ، فهذا من العام المراد به الخصوص مثل قوله تعالى ، في ريح عاد (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) [الأحقاف : ٢٥] والقرينة هي ما ذكر قبله من قوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى).

وقوله : (قُبُلاً) قرأه نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ـ بكسر القاف وفتح الباء ـ ، وهو

٥

بمعنى المقابلة والمواجهة ، أي حشرنا كلّ شيء من ذلك عيانا. وقرأه الباقون ـ بضمّ القاف والباء ـ وهو لغة في قبل بمعنى المواجهة والمعاينة ؛ وتأوّلها بعض المفسّرين بتأويلات أخرى بعيدة عن الاستعمال ، وغير مناسبة للمعنى.

و (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) هو أشدّ من (لا يؤمنون) تقوية لنفي إيمانهم ، مع ذلك كلّه ، لأنّهم معاندون مكابرون غير طالبين للحقّ ، لأنّهم لو طلبوا الحقّ بإنصاف لكفتهم معجزة القرآن ، إن لم يكفهم وضوح الحقّ فيما يدعو إليه الرّسول عليه الصلاة والسلام. فالمعنى : الإخبار عن انتفاء إيمانهم في أجدر الأحوال بأن يؤمن لها من يؤمن ، فكيف إذا لم يكن ذلك. والمقصود انتفاء إيمانهم أبدا.

(وَلَوْ) هذه هي المسماة (لَوْ) الصهيبية ، وسنشرح القول فيها عند قوله تعالى: (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) في سورة الأنفال [٢٣].

وقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) استثناء من عموم الأحوال التي تضمّنها عموم نفي إيمانهم ، فالتّقدير : إلّا بمشيئة الله ، أي حال أن يشاء الله تغيير قلوبهم فيؤمنوا طوعا ، أو أن يكرههم على الإيمان بأن يسلّط عليهم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما أراد الله ذلك بفتح مكّة وما بعده. ففي قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) تعريض بوعد المسلمين بذلك ، وحذفت الباء مع «أن».

ووقع إظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار : لأنّ اسم الجلالة يومئ إلى مقام الإطلاق وهو مقام (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] ، ويومئ إلى أنّ ذلك جرى على حسب الحكمة لأنّ اسم الجلالة يتضمّن جميع صفات الكمال.

والاستدراك بقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) راجع إلى قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) المقتضي أنّهم يؤمنون إذا شاء الله إيمانهم : ذلك أنّهم ما سألوا الآيات إلّا لتوجيه بقائهم على دينهم ، فإنّهم كانوا مصمّمين على نبذ دعوة الإيمان ، وإنّما يتعلّلون بالعلل بطلب الآيات استهزاء ، فكان إيمانهم ـ في نظرهم ـ من قبيل المحال ، فبيّن الله لهم أنّه إذا شاء إيمانهم آمنوا ، فالجهل على هذا المعنى : هو ضدّ العلم. وفي هذا زيادة تنبيه إلى ما أشار إليه قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) من أنّ ذلك سيكون ، وقد حصل إيمان كثير منهم بعد هذه الآية. وإسناد الجهل إلى أكثرهم يدلّ على أنّ منهم عقلاء يحسبون ذلك.

ويجوز أن يكون الاستدراك راجعا إلى ما تضمّنه الشّرط وجوابه : من انتفاء إيمانهم

٦

مع إظهار الآيات لهم ، أي لا يؤمنون ، ويزيدهم ذلك جهلا على جهلهم ، فيكون المراد بالجهل ضدّ الحلم ، لأنّهم مستهزءون ، وإسناد الجهل إلى أكثرهم لإخراج قليل منهم وهم أهل الرأي والحلم فإنّهم يرجى إيمانهم ، لو ظهرت لهم الآيات ، وبهذا التّفسير يظهر موقع الاستدراك.

فضمير (يَجْهَلُونَ) عائد إلى المشركين لا محالة كبقية الضّمائر التي قبله.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢))

اعتراض قصد منه تسلية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والواو واو الاعتراض ، لأنّ الجملة بمنزلة الفذلكة ، وتكون للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسلية بعد ذكر ما يحزنه من أحوال كفار قومه ، وتصلّبهم في نبذ دعوته ، فأنبأه الله : بأنّ هؤلاء أعداؤه ، وأن عداوة أمثالهم سنة من سنن الله تعالى في ابتلاء أنبيائه كلّهم ، فما منهم أحد إلّا كان له أعداء ، فلم تكن عداوة هؤلاء للنبي عليه الصلاة والسلام بدعا من شأن الرّسل. فمعنى الكلام : ألست نبيئا وقد جعلنا لكلّ نبيء عدوّا ـ إلى آخره.

والإشارة بقوله : (وَكَذلِكَ) إلى الجعل المأخوذ من فعل (جَعَلْنا) كما تقدّم في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣]. فالكاف في محل نصب على أنّه مفعول مطلق لفعل (جَعَلْنا).

