تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

وقوله : (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنويها بشأنه وتثبيتا لقلبه ، وتعريضا بالمنكرين رسالته. وتأكيد الجملة بإنّ للاهتمام بهذا الخبر ، وجيء بقوله (من المرسلين) دون أن يقول : وإنك لرسول الله ، للرد على المنكرين بتذكيرهم أنه ما كان بدعا من الرسل ، وأنه أرسله كما أرسل من قبله ، وليس في حاله ما ينقص عن أحوالهم.

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣))

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).

موقع هذه الآية موقع الفذلكة لما قبلها والمقدمة لما بعدها. فأما الأول فإنّ الله تعالى لما أنبأ باختبار الرسل إبراهيم وموسى وعيسى وما عرض لهم مع أقوامهم وختم ذلك بقوله : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٢٥٢]. جمع ذلك كلّه في قوله : (تِلْكَ الرُّسُلُ) لفتا إلى العبر التي في خلال ذلك كلّه. ولما أنهى ذلك كلّه عقّبه بقوله : (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [البقرة : ٢٥٢] تذكيرا بأنّ إعلامه بأخبار الأمم والرسل آية على صدق رسالته. إذ ما كان لمثله قبل بعلم ذلك لو لا وحي الله إليه. وفي هذا كلّه حجة على المشركين وعلى أهل الكتاب الذين جحدوا رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فموقع اسم الإشارة مثل موقعه في قول النابغة :

بني عمه دنيا وعمرو بن عامر

أولئك قوم بأسهم غير كاذب

والإشارة إلى جماعة المرسلين في قوله : (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ). وجيء بالإشارة لما فيها من الدلالة على الاستحضار حتى كأنّ جماعة الرسل حاضرة للسامع بعد ما مرّ من ذكر عجيب أحوال بعضهم وما أعقبه من ذكرهم على سبيل الإجمال.

وأما الثاني فلأنّه لما أفيض القول في القتال وفي الحثّ على الجهاد والاعتبار بقتال الأمم الماضية عقب ذلك بأنّه لو شاء الله ما اختلف الناس في أمر الدين من بعد ما جاءتهم البيّنات ولكنّهم أساءوا الفهم فجحدوا البيّنات فأفضى بهم سود فهمهم إلى اشتطاط الخلاف بينهم حتى أفضى إلى الاقتتال. فموقع اسم الإشارة على هذا الاعتبار كموقع

٤٨١

ضمير الشأن ، أي هي قصة الرسل وأممهم ، فضّلنا بعض الرسل على بعض فحسدت بعض الأمم أتباع بعض الرسل فكذّب اليهود عيسى ومحمدا عليهما الصلاة والسلام وكذب النصارى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقرن اسم الإشارة بكاف البعد تنويها بمراتبهم كقوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ٢].

واسم الإشارة مبتدأ والرسل خبر ، وليس الرسل بدلا لأنّ الإخبار عن الجماعة بأنّها الرسل أوقع في استحضار الجماعة العجيب شأنهم الباهر خبرهم ، وجملة «فضّلنا» حال.

والمقصود من هذه الآية تمجيد سمعة الرسل عليهم‌السلام ، وتعليم المسلمين أنّ هاته الفئة الطيّبة مع عظيم شأنها قد فضّل الله بعضها على بعض ، وأسباب التفضيل لا يعلمها إلّا الله تعالى ، غير أنّها ترجع إلى ما جرى على أيديهم من الخيرات المصلحة للبشر ومن نصر الحق ، وما لقوه من الأذى في سبيل ذلك ، وما أيّدوا به من الشرائع العظيمة المتفاوتة في هدى البشر ، وفي عموم ذلك الهدي ودوامه ، وإذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لأن يهدي الله بك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس» ، فما بالك بمن هدى الله بهم أمما في أزمان متعاقبة ، ومن أجل ذلك كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الرّسل. ويتضمن الكلام ثناء عليهم وتسلية للرسول عليه‌السلام فيما لقي من قومه.

وقد خصّ الله من جملة الرسل بعضا بصفات يتعيّن بها المقصود منهم ، أو بذكر اسمه ، فذكر ثلاثة إذ قال : منهم من كلّم الله ، وهذا موسى عليه‌السلام لاشتهاره بهذه الخصلة العظيمة في القرآن ، وذكر عيسى عليه‌السلام ، ووسط بينهما الإيماء إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوصفه ، بقوله : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ).

وقوله : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) يتعيّن أن يكون المراد من البعض هنا واحدا من الرسل معيّنا لا طائفة ، وتكون الدرجات مراتب من الفضيلة ثابتة لذلك الواحد : لأنّه لو كان المراد من البعض جماعة من الرسل مجملا ، ومن الدرجات درجات بينهم لصار الكلام تكرارا مع قوله فضّلنا بعضهم على بعض ، ولأنّه لو أريد بعض فضّل على بعض لقال ، ورفع بعضهم فوق بعض درجات كما قال في الآية الأخرى : (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الأنعام : ١٦٥].

وعليه فالعدول من التصريح بالاسم أو بالوصف المشهور به لقصد دفع الاحتشام عن المبلّغ الذي هو المقصود من هذا الوصف وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعرب تعبّر بالبعض عن

٤٨٢

النفس كما في قول لبيد :

ترّاك أمكنة إذا لم أرضها

أو يعتلق بعض النّفوس حمامها

أراد نفسه ، وعن المخاطب كقولي أبي الطيّب :

إذا كان بعض النّاس سيفا لدولة

ففي النّاس بوقات لها وطبول

والذي يعيّن المراد في هذا كلّه هو القرينة كانطباق الخبر أو الوصف على واحد كقول طرفة :

إذا القوم قالوا من فتى خلت أنّني

عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد

وقد جاء على نحو هذه الآية قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) [الإسراء : ٥٤ ، ٥٥] عقب قوله : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) ـ إلى أن قال ـ (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ـ إلى قوله ـ (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) [الإسراء : ٤٥ ، ٥٥].

وهذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدم تعيين الفاضل من المفضول : ذلك أنّ كل فريق اشتركوا في صفة خير لا يخلون من أن يكون بعضهم أفضل من بعض بما للبعض من صفات كمال زائدة على الصفة المشتركة بينهم ، وفي تمييز صفات التفاضل غموض ، وتطرق لتوقّع الخطإ وعروض ، وليس ذلك بسهل على العقول المعرّضة للغفلة والخطإ. فإذا كان التفضيل قد أنبأ به ربّ الجميع ، ومن إليه التفضيل ، فليس من قدر النّاس أن يتصدّوا لوضع الرسل في مراتبهم ، وحسبهم الوقوف عند ما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله.

