تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٢

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٧ ـ سورة الأعراف

هذا هو الاسم الذي عرفت به هذه السّورة ، من عهد النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أخرج النّسائي ، من حديث ابن أبي مليكة ، عن عروة عن زيد بن ثابت : أنّه قال لمروان بن الحكم : «ما لي أراك تقرأ في المغرب بقصار السّور وقد رأيت رسول الله عليه الصّلاة والسّلام يقرأ فيها بأطول الطوليين». قال مروان قلت : «يا أبا عبد الله ما أطول الطولين» ، قال : «الأعراف». وكذلك حديث أمّ سلمة رضي‌الله‌عنها أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في المغرب بطولي الطوليين. والمراد بالطوليين سورة الأعراف وسورة الأنعام ، فإنّ سورة الأعراف أطول من سورة الأنعام ، باعتبار عدد الآيات. ويفسر ذلك حديث عائشة رضي‌الله‌عنها. أخرج النّسائي ، عن عروة عن عائشة رضي‌الله‌عنها : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف فرّقها في ركعتين.

ووجه تسميتها أنّها ذكر فيها لفظ الأعراف بقوله تعالى : (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) [الأعراف : ٤٦] الآية. ولم يذكر في غيرها من سور القرآن ، ولأنّها ذكر فيها شأن أهل الأعراف في الآخرة ، ولم يذكر في غيرها من السّور بهذا اللّفظ ، ولكنّه ذكر بلفظ (سور) في قوله : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) في سورة الحديد [١٣].

وربّما تدعى بأسماء الحروف المقطّعة التي في أوّلها وهي : «ألف ـ لام ـ ميم ـ صاد» أخرج النّسائي من حديث أبي الأسود ، عن عروة ، عن زيد بن ثابت : أنّه قال لمروان : لقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المغرب بأطول الطوليين : «ألف ، لام ، ميم ، صاد». وهو يجيء على القول بأنّ الحروف المقطّعة التي في أوائل بعض السّور هي أسماء للسّور الواقعة فيها ، وهو ضعيف ، فلا يكون (المص) اسما للسّورة ، وإطلاقه عليها إنّما

٥

هو على تقدير التّعريف بالإضافة إلى السّورة ذات المص ، وكذلك سمّاها الشّيخ ابن أبي زيد في «الرّسالة» في باب سجود القرآن. ولم يعدّوا هذه السّور ذات الأسماء المتعدّدة. وأمّا ما في حديث زيد من أنّها تدعى طولى الطّوليين فعلى إرادة الوصف دون التلقيب. وذكر الفيروزآبادي في كتاب «بصائر ذوي التّمييز» أنّ هذه السّورة تسمى سورة الميقات لاشتمالها على ذكر ميقات موسى في قوله : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا) [الأعراف : ١٤٣]. وأنّها تسمى سورة الميثاق لاشتمالها على حديث الميثاق في قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)(١) [الأعراف : ١٧٢].

وهي مكّية بلا خلاف. ثمّ قيل جميعها مكّي ، وهو ظاهر رواية مجاهد وعطاء الخراساني عن ابن عبّاس ، وكذلك نقل عن ابن الزّبير ، وقيل نزل بعضها بالمدينة ، قال قتادة آية : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) [الأعراف : ١٦٣] نزلت بالمدينة ، وقال مقاتل من قوله : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) ـ إلى قوله ـ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) ذرياتهم [الأعراف : ١٧٢] نزلت بالمدينة ، فإذا صحّ هذا احتمل أن تكون السورة نزلت بمكّة ثم ألحق بها الآيتان المذكورتان ، واحتمل أنّها نزلت بمكّة وأكمل منها بقيتها تانك الآيتان.

ولم أقف على ما يضبط به تاريخ نزولها ؛ وعن جابر بن زيد أنّها نزلت بعد سورة ص وقبل سورة (قُلْ أُوحِيَ) [الجن : ١] ، وظاهر حديث ابن عبّاس في «صحيح البخاري» أنّ سورة (قُلْ أُوحِيَ) أنزلت في أوّل الإسلام حين ظهور دعوة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك في أيّام الحجّ ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوجّه بأصحابه إلى سوق عكاظ ، فلعلّ ذلك في السنة الثّانية من البعثة ، ولا أحسب أن تكون سورة الأعراف قد نزلت في تلك المدّة لأنّ السّور الطوال يظهر أنّها لم تنزل في أوّل البعثة. ولم أقف على هاتين التّسميتين في كلام غيره.

وهي من السّبع الطّوال التي جعلت في أوّل القرآن لطولها وهي سور : البقرة ، وآل عمران ، والنّساء ، والمائدة ، الأنعام ، والأعراف ، وبراءة ، وقدم المدني منها وهي سور : البقرة ، وآل عمران ، والنّساء ، والمائدة ، ثمّ ذكر المكي وهو : الأنعام ، والأعراف على ترتيب المصحف العثماني اعتبارا بأنّ سورة الأنعام أنزلت بمكّة بعد سورة الأعراف فهي

__________________

(١) طبع مطابع شركة الإعلانات الشّرقيّة بالقاهرة سنة ١٣٨٤ ه‍ ، صفحة ٢٠٣ الجزء الأوّل.

٦

أقرب إلى المدني من السّور الطّوال.

وهي معدودة التّاسعة والثّلاثين في ترتيب نزول السّور عند جابر بن زيد عن ابن عبّاس ، نزلت بعد سورة ص وقبل سورة الجن ، كما تقدّم ، قالوا جعلها ابن مسعود في مصحفه عقب سورة البقرة وجعل بعدها سورة النّساء ، ثمّ آل عمران ، ووقع في مصحف أبيّ بعد آل عمران الأنعام ثمّ الأعراف ، وسورة النّساء هي التي تلي سورة البقرة في الطّول وسورة الأعراف تلي سورة النّساء في الطّول.