وقوله : (عَدُوًّا) مفعول (جَعَلْنا) الأوّل ، وقوله : (لِكُلِّ نَبِيٍ) المجرور مفعول ثان ل (جَعَلْنا) وتقديمه على المفعول الأول للاهتمام به ، لأنّه الغرض المقصود من السّياق ، إذ المقصود الإعلام بأنّ هذه سنّة الله في أنبيائه كلّهم ، فيحصل بذلك التّأسّي والقدوة والتّسلية ؛ ولأن في تقديمه تنبيها ـ من أول السمع ـ على أنه خبر ، وأنه ليس متعلّقا بقوله : (عَدُوًّا) كيلا يخال السّامع أنّ قوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ) مفعول لأنّه يحوّل الكلام إلى قصد الإخبار عن أحوال الشّياطين ، أو عن تعيين العدوّ للأنبياء من هو ، وذلك ينافي بلاغة الكلام.

و (شَياطِينَ) بدل من (عَدُوًّا) وإنّما صيغ التّركيب هكذا : لأنّ المقصود الأوّل الإخبار بأنّ المشركين أعداء للرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن أعرب (شَياطِينَ) مفعولا لجعل و (لِكُلِّ نَبِيٍ) ظرفا لغوا متعلّقا ب (عَدُوًّا) فقد أفسد المعنى.

٧

والعدوّ : اسم يقع على الواحد والمعتدّد ، قال تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) [المنافقون : ٤] وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ) في سورة النساء [٩٢].

والشّيطان أصله نوع من الموجودات المجرّدة الخفية ، وهو نوع من جنس الجنّ ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢]. ويطلق الشّيطان على المضلّل الّذي يفعل الخبائث من النّاس على وجه المجاز. ومنه «شياطين العرب» لجماعة من خباثهم ، منهم : ناشب الأعور ، وابنه سعد بن ناشب الشّاعر ، وهذا على معنى التّشبيه ، وشاع ذلك في كلامهم.

والإنس : الإنسان وهو مشتقّ من التأنّس والإلف ، لأنّ البشر يألف بالبشر ويأنس به ، فسمّاه إنسا وإنسانا.

و «شياطين الإنس» استعارة للنّاس الّذين يفعلون فعل الشّياطين : من مكر وخديعة. وإضافة شياطين إلى الإنس إضافة مجازية على تقدير (من) التبعيضية مجازا ، بناء على الاستعارة التي تقتضي كون هؤلاء الإنس شياطين ، فهم شياطين ، وهم بعض الإنس ، أي أنّ الإنس : لهم أفراد متعارفة ، وأفراد غير متعارفة يطلق عليهم اسم الشّياطين ، فهي بهذا الاعتبار من إضافة الأخصّ من وجه إلى الأعمّ من وجه ، وشياطين الجنّ حقيقة ، والإضافة حقيقة ، لأنّ الجنّ منهم شياطين ، ومنهم غير شياطين ، ومنهم صالحون ، وعداوة شياطين الجنّ للأنبياء ظاهرة ، وما جاءت الأنبياء إلّا للتحذير من فعل الشّياطين ، وقد قال الله تعالى لآدم : (إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) [طه : ١١٧].

وجملة (يُوحِي) في موضع الحال ، يتقيّد بها الجعل المأخوذ من (جَعَلْنا) فهذا الوحي من تمام المجعول.

والوحي : الكلام الخفي ، كالوسوسة ، وأريد به ما يشمل إلقاء الوسوسة في النّفس من حديث يزوّر في صورة الكلام. والبعض الموحي : هو شياطين الجنّ ، يلقون خواطر المقدرة على تعليم الشرّ إلى شياطين الإنس ، فيكونون زعماء لأهل الشرّ والفساد.

والزّخرف : الزّينة ، وسمّي الذهب زخرفا لأنّه يتزيّن به حليا ، وإضافة الزخرف إلى القول من إضافة الصّفة إلى الموصوف ، أي القول الزخرف : أي المزخرف ، وهو من الوصف بالجامد الّذي في معنى المشتق ، إذ كان بمعنى الزين. وأفهم وصف القول

٨

بالزخرف أنّه محتاج إلى التّحسين والزخرفة ، وإنّما يحتاج القول إلى ذلك إذا كان غير مشتمل على ما يكسبه القبول في حدّ ذاته ، وذلك أنّه كان يفضي إلى ضرّ يحتاج قائله إلى تزيينه وتحسينه لإخفاء ما فيه من الضرّ ، خشية أن ينفر عنه من يسوله لهم ، فذلك التّزيين ترويج يستهوون به النّفوس ، كما تموّه للصّبيان اللّعب بالألوان والتذهيب.

وانتصب (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) على النيابة عن المفعول المطلق من فعل (يُوحِي) لأنّ إضافة الزّخرف إلى القول ، الّذي هو من نوع الوحي ، تجعل (زُخْرُفَ) نائيا عن المصدر المبيّن لنوع الوحي.

والغرور : الخداع والإطماع بالنّفع لقصد الإضرار ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) في سورة آل عمران [١٩٦]. وانتصب (غُرُوراً) على المفعول لأجله لفعل (يُوحِي) ، أي يوحون زخرف القول ليغرّوهم.

والقول في معنى المشيئة من قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) كالقول في (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) [الأنعام : ١٠٧] والجملة معترضة بين المفعول لأجله وبين المعطوف عليه.

والضّمير المنصوب في قوله : (فَعَلُوهُ) عائد إلى الوحي. المأخوذ من (يُوحِي) أو إلى الإشراك المتقدّم في قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا) [الأنعام : ١٠٧] أو إلى العداوة المأخوذة من قوله : (لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا).

