تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

الوسخ الشديد والقمل ، لكراهية التصريح بالقمل. وكلمة (من) للابتداء أي أذى ناشئ عن رأسه.

وفي البخاري عن كعب بن عجرة قال : «حملت إلى النبي والقمل يتناثر على وجهي ، فقال ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك هذا ، أما تجد شاة؟ قلت : لا ، قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك ، فنزلت هذه الآية فيّ خاصة وهي لكم عامة ا ه» ومن لطائف القرآن ترك التصريح بما هو مرذول من الألفاظ.

وقوله : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) محذوف المسند إليه لظهوره أي عليه ، والمعنى فليحلق رأسه وعليه فدية ، وقرينة المحذوف قوله : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) وقد أجمل الله الفدية ومقدارها وبينه حديث كعب بن عجرة.

والنسك بضمتين وبسكون السين مع تثليث النون العبادة ويطلق على الذبيحة المقصود منها التعبد وهو المراد هنا مشتق من نسك كنصر وكرم إذا عبد وذبح لله وسمي العابد ناسكا ، وأغلب إطلاقه على الذبيحة المتقرب بها إلى معبود وفي الحديث : «والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم» يعني الضحية.

(فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

الفاء للعطف على (أُحْصِرْتُمْ) إن كان المراد من الأمن زوال الإحصار المتقدم ، ولعلها نزلت بعد أن فرض الحج ، لأن فيها ذكر التمتع وذكر صيام المتمتع إن لم يجد هديا ثلاثة أيام في مدة الحج وسبعة إذا رجع إلى أفقه وذلك لا يكون إلّا بعد تمكنهم من فعل الحج. والفاء لمجرد التعقيب الذكري.

وجيء بإذا لأن فعل الشرط مرغوب فيه ، والأمن ضد الخوف ، وهو أيضا السلامة من كل ما يخاف منه أمن كفرح أمنا ، أمانا ، وأمنا ، وآمنة وإمنا بكسر الهمزة وهو قاصر بالنسبة إلى المأمون منه فيتعدى بمن تقول : أمنت من العدو ، ويتعدى إلى المأمون تقول : أمنت فلانا إذا جعلته آمنا منك ، والأظهر أن الأمن ضد الخوف من العدو ما لم يصرح بمتعلقه وفي القرآن (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [التوبة : ٦] فإن لم يذكر له متعلق نزل منزلة اللازم فدل على عدم الخوف من القتال وقد تقدم في قوله تعالى : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [البقرة : ١٢٦].

٢٢١

وهذا دليل على أن المراد بالإحصار فيما تقدم ما يشمل منع العدو ولذلك قيل (إذا أمنتم) ويؤيده أن الآيات نزلت في شأن عمرة الحديبية كما تقدم فلا مفهوم للشرط هنا ؛ لأنه خرج لأجل حادثة معينة ، فالآية دلت على حكم العمرة ، لأنها لا تكون إلّا مع الأمن ، وذلك أن المسلمين جاءوا في عام عمرة القضاء معتمرين وناوين إن مكنوا من الحج أن يحجوا ، ويعلم حكم المريض ونحوه إذا زال عنه المانع بالقياس على حكم الخائف.

وقوله : فمن تمنع جواب (إذا) والتقدير فإذا أمنتم بعد الإحصار وفاتكم وقت الحج وأمكنكم أن تعتمروا فاعتمروا وانتظروا الحج إلى عام قابل ، واغتنموا خير العمرة فمن تمتع بالعمرة فعليه هدي عوضا عن هدي الحج ، فالظاهر أن صدر الآية أريد به الإحصار الذي لا يتمكن معه المحصر من حج ولا عمرة ، وأن قوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) أريد به حصول الأمن مع إمكان الإتيان بعمرة وقد فات وقت الحج ، أي أنه فاته الوقت ولم يفته مكان الحج ، ويعلم أن من أمن وقد بقي ما يسعه بأن يحج عليه أن يحج.

ومعنى (تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ) انتفع بالعمرة عاجلا ، والانتفاع بها إما بمعنى الانتفاع بثوابها ، أو بسقوط وجوبها إن قيل إنها واجبة مع إسقاط السفر لها إذ هو قد أداها في سفر الحج ، وإما بمعنى الانتفاع بالحل منها ثم إعادة الإحرام بالحج فانتفع بألا يبقى في كلفة الإحرام مدة طويلة ، وهذا رخصة من الله تعالى ، إذ أباح العمرة في مدة الحج بعد أن كان ذلك محظورا في عهد الجاهلية إذ كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أعظم الفجور.

فالباء في قوله : (بِالْعُمْرَةِ) صلة فعل (تَمَتَّعَ) ، وقوله : (إِلَى الْحَجِ) متعلق بمحذوف دل عليه معنى (إلى) تقديره متربصا إلى وقت الحج أو بالغا إلى وقت الحج أي أيامه وهي عشر ذي الحجة وقد فهم من كلمة (إلى) أن بين العمرة والحج زمنا لا يكون فيه المعتمر محرما وهو الإحلال الذي بين العمرة والحج في التمتع والقران ، فعليه ما استيسر من الهدي لأجل الإحلال الذي بين الإحرامين ، وهذا حيث لم يهد وقت الإحصار فيما أراه والله أعلم.

والآية جاءت بلفظ التمتع على المعنى اللغوي أي الانتفاع وأشارت إلى ما سماه المسلمون بالتمتع وبالقرآن وهو من شرائع الإسلام التي أبطل بها شريعة الجاهلية ، واسم التمتع يشملها لكنه خص التمتع بأن يحرم الحاج بعمرة في أشهر الحج ثم يحل منها ثم

٢٢٢

يحج من عامه ذلك قبل الرجوع إلى أفقه ، وخص القران بأن يقرن الحج والعمرة في إهلال واحد ويبدأ في فعله بالعمرة ثم يحل منها ويجوز له أن يردف الحج على العمرة كل ذلك شرعه الله رخصة للناس ، وإبطالا لما كانت عليه الجاهلية من منع العمرة في أشهر الحج ، وفرض الله عليه الهدي جبرا لما كان يتجشمه من مشقة الرجوع إلى مكة لأداء العمرة كما كانوا في الجاهلية ولذلك سماه تمتعا.