وهذا مورد الحديث الصحيح «لا تفضّلوا بين الأنبياء» يعني به النهى عن التفضيل التفصيلي ، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال ، كما نقول : الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلا. وقد ثبت أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل الرّسل لما تظاهر من آيات تفضيله وتفضيل الدين الذي جاء به وتفضيل الكتاب الذي أنزل عليه. وهي متقارنة الدلالة تنصيصا وظهورا. إلّا أنّ كثرتها تحصل اليقين بمجموع معانيها عملا بقاعدة كثرة الظواهر تفيد القطع. وأعظمها آية (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) [آل عمران : ٨١] الآية.

٤٨٣

وأما قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقولنّ أحدكم أنا خير من يونس بن متّى» يعني بقوله : «أنا» نفسه على أرجح الاحتمالين ، وقوله : «لا تفضّلوني على موسى» ، فذلك صدر قبل أن ينبئه الله بأنّه أفضل الخلق عنده.

وهذه الدرجات كثيرة عرفنا منها : عموم الرسالة لكافة الناس ، ودوامها طول الدهر ، وختمها للرسالات ، والتأييد بالمعجزة العظيمة التي لا تلتبس بالسحر والشعوذة ، وبدوام تلك المعجزة ، وإمكان أن يشاهدها كل من يؤهّل نفسه لإدراك الإعجاز ، وبابتناء شريعته على رعي المصالح ودرء المفاسد والبلوغ بالنفوس إلى أوج الكمال ، وبتيسير إدانة معانديه له ، وتمليكه أرضهم وديارهم وأموالهم في زمن قصير ، وبجعل نقل معجزته متواترا لا يجهلها إلّا مكابر ، وبمشاهدة أمته لقبره الشريف ، وإمكان اقترابهم منه وائتناسهم به صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد عطف ما دل على نبيئنا على ما دل على موسى ـ عليهما‌السلام ـ لشدة الشبه بين شريعتيهما ، لأنّ شريعة موسى عليه‌السلام أوسع الشرائع ، ممّا قبلها ، بخلاف شريعة عيسىعليه‌السلام.

وتكليم الله موسى هو ما أوحاه إليه بدون واسطة جبريل ، بأن أسمعه كلاما أيقن أنّه صادر بتكوين الله ، بأن خلق الله أصواتا من لغة موسى تضمنت أصول الشريعة ، وسيجيء بيان ذلك عند قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] في سورة النساء.

وقوله : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) البينات هي المعجزات الظاهرة البيّنة ، وروح القدس هو جبريل ، فإنّ الروح هنا بمعنى الملك الخاص كقوله: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) [القدر : ٤].

والقدس بضم القاف وبضم الدال عند أهل الحجاز وسكونها عند بني تميم بمعنى الخلوص والنزاهة ، فإضافة روح إلى القدس من إضافة الموصوف إلى الصفة ، ولذلك يقال الروح القدس ، وقيل القدس اسم الله كالقدّوس فإضافة روح إليه إضافة أصلية ، أي روح من ملائكة الله.

وروح القدس هو جبريل قال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [النحل : ١٠٢] ، وفي الحديث : «إنّ روح القدس نفث في روعي أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها» وفي الحديث أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لحسان : «اهجهم ومعك روح القدس».

وإنّما وصف عيسى بهذين مع أنّ سائر الرسل أيّدوا بالبيّنات وبروح القدس ، للرد

٤٨٤

على اليهود الذين أنكروا رسالته ومعجزاته ، وللرد على النصارى الذين غلوا فزعموا ألوهيته ، ولأجل هذا ذكر معه اسم أمه ـ مهما ذكر ـ للتنبيه على أنّ ابن الإنسان لا يكون إلها ، وعلى أنّ مريم أمة الله تعالى لا صاحبة لأنّ العرب لا تذكر أسماء نسائها وإنّما تكنى ، فيقولون ربّة البيت ، والأهل ، ونحو ذلك ولا يذكرون أسماء النساء إلا في الغزل ، أو أسماء الإماء.

(وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ).

اعتراض بين الفذلكة ـ المستفادة من جملة تلك الرسل إلى آخرها ـ وبين الجملة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٢٥٤] ، فالواو اعتراضية : فإنّ ما جرى من الأمر بالقتال ومن الأمثال التي بيّنت خصال الشجاعة والجبن وآثارهما ، المقصود منه تشريعا وتمثيلا قتال أهل الإيمان لأهل الكفر لإعلاء كلمة الله ونصر الحق على الباطل وبث الهدى وإزهاق الضلال. بيّن الله بهذا الاعتراض حجة الذين يقاتلون في سبيل الله على الذين كفروا : بأن الكافرين هم الظالمون إذ اختلفوا على ما جاءتهم به الرسل ، ولو اتّبعوا الحق لسلموا وسالموا.

ثم يجوز أن يكون الضمير المضاف إليه في قوله : (مِنْ بَعْدِهِمْ) مرادا به جملة الرّسل أي ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعد أولئك الرسل من الأمم المختلفة في العقائد مثل اقتتال اليهود والنصارى في اليمن في قصة أصحاب الأخدود ، ومقاتلة الفلسطينيّين لبني إسرائيل انتصارا لأصنامهم ، ومقاتلة الحبشة لمشركي العرب انتصارا لبيعة القليس التي بناها الحبشة في اليمن ، والأمم الذين كانوا في زمن الإسلام وناووه وقاتلوا المسلمين أهله ، وهم المشركون الذين يزعمون أنّهم على ملة إبراهيم واليهود والنصارى ، ويكون المراد بالبيّنات دلائل صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتكون الآية بإنحاء على الذين عاندوا النبي وناووا المسلمين وقاتلوهم ، وتكون الآية على هذا ظاهرة التفرّع على قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا) [البقرة : ٢٤٤] إلخ.

ويجوز أن يكون ضمير «من بعدهم» ضمير الرسل على إرادة التوزيع ، أي الذين من بعد كل رسول من الرسل ، فيكون مفيدا أنّ أمة كل رسول من الرسل اختلفوا واقتتلوا اختلافا واقتتالا نشأ من تكفير بعضهم بعضا كما وقع لبني إسرائيل في عصور كثيرة بلغت فيها طوائف منهم في الخروج من الدّين إلى حد عبادة الأوثان ، وكما وقع للنصارى في

٤٨٥

عصور بلغ فيها اختلافهم إلى حد أن كفّر بعضهم بعضا ، فتقاتلت اليهود غير مرة قتالا جرى بين مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل ، وتقاتلت النصارى كذلك من جرّاء الخلاف بين اليعاقبة والملكية قبل الإسلام ، وأشهر مقاتلات النصارى الحروب العظيمة التي نشأت في القرن السادس عشر من التاريخ المسيحي بين أشياع الكاثوليك وبين أشياع مذهب لوثير الراهب الجرماني الذي دعا الناس إلى إصلاح المسيحية واعتبار أتباع الكنيسة الكاثوليكية كفّارا لادّعائهم ألوهية المسيح ، فعظمت بذلك حروب بين فرانسا وأسبانيا وجرمانيا وإنكلترا وغيرها من دول أوروبا.