والضّمير المرفوع عائد إلى (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) ، أو إلى المشركين ، أو إلى العدوّ ، وفرع عليه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتركهم وافتراءهم ، وهو ترك إعراض عن الاهتمام بغرورهم ، والنكد منه ، لا إعراض عن وعظهم ودعوتهم ، كما تقدّم في قوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ). والواو بمعنى مع.

(وَما يَفْتَرُونَ) موصول منصوب على المفعول معه. وما يفترونه هو أكاذيبهم الباطلة من زعمهم إلهية الأصنام ، وما يتبع ذلك من المعتقدات الباطلة.

(وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (١١٣))

عطف قوله : (وَلِتَصْغى) على (غُرُوراً) [الأنعام : ١١٢] لأنّ (غُرُوراً) في معنى

٩

ليغرّوهم. واللام لام كي وما بعدها في تأويل مصدر ، أي ولصغى ، أي ميل قلوبهم إلى وحيهم فتقوم عليهم الحجّة. ومعنى (لِتَصْغى) تميل ، يقال : صغى يصغى صغيا ، ويصغو صغوا ـ بالياء وبالواو ـ ووردت الآية على اعتباره ـ بالياء ـ لأنّه رسم في المصحف بصورة الياء. وحقيقته الميل الحسي ، يقال : صغى ، أي مال ، وأصغى أمال. وفي حديث الهرّة : أنّه أصغى إليها الإناء ، ومنه أطلق : أصغى بمعنى استمع ، لأنّ أصله أمال سمعه أو أذنه ، ثمّ حذفوا المفعول لكثرة الاستعمال. وهو هنا مجاز في الاتّباع وقبول القول.

والّذين لا يؤمنون بالآخرة هم المشركون. وخصّ من صفات المشركين عدم إيمانهم بالآخرة ، فعرّفوا بهذه الصّلة للإيماء إلى بعض آثار وحي الشّياطين لهم. وهذا الوصف أكبر ما أضرّ بهم ، إذ كانوا بسببه لا يتوخّون فيما يصنعون خشية العاقبة وطلب الخير ، بل يتّبعون أهواءهم وما يزيّن لهم من شهواتهم ، معرضين عمّا في خلال ذلك من المفاسد والكفر ، إذ لا يترقّبون جزاء عن الخير والشرّ ، فلذلك تصغى عقولهم إلى غرور الشّياطين. ولا تصغى إلى دعوة النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم والصّالحين.

وعطف (وَلِيَرْضَوْهُ) على (وَلِتَصْغى) ، وإن كان الصّغي يقتضي الرّضى ويسبّبه فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بالفاء وأن لا تكرّر لام التّعليل ، فخولف مقتضى الظاهر ، للدلالة على استقلاله بالتّعليل ، فعطف بالواو وأعيدت اللّام لتأكيد الاستقلال ، فيدل على أن صغى أفئدتهم إليه ما كان يكفي لعملهم به إلّا لأنّهم رضوه.

وعطف (وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) على و (لِيَرْضَوْهُ) كعطف و (لِيَرْضَوْهُ) على (وَلِتَصْغى).

والاقتراف افتعال من قرف إذا كسب سيئة ، قال تعالى بعد هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَيَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ) [الأنعام : ١٢٠] فذكر هنالك ل (يَكْسِبُونَ) مفعولا لأنّ الكسب يعمّ الخير والشرّ ، ولم يذكر هنا ل (يَقْتَرِفُونَ) مفعولا لأنّه لا يكون إلّا اكتساب الشرّ ، ولم يقل : سيجزون بما كانوا يكسبون لقصد تأكيد معنى الإثم. يقال : قرف واقترف وقارف. وصيغة الافتعال وصيغة المفاعلة فيه للمبالغة ، وهذه المادة تؤذن بأمر ذميم. وحكوا أنّه يقال : قرف فلان لعياله ، أي كسب ، ولا أحسبه صحيحا.

وجيء في صلة الموصول بالجملة الاسميّة في قوله : (ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ) للدلالة على تمكّنهم في ذلك الاقتراف وثباتهم فيه.

١٠

(أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤))

استئناف بخطاب من الله تعالى إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتقدير الأمر بالقول بقرينة السّياق كما في قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥] أي يقولون. وقوله المتقدّم آنفا (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأنعام : ١٠٤] بعد أن أخبره عن تصاريف عناد المشركين ، وتكذيبهم. وتعنّتهم في طلب الآيات الخوارق ، إذ جعلوها حكما بينهم وبين الرّسول عليه الصلاة والسلام في صدق دعوته ، وبعد أن فضحهم الله بعداوتهم لرسوله عليه الصلاة والسلام ، وافترائهم عليه ، وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإعراض عنهم وتركهم وما يفترون ، وأعلمه بأنّه ما كلّفه أن يكون وكيلا لإيمانهم ، وبأنّهم سيرجعون إلى ربّهم فينبّئهم بما كانوا يعملون ، بعد ذلك كلّه لقّن الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخاطبهم خطابا كالجواب عن أقوالهم وتورّكاتهم ، فيفرّع عليها أنّه لا يطلب حاكما بينه وبينهم غير الله تعالى ، الّذي إليه مرجعهم ، وأنهم إن طمعوا في غير ذلك منه فقد طمعوا منكرا ، فتقدير القول متعيّن لأنّ الكلام لا يناسب إلّا أن يكون من قول النبي عليه الصلاة والسلام.