وقد اختلف السلف في التمتع وفي صفته فالجمهور على جوازه ، وأنه يحل من عمرته التي أحرم بها في أشهر الحج ثم يحرم بعد ذلك في حجة في عامه ذلك ، وكان عثمان بن عفان لا يرى التمتع وينهى عنه في خلافته ، ولعله كان يتأول هذه الآية بمثل ما تأولها ابن الزبير كما يأتي قريبا ، وخالفه علي وعمران بن حصين ، وفي البخاري عن عمران بن حصين تمتعنا على عهد النبي ونزل القرآن ثم قال رجل من برأيه ما شاء (يريد عثمان) ، وكان عمر بن الخطاب لا يرى للقارن إذا أحرم بعمرة وبحجة معا وتمم السعي بين الصفا والمروة أن يحل من إحرامه حتى يحل من إحرام حجه فقال له أبو موسى الأشعري إني جئت من اليمن فوجدت رسول الله بمكة محرما (أي عام الوداع) فقال لي بم أهللت؟ قلت أهللت بإهلال كإهلال النبي فقال لي هل معك هدي قلت لا فأمرني فطفت وسعيت ثم أمرني فأحللت وغسلت رأسي ومشطتني امرأة من عبد القيس ، فلما حدث أبو موسى عمر بهذا قال عم : «إن نأخذ بكتاب الله فهو يأمرنا بالإتمام وإن نأخذ بسنة رسوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله» ، وجمهور الصحابة والفقهاء يخالفون رأي عمر ويأخذون بخبر أبي موسى ؛ ـ وبحديث علي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو لا أن معي الهدي لأحللت» ، وقد ينسب بعض الناس إلى عمر أنه لا يرى جواز التمتع وهو وهم إنما رأى عمر لا يجوز الإحلال من العمرة في التمتع إلى أن يحل من الحج وذلك معنى قوله فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله ، فلعله رأى الإحلال للمتلبس بنية الحج منافيا لنيته وهو ما عبر عنه بالإتمام ولعله كان لا يرى الآحاد مخصصا للمتواتر من كتاب أو سنة لأن فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هنا متواتر ، إذ قد شهده كثير من أصحابه ونقلوا حجه وأنه أهل بهما جميعا.

نعم ، كان أبو بكر وعمر يريان إفراد الحج أفضل من التمتع والقران وبه أخذ مالك روى عنه محمد بن الحسن أنه يرجح أحد الحديثين المتعارضين بعمل الشيخين ، وكان عبد الله بن الزبير رضي‌الله‌عنه يرى التمتع خاصا بالمحصر إذا تمكن من الوصول إلى البيت بعد أن فاته وقوف عرفة فيجعل حجته عمرة ويحج في العام القابل ، وتأول قوله

٢٢٣

تعالى (إِلَى الْحَجِ) أي إلى وقت الحج القابل والجمهور يقولون (إِلَى الْحَجِ) أي إلى أيام الحج.

وقوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) الآية عطفت على (فَمَنْ تَمَتَّعَ) ، لأن (فَمَنْ تَمَتَّعَ) مع جوابه وهو (فَمَا اسْتَيْسَرَ) مقدر فيه معنى فمن تمتع واجدا الهدي فعطف عليه (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ).

وجعل الله الصيام بدلا عن الهدى زيادة في الرخصة والرحمة ولذلك شرع الصوم مفرقا فجعله عشرة أيام ثلاثة منها في أيام الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج.

فقوله : (فِي الْحَجِ) أي في أشهره إن كان قد أمكنه الاعتمار قبل انقضاء مدة الحج ، فإن لم يدرك الحج واعتمر فتلك صفة أخرى لا تعرض إليها في الآية.

وقوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) فذلكة الحساب (١) أي جامعته فالحاسب إذا ذكر عددين فصاعدا قال عند إرادة جمع الأعداد فذلك أي المعدود كذا فصيغت لهذا القول صيغة نحت مثل بسمل إذا قال باسم الله وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلّا بالله فحروف فذلكة متجمعة من حروف فذلك كما قال الأعشى :

ثلاث بالغداة فهنّ حسبي

وستّ حين يدركني العشاء

فذلك تسعة في اليوم ريّي

وشرب المرء فوق الرّيّ داء

فلفظ فذلكة كلمة مولدة لم تسمع من كلام العرب غلب إطلاق اسم الفذلكة على خلاصة جمع الأعداد ، وإن كان اللفظ المحكي جرى بغير كلمة «ذلك» كما نقول في قوله: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) إنها فذلكة مع كون الواقع في المحكي لفظ «تلك» لا لفظ ذلك ومثله قول الفرزدق :

ثلاث واثنتان فتلك خمس

وسادسة تميل إلى الشّمام

(أي إلى الشم والتقبيل)

وفي وجه الحاجة إلى الفذلكة في الآية وجوه ، فقيل هو مجرد توكيد كما تقول كتبت بيدي يعني أنه جاء على طريقة ما وقع في شعر الأعشى أي أنه جاء على أسلوب عربي ولا يفيد إلّا تقرير الحكم في الذهن مرتين ولذلك قال صاحب «الكشاف» لما ذكر مثله

__________________

(١) نصّ عليه في البيضاوي وحاشيته لمولانا عصام الدين.

٢٢٤

كقول العرب علمان خير من علم. وعن المبرد أنه تأكيد لدفع توهم أن يكون بقي شيء مما يجب صومه.

وقال الزجاج قد يتوهم متوهم أن المراد التخيير بين صوم ثلاثة أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجع إلى بلده بدلا من الثلاثة أزيل ذلك بجلية المراد بقوله : (تِلْكَ عَشَرَةٌ) وتبعه صاحب «الكشاف» فقال «الواو قد تجيء للإباحة في نحو قولك : جالس الحسن وابن سيرين ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة ا ه» وهو يريد من الإباحة أنها للتخيير الذي يجوز معه الجمع ولا يتعين.

وفي كلا الكلامين حاجة إلى بيان منشأ توهم معنى التخيير فأقول : إن هذا المعنى وإن كان خلاف الأصل في الواو حتى زعم ابن هشام أن الواو لا ترد له ، وأن التخيير يستفاد من صيغة الأمر لا أنه قد يتوهم من حيث إن الله ذكر عددين في حالتين مختلفتين وجعل أقل العددين لأشق الحالتين وأكثرهما لأخفهما ، فلا جرم طرأ توهم أن الله أوجب صوم ثلاثة أيام فقط وأن السبعة رخصة لمن أراد التخيير ، فبين الله ما يدفع هذا التوهم ، بل الإشارة إلى أن مراد الله تعالى إيجاب صوم عشرة أيام ، وإنما تفريقها رخصة ورحمة منه سبحانه ، فحصلت فائدة التنبيه على الرحمة الإلهية.