والمقصود تحذير المسلمين من الوقوع في مثل ما وقع فيه أولئك ، وقد حذر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك تحذيرا متواترا بقوله في خطبة حجة الوداع : «فلا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» ، يحذّرهم ما يقع من حروب الردّة وحروب الخوارج بدعوى التكفير ، وهذه الوصية من دلائل النبوءة العظيمة.

وورد في «الصحيح» قوله : «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» ، قيل يا رسول الله هذا القاتل ، فما بال المقتول ، قال : «أما إنّه كان حريصا على قتل أخيه» ، وذلك يفسّر بعضه بعضا أنّه القتال على اختلاف العقيدة.

والمراد بالبينات على هذا الاحتمال أدلة الشريعة الواضحة التي تفرق بين متبع الشريعة ومعاندها والتي لا تقبل خطأ الفهم والتأويل لو لم يكن دأبهم المكابرة ودحض الدين لأجل عرض الدنيا ، والمعنى أن الله شاء اقتتالهم فاقتتلوا ، وشاء اختلافهم فاختلفوا ، والمشيئة هنا مشيئة تكوين وتقدير لا مشيئة الرضا لأن الكلام مسوق مساق التمني للجواب والتحسير على امتناعه وانتفائه المفاد بلو كقول طرفة :

فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد

ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد

وقوله : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) استدراك على ما تضمنه جواب لو شاء الله : وهو ما اقتتل ، لكن ذكر في الاستدراك لازم الضد لجواب لو وهو الاختلاف لأنهم لما اختلفوا اقتتلوا ولو لم يختلفوا لما اقتتلوا. وإنما جيء بلازم الضد في الاستدراك للإيماء إلى سبب الاقتتال ليظهر أن معنى نفي مشيئة الله تركهم الاقتتال ، هو أنه خلق داعية الاختلاف فيهم ، فبتلك الداعية اختلفوا ، فجرهم الخلاف إلى أقصاه وهو الخلاف في العقيدة ، فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، فاقتتلوا لأن لزوم الاقتتال لهذه الحالة أمر عرفي شائع ، فإن كان المراد اختلاف أمة الرسول الواحد فالإيمان والكفر في الآية عبارة عن خطإ أهل الدين فيه

٤٨٦

إلى الحد الذي يفضي ببعضهم إلى الكفر به ، وإن كان المراد اختلاف أمم الرسل كل للأخرى كما في قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) [البقرة : ١١٣] ، فالإيمان والكفر في الآية ظاهر ، أي فمنهم من آمن بالرسول الخاتم فاتّبعه ومنهم من كفر به فعاداه ، فاقتتل الفريقان.

وأياما كان المراد من الوجهين فإن قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) ينادي على أن الاختلاف الذي لا يبلغ بالمختلفين إلى كفر بعضهم بما آمن به الآخر لا يبلغ بالمختلفين إلى التقاتل ، لأن فيما أقام الله لهم من بينات الشرع ما فيه كفاية الفصل بين المختلفين في اختلافهم إذا لم تغلب عليهم المكابرة والهوى أو لم يعمهم سوء الفهم وقلة الهدى.

لا جرم أن الله تعالى جعل في خلقة العقول اختلاف الميول والأفهام ، وجعل في تفاوت الذكاء وأصالة الرأي أسبابا لاختلاف قواعد العلوم والمذاهب ، فأسباب الاختلاف إذن مركوزة في الطباع ، ولهذا قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ثم قال : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) فصار المعنى لو شاء الله ما اختلفوا ، لكنّ الخلاف مركوز في الجبلة. بيد أن الله تعالى قد جعل ـ أيضا ـ في العقول أصولا ضرورية قطعية أو ظنّية ظنا قريبا من القطع به تستطيع العقول أن تعيّن الحق من مختلف الآراء ، فما صرف الناس عن اتباعه إلا التأويلات البعيدة التي تحمل عليها المكابرة أو كراهية ظهور المغلوبيّة ، أو حب المدحة من الأشياع وأهل الأغراض ، أو السعي إلى عرض عاجل من الدنيا ، ولو شاء الله ما غرز في خلقة النفوس دواعي الميل إلى هاته الخواطر السيئة فما اختلفوا خلافا يدوم ، ولكن اختلفوا هذا الخلاف فمنهم من آمن ، ومنهم من كفر ، فلا عذر في القتال إلا لفريقين : مؤمن ، وكافر بما آمن به الآخر ، لأن الغضب والحمية الناشئين عن الاختلاف في الدين قد كانا سبب قتال منذ قديم ، أما الخلاف الناشئ بين أهل دين واحد لم يبلغ إلى التكفير فلا ينبغي أن يكون سبب قتال.

ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال لأخيه يا كافر فقد باء هو بها» لأنّه إذا نسب أخاه في الدين إلى الكفر فقد أخذ في أسباب التفريق بين المسلمين وتوليد سبب التقاتل ، فرجع هو بإثم الكفر لأنّه المتسبب فيما يتسبب على الكفر ، ولأنّه إذا كان يرى بعض أحوال الإيمان كفرا ، فقد صار هو كافرا لأنّه جعل الإيمان كفرا. وقال عليه الصلاة والسلام : «فلا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» ، فجعل القتال شعار التكفير. وقد

٤٨٧

صم المسلمون عن هذه النصيحة الجليلة فاختلفوا خلافا بلغ بهم إلى التكفير والقتال ، وأوّله خلاف الردة في زمن أبي بكر ، ثم خلاف الحرورية في زمن عليّ وقد كفّروا عليا في قبوله تحكيم الحكمي ، ثم خلاف أتباع المقنّع بخراسان الذي ادعى الإلهية واتخذ وجها من ذهب ، وظهر سنة ١٥٩ وهلك سنة ١٦٣ ، ثم خلاف القرامطة مع بقية المسلمين وفيه شائبة من الخلاف المذهبي لأنّهم في الأصل من الشيعة ثم تطرفوا فكفروا وادّعوا الحلول ـ أي حلول الرب في المخلوقات ـ واقتلعوا الحجر الأسود من الكعبة وذهبوا به إلى بلدهم في البحرين ، وذلك من سنة ٢٩٣. واختلف المسلمون أيضا خلافا كثيرا في المذاهب جرّ بهم تارات إلى مقاتلات عظيمة ، وأكثرها حروب الخوارج غير المكفّرين لبقية الأمة في المشرق ، ومقاتلات أبي يزيد النكارى الخارجي بالقيروان وغيرها سنة ٣٣٣ ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بالقيروان سنة ٤٠٧ ، ومقاتلة الشافعية والحنابلة ببغداد سنة ٤٧٥ ، ومقاتلة الشيعة وأهل السنة بها سنة ٤٤٥ ، وأعقبتها حوادث شر بينهم متكررة إلى أن اصطلحوا في سنة ٥٠٢ وزال الشر بينهم ، وقتال الباطنية المعروفين بالإسماعيلية لأهل السنة في ساوة وغيرها من سنة ٤٩٤ إلى سنة ٥٢٣. ثم انقلبت إلى مقاتلات سياسية. ثم انقلبوا أنصارا للإسلام في الحروب الصليبية ، وغير ذلك من المقاتلات الناشئة عن التكفير والتضليل. لا نذكر غيرها من مقاتلات الدول والأحزاب التي نخرت عظم الإسلام. وتطرّقت كل جهة منه حتى البلد الحرام.