والفاء لتفريع الجواب عن مجموع أقوالهم ومقترحاتهم ، فهو من عطف التّلقين بالفاء : كما جاء بالواو في قوله تعالى : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤] ، ومنه بالفاء قوله في سورة الزمر [٦٤] : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) فكأنّ المشركين دعوا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى التّحاكم في شأن نبوءته بحكم ما اقترحوا عليه من الآيات ، فأجابهم بأنّه لا يضع دين الله للتّحاكم ، ولذلك وقع الإنكار أن يحكّم غير الله تعالى ، مع أنّ حكم الله ظاهر بإنزال الكتاب مفصّلا بالحقّ ، وبشهادة أهل الكتاب في نفوسهم ، ومن موجبات التّقديم كون المقدّم يتضمّن جوابا لردّ طلب طلبه المخاطب ، كما أشار إليه صاحب «الكشاف» في قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا) في هذه السورة [الأنعام : ١٦٤]. والهمزة للاستفهام الإنكاري : أي إن ظننتم ذلك فقد ظننتم منكرا.

وتقديم (أَفَغَيْرَ اللهِ) على (أَبْتَغِي) لأنّ المفعول هو محلّ الإنكار. فهو الحقيق بموالاة همزة الاستفهام الإنكاري ، كما تقدّم في قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) في هذه السورة [١٤].

والحكم : الحاكم المتخصّص بالحكم الّذي لا ينقض حكمه ، فهو أخصّ من

١١

الحاكم ، ولذلك كان من أسمائه تعالى : الحكم ، ولم يكن منها : الحاكم. وانتصب (حَكَماً) على الحال.

والمعنى : لا أطلب حكما بيني وبينكم غير الله الّذي حكم حكمه عليكم بأنّكم أعداء مقترفون.

وتقدّم الكلام على الابتغاء عند قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) في سورة آل عمران [٨٣].

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) من تمام القول المأمور به. والواو للحال أي لا أعدل عن التّحاكم إليه. وقد فصّل حكمه بإنزال القرآن إليكم لتتدبّروه فتعلموا منه صدقي ، وأنّ القرآن من عند الله. وقد صيغت جملة الحال على الاسميّة المعرّفة الجزأين لتفيد القصر مع إفادة أصل الخبر. فالمعنى : والحال أنّه أنزل إليكم الكتاب ولم ينزله غيره ، ونكتة ذلك أنّ في القرآن دلالة على أنّه من عند الله بما فيه من الإعجاز ، وبأمّيّة المنزّل عليه. وأنّ فيه دلالة على صدق الرّسول عليه الصلاة والسلام تبعا لثبوت كونه منزّلا من عند الله ، فإنّه قد أخبر أنّه أرسل محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنّاس كافّة ، وفي تضاعيف حجج القرآن وأخباره دلالة على صدق من جاء به ؛ فحصل بصوغ جملة الحال على صيغة القصر الدّلالة على الأمرين : أنّه من عند الله ، والحكم للرسول عليه الصّلاة والسّلام بالصّدق.

والمراد بالكتاب القرآن ، والتعريف للعهد الحضوري ، والضمير في (إِلَيْكُمُ) خطاب للمشركين ، فإنّ القرآن أنزل إلى النّاس كلّهم للاهتداء به ، فكما قال الله : (بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء : ١٦٦] قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) [النساء : ١٧٤] وفي قوله : (إِلَيْكُمُ) هنا تسجيل عليهم بأنّه قد بلّغهم فلا يستطيعون تجاهلا.

والمفصّل المبيّن. وقد تقدّم ذكر التّفصيل عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) في هذه السورة [٥٥].

وجملة (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ) معطوفة على القول المحذوف ، فتكون استئنافا مثله ، أو معطوفة على جملة (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي) أو على جملة (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) ، فهو عطف تلقين عطف به الكلام المنسوب إلى الله على الكلام

١٢

المنسوب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعضيدا لما اشتمل عليه الكلام المنسوب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كون القرآن حقّا ، وأنّه من عند الله.

والمراد بالّذين آتاهم الله الكتاب : أحبار اليهود ، لأنّ الكتاب هو التّوراة المعروف عند عامّة العرب ، وخاصّة أهل مكّة ، لتردّد اليهود عليها في التّجارة. ولتردّد أهل مكّة على منازل اليهود بيثرب وقراها ولكون المقصود بهذا الحكم أحبار اليهود خاصّة قال : (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) ولم يقل : أهل الكتاب.

ومعنى علم الّذين أوتوا الكتاب بأنّ القرآن منزّل من الله : أنّهم يجدونه مصدّقا لما في كتابهم ، وهم يعلمون أنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدرس كتابهم على أحد منهم ، إذ لو درسه لشاع أمره بينهم ، ولأعلنوا ذلك بين النّاس حين ظهور دعوته. وهم أحرص على ذلك ، ولم يدّعوه. وعلمهم بذلك لا يقتضي إسلامهم لأنّ العناد والحسد يصدّانهم عن ذلك. وقيل : المراد بالّذين آتاهم الله الكتاب : من أسلموا من أحبار اليهود. مثل عبد الله بن سلام. ومخيريق ، فيكون الموصول في قوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) للعهد. وعن عطاء : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ). هم رؤساء أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ. فيكون الكتاب هو القرآن.