ونظيره قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الأعراف : ١٤٢] إذ دل على أنه أراد من موسى عليه‌السلام مناجاة أربعين ليلة ولكنه أبلغها إليه موزعة تيسيرا.

وقد سئلت عن حكمة كون الأيام عشرة فأجبت بأنه لعله نشأ من جمع سبعة وثلاثة ؛ لأنهما عددان مباركان ، ولكن فائدة التوزيع ظاهرة ، وحكمة كون التوزيع كان إلى عددين متفاوتين لا متساويين ظاهرة ؛ لاختلاف حالة الاشتغال بالحج ففيها مشقة ، وحالة الاستقرار بالمنزل. وفائدة جعل بعض الصوم في مدة الحج جعل بعض العبادة عند سببها ، وفائدة التوزيع إلى ثلاثة وسبعة أن كليهما عدد مبارك ضبطت بمثله الأعمال دينية وقضائية.

وأما قوله : (كامِلَةٌ) فيفيد التحريض على الإتيان بصيام الأيام كلها لا ينقص منها شيء ، مع التنويه بذلك الصوم وأنه طريق كمال لصائمه ، فالكمال مستعمل في حقيقته ومجازه.

وقوله : (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إشارة إلى أقرب شيء

٢٢٥

في الكلام ، وهو هدي التمتع أو بدله وهو الصيام ، والمعنى أن الهدي على الغريب عن مكة كيلا يعيد السفر للعمرة فأما المكي فلم ينتفع بالاستغناء عن إعادة السفر فلذا لم يكن عليه هدي ، وهذا قول مالك والشافعي والجمهور ، فلذلك لم يكن عندهما على أهل مكة هدي في التمتع والقران ، لأنهم لا مشقة عليهم في إعادة العمرة ، وقال أبو حنيفة : الإشارة إلى جميع ما يتضمنه الكلام السابق على اسم الإشارة وهو التمتع بالعمرة مع الحج ووجوب الهدي ، فهو لا يرى التمتع والقران لأهل مكة وهو وجه من النظر.

وحاضرو المسجد الحرام هم أهل بلدة مكة وما جاورها ، واختلف في تحديد ما جاورها فقال مالك : ما اتصل بمكة ذلك من ذي طوى وهو على أميال قليلة من مكة. وقال الشافعي : من كان من مكة على مسافة القصر ونسبه ابن حبيب إلى مالك وغلطه شيوخ المذهب. وقال عطاء : حاضرو المسجد الحرام أهل مكة وأهل عرفة ، ومر ، وعرنة ، وضجنان ، والرجيع ، وقال الزهري : أهل مكة ومن كان على مسافة يوم أو نحوه ، وقال ابن زيد : أهل مكة ، وذي طوى ، وفج ، وما يلي ذلك. وقال طاوس : حاضرو المسجد الحرام كل من كان داخل الحرم ، وقال أبو حنيفة : هم من كانوا داخل المواقيت سواء كانوا مكيين أو غيرهم ساكني الحرم أو الحل.

(وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

وصاية بالتقوى بعد بيان الأحكام التي لا تخلو عن مشقة للتحذير من التهاون بها ، فالأمر بالتقوى عام ، وكون الحج من جملة ذلك هو من جملة العموم وهو أجدر أفراد العموم ، لأن الكلام فيه.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) افتتح بقوله : (وَاعْلَمُوا) اهتماما بالخبر فلم يقتصر بأن يقال : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فإنه لو اقتصر عليه لحصل العلم المطلوب ، لأن العلم يحصل من الخبر ، لكن لما أريد تحقيق الخبر افتتح بالأمر بالعلم ، لأنه في معنى تحقيق الخبر ، كأنه يقول : لا تشكوا في ذلك ، فأفاد مفاد إن ، وتقدم آنفا عند قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [البقرة : ١٩٤].

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧))

٢٢٦

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ).

استئناف ابتدائي للإعلام بتفصيل مناسك الحج ، والذي أراه أن هذه الآيات نزلت بعد نزول قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) في [سورة آل عمران : ٩٧] فإن تلك الآية نزلت بفرض الحج إجمالا ، وهذه الآية فيها بيان أعماله ، وهو بيان مؤخر عن المبين ، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة ، فيظهر أن هذه الآية نزلت في سنة تسع ، تهيئة لحج المسلمين مع أبي بكر الصديق.

وبين نزول هذه الآية ونزول آية (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٦] نحو من ثلاث سنين فتكون فيما نرى من الآيات التي أمر الرسول عليه‌السلام بوضعها في هذا الموضع من هذه السورة للجمع بين أعمال الحج وأعمال العمرة.

وهي وصاية بفرائض الحج وسننه ومما يحق أن يراعى في أدائه ، وذكر ما أراد الله الوصاية به من أركانه وشعائره. وقد ظهرت عناية الله تعالى بهذه العبادة العظيمة ، إذ بسط تفاصيلها وأحوالها مع تغيير ما أدخله أهل الجاهلية فيها.

ووصف الأشهر بمعلومات حوالة على ما هو معلوم للعرب من قبل ، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم ، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام النحر ، وبعضها بعض الأشهر الحرم ، لأنهم حرموا قبل يوم الحج شهرا وأياما وحرموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كلّه ، لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم ، وأما رجب فإنما حرّمته مضر لأنه شهر العمرة.

فقوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) أي في أشهر ، لقوله بعده : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) ولك أن تقدر : مدة الحج أشهر ، وهو كقول العرب «الرطب شهرا ربيع».

والمقصود من قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) يحتمل أن يكون تمهيدا لقوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) تهوينا لمدة ترك الرفث والفسوق والجدال ، لصعوبة ترك ذلك على الناس ، ولذلك

قللت بجمع القلة ، فهو نظير ما روى مالك في «الموطأ» : أن عائشة قالت لعروة بن الزبير يا ابن أختي إنما هي عشر ليال فإن تخلج في نفسك شيء فدعه ، تعني أكل لحم الصيد ، ويحتمل أن يكون تقريرا لما كانوا عليه في الجاهلية من تعيين أشهر الحج فهو نظير قوله : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) [التوبة : ٣٦] الآية ، وقيل : المقصود

٢٢٧

بيان وقت الحج ولا أنثلج له.