وعد آي سورة الأعراف مائتان وستّ آيات في عدّ أهل المدينة والكوفة ، ومائتان وخمس في عدّ أهل الشّام والبصرة ، قال في «الإتقان» وقيل مائتان وسبع.

أغراضها

افتتحت هذه السّورة بالتّنويه بالقرآن والوعد بتيسيره على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليبلغه وكان افتتاحها كلاماً جامعاً وهو مناسب لما اشتملت عليه السّورة من المقاصد فهو افتتاح وارد على أحسن وجوه البيان وأكملها شأن سور القرآن.

وتدور مقاصد هذه السّورة على محور مقاصد ؛ منها :

النّهي عن اتّخاذ الشّركاء من دون الله.

وإنذار المشركين عن سوء عاقبة الشّرك في الدّنيا والآخرة.

ووصف ما حلّ بالمشركين والذين كذّبوا الرّسل : من سوء العذاب في الدّنيا ، وما سيحلّ بهم في الآخرة.

تذكير النّاس بنعمة خلق الأرض ، وتمكين النّوع الإنساني من خيرات الأرض ، وبنعمة الله على هذا النّوع بخلق أصله وتفضيله.

وما نشأ من عداوة جنس الشيطان لنوع الإنسان.

وتحذير النّاس من التلبّس ببقايا مكر الشّيطان من تسويله إياهم حرمان أنفسهم الطيّبات ، ومن الوقوع فيما يزجّ بهم في العذاب في الآخرة.

ووصف أهوال يوم الجزاء للمجرمين وكراماته للمتّقين.

والتّذكير بالبعث وتقريب دليله.

٧

والنّهي عن الفساد في الأرض التي أصلحها الله لفائدة الإنسان.

والتّذكير ببديع ما أوجده الله لاصلاحها وإحيائها.

والتّذكير بما أودع الله في فطرة الإنسان من وقت تكوين أصله أن يقبلوا دعوة رسل الله إلى التّقوى والإصلاح.

وأفاض في أحوال الرّسل مع أقوامهم المشركين ، وما لاقوه من عنادهم وأذاهم ، وأنذر بعدم الاغترار بإمهال الله النّاس قبل أن ينزل بهم العذاب ، إعذاراً لهم أن يقلعوا عن كفرهم وعنادهم ، فإنّ العذاب يأتيهم بغتة بعد ذلك الإمهال.

وأطال القول في قصّة موسى عليه‌السلام مع فرعون ، وفي تصرّفات بني إسرائيل مع موسىعليه‌السلام.

وتخلّل قصّته بشارة الله ببعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفة أمّته وفضل دينه.

ثمّ تخلّص إلى موعظة المشركين كيف بدّلوا الحنيفية وتقلّدوا الشّرك ، وضرب لهم مثلا بمن آتاه الله الآيات فوسوس له الشّيطان فانسلخ عن الهدى.

ووصف حال أهل الضّلالة ووصف تكذيبهم بما جاء به الرّسول ووصف آلهتهم بما ينافي الإلهيّة وأنّ لله الصّفات الحسنى صفات الكمال.

ثمّ أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام والمسلمين بسعة الصّدر والمداومة على الدّعوة وحذرهم من مداخل الشّيطان بمراقبة الله بذكره سرّاً وجهراً والإقبال على عبادته.

(المص (١))

هذه الحروف الأربعة المقطّعة التي افتتحت بها هاته السّورة ، ينطق بأسمائها (ألف ـ لام ـ ميم ـ صاد) كما ينطق بالحروف ملقّن المتعلّمين للهجاء في المكتب ، لأنّ المقصود بها أسماء الحروف لا مسمّياتها وأشكالها ، كما أنّك إذا أخبرت عن أحد بخبر تذكر اسم المخبر عنه دون أن تعرض صورته أو ذاته ، فتقول مثلا : لقيت زيدا ، ولا تقول : لقيت هذه الصورة ، ولا لقيت هذه الذات.

فالنّطق بأسماء الحروف هو مقتضى وقوعها في أوائل السّور التي افتتحت بها ، لقصد التّعريض بتعجيز الذين أنكروا نزول القرآن من عند الله تعالى ، أي تعجيز بلغائهم عن

٨

معارضته بمثله كما تقدّم في سورة البقرة.

وإنّما رسموها في المصاحف بصور الحروف دون أسمائها ، أي بمسمّيات الحروف التي ينطق بأسمائها ولم يرسموها بما تقرأ به أسماؤها ، مراعاة لحالة التّهجي (فيما أحسب) ، أنّهم لو رسموها بالحروف التي ينطق بها عند ذكر أسمائها خشوا أن يلتبس مجموع حروف الأسماء بكلمات مثل (ياسين) ، لو رسمت بأسماء حروفها أن تلتبس بنداء من اسمه سين.

فعدلوا إلى رسم الحروف علما بأنّ القارئ في المصحف إذا وجد صورة الحرف نطق باسم تلك الصّورة. على معتادهم في التّهجي طردا للرسم على وتيرة واحدة.

على أنّ رسم المصحف سنّة سنّها كتاب المصاحف فأقرّت. وإنّما العمدة في النّطق بالقرآن على الرّواية والتّلقي ، وما جعلت كتابة المصحف إلّا تذكرة وعونا للمتلقّي.

وتقدّم هذا في أوّل سورة البقرة وفيما هنا زيادة عليه.