وضمير (أَنَّهُ) عائد إلى الكتاب الّذي في قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ) وهو القرآن.

والباء في قوله (بِالْحَقِ) للملابسة ، أي ملابسا للحقّ. وهي ملابسة الدّالّ للمدلول ، لأنّ معانيه ، وأخباره ، ووعده ، ووعيده ، وكلّ ما اشتمل عليه ، حقّ.

وقرأ الجمهور (مُنَزَّلٌ) ـ بتخفيف الزاي ـ وقرأ ابن عامر وحفص ـ بالتّشديد ـ والمعنى متقارب أو متّحد ، كما تقدّم في قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) في أوّل سورة آل عمران [٣].

والخطاب في قوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) [البقرة : ١٤٧] يحتمل أن يكون خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون التّفريع على قوله : (يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) أي فلا تكن من الممترين في أنّهم يعلمون ذلك ، والمقصود تأكيد الخبر كقول القائل بعد الخبر : هذا ما لا شكّ فيه ، فالامتراء المنفي هو الامتراء في أنّ أهل الكتاب يعلمون ذلك ، لأنّ غريبا اجتماع علمهم وكفرهم به ، ويجوز أن يكون خطابا لغير معيّن ، ليعمّ كلّ من يحتاج إلى

١٣

مثل هذا الخطاب ، أي فلا تكوننّ ـ أيّها السّامع ـ من الممترين ، أي الشّاكين في كون القرآن من عند الله ، فيكون التّفريع على قوله : (مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) أي فهذا أمر قد اتّضح. فلا تكن من الممترين فيه. ويحتمل أن يكون المخاطب الرّسول عليه الصلاة والسلام ، والمقصود من الكلام المشركون الممترون ، على طريقة التّعريض ، كما يقال : (إياك أعني واسمعي يا جاره). ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥]. وهذا الوجه هو أحسن الوجوه ، والتفريع فيه كما في الوجه الثّاني.

وعلى كلّ الوجوه كان حذف متعلّق الامتراء لظهوره من المقام تعويلا على القرينة ، وإذ قد كانت هذه الوجوه الثّلاثة غير متعارضة ، صحّ أن يكون جميعها مقصودا من الآية. لتذهب أفهام السامعين إلى ما تتوصّل إليه منها. وهذا ـ فيما أرى ـ من مقاصد إيجاز القرآن وهو معنى الكلام الجامع ، ويجيء مثله في آيات كثيرة ، وهو من خصائص القرآن.

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥))

هذه الجملة معطوفة على جملة : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) [الأنعام : ١١٤] لأنّ تلك الجملة مقول قول مقدّر ، إذ التّقدير : قل أفغير الله أبتغي حكما باعتبار ما في تلك الجملة من قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام : ١١٤] فلمّا وصف الكتاب بأنّه منزّل من الله ، ووصف بوضوح الدّلالة بقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام : ١١٤] ثمّ بشهادة علماء أهل الكتاب بأنّه من عند الله بقوله : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ) [الأنعام : ١١٤] ، أعلم رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأنّ هذا الكتاب تامّ الدلالة ، ناهض الحجّة ، على كلّ فريق : من مؤمن وكافر ، صادق وعده ووعيده ، عادل أمره ونهيه. ويجوز أن تكون معطوفة على جملة : و (جَعَلْنا لِكُلِ) نبيء (عَدُوًّا) وما بينهما اعتراض ، كما سنبيّنه.

والمراد بالتمام معنى مجازي : إمّا بمعنى بلوغ الشّيء إلى أحسن ما يبلغه ممّا يراد منه ، فإنّ التّمام حقيقته كون الشّيء وافرا أجزاءه ، والنقصان كونه فاقدا بعض أجزائه ، فيستعار لوفرة الصّفات التي تراد من نوعه ؛ وإمّا بمعنى التّحقّق فقد يطلق التّمام على حصول المنتظر وتحقّقه ، يقال : تم ما أخبر به فلان ، ويقال : أتم وعده ، أي حقّقه ، ومنه

١٤

قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة : ١٢٤] أي عمل بهنّ دون تقصير ولا ترخّص ، وقوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) [الأعراف : ١٣٧] أي ظهر وعده لهم بقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٥] الآية ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) [الصف : ٨] أي محقّق دينه ومثبته ، لأنّه جعل الإتمام في مقابلة الإطفاء المستعمل في الإزالة مجازا أيضا.

وقوله : كلمات ربك قرأه الجمهور ـ بصيغة الجمع ـ وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف : كلمة ـ بالإفراد ـ فقيل : المراد بالكلمات أو الكلمة القرآن ، وهو قول جمهور المفسّرين ، ونقل عن قتادة ، وهو الأظهر ، المناسب لجعل الجملة معطوفة على جملة : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) [الأنعام : ١١٤]. فأمّا على قراءة الإفراد فإطلاق الكلمة على القرآن باعتبار أنّه كتاب من عند الله ، فهو من كلامه وقوله. والكلمة والكلام يترادفان ، ويقول العرب : كلمة زهير ، يعنون قصيدته ، وقد أطلق في القرآن (الكلمات) على الكتب السّماوية في قوله تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) النبي (الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ) [الأعراف : ١٥٨] أي كتبه. وأمّا على قراءة الكلمات بالجمع فإطلاقها على القرآن باعتبار ما يشتمل عليه من الجمل والآيات. أو باعتبار أنواع أغراضه من أمر ، ونهي ، وتبشير ، وإنذار ، ومواعظ ، وإخبار ، واحتجاج ، وإرشاد ، وغير ذلك. ومعنى تمامها أنّ كلّ غرض جاء في القرآن فقد جاء وافيا بما يتطلّبه القاصد منه. واستبعد ابن عطيّة أن يكون المراد من كلمات ربك ـ بالجمع أو الإفراد ـ القرآن ، واستظهر أنّ المراد منها : قول الله ، أي نفذ قوله وحكمه. وقريب منه ما أثر عن ابن عبّاس أنّه قال : كلمات الله وعده. وقيل : كلمات الله : أمره ونهيه ، ووعده ، ووعيده ، وفسّر به في «الكشاف» ، وهو قريب من كلام ابن عطيّة ، لكنّ السّياق يشهد بأنّ تفسير الكلمات بالقرآن أظهر.