والأشهر المقصودة هي شوال وذو القعدة وذو الحجة لا غير ، وإنما اختلفوا في أن ذا الحجة كله شهر أو العشر الأوائل منه أو التسع فقط ، أو ثلاثة عشر يوما منه ، فقال بالأول ابن مسعود وابن عمر والزهري وعروة بن الزبير وهو رواية ابن المنذر عن مالك ، وقال بالثاني ابن عباس والسدي وأبو حنيفة وهو رواية ابن حبيب عن مالك. وقال بالثالث الشافعي ، والرابع قول في مذهب مالك ذكره ابن الحاجب في «المختصر» غير معزو.

وإطلاق الأشهر على الشهرين وبعض الشهر عند أصحاب القولين الثالث والرابع مخرّج على إطلاق الجمع على الاثنين أو على اعتبار العرب الدخول في الشهر أو السنة كاستكماله ، كما قالوا : ابن سنتين لمن دخل في الثانية ، وكثرة هذا الخلاف تظهر فيمن أوقع بعض أعمال الحج مما يصح تأخيره كطواف الزيارة بعد عاشر ذي الحجة ، فمن يراه أوقعه في أيام الحج لم ير عليه دما ومن يرى خلافه يرى خلافه.

وقد اختلفوا في الإهلال بالحج قبل دخول أشهر الحج ، فقال مجاهد وعطاء والأوزاعي والشافعي وأبو ثور : لا يجزئ ويكون له عمرة كمن أحرم للصلاة قبل وقتها ، وعليه : يجب عليه إعادة الإحرام من الميقات عند ابتداء أشهر الحج ، واحتج الشافعي بقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ، وقال أحمد : يجزئ ولكنه مكروه ، وقال مالك وأبو حنيفة والنخعي : يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة إلّا أن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة ، لأن عمر بن الخطاب كان ينهى عن ذلك ويضرب فاعله بالدّرة ، ودليل مالك في هذا ما مضى من السنة ، واحتج النخعي بقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩] إذ جعل جميع الأهلة مواقيت للحج ولم يفصل ، وهذا احتجاج ضعيف ، إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوفيق إجمالا ، مع التوزيع في التفصيل فيوقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة. ولاحتمال الآية عدة محامل في وجه ذكر أشهر الحج لا أرى للأئمة حجة فيها لتوقيت الحج.

وقوله تعالى : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) تفريع على هاته المقدمة لبيان أن الحج يقع فيها وبيان أهم أحكامه.

ومعنى فرض : نوى وعزم ، فنية الحج هي العزم عليه وهو الإحرام ، ويشترط في النية عند مالك وأبي حنيفة مقارنتها لقول من أقوال الحج وهو التلبية ، أو عمل من أعماله

٢٢٨

كسوق الهدي ، وعند الشافعي يدخل الحج بنية ولو لم يصاحب قولا أو عملا وهو أرجح ؛ لأن النية في العبادات لم يشترط فيها مقارنتها لجزء من أعمال العبادة ، ولا خلاف أن السنة مقارنة الإهلال للاغتسال والتلبية واستواء الراحلة براكبها.

وضمير (فِيهِنَ) للأشهر ، لأنه جمع لغير عاقل فيجري على التأنيث.

وقوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) جواب من الشرطية ، والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى (فَلا رَفَثَ) من ضمير يعود على (من) ؛ لأن التقدير فلا يرفث.

وقد نفى الرفث والفسوق والجدال نفي الجنس مبالغة في النهي عنها وإبعادها عن الحاج ، حتى جعلت كأنها قد نهي الحاج عنها فانتهى فانتفت أجناسها ، ونظير هذا كثير في القرآن كقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة : ٢٢٨] وهو من قبيل التمثيل بأن شبهت حالة المأمور وقت الأمر بالحالة الحاصلة بعد امتثاله فكأنه امتثل وفعل المأمور به فصار بحيث يخبر عنه بأنه فعل كما قرره في «الكشاف» في قوله : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) ، فأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.

وقرأ الجمهور بفتح أواخر الكلمات الثلاث المنفية بلا ، على اعتبار (لا) نافية للجنس نصا ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع (رفث) و (فسوق) على أن (لا) أخت ليس نافية للجنس غير نص وقرءا (ولا جدال) بفتح اللام على اعتبار (لا) نافية للجنس نصا وعلى أنه عطف جملة على جملة فروي عن أبي عمرو أنه قال : الرفع بمعنى لا يكون رفث ولا فسوق يعني أن خبر (لا) محذوف وأن المصدرين نائبان عن فعليهما وأنهما رفعا لقصد الدلالة على الثبات مثل رفع (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] وانتهى الكلام ثم ابتدأ النفي فقال : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) على أن (فِي الْحَجِ) خبر (لا) ، والكلام على القراءتين خبر مستعمل في النهي.

والرفث اللغو من الكلام والفحش منه قاله أبو عبيدة واحتج بقول العجاج :

وربّ أسراب حجيج كظّم

عن اللّغا ورفث التّكلّم

وفعله كنصر وفرح وكرم والمراد به هنا الكناية عن قربان النساء. وأحسب أن الكناية بهذا اللفظ دون غيره لقصد جمع المعنيين الصريح والكناية ، وكانوا في الجاهلية يتوقون ذلك ، قال النابغة :

٢٢٩

حيّاك ربّي فإنّا لا يحلّ لنا

لهو النساء وإنّ الدّين قد عزما

يريد من الدين الحج وقد فسروا قوله : لهو النساء بالغزل.

وهذا خبر مراد به مبالغة النهي اقتضى أن الجماع في الحج حرام ، وأنه مفسد للحج وقد بينت السنة ذلك بصراحة ، فالدخول في الإحرام يمنع من الجماع إلى الإحلال بطواف الإفاضة وذلك جميع وقت الإحرام ، فإن حصل نسيان فقال مالك هو مفسد ويعيد حجه إذا لم يمض وقوف عرفة ، وإلّا قضاه في القابل نظرا إلى أن حصول الالتذاذ قد نافى تجرد الحج والزهد المطلوب فيه بقطع النظر عن تعمد أو نسيان ، وقال الشافعي في أحد قوليه وداود الظاهري : لا يفسد الحج وعليه هدي ، وأما مغازلة النساء والحديث في شأن الجماع فذريعة ينبغي سدها ، لأنه يصرف القلب عن الانقطاع إلى ذكر الله في الحج.

وليس من الرفث إنشاد الشعر القديم الذي فيه ذكر الغزل ؛ إذ ليس القصد منه إنشاء الرفث ، وقد حدا ابن عباس راحلته وهو محرم ببيت فيه ذكر لفظ من الرفث فقال له صاحبه حصين بن قيس : أترفث وأنت محرم؟ فقال : إن الرفث ما كان عند النساء أي الفعل الذي عند النساء أي الجماع.