فالآية تنادي على التعجيب والتحذير من فعل الأمم في التقاتل للتخالف حيث لم يبلغوا في أصالة العقول أو في سلامة الطوايا إلى الوسائل التي يتفادون بها عن التقاتل ، فهم ملومون من هذه الجهة ، ومشيرة إلى أنّ الله تعالى لو شاء لخلقهم من قبل على صفة أكمل مما هم عليه حتى يستعدّوا بها إلى الاهتداء إلى الحق وإلى التبصّر في العواقب قبل ذلك الإبّان ، فانتفاء المشيئة راجع إلى حكمة الخلقة ، واللوم والحسرة راجعان إلى التقصير في امتثال الشريعة ، ولذلك قال : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فأعاد (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) تأكيدا للأول وتمهيدا لقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ليعلم الواقف على كلام الله تعالى أنّ في هدى الله تعالى مقنعا لهم لو أرادوا الاهتداء ، وأنّ في سعة قدرته تعالى عصمة لهم لو خلقهم على أكمل من هذا الخلق كما خلق الملائكة. فالله يخلق ما يشاء ولكنّه يكمل حال الخلق بالإرشاد والهدى ، وهم يفرّطون في ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا

٤٨٨

خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

موقع هذه الآية مثل موقع (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] الآية لأنّه لما دعاهم إلى بذل نفوسهم للقتال في سبيل الله فقال : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٤٤] شفّعه بالدعوة إلى بذل المال في الجهاد بقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] على طريقة قوله : (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [الأنفال : ٧٢] ، وكانت هذه الآية في قوة التذييل لآية (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) لأنّ صيغة هذه الآية أظهر في إرادة عموم الإنفاق المطلوب في الإسلام ، فالمراد بالإنفاق هنا ما هو أعم من الإنفاق في سبيل الله ، ولذلك حذف المفعول والمتعلق لقصد الانتقال إلى الأمر بالصدقات الواجبة وغيرها ، وستجيء آيات في تفصيل ذلك.

وقوله : (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) حث على الإنفاق واستحقاق فيه.

وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) حث آخر لأنه يذكر بأن هنالك وقتا تنتهي الأعمال إليه ويتعذّر الاستدراك فيه ، واليوم هو يوم القيامة ، وانتفاء البيع والخلة والشفاعة كناية عن تعذّر التدارك للفائت ، لأن المرء يحصل ما يعوزه بطرق هي المعاوضة المعبر عنها بالبيع ، والارتفاق من الغير وذلك بسبب الخلة ، أو بسبب توسط الواسطة إلى من ليس بخليل.

والخلة ـ بضم الخاء ـ المودة والصحبة ، ويجوز كسر الخاء ولم يقرأ به أحد ، وتطلق الخلة بالضم على الصديق تسمية بالمصدر فيستوي فيه الواحد وغيره والمذكر وغيره قال الحماسي :

ألا أبلغا خلّتي راشدا

وصنوي قديما إذا ما اتصل

وقال كعب : أكرم بها خلة ، البيت.

فيجوز أن يراد هنا بالخلة المودة ، ونفي المودة في ذلك لحصول أثرها وهو الدّفع عن الخليل كقوله تعالى : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [لقمان : ٣٣] ، ويجوز أن يكون نفي الخليل كناية عن نفي لازمه وهو النفع كقوله : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) [الشعراء : ٨٨] ، قال كعب بن زهير :

وقال كل خليل كنت آمله

لا ألهينّك إني عنك مشغول

وقرأ الجمهور (لا بَيْعٌ فِيهِ) ـ وما بعده ـ بالرفع لأنّ المراد بالبيع والخلة والشفاعة

٤٨٩

الأجناس لا محالة ، إذ هي من أسماء المعاني التي لا آحاد لها في الخارج فهي أسماء أجناس لا نكرات ، ولذلك لا يحتمل نفيها إرادة نفي الواحد حتى يحتاج عند قصد التنصيص على إرادة نفي الجنس إلى بناء الاسم على الفتح ، بخلاف نحو لا رجل في الدار ولا إله إلا الله ، ولهذا جاءت الرواية في قول إحدى صواحب أم زرع «زوجي كليل تهامه لا حرّ ولا قرّ ولا مخافة ولا سآمة» بالرفع لا غير ، لأنّها أسماء أجناس كما في هذه الآية. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بالفتح لنفي الجنس نصّا فالقراءتان متساويتان معنى ، ومن التكلّف هنا قول البيضاوي إنّ وجه قراءة الرفع وقوع النفي في تقدير جواب لسؤال قائل هل بيع فيه أو خلّة أو شفاعة.

والشفاعة الوساطة في طلب النافع ، والسعي إلى من يراد استحقاق رضاه على مغضوب منه عليه أو إزالة وحشة أو بغضاء بينهما ، فهي مشتقة من الشفع ضد الوتر ، يقال شفع كمنع إذا صيّر الشيء شفعا ، وشفع أيضا كمنع إذا سعى في الإرضاء ونحوه لأنّ المغضوب عليه والمحروم يبعد عن واصله فيصير وترا فإذا سعى الشفيع بجلب المنفعة والرضا فقد أعادهما شفعا ، فالشفاعة تقتضي مشفوعا إليه ومشفوعا فيه ، وهي ـ في عرفهم ـ لا يتصدّى لها إلّا من يتحقّق قبول شفاعته ، ويقال شفع فلان عند فلان في فلان فشفّعه فيه أي فقبل شفاعته ، وفي الحديث : «قالوا هذا جدير إن خطب بأن ينكح وإن شفع بأن يشفع».

وبهذا يظهر أنّ الشفاعة تكون في دفع المضرة وتكون في جلب المنفعة قال :

فذاك فتى إن تأته في صنيعة

إلى ما له لا تأته بشفيع

ومما جاء في منشور الخليفة القادر بالله للسلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي «ولّيناك كورة خراسان ولقبناك يمين الدولة ، بشفاعة أبي حامد الأسفرائيني» ، أي بواسطته ورغبته.