(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢))

ذكرنا في طالعة سورة البقرة أنّ الحروف المقطّعة في أوائل السّور أعقبت بذكر القرآن أو الوحي أو ما في معنى ذلك ، وذلك يرجح أن المقصود من هذه الحروف التّهجي ، إبلاغا في التّحدي للعرب بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن وتخفيفا للعبء عن النّبيءصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتلك جملة مستقلّة وهي هنا معدودة آية ولم تعدّ في بعض السّور.

فقوله : (كِتابٌ) مبتدأ ووقع الابتداء ، بالنّكرة إمّا لأنّها أريد بها النّوع لا الفرد فلم يكن في الحكم عليها إبهام وذلك كقولهم : رجل جاءني ، أي لا امرأة ، وتمرة خير من جرادة ، وفائدة إرادة النّوع الردّ على المشركين إنكارهم أن يكون القرآن من عند الله ، واستبعادهم ذلك ، فذكّرهم الله بأنّه كتاب من نوع الكتب المنزّلة على الأنبياء ، فكما نزلت صحف إبراهيم وكتاب موسى كذلك نزل هذا القرآن ، فيكون تنكير النّوعية لدفع الاستبعاد ، ونظيره قوله تعالى : (قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) [ص : ٢٢] فالتّنكير للنّوعيّة.

وإما لأن التّنكير أريد به التّعظيم كقولهم : «شرّ أهرّ ذا ناب» أي شر عظيم. وقول

٩

عويف القوافي :

خبر أتاني عن عيينة موجع

كادت عليه تصدّع الأكباد

أي هو كتاب عظيم تنويها بشأنه فصار التنكير في معنى التوصيف.

وإمّا لأنّه أريد بالتّنكير التعجيب من شأن هذا الكتاب في جميع ما حفّ به من البلاغة والفصاحة والإعجاز والإرشاد ، وكونه نازلا على رجل أمّيّ.

وقوله : (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يجوز أن يكون صفة ل (كِتابٌ) فيكون مسوغا ثانيا للابتداء بالنّكرة ويجوز أن يكون هو الخبر فيجوز أن يكون المقصود من الأخبار تذكير المنكرين والمكابرين ، لأنّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين يعلمون أنّه أنزل من عند الله ، فلا يحتاجون إلى الإخبار به ، فالخبر مستعمل في التّعريض بتغليط المشركين والمكابرين والقاصدين إغاظة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بالإعراض ، ويجوز أن يكون المقصود من الخبر الامتنان والتّذكير بالنّعمة ، فيكون الخبر مستعملا في الامتنان على طريقة المجاز المرسل المركب.

ويجوز أن يجعل الخبر هو قوله : (أُنْزِلَ إِلَيْكَ) مع ما انضمّ إليه من التّفريع والتّعليل ، أي هو كتاب أنزل إليك فكن منشرح الصّدر به ، فإنّه أنزل إليك لتنذر به الكافرين وتذكّر المؤمنين ، والمقصود : تسكين نفس النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإغاظة الكافرين ، وتأنيس المؤمنين ، أي هو كتاب أنزل لفائدة ، وقد حصلت الفائدة فلا يكن في صدرك حرج إن كذّبوا. وبهذه الاعتبارات وبعدم منافاة بعضها لبعض يحمل الكلام على إرادة جميعها وذلك من مطالع السّور العجيبة البيان.

ومن المفسّرين من قدّروا مبتدأ محذوفا ، وجعلوا (كِتابٌ) خبرا عنه ، أي هذا كتاب، أي أنّ المشار إليه القرآن الحاضر في الذّهن ، أو المشار إليه السّورة أطلق عليها كتاب ، ومنهم من جعل (كِتابٌ) خبرا عن كلمة (المص) [الأعراف : ١] وكلّ ذلك بمعزل عن متانة المعنى.

وصيغ فعل : (أُنْزِلَ) بصيغة النائب عن الفاعل اختصارا ، للعلم بفاعل الإنزال ، لأنّ الذي ينزل الكتب على الرّسل هو الله تعالى ، ولما في مادة الإنزال من الإشعار بأنّه من الوحي لملائكة العوالم السّماوية.

والفاء في قوله : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ) اعتراضية إذا الجملة معترضة بين فعل (أُنْزِلَ) ومتعلّقة وهو (لِتُنْذِرَ بِهِ) ، فإنّ الاعتراض يكون مقترنا بالفاء كما يكون مقترنا

١٠

بالواو كما في قوله تعالى : (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) [ص : ٥٧] وقوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) [النساء : ١٣٥]. وقول الشّاعر وهو من الشّواهد :

اعلم فعلم المرء ينفعه

أن سوف يأتي كلّ ما قدّرا

وقول بشّار بن برد :

كقائلة إنّ الحمار فنحّه

عن القتّ أهل السّمسم المتهذّب

وليست الفاء زائدة للاعتراض ولكنّها ترجع إلى معنى التّسبّب ، وإنّما الاعتراض حصل بتقديم جملتها بين شيئين متّصلين مبادرة من المتكلّم بإفادته لأهمّيته ، وأصل ترتيب الكلام هنا : كتاب أنزل إليك لتنذر به وذكرى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه ، وقد ذكر في «مغني اللّبيب» دخول الفاء في الجملة المعترضة ولم يذكر ذلك في معاني الفاء فتوهّم متوهّمون أنّ الفاء لا تقع في الجملة المعترضة.