والفسوق معروف وقد تقدم القول فيه غير مرة ، وقد قيل أراد به هنا النهي عن الذبح للأصنام وهو تفسير مروي عن مالك ، وكأنه قاله لأنه يتعلق بإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية غير أن الظاهر شمول الفسوق لسائر الفسق وقد سكت جميع المفسرين عن حكم الإتيان بالفسوق في مدة الإحرام. وقرن الفسوق بالرفث الذي هو مفسد للحج يقتضي أن إتيان الفسوق في مدة الإحرام مفسد للحج كذلك ، ولم أر لأحد من الفقهاء أن الفسوق مفسد للحج ، ولا أنه غير مفسد سوى ابن حزم فقال في «المحلّى» : إن مذهب الظاهرية أن المعاصي كلها مفسدة للحج ، والذي يظهر أن غير الكبائر لا يفسد الحج وأن تعمد الكبائر مفسد للحج وهو أحرى بإفساده من قربان النساء الذي هو التذاذ مباح والله أعلم.

والجدال مصدر جادله إذا خاصمه خصاما شديدا وقد بسطنا الكلام عليه عند قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) [في سورة النساء : ١٠٧] ، إذ فاتنا بيانه هنا.

واختلف في المراد بالجدال هنا فقيل السباب والمغاضبة ، وقيل تجادل العرب في اختلافهم في الموقف ؛ إذ كان بعضهم يقف في عرفة وبعضهم يقف في جمع وروي هذا

٢٣٠

عن مالك.

واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه ، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير «الكشاف» وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء يحضرون الموسم وقال : من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل ، فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلا : بما ذا فسرت قوله تعالى : (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) وأنه وجم لها ، وأنا أحسب إن صحت هذه الحكاية أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته ، لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم.

واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى.

وقوله : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) عقب به النهي عن المنهيات لقصد الاتصاف بأضداد تلك المنهيات فكأنه قال : لا تفعلوا ما نهيتم عنه وافعلوا الخير فما تفعلوا يعلمه الله ، وأطلق علم الله وأريد لازمه وهو المجازاة على المعلوم بطريق الكناية فهو معطوف على قوله : (فَلا رَفَثَ) إلخ.

(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ).

معطوف على جملة : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) باعتبار ما فيها من الكناية عن الترغيب في فعل الخير ، والمعنى وأكثروا من فعل الخير.

والتزود إعداد الزاد وهو الطعام الذي يحمله المسافر ، وهو تفعّل مشتق من اسم جامد وهو الزاد كما يقال تعمّم وتقمّص أي جعل ذلك معه.

فالتزود مستعار للاستكثار من فعل الخير استعدادا ليوم الجزاء شبه بإعداد المسافر الزاد لسفره بناء على إطلاق اسم السفر والرحيل على الموت. قال الأعشى في قصيدته التي أنشأها لمدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر فيها بعض ما يدعو النبي إليه أخذا من هذه الآية وغيرها :

٢٣١

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى

ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت أن لا تكون كمثله

وأنّك لم ترصد بما كان أرصدا

فقوله : (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) بمنزلة التذييل أي التقوى أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص.

ويجوز أن يستعمل التزود مع ذلك في معناه الحقيقي على وجه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه فيكون أمرا بإعداد الزاد لسفر الحج تعريضا بقوم من أهل اليمن كانوا يجيئون إلى الحج دون أي زاد ويقولون نحن متوكلون على الله (١) فيكونون كلا على الناس بالإلحاف.

فقوله : (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ) إلخ إشارة إلى تأكيد الأمر بالتزود تنبيها بالتفريع على أنه من التقوى لأن فيه صيانة ماء الوجه والعرض.

وقوله : (وَاتَّقُونِ) بمنزلة التأكيد لقوله (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) ولم يزد إلا قوله (يا أُولِي الْأَلْبابِ) المشير إلى أن التوقي مما يرغب فيه أهل العقول.

والألباب : جمع لب وهو العقل ، واللب من كل شيء : الخالص منه ، وفعله لبب يلب بضم اللام قالوا وليس في كلام العرب فعل يفعل بضم العين في الماضي والمضارع من المضاعف إلا هذا الفعل حكاه سيبويه عن يونس وقال ثعلب ما أعرف له نظيرا.

فقوله (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) بمنزلة التذييل أي التقوى أفضل من التزود للسفر فكونوا عليها أحرص ، وموقع قوله : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) على احتمال أن يراد بالتزود معناه الحقيقي مع المجازي إفادة الأمر بالتقوى التي هي زاد الآخرة بمناسبة الأمر بالتزود لحصول التقوى الدنيوية بصون العرض.

والتقوى مصدر اتقى إذا حذر شيئا ، وأصلها تقيي قلبوا ياءها واوا للفرق بين الاسم والصفة ، فالصفة بالياء كامرأة تقيى كخزيى وصديى ، وقد أطلقت شرعا على الحذر من عقاب الله تعالى باتباع أوامره واجتناب نواهيه وقد تقدمت عند قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢].

__________________

(١) كانوا يقولون : كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ وكانوا يقدمون مكة بثيابهم التي قطعوا بها سفرهم بين اليمن ومكة فيطوفون فيها ، وكان بقية العرب يسمونهم الطلس ؛ لأنهم يأتون طلسا من الغبار.

٢٣٢

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨))

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ).

جملة معترضة بين المتعاطفين بمناسبة النهي عن أعمال في الحج تنافي المقصد منه فنقل الكلام إلى إباحة ما كانوا يتحرجون منه في الحج وهو التجارة ببيان أنها لا تنافي المقصد الشرعي إبطالا لما كان عليه المشركون ، إذ كانوا يرون التجارة للمحرم بالحج حراما. فالفضل هنا هو المال ، وابتغاء الفضل التجارة لأجل الربح كما هو في قوله تعالى : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) [المزمل : ٢٠]. وقد كان أهل الجاهلية إذا خرجوا من سوق ذي المجاز إلى مكة حرم عندهم البيع والشراء قال النابغة :

كادت تساقطني رحلي وميثرتي

بذي المجاز ولم تحسس به نغما (١)

من صوت حرميّة قالت وقد ظعنوا

هل في مخفّيكم من يشتري أدما

قلت لها وهي تسعى تحت لبّتها

لا تحطمنّك إن البيع قد زرما

أي انقطع البيع وحرم ، وعن ابن عباس : كانت عكاظ ومجنّة ، وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثّموا أن يتّجروا في المواسم فنزلت : (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في موسم الحج) ا ه. أي قرأها ابن عباس بزيادة في مواسم الحج.