فالشفاعة ـ في العرف ـ تقتضي إدلال الشفيع عند المشفوع لديه ، ولهذا نفاها الله تعالى هنا بمعنى نفي استحقاق أحد من المخلوقات أن يكون شفيعا عند الله بإدلال ، وأثبتها في آيات أخرى كقوله ـ قريبا ـ (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] ، وثبتت للرسول عليه‌السلام في أحاديث كثيرة وأشير إليها بقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] وفسّرت الآية بذلك في الحديث الصحيح ، ولذلك كان من أصول اعتقادنا إثبات الشفاعة

٤٩٠

للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنكرها المعتزلة وهم مخطئون في إنكارها وملبسون في استدلالهم ، والمسألة مبسوطة في كتب الكلام.

والشفاعة المنفية هنا مراد بها الشفاعة التي لا يسع المشفوع إليه ردّها ، فلا يعارض ما

ورد من شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأحاديث الصحيحة لأنّ تلك كرامة أكرمه الله تعالى بها وأذن له فيها إذ يقول : «اشفع تشفع» فهي ترجع إلى قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [البقرة : ٢٥٥] وقوله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] وقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣].

وقوله : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) صيغة قصر نشأت عن قوله : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) فدلّت على أن ذلك النفي تعريض وتهديد للمشركين فعقب بزيادة التغليظ عليهم والتنديد بأنّ ذلك التهديد والمهدّد به قد جلبوه لأنفسهم بمكابرتهم فما ظلمهم الله ، وهذا أشدّ وقعا على المعاقب لأنّ المظلوم يجد لنفسه سلوّا بأنّه معتدى عليه ، فالقصر قصر قلب ، بتنزيلهم منزلة من يعتقد أنّهم مظلومون. ولك أن تجعله قصرا حقيقيا ادّعائيا لأنّ ظلمهم لما كان أشدّ الظلم جعلوا كمن انحصر الظلم فيهم.

والمراد بالكافرين ظاهرا المشركون ، وهذا من بدائع بلاغة القرآن ، فإنّ هذه الجملة صالحة أيضا لتذييل الأمر بالإنفاق في سبيل الله ، لأنّ ذلك الإنفاق لقتال المشركين الذين بدءوا الدين بالمناوأة ، فهم الظالمون لا المؤمنون الذين يقاتلونهم لحماية الدين والذبّ عن حوزته. وذكر الكافرين في مقام التسجيل فيه تنزيه للمؤمنين عن أن يتركوا الإنفاق إذ لا يظنّ بهم ذلك ، فتركه والكفر متلازمان ، فالكافرون يظلمون أنفسهم ، والمؤمنون لا يظلمونها ، وهذا كقوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ، ٧] ، وذلك أنّ القرآن يصوّر المؤمنين في أكمل مراتب الإيمان ويقابل حالهم بحال الكفار تغليظا وتنزيها ، ومن هذه الآية وأمثالها اعتقد بعض فرق الإسلام أنّ المعاصي تبطل الإيمان كما قدّمناه.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))

٤٩١

لما ذكر هول يوم القيامة وذكر حال الكافرين استأنف بذكر تمجيد الله تعالى وذكر صفاته إبطالا لكفر الكافرين وقطعا لرجائهم ، لأنّ فيها (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، وجعلت هذه الآية ابتداء لآيات تقرير الوحدانية والبعث ، وأودعت هذه الآية العظيمة هنا لأنّها كالبرزخ بين الأغراض السابقة واللّاحقة.

وجيء باسم الذات هنا لأنّه طريق في الدلالة على المسمى المنفرد بهذا الاسم ، فإنّ العلم أعرف المعارف لعدم احتياجه في الدلالة على مسمّاه إلى قرينة أو معونة لو لا احتمال تعدد التسمية ، فلما انتفى هذا الاحتمال في اسم الجلالة كان أعرف المعارف لا محالة لاستغنائه عن القرائن والمعونات ، فالقرائن كالتكلّم والخطاب ، والمعونات كالمعاد والإشارة باليد والصلة وسبق العهد والإضافة.

وجملة «لا إله إلّا هو» خبر أول عن اسم الجلالة ، والمقصود من هذه الجملة إثبات الوحدانية وقد تقدم الكلام على دلالة لا إله إلّا هو على التوحيد ونفي الآلهة عند قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [البقرة : ١٦٣].

وقوله : (الْحَيُ) خبر لمبتدإ محذوف ، و (الْقَيُّومُ) خبر ثان لذلك المبتدإ المحذوف ، والمقصود إثبات الحياة وإبطال استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية لانتفاء الحياة ، عنهم كما قال إبراهيم عليه‌السلام (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) [مريم : ٤٢] وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها للدلالة على استقلالها لأنّها لو عطفت لكانت كالتبع ، وظاهر كلام الكشاف أنّ هذه الجملة مبيّنة لما تضمّنته جملة (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) من أنّه القائم بتدبير الخلق ، أي لأنّ اختصاصه بالإلهية يقتضي أن لا مدبّر غيره ، فلذلك فصلت خلافا لما قرر به التفتازاني كلامه فإنّه غير ملائم لعبارته.

والحيّ في كلام العرب من قامت به الحياة ، وهي صفة بها الإدراك والتصرّف ، أعني كمال الوجود المتعارف ، فهي في المخلوقات بانبثاث الروح واستقامة جريان الدم في الشرايين ، وبالنسبة إلى الخالق ما يقارب أثر صفة الحياة فينا ، أعني انتفاء الجماديّة مع التنزيه عن عوارض المخلوقات. وفسّرها المتكلّمون بأنها «صفة تصحّح لمن قامت به الإدراك والفعل».

وفسّر صاحب «الكشاف» الحيّ بالباقي ، أي الدائم الحياة بحيث لا يعتريه العدم ، فيكون مستعملا كناية في لازم معناه لأنّ إثبات الحياة لله تعالى بغير هذا المعنى لا يكون إلّا مجازا أو كناية. وقال الفخر : «الذي عندي أنّ الحي ـ في أصل اللغة ـ ليس عبارة

٤٩٢

عن صحة العلم والقدرة. بل عبارة عن كمال الشيء في جنسه ، قال تعالى : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) [الجاثية : ٥] ، وحياة الأشجار إيراقها. فالصفة المسمّاة ـ في عرف المتكلّمين ـ بالحياة سمّيت بذلك لأنّ كمال حال الجسم أن يكون موصوفا بها ، فالمفهوم الأصلي من لفظ الحيّ كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته».

والمقصود بوصف الله هنا بالحيّ إبطال عقيدة المشركين إلاهية أصنامهم التي هي جمادات ، وكيف يكون مدبّر أمور الخلق جمادا.

والحيّ صفة مشبهة من حيي ، أصله حيي كحذر أدغمت الياءان ، وهو يائي باتفاق أئمة اللّغة ، وأما كتابة السلف في المصحف كلمة حيوة بواو بعد الياء فمخالفة للقياس ، وقيل كتبوها على لغة أهل اليمن لأنّهم يقولون حيوة أي حياة ، وقيل كتبوها على لغة تفخيم الفتحة.