والمعنى أنّ الله أنزله إليك لا ليكون في صدرك حرج ، بل لينشرح صدرك به. ولذلك جاء في نفي الحرج بصيغة نهي الحرج عن أن يحصل في صدر النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون النّهي نهي تكوين ، بمعنى تكوين النّفي ، عكس أمر التّكوين الذي هو بمعنى تكوين الإثبات. مثّل تكوين نفي الحرج عن صدره بحالة نهي العاقل المدرك للخطاب ، عن الحصول في المكان. وجعل صاحب «الكشاف» النّهي متوجّها في الحقيقة إلى النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي نهيه عن المبالاة بالمكذّبين بالقرآن ، والغمّ من صنيعهم ، وجعل النّهي في ظاهر اللّفظ متوجّها إلى الحرج للمبالغة في التّكليف ، باقتلاعه من أصله على طريقة قول العرب : «لا أرينّك هاهنا» أي لا تحضر فأراك ، وقولهم : «لا أعرفنّك تفعل كذا» أي لا تفعله فأعرّفك به ، نهيا بطريق الكناية ، وأيّا ما كان فالتّفريع مناسب لمعاني التّنكير المفروض في قوله : (كِتابٌ) ، أي فلا يكن في صدرك حرج منه من جهة ما جرّه نزوله إليك من تكذيب قومك وإنكارهم نزوله ، فلا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالته ، ولا يكن في صدرك حرج منه فإنّه سبب شرح صدرك بمعانيه وبلاغته.

و (من) ابتدائيّة ، أي حرج ينشأ ويسري من جرّاء المذكور ، أي من تكذيب المكذّبين به ، فلمّا كان التّكذيب به من جملة شئونه ، وهو سبب الحرج ، صح أن يجعل الحرج مسبّبا عن الكتاب بواسطة. والمعنى على تقدير مضاف أي حرج من إنكاره أي إنكار إنزاله من الله.

١١

والحرج حقيقته المكان الضيّق من الغابات الكثيرة الأشجار ، بحيث يعسر السلوك فيه ، ويستعار لحالة النّفس عند الحزن والغضب والأسف ، لأنّهم تخيّلوا للغاضب والآسف ضيقا في صدره لما وجدوه يعسر منه التّنفّس من انقباض أعصاب مجاري النفس ، وفي معنى الآية قوله تعالى : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ) [هود : ١٢].

و (لِتُنْذِرَ) متعلّق ب (أُنْزِلَ) على معنى المفعول لأجله ، واقترانه بلام التعليل دون الإتيان بمصدر منصوب لاختلاف فاعل العامل وفاعل الإنذار. وجعل الإنذار به مقدّماً في التّعليل لأنّه الغرض الأهم لإبطال ما عليه المشركون من الباطل وما يخلفونه في النّاس من العوائد الباطلة التي تعاني إزالتها من النّاس بعد إسلامهم.

(ذِكْرى) يجوز أن يكون معطوفا على (لِتُنْذِرَ بِهِ) ، باعتبار انسباكه بمصدر فيكون في محلّ جرّ ، ويجوز أن يكون العطف عطف جملة ، ويكون (ذِكْرى) مصدرا بدلا من فعله ، والتّقدير : وذكّر ذكرى للمؤمنين ، فيكون في محلّ نصب فيكون اعتراضاً.

وحذف متعلّق (لِتُنْذِرَ) ، وصرح بمتعلّق (ذِكْرى) لظهور تقدير المحذوف من ذكر مقابله المذكور ، والتّقدير : لتنذر به الكافرين ، وصرح بمتعلّق الذّكرى دون متعلّق (لِتُنْذِرَ) تنويها بشأن المؤمنين وتعريضا بتحقير الكافرين تجاه ذكر المؤمنين.

(اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣))

بيان لجملة : (لِتُنْذِرَ بِهِ) [الأعراف : ٢] بقرينة تذييلها بقوله : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

فالخطاب موجّه للمشركين ويندرج فيه المسلمون بالأولى ، فبعد أن نوّه الله بالكتاب المنزّل إلى الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيّن أن حكمة إنزاله للإنذار والذّكرى ، أمر النّاس أن يتّبعوا ما أنزل إليهم ، كل يتبع ما هو به أعلق ، والمشركون أنزل إليهم الزّجر عن الشّرك والاحتجاج على ضلالهم ، والمسلمون أنزل إليهم الأمر والنّهي والتّكليف ، فكل مأمور باتّباع ما أنزل إليه ، والمقصود الأجدر هم المشركون تعريضا بأنّهم كفروا بنعمة ربّهم ، فوصف (الرب) هنا دون اسم الجلالة : للتّذكير بوجوب اتّباع أمره ، لأنّ وصف الربوبيّة يقتضي الامتثال لأوامره ، ونهاهم عن اتّباع أوليائهم الذين جعلوهم آلهة دونه ، والموجه إليهم النّهي هم المشركون بقرينة قوله : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

١٢

والاتّباع حقيقته المشي وراء ماش ، فمعناه يقتضي ذاتين : تابعا ومتبوعا ، يقال : اتّبع وتبع ، ويستعار للعمل بأمر الآمر نحو : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه : ٩٢ ، ٩٣] وهو استعارة تمثيليّة مبنيّة على تشبيه حالتين ، ويستعار للاقتداء بسيرة أو قول نحو : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) [البقرة : ١٦٨] وهو استعارة مصرّحة تنبني على تشبيه المحسوس بالمعقول مثل قوله تعالى : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ) [الأنعام : ٥٠] ، ومنه قوله هنا : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ).

والمراد بما أنزل هو الكتاب المذكور بقوله : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الأعراف : ٢].

وقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) تصريح بما تضمّنه : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) لأنّ فيما أنزل إليهم من ربّهم أنّ الله إله واحد لا شريك له ، وأنّه الولي ، وأنّ الذين اتّخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم ، أي مجازيهم لا يخفى عليه فعلهم ، وغير ذلك من آي القرآن ؛ والمقصود من هذا النّهي تأكيد مقتضى الأمر باتّباع ما أنزل إليهم اهتماما بهذا الجانب ممّا أنزل إليهم ، وتسجيلا على المشركين ، وقطعا لمعاذيرهم أن يقولوا إنّنا اتّبعنا ما أنزل إلينا ، وما نرى أولياءنا إلّا شفعاء لنا عند الله فما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فإنّهم كانوا يموهون بمثل ذلك ، ألا ترى أنّهم كانوا يقولون في تلبيتهم : «لبّيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه وما ملك» فموقع قوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) موقع الفصل الجامع من الحد ، وموقع (وَلا تَتَّبِعُوا) موقع الفصل المانع في الحدّ.

والأولياء جمع ولي ، وهو الموالي ، أي الملازم والمعاون ، فيطلق على النّاصر ، والحليف ، والصاحب الصّادق المودّة ، واستعير هنا للمعبود وللإله : لأنّ العبادة أقوى أحوال الموالاة ، قال تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُ) [الشورى : ٩] وقد تقدّم عند قوله تعالى : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا) في سورة الأنعام [١٤] ، وهذا هو المراد هنا.

والاتّباع في قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يجوز أن يكون مستعملا في المعنى الذي استعمل فيه الاتّباع في قوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) وذلك على تقدير : لا تتّبعوا ما يأتيكم من أولياء دون الله ، فإن المشركين ينسبون ما هم عليه من الدّيانة الضّالة إلى الآلهة الباطلة ، أو إلى سدنة الآلهة وكهّانها ، كما تقدّم عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الأنعام : ١٣٧] ، وقوله : (فَقالُوا

١٣

هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا) كما في سورة الأنعام [١٣٦] ، وعلى تلك الاعتبارات يجري التّقدير في قوله : (أَوْلِياءَ) أي لا تمتثلوا للأولياء أو أمرهم أو لدعاة الأولياء وسدنتهم.

ويجوز أن يكون الاتّباع مستعارا للطّلب والاتّخاذ ، أي ولا تتّخذوا أولياء غيره نحو قولهم : هو يتّبع زلة فلان. وفي الحديث : «يتّبع بها شعف الجبال ومواقع القطر» أي يتطلبها.

و (من) في قوله : (مِنْ دُونِهِ) ابتدائيّة ، و (دون) ظرف للمكان المجاوز المنفصل ، وقد جرّ بمن الجارة للظروف ، وهو استعارة للترك والإعراض. والمجرور في موضع الحال من فاعل (تَتَّبِعُوا) ، أي لا تتّبعوا أولياء متّخذينها دونه ، فإنّ المشركين وإن كانوا قد اعترفوا لله بالإلهيّة واتبعوا أمره بزعمهم في كثير من أعمالهم : كالحج ومناسكه ، والحلف باسمه ، فهم أيضا اتّبعوا الأصنام بعبادتها أو نسبة الدّين إليها ، فكلّ عمل تقرّبوا به إلى الأصنام ، وكلّ عمل عملوه امتثالا لأمر ينسب إلى الأصنام ، فهم عند عمله يكونون متّبعين اتّباعا فيه اعراض عن الله وترك للتّقرب إليه ، فيكون اتّباعا من دون الله ، فيدخل في النّهي ، وبهذا النّهي قد سدت عليهم أبواب الشّرك وتأويلاته كقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] فقد جاء قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) في أعلى درجة من الإيجاز واستيعاب المقصود.

وأفاد مجموع قوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) مفاد صيغة قصر ، كأنّه قال : لا تتّبعوا إلّا ما أمر به ربّكم ، أي دون ما يأمركم به أولياؤكم ، فعدل عن طريق القصر لتكون جملة : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) مستقلّة صريحة الدّلالة اهتماما بمضمونها على نحو قول السّموأل أو الحارثي :

تسيل على حد الظّبات نفوسنا

وليست على غير الظبات تسيل

وجملة : (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) هي في موضع الحال من (لا تَتَّبِعُوا) ، وهي حال سببيّة وكاشفة لصاحبها ، وليست مقيّدة للنّهي : لظهور أنّ المتّبعين أولياء من دون الله ليسوا إلّا قليلي التذكر. ويجوز جعل الجملة اعتراضا تذييليا. ولفظ (قليلا) يجوز أن يحمل على حقيقته لأنّهم قد يتذكّرون ثمّ يعرضون عن التّذكّر في أكثر أحوالهم فهم في غفلة معرضون ، ويجوز أن يكون (قليلا) مستعارا لمعنى النّفي والعدم على وجه التّلميح كقوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٨٨] (فإنّ الإيمان لا يوصف بالقلّة والكثرة).

١٤

والتّذكّر مصدر الذّكر ـ بضمّ الذال ـ وهو حضور الصورة في الذّهن.

وقليل مستعمل في العدم على طريقة التّهكّم بالمضيع للأمر النّافع يقال له : إنّك قليل الإتيان بالأمر النّافع ، تنبيها له على خطئه ، وإنّه إن كان في ذلك تفريط فلا ينبغي أن يتجاوز حدّ التّقليل دون التّضييع له كلّه.

و (ما) مصدريّة والتّقدير : قليلا تذكّركم ، ويجوز أن يكون (قَلِيلاً) صفة مصدر محذوف دلّ عليه (تَذَكَّرُونَ) و (ما) مزيدة لتوكيد القلّة ، أي نوع قلّة ضعيف ، نحو قوله تعالى : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) [البقرة : ٢٦]. وتقدّم القول في نظيره عند قوله تعالى : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) في سورة البقرة [٨٨]. والمعنى : لو تذكّرتم لما اتّبعتم من دونه أولياء ولما احتجتم إلى النّهي عن أن تتّبعوا من دونه أولياء وهذا نداء على إضاعتهم النّظر والاستدلال في صفات الله وفي نقائص أوليائهم المزعومين.