وقد كانت سوق عكاظ تفتح مستهل ذي القعدة وتدوم عشرين يوما وفيها تباع نفائس السلع وتتفاخر القبائل ويتبارى الشعراء ، فهي أعظم أسواق العرب وكان موقعها بين نخلة والطائف ، ثم يخرجون من عكاظ إلى مجنة ثم إلى ذي المجاز ، والمظنون أنهم يقضون بين هاتين السوقين بقية شهر ذي القعدة ؛ لأن النابغة ذكر أنه أقام بذي المجاز أربع ليال وأنه خرج من ذي المجاز إلى مكة فقال يذكر راحلته :

باتت ثلاث ليال ثم واحدة

بذي المجاز تراعي منزلا زيما

ثم ذكر أنه خرج من هنالك حاجّا فقال :

__________________

(١) الضمائر الثلاثة المستترة في الأفعال في هذا البيت عائدة إلى الراحلة المذكورة في أبيات قبله.

٢٣٣

كادت تساقطني رحلي وميثرتي

(فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ).

الفاء عاطفة على قوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ) [البقرة : ١٩٧] الآية ، عطف الأمر على النهي ، وقوله : (إذا أفضتم) شرط للمقصود وهو : (فاذكروا الله).

والإفاضة هنا : الخروج بسرعة وأصلها من فاض الماء إذا كثر على ما يحويه فبرز منه وسال ؛ ولذلك سموا إحالة القداح في الميسر إفاضة والمجيل مفيضا ، لأنه يخرج القداح من الرّبابة بقوة وسرعة أي بدون تخيّر ولا جسّ لينظر القدح الذي يخرج ، وسمّوا الخروج من عرفة إفاضة لأنهم يخرجون في وقت واحد وهم عدد كثير فتكون لخروجهم شدة ، والإفاضة أطلقت في هاته الآية على الخروج من عرفة والخروج من مزدلفة.

والعرب كانوا يسمون الخروج من عرفة الدّفع ، ويسمون الخروج من مزدلفة إفاضة ، وكلا الإطلاقين مجاز ؛ لأن الدفع هو إبعاد الجسم بقوة ، ومن بلاغة القرآن إطلاق الإفاضة على الخروجين ؛ لما في أفاض من قرب المشابهة من حيث معنى الكثرة دون الشدة. ولأن في تجنّب دفعتم تجنبا لتوهم السامعين أن السير مشتمل على دفع بعض الناس بعضا ؛ لأنهم كانوا يجعلون في دفعهم ضوضاء وجلبة وسرعة سير فنهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك في حجة الوداع وقال : «ليس البرّ بالإيضاع فإذا أفضتم فعليكم بالسّكينة والوقار».

و (عرفات) اسم واد ويقال : بطن وهو مسيل متّسع تنحدر إليه مياه جبال تحيط به تعرف بجبال عرفة بالإفراد ، وقد جعل عرفات علما على ذلك الوادي بصيغة الجمع بألف وتاء ، ويقال له : عرفة بصيغة المفرد ، وقال الفرّاء : قول الناس يوم عرفة مولّد ليس بعربي محض ، وخالفه أكثر أهل العلم فقالوا : يقال عرفات وعرفة ، وقد جاء في عدة أحاديث «يوم عرفة» ، وقال بعض أهل اللغة : لا يقال : يوم عرفات.

وفي وسط وادي عرفة جبيل يقف عليه ناس ممن يقفون بعرفة ويخطب عليه الخطيب بالناس يوم تاسع ذي الحجة عند الظهر ، ووقف عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم راكبا يوم عرفة ، وبني في أعلى ذلك الجبيل علم في الموضع الذي وقف فيه النبي عليه الصلاة والسلام فيقف الأئمة يوم عرفة عنده.

ولا يدرى وجه اشتقاق في تسمية المكان عرفات أو عرفة ، ولا أنه علم منقول أو مرتجل ، والذي اختاره الزمخشري وابن عطية أنه علم مرتجل ، والذي يظهر أن أحد

٢٣٤

الاسمين أصل والآخر طارئ عليه وأن الأصل (عرفات) من العربية القديمة وأن عرفة تخفيف جرى على الألسنة ، ويحتمل أن يكون الأصل (عرفة) وأن عرفات إشباع من لغة بعض القبائل.

وذكر (عرفات) باسمه في القرآن يشير إلى أن الوقوف بعرفة ركن الحج وقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «الحج عرفة».

سمي الموضع عرفات الذي هو على زنة الجمع بألف وتاء فعاملوه معاملة الجمع بألف وتاء ولم يمنعوه الصرف مع وجود العلمية. وجمع المؤنث لا يمنع من الصرف ؛ لأن الجمع يزيل ما في المفرد من العلمية ؛ إذ الجمع بتقدير مسمّيات بكذا ، فما جمع إلّا بعد قصد تنكيره ، فالتأنيث الذي يمنع الصرف مع العلمية أو الوصفية هو التأنيث بالهاء.

وذكر الإفاضة من (عرفات) يقتضي سبق الوقوف به ؛ لأنه لا إفاضة إلّا بعد الحلول بها ، وذكر (عرفات) باسمه تنويه به يدل على أن الوقوف به ركن فلم يذكر من المناسك باسمه غير عرفة والصفا والمروة ، وفي ذلك دلالة على أنهما من الأركان ، خلافا لأبي حنيفة في الصفا والمروة ، ويؤخذ ركن الإحرام من قوله : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) [البقرة: ١٩٧] ، وأما طواف الإفاضة فثبت بالسنة وإجماع الفقهاء.

و (من) ابتدائية.

والمعنى فإذا أفضتم خارجين من عرفات إلى المزدلفة.

والتصريح باسم (عرفات) في هذه الآية للرد على قريش ؛ إذ كانوا في الجاهلية يقفون في (جمع) وهو المزدلفة ؛ لأنهم حمس ، فيرون أن الوقوف لا يكون خارج الحرم ، ولما كانت مزدلفة من الحرم كانوا يقفون بها ولا يرضون بالوقوف بعرفة ، لأن عرفة من الحل كما سيأتي ، ولهذا لم يذكر الله تعالى المزدلفة في الإفاضة الثانية باسمها وقال : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) لأن المزدلفة هو المكان الذي يفيض منه الناس بعد إفاضة عرفات ، فذلك حوالة على ما يعلمونه.