والقيّوم فيعول من قام يقوم وهو وزن مبالغة ، وأصله قيووم فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمتا ، والمراد به المبالغة في القيام المستعمل ـ مجازا مشهورا ـ في تدبير شئون الناس ، قال تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣]. والمقصود إثبات عموم العلم له وكمال الحياة وإبطال إلاهية أصنام المشركين ، لأن المشركين كانوا يعترفون بأن مدبّر الكون هو الله تعالى ، وإنّما جعلوا آلهتهم شفعاء وشركاء ومقتسمين أمور القبائل. والمشركون من اليونان كانوا قد جعلوا لكل إله من آلهتهم أنواعا من المخلوقات يتصرّف فيها وأمما من البشر تنتمي إليه ويحنأ عليها.

وجملة (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) مقرّرة لمضمون جملة «الله الحيّ القيوم» ولرفع احتمال المبالغة فيها ، فالجملة منزّلة منزلة البيان لمعنى الحي القيوم ولذلك فصلت عن التي قبلها.

والسّنة فعلة من الوسن ، وهو أول النوم ، والظاهر أنّ أصلها اسم هيئة كسائر ما جاء على وزن فعله من الواوي لفاء ، وقد قالوا وسنة بفتح الواو على صيغة المرة. والسنة أول النوم ، قال عدي بن الرقاع :

وسنان أقصده النّعاس فرنّقت

في عينه سنة وليس بنائم

والنوم معروف وهو فتور يعتري أعصاب الدماغ من تعب أعمال الأعصاب من

٤٩٣

تصاعد الأبخرة البدنية الناشئة عن الهضم والعمل العصبي ، فيشتدّ عند مغيب الشمس ومجيء الظلمة فيطلب الدماغ والجهاز العصبي الذي يدبّره الدماغ استراحة طبيعية فيغيب الحسّ شيئا فشيئا وتثقل حركة الأعضاء ، ثم يغيب الحسّ إلى أن تسترجع الأعصاب نشاطها فتكون اليقظة.

ونفي استيلاء السنة والنوم على الله تعالى تحقيق لكمال الحياة ودوام التدبير ، وإثبات لكمال العلم ؛ فإنّ السنة والنوم يشبهان الموت ، فحياة النائم في حالهما حياة ضعيفة ، وهما يعوقان عن التدبير وعن العلم بما يحصل في وقت استيلائهما على الإحساس.

ونفي السنة عن الله تعالى لا يغني عن نفي النوم عنه لأنّ من الأحياء من لا تعتريه السنة فإذا نام نام عميقا ، ومن الناس من تأخذه السنة في غير وقت النوم غلبة ، وقد تمادحت العرب بالقدرة على السهر ، قال أبو كبير :

فأتت به حوش الفؤاد مبطّنا

سهدا إذا ما نام ليل الهوجل

والمقصود أنّ الله لا يحجب علمه شيء حجبا ضعيفا ولا طويلا ولا غلبة ولا اكتسابا ، فلا حاجة إلى ما تطلّبه الفخر والبيضاوي من أن تقديم السنة على النوم مراعى فيه ترتيب الوجود ، وأنّ ذكر النوم من قبيل الاحتراس. وقد أخذ هذا المعنى بشّار وصاغه بما يناسب صناعة الشعر فقال :

وليل دجوجي تنام بناته

وأبناؤه من طوله (١) وربائبه

فإنّه أراد من بنات الليل وأبنائه الساهرات والساهرين بمواظبة ، وأراد بربائب الليل من هم أضعف منهم سهرا لليل لأنّ الربيب أضعف نسبة من الولد والبنت.

وجملة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقرير لانفراده بالإلهية إذ جميع الموجودات مخلوقاته ، وتعليل لاتّصافه بالقيّوميّة لأنّ من كانت جميع الموجودات ملكا له فهو حقيق بأن يكون قيّومها وألّا يهملها ولذلك فصلت الجملة عن التي قبلها.

واللام للملك. والمراد بالسماوات والأرض استغراق أمكنة الموجودات ، فقد دلت الجملة على عموم الموجودات بالموصول وصلته ، وإذا ثبت ملكه للعموم ثبت أنّه لا يشذّ

__________________

(١) كتب في نسخة ديوان بشار «هوله» بهاء في أوله وطبع كذلك وبدا لي بعد ذلك أنه تحريف وأن الصواب «طوله» بطاء عوض الهاء لأنه المناسب لقوله : «تنام».

٤٩٤

عن ملكه موجود فحصل معنى الحصر ، ولكنّه زاده تأكيدا بتقديم المسند ـ أي لا لغيره ـ لإفادة الردّ على أصناف المشركين ، من الصابئة عبدة الكواكب كالسريان واليونان ومن مشركي العرب لأن مجرّد حصول معنى الحصر بالعموم لا يكفي في الدلالة على إبطال العقائد الضّالة. فهذه الجملة أفادت تعليم التوحيد بعمومها ، وأفادت إبطال عقائد أهل الشرك بخصوصية القصر ، وهذا بلاغة معجزة.

وجملة (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) مقرّرة لمضمون جملة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لما أفاده لام الملك من شمول ملكه تعالى لجميع ما في السماوات وما في الأرض ، وما تضمنه تقديم المجرور من قصر ذلك الملك عليه تعالى قصر قلب ، فبطل وصف الإلهية عن غيره تعالى ، بالمطابقة. وبطل حق الإدلال عليه والشفاعة عنده ـ التي لا تردّ ـ بالالتزام ، لأنّ الإدلال من شأن المساوي والمقارب ، والشفاعة إدلال. وهذا إبطال لمعتقد معظم مشركي العرب لأنّهم لم يثبتوا لآلهتهم وطواغيتهم ألوهية تامة ، بل قالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، فأكّد هذا المدلول بالصريح ، ولذلك فصلت هذه الجملة عمّا قبلها.

و (ذَا) مزيدة للتأكيد إذ ليس ثمّ مشار إليه معيّن ، والعرب تزيد (ذا) لما تدل عليه الإشارة من وجود شخص معيّن يتعلق به حكم الاستفهام ، حتى إذا أظهر عدم وجوده كان ذلك أدلّ على أن ليس ثمّة متطلع ينصب نفسه لادّعاء هذا الحكم ، وتقدم القول في (من ذا) عند قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥]. والاستفهام في قوله :

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) مستعمل في الإنكار والنفي بقرينة الاستثناء منه بقوله (إِلَّا بِإِذْنِهِ).

والشفاعة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة : ٥٤].

والمعنى أنّه لا يشفع عنده أحد بحق وإدلال لأنّ المخلوقات كلها ملكه ، ولكن يشفع عنده من أراد هو أن يظهر كرامته عنده فيأذنه بأن يشفع فيمن أراد هو العفو عنه ، كما يسند إلى الكبراء مناولة المكرمات إلى نبغاء التلامذة في مواكب الامتحان ، ولذلكجاء في حديث الشفاعة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتيه الناس ليكلّم ربّه فيخفّف عنهم هول موقف

٤٩٥

الحساب ، فيأتي حتى يسجد تحت العرش ويتكلم بكلمات يعلّمه الله تعالى إياها ، فيقال يا محمد ارفع رأسك ، سل تعطه ، واشفع تشفّع ، فسجوده استيذان في الكلام ، ولا يشفع حتى يقال اشفع ، وتعليمه الكلمات مقدّمة للإذن.