وانتصب (صِدْقاً وَعَدْلاً) على الحال ، عند أبي عليّ الفارسي ، بتأويل المصدر باسم الفاعل ، أي صادقة وعادلة ، فهو حال من كلمات وهو المناسب لكون التّمام بمعنى التّحقّق ، وجعلهما الطّبري منصوبين على التّمييز ، أي تمييز النّسبة ، أي تمّت من جهة الصّدق والعدل ، فكأنّه قال : تمّ صدقها وعدلها ، وهو المناسب لكون التمام بمعنى بلوغ الشّيء أحسن ما يطلب من نوعه. وقال ابن عطيّة : هذا غير صواب. وقلت : لا وجه لعدم تصويبه.

والصّدق : المطابقة للواقع في الإخبار : وتحقيق الخبر في الوعد والوعيد ، والنّفوذ

١٥

في الأمر والنّهي ، فيشمل الصّدق كلّ ما في كلمات الله من نوع الإخبار عن شئون الله وشئون الخلائق. ويطلق الصّدق مجازا على كون الشّيء كاملا في خصائص نوعه.

والعدل : إعطاء من يستحقّ ما يستحقّ ، ودفع الاعتداء والظلم على المظلوم ، وتدبير أمور النّاس بما فيه صلاحهم. وتقدم بيانه عند قوله تعالى : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) في سورة النّساء [٥٨]. فيشمل العدل كلّ ما في كلمات الله : من تدبير شئون الخلائق في الدّنيا والآخرة.

فعلى التّفسير الأوّل للكلمات أو الكلمة ، يكون المعنى : أن القرآن بلغ أقصى ما تبلغه الكتب : في وضوح الدّلالة ، وبلاغة العبارة ، وأنّه الصّادق في أخباره ، العادل في أحكامه ، لا يعثر في أخباره على ما يخالف الواقع ، ولا في أحكامه على ما يخالف الحقّ ؛ فذلك ضرب من التحدّي والاحتجاج على أحقّيّة القرآن. وعلى التّفسيرين الثّاني والثّالث ، يكون المعنى : نفذ ما قاله الله ، وما وعد وأوعد ، وما أمر ونهى ، صادقا ذلك كلّه ، أي غير متخلّف ، وعادلا ، أي غير جائر. وهذا تهديد للمشركين بأن سيحقّ عليهم الوعيد ، الّذي توعّدهم به ، فيكون كقوله تعالى : وتمت كلمت (رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا) [الأعراف : ١٣٧] أي تمّ ما وعدهم به من امتلاك مشارق الأرض ومغاربها الّتي بارك فيها ، وقوله : (وَكَذلِكَ حَقَّتْ) كلمات (رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) [غافر : ٦] أي حقّت كلمات وعيده.

ومعنى : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) نفي جنس من يبدل كلمات الله ، أي من يبطل ما أراده في كلماته.

والتّبديل تقدّم عند قوله تعالى : (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) من سورة البقرة [٦١] ، وتقدّم هناك بيان أنّه لا يوجد له فعل مجرّد ، وأنّ أصل مادّته هو التّبديل.

والتّبديل حقيقته جعل شيء مكان شيء آخر ، فيكون في الذّوات كما قال تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم : ٤٨] وقال النّابغة :

عهدت بها حيّا كراما فبدّلت

خناطيل آجال النّعاج الجوافل

ويكون في الصّفات كقوله تعالى : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [النور : ٥٥].

ويستعمل مجازا في إبطال الشّيء ونقضه ، قال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ)

١٦

[الفتح : ١٥] أي يخالفوه وينقضوا ما اقتضاه ، وهو قوله : (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) [الفتح : ١٥]. وذلك أنّ النقض يستلزم الإتيان بشيء ضدّ الشّيء المنقوض. فكان ذلك اللّزوم هو علاقة المجاز. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) في سورة البقرة [١٨١]. وقد استعمل في قوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) مجازا في معنى المعارضة أو النقض على الاحتمالين في معنى التّمام من قوله : وتمت كلمات ربك ونفي المبدّل كناية عن نفي التبديل.