و (المشعر) اسم مشتق من الشعور أي العلم ، أو من الشّعار أي العلامة ، لأنه أقيمت فيه علامة كالمنار من عهد الجاهلية ، ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم يدفعون من عرفات آخر المساء فيدركهم غبس ما بعد الغروب وهم جماعات كثيرة فخشوا أن يضلوا الطريق فيضيق عليهم الوقت.

٢٣٥

وصف المشعر بوصف (الحرام) لأنه من أرض الحرم بخلاف عرفات.

والمشعر الحرام هو (المزدلفة) ، سميت مزدلفة لأنها ازدلفت من منى أي اقتربت ؛ لأنهم يبيتون بها قاصدين التصبيح في منى. ويقال للمزدلفة أيضا (جمع) لأن جميع الحجيج يجتمعون في الوقوف بها ، الحمس وغيرهم من عهد الجاهلية ، قال أبو ذؤيب :

فبات بجمع ثم راح إلى منّى

فأصبح رادا يبتغي المزج بالسّحل (١)

فمن قال : إن تسميتها جمعا لأنها يجمع فيها بين المغرب والعشاء فقد غفل عن كونه اسما من عهد ما قبل الإسلام.

وتسمى المزدلفة أيضا (قزح) ـ بقاف مضمومة وزاي مفتوحة ممنوعا من الصرف ـ ، باسم قرن جبل بين جبال من طرف مزدلفة ويقال له : الميقدة لأن العرب في الجاهلية كانوا يوقدون عليه النيران ، وهو موقف قريش في الجاهلية ، وموقف الإمام في المزدلفة على قزح. روى أبو داود والترمذي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أصبح بجمع أتى قزح فوقف عليه وقال : هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف.

ومذهب مالك أن المبيت سنة وأما النزول حصة فواجب. وذهب علقمة وجماعة من التابعين والأوزاعي إلى أن الوقوف بمزدلفة ركن من الحج فمن فاته بطل حجه تمسكا بظاهر الأمر في قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ).

وقد كانت العرب في الجاهلية لا يفيضون من عرفة إلى المزدلفة حتى يجيزهم أحد (بني صوفة) وهم بنو الغوث بن مر بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر وكانت أمه جرهمية ، لقب الغوث بصوفة ؛ لأن أمه كانت لا تلد فنذرت إن هي ولدت ذكرا أن تجعله لخدمة الكعبة فولدت الغوث وكانوا يجعلون صوفة يربطون بها شعر رأس الصبي الذي ينذرونه لخدمة الكعبة وتسمى الرّبيط ، فكان الغوث يلي أمر الكعبة مع أخواله من جرهم فلما غلب قصي بن كلاب على الكعبة جعل الإجازة للغوث ثم بقيت في بنيه حتى انقرضوا ، وقيل إن الذي جعل أبناء الغوث لإجازة الحاجّ هم ملوك كندة ، فكان الذي يجيز بهم من عرفة يقول :

__________________

(١) من أبيات يصف فيها رجلا في الحج طلب أن يشتري عسلا من منى والراد الطالب ، والمزج من أسماء العسل ، والسحل النقد وأطلقه في البيت على الدراهم المنقودة من الوصف بالمصدر.

٢٣٦

لا همّ إني تابع تباعه

إن كان إثم فعلى قضاعه

لأن قضاعة كانت تحل الأشهر الحرم ، ولما انقرض أبناء صوفة صارت الإجازة لبني سعد بن زيد مناءة بن تميم ورثوها بالقعدد فكانت في آل صفوان منهم وجاء الإسلام وهي بيد كرب بن صفوان قال أوس بن مغراء :

لا يبرح الناس ما حجّوا معرّفهم

حتّى يقال أجيزوا آل صفوانا

(وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).

الواو عاطفة على قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) والعطف يقتضي أن الذكر المأمور به هنا غير الذكر المأمور به في قوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) فيكون هذا أمرا بالذكر على العموم بعد الأمر بذكر خاص فهو في معنى التذييل بعد الأمر بالذكر الخاص في المشعر الحرام.

ويجوز أن يكون المراد من هذه الجملة هو قوله : (كَما هَداكُمْ) فموقعها موقع التذييل. وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف بل تفصل وعدل عن مقتضى الظاهر فعطفت بالواو باعتبار مغايرتها للجملة التي قبلها بما فيها من تعليل الذكر وبيان سببه وهي مغايرة ضعيفة لكنها تصحح العطف كما في قول الحارث بن همام الشيباني :

أيا ابن زيّابة إن تلقني

لا تلقني في النّعم العازب

وتلقني يشتدّ بي أجرد

مستقدم البركة كالراكب

فإن جملة تلقني الثانية هي بمنزلة بدل الاشتمال من لا تلقني في النعم العازب لأن معناه لا تلقني راعي إبل وذلك النفي يقتضي كونه فارسا ؛ إذ لا يخلو الرجل عن إحدى الحالتين فكان الظاهر فصل جملة تلقني تشتد بي أجرد لكنه وصلها لمغايرة ما.

وقوله : (كَما هَداكُمْ) تشبيه للذكر بالهدى وما مصدرية. ومعنى التشبيه في مثل هذا المشابهة في التساوي أي اذكروه ذكرا مساويا لهدايته إياكم فيفيد معنى المجازاة والمكافأة فلذلك يقولون إن الكاف في مثله للتعليل وقد تقدم الفرق بينها وبين كاف المجازاة عند قوله تعالى : (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) [البقرة : ١٦٧] وكثر ذلك في الكاف التي اقترنت بها (ما) كيف كانت ، وقيل ذلك خاص بما الكافة والحق أنه وارد في الكاف المقترنة بما وفي غيرها.

وضمير (مِنْ قَبْلِهِ) يرجع إلى الهدى المأخوذ من ما المصدرية و «إن» مخففة. من إنّ

٢٣٧

الثقيلة. والمراد ضلالهم في الجاهلية بعبادة الأصنام وتغيير المناسك وغير ذلك.

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩))

الذي عليه جمهور المفسرين أن ثم للتراخي الأخباري للترقى في الخبر وأن الإفاضة المأمور بها هنا هي عين الإفاضة المذكورة في قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) [البقرة : ١٩٨] وأن العطف بثم للعودة إلى الكلام على تلك الإفاضة.

فالمقصود من الأمر هو متعلق (أَفِيضُوا) أي قوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) إشارة إلى عرفات فيكون متضمنا الأمر بالوقوف بعرفة لا بغيرها إبطالا لعمل قريش الذين كانوا يقفون يوم الحج الأكبر على (قزح) المسمى بجمع وبالمشعر الحرام فهو من المزدلفة وكان سائر العرب وغيرهم يقف بعرفات فيكون المراد بالناس في جمهورهم من عدا قريشا.