وجملة (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) تقرير وتكميل لما تضمنه مجموع جملتي (الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) ولما تضمنته جملة (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، فإنّ جملتي (الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) دلتا على عموم علمه بما حدث ووجد من الأكوان ولم تدلّا على علمه بما سيكون فأكد وكمل بقوله يعلم الآية ، وهي أيضا تعليل لجملة من ذا الذي يشفع عنده إلّا بإذنه إذ قد يتّجه سؤال لما ذا حرموا الشفاعة إلّا بعد الإذن فقيل لأنّهم لا يعلمون من يستحقّ الشفاعة وربّما غرّتهم الظواهر ، والله يعمل من يستحقّها فهو يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولأجل هذين المعنيين فصلت الجملة عما قبلها.

والمراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما هو ملاحظ لهم من المعلومات وما خفي عنهم أو ذهلوا عنه منها ، أو ما هو واقع بعدهم وما وقع قبلهم. وأما علمه بما في زمانهم فأحرى. وقيل المستقبل هو ما بين الأيدي والماضي هو الخلف ، وقيل عكس ذلك ، وهما استعمالان مبنيان على اختلاف الاعتبار في تمثيل ما بين الأيدي والخلف ، لأنّ ما بين أيدي المرء هو أمامه ، فهو يستقبله ويشاهده ويسعى للوصول إليه ، وما خلفه هو ما وراء ظهره ، فهو قد تخلّف عنه وانقطع ولا يشاهده ، وقد تجاوزه ولا يتّصل به بعد وقيل أمور الدنيا وأمور الآخرة ، وهو فرع من الماضي والمستقبل ، وقيل المحسوسات والمعقولات. وأياما كان فاللفظ مجاز ، والمقصود عموم العلم بسائر الكائنات.

وضمير (أَيْدِيهِمْ) و (خَلْفَهُمْ) عائد إلى (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) بتغليب العقلاء من المخلوقات لأنّ المراد بما بين أيديهم وما خلفهم ما يشمل أحوال غير العقلاء ، أو هو عائد على خصوص العقلاء من عموم ما في السموات وما في الأرض فيكون المراد ما يختصّ بأحوال البشر ـ وهو البعض ، لضمير ولا يحيطون ـ لأنّ العلم من أحوال العقلاء.

وعطفت جملة (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) على جملة (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) لأنّها تكملة لمعناها كقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢١٦].

ومعنى يحيطون يعلمون علما تاما ، وهو مجاز حقيقته أنّ الإحاطة بالشيء تقتضي

٤٩٦

الاحتواء على جميع أطرافه بحيث لا يشذّ منه شيء من أوله ولا آخره ، فالمعنى لا يعلمون ـ علم اليقين ـ شيئا من معلوماته ، وأمّا ما يدّعونه فهو رجم بالغيب. فالعلم في قوله : (مِنْ عِلْمِهِ) بمعنى المعلوم ، كالخلق بمعنى المخلوق ، وإضافته إلى ضمير اسم الجلالة تخصيص له بالعلوم اللدنية التي استأثر الله بها ولم ينصب الله تعالى عليها دلائل عقلية أو عادية. ولذلك فقوله : (إِلَّا بِما شاءَ) تنبيه على أنّه سبحانه قد يطلع بعض أصفيائه على ما هو من خواصّ علمه كقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجن : ٢٦ ، ٢٧].

وقوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) تقرير لما تضمّنته الجمل كلّها من عظمة الله تعالى وكبريائه وعلمه وقدرته وبيان عظمة مخلوقاته المستلزمة عظمة شأنه ، أو لبيان سعة ملكه ـ كذلك ـ كما سنبيّنه ، وقد وقعت هذه الجمل مترتبة متفرّعة.

والكرسي شيء يجلس عليه متركب من أعواد أو غيرها موضوعة كالأعمدة متساوية ، عليها سطح من خشب أو غيره بمقدار ما يسع شخصا واحدا في جلوسه ، فإن زاد على مجلس واحد وكان مرتفعا فهو العرش. وليس المراد في الآية حقيقة الكرسي إذ لا يليق بالله تعالى لاقتضائه التحيّز ، فتعين أن يكون مرادا به غير حقيقته.

والجمهور قالوا : إنّ الكرسي مخلوق عظيم ، ويضاف إلى الله تعالى لعظمته ، فقيل هو العرش ، وهو قول الحسن. وهذا هو الظاهر لأنّ الكرسي لم يذكر في القرآن إلّا في هذه الآية وتكرّر ذكر العرش ، ولم يرد ذكرهما مقترنين ، فلو كان الكرسي غير العرش لذكر معه كما ذكرت السماوات مع العرش في قوله تعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [المؤمنون : ٨٦] ، وقيل الكرسي غير العرش ، فقال ابن زيد هو دون العرش وروي في ذلك عن أبي ذر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما الكرسي في العرش إلّا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض» وهو حديث لم يصح. وقال أبو موسى الأشعري والسدى والضحاك : الكرسي موضع القدمين من العرش ، أي لأنّ الجالس على عرش يكون مرتفعا عن الأرض فيوضع له كرسي لئلا تكون رجلاه في الفضاء إذا لم يتربّع ، وروي هذا عن ابن عباس. وقيل الكرسي مثل لعلم الله ، وروي عن ابن عباس لأنّ العالم يجلس على كرسي ليعلّم الناس. وقيل مثل لملك الله تعالى كما يقولون فلان صاحب كرسي العراق أي ملك العراق ، قال البيضاوي : «ولعلّه الفلك المسمّى عندهم بفلك البروج». قلت أثبت القرآن سبع سماوات ولم يبيّن مسمّاها في قوله (سورة نوح) : (أَلَمْ