فإن كان المراد بالكلمات القرآن ، كما تقدّم ، فمعنى انتفاء المبدّل لكلماته : انتفاء الإتيان بما ينقضه ويبطله أو يعارضه ، بأن يظهر أنّ فيه ما ليس بتمام. فإن جاء أحد بما ينقضه كذبا وزورا فليس ذلك بنقض. وإنّما هو مكابرة في صورة النقض ، بالنّسبة إلى ألفاظ القرآن ونظمه ، وانتفاء ما يبطل معانيه وحقائق حكمته ، وانتفاء تغيير ما شرعه وحكم به. وهذا الانتفاء الأخير كناية عن النّهي عن أن يخالفه المسلمون. وبذلك يكون التّبديل مستعملا في حقيقته ومجازه وكنايته.

ويجوز أن تكون جملة : وتمت كلمات ربك عطفا على جملة : جعلنا لكل نبيء عدوا [الأنعام : ١١٢] وما بينهما اعتراضا ، فالكلمات مراد بها ما سنّه الله وقدّره : من جعل أعداء لكلّ نبي يزخرفون القول في التّضليل ، لتصغى إليهم قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ويتّبعوهم ، ويقترفوا السيئات ، وأنّ المراد بالتّمام التّحقّق ، ويكون قوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) نفي أن يقدر أحد أن يغيّر سنّة الله وما قضاه وقدّره ، كقوله : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) [فاطر : ٤٣] فتكون هذه الآية في معنى قوله : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) [الأنعام : ٣٤]. ففيها تأنيس للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتطمين له وللمؤمنين بحلول النّصر الموعود به في إبّانه.

وقوله : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تذييل لجملة : وتمت كلمات ربك (صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي : وهو المطّلع على الأقوال ، العليم بما في الضّمائر ، وهذا تعريض بالوعيد لمن يسعى لتبديل كلماته ، فالسّميع العالم بأصوات المخلوقات ، الّتي منها ما توحي به شياطين الإنس والجنّ ، بعضهم إلى بعض ، فلا يفوته منها شيء ؛ والعالم أيضا بمن يريد أن يبدّل كلمات الله ، على المعاني المتقدّمة ، فلا يخفى عليه ما يخوضون فيه : من تبييت الكيد والإبطال له.

١٧

والعليم أعمّ ، أي : العليم بأحوال الخلق ، والعليم بمواقع كلماته ، ومحالّ تمامها ، والمنظم بحكمته لتمامها ، والموقت لآجال وقوعها.

فذكر هاتين الصّفتين هنا : وعيد لمن شملته آيات الذمّ السابقة ، ووعد لمن أمر بالإعراض عنهم وعن افترائهم ، وبالتحاكم معهم إلى الله ، والّذين يعلمون أنّ الله أنزل كتابه بالحقّ.

(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (١١٦))

أعقب ذكر عناد المشركين ، وعداوتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وولايتهم للشّياطين ، ورضاهم بما توسوس لهم شياطين الجنّ والإنس ، واقترافهم السيّئات طاعة لأوليائهم ، وما طمأن به قلب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أنّه لقي سنّة الأنبياء قبله من آثار عداوة شياطين الإنس والجنّ ، بذكر ما يهون على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ما يرونه من كثرة المشركين وعزّتهم ، ومن قلّة المسلمين وضعفهم ، مع تحذيرهم من الثّقة بقولهم ، والإرشاد إلى مخالفتهم في سائر أحوالهم ، وعدم الإصغاء إلى رأيهم ، لأنّهم يضلّون عن سبيل الله ، وأمرهم بأن يلزموا ما يرشدهم الله إليه. فجملة : (وَإِنْ تُطِعْ) متّصلة بجملة : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِ) نبيء (عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] وبجملة : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) [الأنعام : ١١٤] وما بعدها إلى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام : ١١٥].

والخطاب للنّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمقصود به المسلمون مثل قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥].

وجيء مع فعل الشّرط بحرف (إن) الّذي الأصل فيه أن يكون في الشّرط النّادر الوقوع ، أو الممتنع إذا كان ذكره على سبيل الفرض كما يفرض المحال ، والظاهر أنّ المشركين لمّا أيسوا من ارتداد المسلمين ، كما أنبأ بذلك قوله تعالى : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) [الأنعام : ٧١] الآية ، جعلوا يلقون على المسلمين الشبه والشكوك في أحكام دينهم ، كما أشار إليه قوله تعالى عقب هذا : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٢١]. وقد روى الطّبري عن ابن عبّاس ، وعكرمة : أنّ المشركين قالوا : «يا محمّد أخبرنا عن الشّاة إذا ماتت من قتلها (يريدون أكل الشّاة إذا ماتت حتف أنفها دون ذبح) ـ قال ـ الله قتلها ـ فتزعم أنّ ما

١٨

قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الكلب والصقر حلال وما قتله الله حرام» فوقع في نفس ناس من المسلمين من ذلك شيء وفي «سنن التّرمذي» ، عن ابن عبّاس قال : «أتى أناس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله أنأكل ما نقتل ولا نأكل ما يقتل الله» فأنزل الله : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١١٨] الآية. قال التّرمذي : هذا حديث حسن غريب. فمن هذا ونحوه حذّر الله المسلمين من هؤلاء ، وثبّتهم على أنّهم على الحقّ ، وإن كانوا قليلا. كما تقدّم في قوله : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة : ١٠٠].