وقرأ الجمهور : (ما تَذَكَّرُونَ) ـ بفوقية واحدة وتشديد الذال ـ على أنّ أصله تتذكّرون بتاءين فوقيتين فقلبت ثانيتهما ذالا لتقارب مخرجيهما ليتأتى تخفيفه بالإدغام.

وقرأه حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف ـ بتخفيف الذال ـ على حذف إحدى التاءين اختصارا. وقرأه ابن عامر : يتذكرون ـ بتحتيّة في أوّله ثمّ فوقيّة ـ ، والضّمير عائد إلى المشركين على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ، أعرض عنهم ووجّه الكلام على غيرهم من السّامعين : إلى النّبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين.

[٤ ، ٥] (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥))

عطف على جملة : (وَلا تَتَّبِعُوا) [الأعراف : ٣] وهذا الخبر مستعمل في التّهديد للمشركين الذين وجه إليهم التّعريض في الآية الأولى والذين قصدوا من العموم. وقد ثلث هنا بتمحيض التّوجيه إليهم.

وإنّما خصّ بالذّكر إهلاك القرى ، دون ذكر الأمم كما في قوله : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) [الحاقة : ٥ ، ٦] ، لأنّ المواجهين بالتّعريض هم أهل مكّة وهي أمّ القرى ، فناسب أن يكون تهديد أهلها بما أصاب القرى وأهلها ولأنّ تعليق فعل (أَهْلَكْناها) بالقرية دون أهلها لقصد الإحاطة والشّمول ، فهو مغن عن أدوات

١٥

الشّمول ، فالسّامع يعلم أنّ المراد من القرية أهلها لأنّ العبرة والموعظة إنّما هي بما حصل لأهل القرية ، ونظيرها قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢] ونظيرهما معا قوله : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : ٦] ، فكلّ هذا من الإيجاز البديع ، والمعنى على تقدير المضاف ، وهو تقدير معنى.

وأجرى الضّميران في قوله : (أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) على الإفراد والتّأنيث مراعاة للفظ قرية ، ليحصل التماثل بين لفظ المعاد ولفظ ضميره في كلام متّصل القرب ، ثمّ أجريت ضمائر القرية على صيغة الجمع في الجملة المفرعة عن الأولى في قوله : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ) إلخ لحصول الفصل بين الضّمير ولفظ معاده بجملة فيها ضمير معاده غير لفظ القرية ، وهو (بَأْسُنا بَياتاً) لأنّ (بياتا) متحمّل لضمير البأس ، أي مبيّتا لهم ، وانتقل منه إلى ضمير القرية باعتبار أهلها فقال : (أَوْ هُمْ قائِلُونَ فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ). و (كم) اسم حال على عدد كثير وهو هنا خبر عن الكثرة وتقدّم في أوّل سورة الأنعام.

والإهلاك : الإفناء والاستئصال. وفعل (أَهْلَكْناها) يجوز أن يكون مستعملا في معنى الإرادة بحصول مدلوله ويجوز أن يكون مستعملا في ظاهر معناه.

والفاء في قوله : (فَجاءَها بَأْسُنا) عاطفة جملة : (فَجاءَها بَأْسُنا) على جملة : (أَهْلَكْناها) ، وأصل العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه ، ولما كان مجيء البأس حاصلا مع حصول الإهلاك أو قبله ، إذ هو سبب الإهلاك ، عسر على جمع من المسفّرين معنى موقع الفاء هنا ، حتّى قال الفرّاء إنّ الفاء لا تفيد التّرتيب مطلقا ، وعنه أيضا إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدّمت أيّهما شئت مثل شتمني فأساء وأساء فشتمني. وعن بعضهم أنّ الكلام جرى على طريقة القلب ، والأصل : جاءها بأسنا فأهلكناها ، وهو قلب خلي عن النّكتة فهو مردود ، والذي فسّر به الجمهور : أنّ فعل (أهلكناها) مستعمل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [النحل : ٩٨] وقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] الآية أي فإذا أردت القراءة ، وإذا أردتم القيام إلى الصّلاة ، واستعمال الفعل في معنى إرادة وقوع معناه من المجاز المرسل عند السكاكي قال : ومن أمثلة المجاز قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [النحل : ٩٨] استعمل (قَرَأْتَ) مكان أردت القراءة لكون القراءة مسبّبة عن إرادتها استعمالا مجازيا بقرينة الفاء في (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ، وقوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ

١٦

أَهْلَكْناها) في موضع أردنا إهلاكها بقرينة (فَجاءَها بَأْسُنا) والبأس الإهلاك.