٤٩٧

تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٥ ، ١٦] ، فيجوز أن تكون السموات طبقات من الأجواء مختلفة الخصائص متمايزة بما يملّاها من العناصر ، وهي مسبح الكواكب ، ولقد قال تعالى (سورة الملك) : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) [الملك : ٥] ، ويجوز أن تكون السماوات هي الكواكب العظيمة المرتبطة بالنظام الشمس وهي : فلكان ، وعطارد ، والزهرة ، وهذه تحت الشمس إلى الأرض ، والمريخ ، والمشتري ، وزحل ، وأورانوس ، ونبتون ، وهذه فوق الشمس على هذا الترتيب في البعد ، إلّا أنّها في عظم الحجم يكون أعظمها المشتري ، ثم زحل ، ثم نبتون ، ثم أورانوس ، ثم المريخ ، فإذا كان العرش أكبرها فهو المشتري ، والكرسي دونه فهو زحل ، والسبع الباقية هي المذكورة ، ويضم إليها القمر ، وإن كان الكرسي هو العرش فلا حاجة إلى عدّ القمر ، وهذا هو الظاهر ، والشمس من جملة الكواكب ، وقوله تعالى : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [نوح : ١٦] تخصيص لها بالذكر للامتنان على الناس بأنّها نور للأرض ، إلّا أنّ الشمس أكبر من جميعها على كل تقدير. وإذا كانت السماوات أفلاكا سبعة لشموس غير هذه الشمس ولكل فلك نظامه كما لهذه الشمس نظامها فذلك جائز ـ وسبحان من لا تحيط بعظمة قدرته الأفهام ـ فيكون المعنى على هذا أن الله تعالى نبهنا إلى عظيم قدرته وسعة ملكوته بما يدل على ذلك مع موافقته لما في نفس الأمر ، ولكنّه لم يفصّل لنا ذلك لأنّ تفصيله ليس من غرض لاستدلال على عظمته ، ولأن العقول لا تصل إلى فهمه لتوقفه على علوم واستكمالات فيها لم تتمّ إلى الآن ، ولتعلمنّ نبأه بعد حين.

وجملة (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) عطفت على جملة (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) لأنّها من تكملتها وفيها ضمير معاده في التي قبلها ، أي إنّ الذي أوجد هاته العوالم لا يعجز عن حفظها.

وآده جعله ذا أود. والأود ـ بالتحريك ـ العوج ، ومعنى آده أثقله لأن المثقّل ينحني فيصير ذا أود.

وعطف عليه (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) لأنّه من تمامه ، والعلو والعظمة مستعاران لشرف القدر وجلال القدرة.

ولهذه الآية فضل كبير لما اشتملت عليه من أصول معرفة صفات الله تعالى ، كما اشتملت سورة الإخلاص على ذلك وكما اشتملت كلمة الشهادة. في «الصحيحين» عن أبي هريرة «أنّ آتيا أتاه في الليل فأخذ من طعام زكاة الفطر فلما أمسكه قال له إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي لن يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح» فقال

٤٩٨

له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «صدقك وذلك شيطان» ، وأخرج مسلم عن أبي ابن كعب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ـ قلت ـ الله لا إله إلّا هو الحيّ القيوم ، فضرب في صدري وقال : والله ليهنك العلم أبا المنذر». وروى النسائي : «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلّا الموت» ، وفيها فضائل كثيرة مجرّبة للتأمين على النفس والبيت.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦))

استئناف بياني ناشئ عن الأمر بالقتال في سبيل الله في قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٤٤] إذ يبدو للسامع أن القتال لأجل دخول العدو في الإسلام فبيّن في هذه الآية أنه لا إكراه على الدخول في الإسلام وسيأتي الكلام على أنّها محكمة أو منسوخة.

وتعقيب آية الكرسي بهاته الآية بمناسبة أنّ ما اشتملت عليه الآية السابقة من دلائل الوحدانية وعظمة الخالق وتنزيهه عن شوائب ما كفرت به الأمم ، من شأنه أن يسوق ذوي العقول إلى قبول هذا الدين الواضح العقيدة ، المستقيم الشريعة ، باختيارهم دون جبر ولا إكراه ، ومن شأنه أن يجعل دوامهم على الشرك بمحل السؤال : أيتركون عليه أم يكرهون على الإسلام ، فكانت الجملة استئنافا بيانيا.

والإكراه الحمل على فعل مكروه ، فالهمزة فيه للجعل ، أي جعله ذا كراهية ، ولا يكون ذلك إلّا بتخويف وقوع ما هو أشدّ كراهية من الفعل المدعو إليه.

والدين تقدم بيانه عند قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٣] ، وهو هنا مراد به الشرع.

والتعريف في الدين للعهد ، أي دين الإسلام.

ونفي الإكراه خير في معنى النهي ، والمراد نفي أسباب الإكراه في حكم الإسلام ، أي لا تكرهوا أحدا على أتباع الإسلام قسرا ، وجيء بنفي الجنس لقصد العموم نصا. وهي دليل واضح على إبطال الإكراه على الدّين بسائر أنواعه ، لأنّ أمر الإيمان يجري على الاستدلال ، والتمكين من النظر ، وبالاختيار. وقد تقرر في صدر الإسلام قتال المشركين

٤٩٩

على الإسلام ، وفي الحديث : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله فإذا قالوها عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها». ولا جائز أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل ابتداء القتال كله ، فالظاهر أنّ هذه الآية نزلت بعد فتح مكة واستخلاص بلاد العرب ، إذ يمكن أن يدوم نزول السورة سنين كما قدمناه في صدر تفسير سورة الفاتحة لا سيما وقد قيل بأنّ آخر آية نزلت هي في سورة النساء [١٧٦] (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) الآية ، فنسخت حكم القتال على قبول الكافرين الإسلام ودلت على الاقتناع منهم بالدخول تحت سلطان الإسلام وهو المعبّر عنه بالذمة ، ووضحه عمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك حين خلصت بلاد العرب من الشرك بعد فتح مكة وبعد دخول الناس في الدين أفواجا حين جاءت وفود العرب بعد الفتح ، فلما تم مراد الله من إنقاذ العرب من الشرك والرجوع بهم إلى ملّة إبراهيم ، ومن تخليص الكعبة من أرجاس المشركين ، ومن تهيئة طائفة عظيمة لحمل هذا الدين وحماية بيضته ، وتبيّن هدى الإسلام وزال ما كان يحول دون اتّباعه من المكابرة ، وحقّق الله سلامه بلاد العرب من الشرك كما وقع في خطبة حجة الوداع «إنّ الشيطان قد يئس من أن يعبد في بلدكم هذا» لمّا تم ذلك كله أبطل الله القتال على الدين وأبقى القتال على توسيع سلطانه ، ولذلك قال (سورة التوبة ٢٩) (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) ، وعلى هذا تكون الآية ناسخة لما تقدّم من آيات القتال مثل قوله قبلها (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣] على أن الآيات النازلة قبلها أو بعدها أنواع ثلاثة :

أحدها : آيات أمرت بقتال الدفاع كقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ، وقوله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) [البقرة : ١٩٤] ، وهذا قتال ليس للإكراه على الإسلام بل هو لدفع غائلة المشركين.

النوع الثاني : آيات أمرت بقتال المشركين والكفّار ولم تغيّ بغاية ، فيجوز أن يكون إطلاقها مقيّدا بغاية آية (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) [التوبة : ٢٩] وحينئذ فلا تعارضه آيتنا هذه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

النوع الثالث : ما غيّي بغاية كقوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٣] ، فيتعين أن يكون منسوخا بهاته الآية وآية (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)

٥٠٠