والطاعة : اسم للطّوع الّذي هو مصدر طاع يطوع ، بمعنى انقاد وفعل ما يؤمر به عن رضى دون ممانعة ، فالطاعة ضدّ الكره. ويقال : طاع وأطاع ، وتستعمل مجازا في قبول القول ، ومنه ما جاء في الحديث : «فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم زكاة أموالهم» ، ومنه قوله تعالى : (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨] أي يقبل قوله ، وإلّا فإنّ المشفوع إليه أرفع من الشفيع فليس المعنى أنّه يمتثل إليه. والطاعة هنا مستعملة في هذا المعنى المجازي وهو قبول القول.

و (أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) هم أكثر سكّان الأرض. والأرض : يطلق على جميع الكرة الأرضية الّتي يعيش على وجهها الإنسان والحيوان والنّبات ، وهي الدّنيا كلّها. ويطلق الأرض على جزء من الكرة الأرضيّة معهود بين المخاطبين وهو إطلاق شائع كما في قوله تعالى : (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) [الإسراء : ١٠٤] يعني الأرض المقدّسة ، وقوله : (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) [المائدة : ٣٣] أي الأرض الّتي حاربوا الله فيها. والأظهر أنّ المراد في الآية المعنى المشهور وهو جميع الكرة الأرضية كما هو غالب استعمالها في القرآن. وقيل : أريد بها مكّة لأنّها الأرض المعهودة للرّسول عليه الصلاة والسلام. وأيّا ما كان فأكثر من في الأرض ضالّون مضلّون : أمّا الكرة الأرضية فلأنّ جمهرة سكّانها أهل عقائد ضالّة ، وقوانين غير عادلة.

فأهل العقائد الفاسدة : في أمر الإلهيّة : كالمجوس ، والمشركين ، وعبدة الأوثان ، وعبدة الكواكب ، والقائلين بتعدّد الإله ؛ وفي أمر النّبوّة : كاليهود والنّصارى ؛ وأهل القوانين الجائرة من الجميع. وكلّهم إذا أطيع إنّما يدعو إلى دينه ونحلته ، فهو مضلّ عن سبيل الله ، وهم متفاوتون في هذا الضّلال كثرة وقلّة ، واتّباع شرائعهم لا يخلو من ضلال وإن كان في بعضها بعض من الصّواب. والقليل من النّاس من هم أهل هدى ، وهم يومئذ

١٩

المسلمون ، ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام من الموحّدين الصّالحين في مشارق الأرض ومغاربها الطالبين للحقّ.

وسبب هذه الأكثرية : أنّ الحقّ والهدى يحتاج إلى عقول سليمة ، ونفوس فاضلة ، وتأمّل في الصّالح والضارّ ، وتقديم الحقّ على الهوى ، والرشد على الشّهوة ، ومحبّة الخير للنّاس ؛ وهذه صفات إذا اختلّ واحد منها تطرّق الضّلال إلى النّفس بمقدار ما انثلم من هذه الصّفات. واجتماعها في النّفوس لا يكون إلّا عن اعتدال تامّ في العقل والنّفس ، وذلك بتكوين الله وتعليمه ، وهي حالة الرّسل والأنبياء ، أو بإلهام إلهي كما كان أهل الحقّ من حكماء اليونان وغيرهم من أصحاب المكاشفات وأصحاب الحكمة الإشراقية وقد يسمّونها الذّوق. أو عن اقتداء بمرشد معصوم كما كان عليه أصحاب الرّسل والأنبياء وخيرة أممهم ؛ فلا جرم كان أكثر من في الأرض ضالّين وكان المهتدون قلّة ، فمن اتبعهم أضلّوه.

والآية لم تقتض أنّ أكثر أهل الأرض مضلّون ، لأنّ معظم أهل الأرض غير متصدّين لإضلال النّاس ، بل هم في ضلالهم قانعون بأنفسهم ، مقبلون على شأنهم ؛ وإنّما اقتضت أنّ أكثرهم ، إن قبل المسلم قولهم ، لم يقولوا له إلّا ما هو تضليل ، لأنّهم لا يلقون عليه إلّا ضلالهم. فالآية تقتضي أنّ أكثر أهل الأرض ضالّون بطريق الالتزام لأنّ المهتدي لا يضلّ متبعه وكلّ إناء يرشح بما فيه. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى في آية [١٠٠] سورة العقود : (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ).

واعلم أنّ هذا لا يشمل أهل الخطأ في الاجتهاد من المسلمين ، لأنّ المجتهد في مسائل الخلاف يتطلّب مصادفة الصّواب باجتهاده ، بتتبع الأدلة الشرعية ولا يزال يبحث عن معارض اجتهاده وإذا استبان له الخطأ رجع عن رأيه ، فليس في طاعته ضلال عن سبيل الله لأنّ من سبيل الله طرق النّظر والجدل في التفقّه في الدّين.

وقوله : (يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) تمثيل لحال الدّاعي إلى الكفر والفساد من يقبل قوله ، بحال من يضلّ مستهديه إلى الطريق ، فينعت له طريقا غير الطّريق الموصّلة ، وهو تمثيل قابل لتوزيع التّشبيه : بأنّ يشبّه كلّ جزء من أجزاء الهيئة المشبّهة بجزء من أجزاء الهيئة المشبّه بها ، وإضافة السبيل إلى اسم الله قرينة على الاستعارة ، وسبيل الله هو أدلّة الحقّ ، أو هو الحقّ نفسه.

ثمّ بيّن الله سبب ضلالهم وإضلالهم : بأنّهم ما يعتقدون ويدينون إلّا عقائد ضالّة ،

٢٠