والتّعبير عن إرادة الفعل بذكر الصّيغة التي تدلّ على وقوع الفعل يكون لإفادة عزم الفاعل على الفعل ، عزما لا يتأخّر عنه العمل ، بحيث يستعار اللّفظ الدّال على حصول المراد ، للإرادة لتشابههما ، وإمّا الإتيان بحرف التّعقيب بعد ذلك فللدّلالة على عدم التّريّث ، فدلّ الكلام كلّه : على أنّه تعالى يريد فيخلق أسباب الفعل المراد فيحصل الفعل ، كلّ ذلك يحصل كالأشياء المتقارنة ، وقد استفيد هذا التّقارن بالتّعبير عن الإرادة بصيغة تقتضي وقوع الفعل ، والتّعبير عن حصول السّبب بحرف التّعقيب ، والغرض من ذلك تهديد السّامعين المعاندين وتحذيرهم من أن يحلّ غضب الله عليهم فيريد إهلاكهم ، فضيّق عليهم المهلّة لئلا يتباطئوا في تدارك أمرهم والتّعجيل بالتّوبة. والذي عليه المحققون أنّ التّرتيب في فاء العطف قد يكون التّرتيب الذكريّ ، أي ترتيب الإخبار بشيء عن الإخبار بالمعطوف عليه. ففي الآية أخبر عن كيفيّة إهلاكهم بعد الخبر بالإهلاك ، وهذا التّرتيب هو في الغالب تفصيل بعد إجمال ، فيكون من عطف المفصّل على المجمل ، وبذلك سمّاه ابن مالك في «التّسهيل» ، ومثّل له بقوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً) [الواقعة : ٣٥ ، ٣٧] الآية. ومنه قوله تعالى : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر : ٧٢] ـ أو قوله ـ (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) [البقرة : ٣٦] لأنّ الإزلال عن الجنّة فصل بأنّه الإخراج ، وقوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [القمر : ٥٤] وهذا من أساليب الإطناب وقد يغفل عنه.

والبأس ما يحصل به الألم ، وأكثر إطلاقه على شدّة الحساب ولذلك سمّيت الحرب البأساء ، وقد مضى عند قوله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) في سورة البقرة [١٧٧] ، والمراد به هنا عذاب الدّنيا.

واستعير المجيء لحدوث الشّيء وحصوله بعد أن لم يكن تشبيها لحلول الشّيء بوصول القادم من مكان إلى مكان بتنقّل خطواته ، وقد تقدّم نظير هذا في قوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) في سورة الأنعام [٤٣].

والبيات مصدر بات ، وهو هنا منصوب على الحال من البأس ، أي جاءهم البأس مبيّتا لهم ، أي جاءهم ليلا ، ويطلق البيات على ضرب من الغارة تقع ليلا ، فإذا كان المراد من البأس الاستعارة لشدّة الحرب كما المراد من البيات حالة من حال الحرب ، هي أشدّ على المغزوّ ، فكان ترشيحا للاستعارة التّمثيليّة ، ويجوز أن يكون (بَياتاً) منصوبا على

١٧

النّيابة عن ظرف الزّمان أي في وقت البيات.

وجملة (هُمْ قائِلُونَ) حال أيضا لعطفها على (بَياتاً) بأو ، وقد كفى هذا الحرف العاطف عن ربط جملة الحال بواو الحال ، ولو لا العطف لكان تجرد مثل هذه الجملة عن الواو غير حسن ، كما قال في «الكشاف» ، وهو متابع لعبد القاهر.

وأقول : إنّ جملة الحال ، إذا كانت جملة اسميّة ، فإمّا أن تكون منحلّة إلى مفردين : أحدهما وصف صاحب الحال ، فهذه تجرّدها عن الواو قبيح ، كما صرّح به عبد القاهر وحقّقه التفتازانيّ في «المطوّل» ، لأنّ فصيح الكلام أن يجاء بالحال مفردة إذ لا داعي للجملة ، نحو جاءني زيد هو فارس ، إذ يغني أن تقول : فارسا.

وأمّا إذا كانت الجملة اسميّة فيها زيادة على وصف صاحب الحال ، وفيها ضمير صاحب الحال ، فخلوها عن الواو حسن نحو قوله تعالى : قلنا (اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [طه : ١٢٣] فإنّ هذه حالة لكلا الفريقين ، وهذا التّحقيق هو الذي يظهر به الفرق بين قوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [طه : ١٢٣] وقولهم ، في المثال : جاءني زيد هو فارس ، وهو خير ممّا أجاب به الطيبي وما ساقه من عبارة «المفتاح» وعبارة ابن الحاجب فتأمّله. وعلّل حذف واو الحال بدفع استثقال توالي حرفين من نوع واحد.

و (أو) لتقسيم القرى المهلكة : إلى مهلكة في اللّيل ، ومهلكة في النّهار ، والمقصود من هذا التّقسيم تهديد أهل مكّة حتّى يكونوا على وجل في كلّ وقت لا يدرون متى يحلّ بهم العذاب ، بحيث لا يأمنون في وقت ما.

ومعنى : (قائِلُونَ) كائنون في وقت القيلولة ، وهي القائلة ، وهي اسم للوقت المبتدئ من نصف النّهار المنتهي بالعصر ، وفعله : قال يقيل فهو قائل ، والمقيل الرّاحة في ذلك الوقت ، ويطلق المقيل على القائلة أيضا.

وخصّ هذان الوقتان من بين أوقات اللّيل والنّهار : لأنّهما اللّذان يطلب فيهما النّاس الرّاحة والدعة ، فوقوع العذاب فيهما أشدّ على النّاس ، ولأنّ التّذكير بالعذاب فيهما ينغص على المكذّبين تخيّل نعيم الوقتين.

والمعنى : وكم من أهل قرية مشركين أهلكناهم جزاء على شركهم ، فكونوا يا معشر أهل مكّة على حذر أن نصيبكم مثل ما أصابهم فإنّكم وإياهم سواء.

وقوله : (فَما كانَ دَعْواهُمْ) يصحّ أن تكون الفاء فيه للترتيب الذّكري تبعا للفاء في

١٨

قوله : (فَجاءَها بَأْسُنا) لأنّه من بقيّة المذكور ، ويصحّ أن يكون للتّرتيب المعنوي لأنّ دعواهم ترتّبت على مجيء البأس.

والدعوى اسم بمعنى الدّعاء كقوله : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) [يونس : ١٠] وهو كثير في القرآن ، والدّعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب ، وذلك أنّ شأن النّاس إذا حلّ بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة ، ومعنى الحصر أنّهم لم يستغيثوا الله ولا توجّهوا إليه بالدّعاء ولكنّهم وضعوا الاعتراف بالظّلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدّعوى.