عن عائشة أنها قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بيوم عرفة في المزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) ا ه فالمخاطب بقوله : (أَفِيضُوا) جميع المسلمين والمراد بالناس عموم الناس يعني من عدا قريشا ومن كان من الحمس الذين كانوا يفيضون من المزدلفة وهم قريش ومن ولدوا وكنانة وأحلافهم.

روى الطبري عن ابن أبي نجيح قال : كانت قريش لا أدري قبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس رأيا قالوا : نحن ولاة البيت وقاطنو مكة فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم ـ يعني لأن عرفة من الحل ـ فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم وقالوا : قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم فلذلك تركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك ا ه ، يعني فكانوا لا يفيضون إلّا إفاضة واحدة بأن ينتظروا الحجيج حتى يردوا من عرفة إلى مزدلفة فيجتمع الناس كلهم في مزدلفة ولعل هذا وجه تسمية مزدلفة بجمع ، لأنها يجمع بها الحمس وغيرهم في الإفاضة فتكون الآية قد ردت على قريش الاقتصار على الوقوف بمزدلفة.

٢٣٨

وقيل : المراد بقوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا) الإفاضة من مزدلفة إلى منى ، فتكون (ثم) للتراخي والترتيب في الزمن أي بعد أن تذكروا الله عند المشعر الحرام وهي من السنة القديمة من عهد إبراهيم عليه‌السلام فيما يقال ، وكان عليها العرب في الجاهلية وكانت الإجازة فيها بيد خزاعة ثم صارت بعدهم لبني عدوان من قيس عيلان ، وكان آخر من تولى الإجازة منهم أبا سيّارة عميلة بن الأعزل أجاز بالناس أربعين سنة إلى أن فتحت مكة فأبطلت الإجازة وصار الناس يتبعون أمير الحج ، وكانوا في الجاهلية يخرجون من مزدلفة يوم عاشر ذي الحجة بعد أن تطلع الشمس على ثبير وهو أعلى جبل قرب منى وكان الذي يجيز بهم يقف قبيل طلوع الشمس مستقبل القبلة ويدعو بدعاء يقول فيه : «اللهم بغّض بين رعائنا ، وحبّب بين نسائنا ، واجعل المال في سمحائنا ، اللهم كن لنا جارا ممن نخافه ، أوفوا بعهدكم ، وأكرموا جاركم ، وأقروا ضيفكم» ، فإن قرب طلوع الشمس قال : «أشرق ثبير كيما نغير» ويركب أبو سيارة حمارا أسود فإذا طلعت الشمس دفع بهم وتبعه الناس وقد قال في ذلك راجزهم :

خلّوا السبيل عن أبي سيّاره

وعن مواليه بني فزاره

حتّى يجيز سالما حماره

مستقبل القبلة يدعو جاره

أي يدعو الله تعالى لقوله : «اللهم كن لنا جارا ممن نخافه.

فقوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أي من المكان الذي يفيض منه سائر الناس وهو مزدلفة. وعبر عنه بذلك لأن العرب كلهم يجتمعون في مزدلفة ، ولو لا ما جاء من الحديث لكان هذا التفسير أظهر لتكون الآية ذكرت الإفاضتين بالصراحة وليناسب قوله بعد : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) [البقرة : ٢٠٠].

وقوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) عطف على (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أمرهم بالاستغفار كما أمرهم بذكر الله عند المشعر الحرام. وفيه تعريض بقريش فيما كانوا عليه من ترك الوقوف بعرفة.

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢))

٢٣٩

تفريع على قوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) [البقرة : ١٩٩] لأن تلك الإفاضة هي الدفع من مزدلفة إلى منى أو لأنها تستلزم ذلك ومنى هي محل رمي الجمار ، وأشارت الآية إلى رمي جمرة العقبة يوم عاشر ذي الحجة فأمرت بأن يذكروا الله عند الرمي ثم الهدي بعد ذلك وقد تم الحج عند ذلك ، وقضيت مناسكه.

وقد أجمعوا على أن الحاج لا يرمي يوم النحر إلّا جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس إلى الزوال ثم ينحر بعد ذلك ، ثم يأتي الكعبة فيطوف طواف الإفاضة وقد تم الحج وحل للحاج كل شيء إلّا قربان النساء.

والمناسك جمع منسك مشتق من نسك نسكا من باب نصر إذا تعبد وقد تقدم في قوله تعالى : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) [البقرة : ١٢٨] فهو هنا مصدر ميمي أو هو اسم مكان والأول هو المناسب لقوله : (قَضَيْتُمْ) ؛ لئلا نحتاج إلى تقدير مضاف أي عبادات مناسككم.

وقرأ الجميع (مَناسِكَكُمْ) بفك الكافين وقرأه السوسي عن أبي عمرو بإدغامهما وهو الإدغام الكبير (١).

وقوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ) أعاد الأمر بالذكر بعد أن أمر به وبالاستغفار تحضيضا عليه وإبطالا لما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال بفضول القول والتفاخر ، فإنه يجر إلى المراء والجدال ، والمقصد أن يكون الحاج منغمسا في العبادة فعلا وقولا واعتقادا.

وقوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) بيان لصفة الذكر ، فالجار والمجرور نعت لمصدر محذوف أي ذكرا كذكركم إلخ إشارة إلى ما كانوا عليه من الاشتغال في أيام منى بالتفاخر بالأنساب ومفاخر أيامهم ، فكانوا يقفون بين مسجد منى أي موضعه وهو مسجد الخيف وبين الجبل (أي جبل منى الذي مبدؤه العقبة التي ترمى بها الجمرة) فيفعلون ذلك.

وفي «تفسير ابن جرير» عن السدي : كان الرجل يقوم فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته ، فلا يذكر غير أبيه وذكر أقوالا

__________________

(١) الإدغام ينقسم إلى كبير وصغير ، فالكبير هو ما كان فيه المدغم والمدغم فيه متحركين سواء كانا مثلين أو جنسين أو متقاربين ، سمي به لأنه يسكن الأول ويدغم في الثاني فيحصل فيه عملان فصار كبيرا. والصغير هو ما كان فيه المدغم ساكنا فيدغم في الثاني فيحصل فيه عمل واحد ولذا سمي به. انظر «الإتقان» و «شرح الشاطبي».

٢٤٠