ويجوز أن تكون الدّعوى بمعنى الادّعاء أي : انقطعت كلّ الدّعاوي التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدّد الآلهة وأنّ دينهم حقّ ، فلم تبق لهم دعوى ، بل اعترفوا بأنّهم مبطلون ، فيكون الاستثناء منقطعا لأنّ اعترافهم ليس بدعوى.

واقتصارهم على قولهم : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) إمّا لأنّ ذلك القول مقدّمة التّوبة لأنّ التّوبة يتقدّمها الاعتراف بالذّنب ، فهم اعترفوا على نيّة أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو ، فعوجلوا بالعذاب ، فكان اعترافهم ـ آخر قولهم في الدّنيا ـ مقدّمة لشهادة ألسنتهم عليهم في الحشر ، وإمّا لأنّ الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدّعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب.

وأيّا ما كان فإنّ جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكّرهم في ظلمهم في مدّة سلامتهم ، ولكنّ العناد والكبرياء يصدّانهم عن الإقلاع عنه ، ومن شأن من تصيبه شدّة أن يجري على لسانه كلام ، فمن اعتاد قول الخير نطق به ، ومن اعتاد ضدّه جرى على لسانه كلام التّسخّط ومنكر القول ، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم.

والمراد بقولهم : (كُنَّا ظالِمِينَ) أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد ، وتكذيب الرّسل ، والإعراض عن الآيات ، وصم الأذان عن الوعيد والوعظ ، وذلك يجمعه الإشراك بالله ، قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) [الأعراف : ٣] أي أنّ الله لم يظلمهم ، وهو يحتمل أنّهم علموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامهم أنّ مثل ذلك العذاب لا ينزل إلّا بالظّالمين ، أو بوجدانهم إياه على الصّفة الموعود بها على ألسنة رسلهم ، فيكون الكلام إقرارا محضا أقرّوا به في أنفسهم ، فصيغة الخبر مستعملة في إنشاء الإقرار ، ويحتمل أنّهم كانوا يعلمون أنّهم ظالمون ، من قبل نزول العذاب ، وكانوا مصرين عليه ومكابرين ، فلمّا رأوا العذاب ندموا

١٩

وأنصفوا من أنفسهم ، فيكون الكلام ، إقرارا مشوبا بحسرة وندامة ، فالخبر مستعمل في معناه المجازي الصّريح ومعناه الكنائي ، والمعنى المجازي يجتمع مع الكناية باعتبار كونه مجازا صريحا.

وهذا القول يقولونه لغير مخاطب معيّن ، كشأن الكلام الذي يجري على اللّسان عند الشّدائد ، مثل الويل والثّبور ، فيكون الكلام مستعملا في معناه المجازي ، أو يقوله بعضهم لبعض ، بينهم ، على معنى التّوبيخ ، والتّوقيف على الخطأ ، وإنشاء النّدامة ، فيكون مستعملا في المعنى المجازي الصّريح ، والمعنى الكنائي ، على نحو ما قرّرته آنفا.

والتّوكيد بإنّ لتحقيق للنّفس أو للمخاطبين على الوجهين المتقدّمين أو يكون قولهم ذلك في أنفسهم ، أو بين جماعتهم ، جاريا مجرى التّعليل لنزول البأس بهم والاعتراف بأنّهم جديرون به ، ولذلك أطلقوا على الشّرك حينئذ الاسم المشعر بمذمّته الذي لم يكونوا يطلقونه على دينهم من قبل.

واسم كان هو : (أَنْ قالُوا) المفرغ له عمل كان ، و (دَعْواهُمْ) خبر (كان) مقدّم ، لقرينة عدم اتّصال كان بتاء التّأنيث ، ولو كان : (دعوى) هو اسمها لكان اتّصالها بتاء التّأنيث أحسن ، وللجري على نظائره في القرآن وكلام العرب في كلّ موضع جاء فيه المصدر المؤول من أن والفعل محصورا بعد كان ، نحو قوله تعالى : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [الأعراف : ٨٢] (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) [آل عمران : ١٤٧] وغير ذلك ، وهو استعمال ملتزم ، غريب ، مطّرد في كلّ ما وقع فيه جزء الإسناد ذاتين أريد حصر تحقّق أحدهما في تحقّق الآخر لأنّهما لمّا اتّحدا في الماصدق ، واستويا في التّعريف كان المحصور أولى باعتبار التّقدّم الرّتبي ، ويتعيّن تأخيره في اللّفظ ، لأنّ المحصور لا يكون إلّا في آخر الجزأين ، ألا ترى إلى لزوم تأخير المبتدأ المحصور. واعلم أن كون أحد الجزأين محصورا دون الآخر في مثل هذا ، ممّا الجزءان فيه متحدا الماصدق ، إنّما هو منوط باعتبار المتكلّم أحدهما هو الأصل والآخر الفرع ، ففي مثل هذه الآية اعتبر قولهم هو المترقّب من السّامع للقصّة ابتداء ، واعتبر الدّعاء هو المترقّب ثانيا ، كأنّ السّامع يسأل : ما ذا قالوا لمّا جاءهم البأس ، فقيل له : كان قولهم : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) دعاءهم ، فأفيد القول وزيد بأنّهم فرّطوا في الدّعاء ، وهذه نكتة دقيقة تنفعك في نظائر هذه الآية ، مثل قوله : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ) [الأعراف : ٨٢] ، على أنّه قد قيل : إنّه لاطّراد هذا الاعتبار مع المصدر المؤول من (أن)

٢٠