تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

فيكون مندرجا في الحالة المشبّهة ، وإجراء ضمير كسبوا ضمير جمع لتأويل الذي ينفق بالجماعة ، وصالحا لأن يكون حالا من مثل صفوان باعتبار أنّه مثل على نحو ما جوّز في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩] إذ تقديره فيه كمثل ذوي صيّب فلذلك جاء ضميره بصيغة الجمع رعيا للمعنى وإن كان لفظ المعاد مفردا ، وصالحا لأن يجعل استينافا بيانيا لأنّ الكلام الذي قبله يثير سؤال سائل عن مغبة أمر المشبّه ، وصالحا لأن يجعل تذييلا وفذلكة لضرب المثل فهو عود عن بدء قوله : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] إلى آخر الكلام.

وصالحا لأن يجعل حالا من صفوان أي لا يقدرون على شيء ممّا كسبوا منه وحذف عائد الصلة لأنّه ضمير مجرور بما جرّ به اسم الموصول. ومعنى (لا يَقْدِرُونَ) لا يستطيعون أن يسترجعوه ولا انتفعوا بثوابه فلم يبق لهم منه شيء.

ويجوز أن يكون المعنى لا يحسنون وضع شيء ممّا كسبوا موضعه ، فهم يبذلون ما لهم لغير فائدة تعود عليهم في آجلهم ، بدليل قوله : (اللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ).

والمعنى فتركه صلدا لا يحصدون منه زرعا كما في قوله : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) [الكهف : ٤٢].

وجملة (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) تذييل والواو اعتراضية وهذا التذييل مسوق لتحذير المؤمنين من تسرّب أحوال الكافرين إلى أعمالهم فإنّ من أحوالهم المنّ على من ينفقون وأذاه.

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥))

عطف مثل الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله على مثل الذي ينفق ماله رئاء الناس ، لزيادة بيان ما بين المرتبتين من البون وتأكيدا للثناء على المنفقين بإخلاص ، وتفنّنا في التمثيل. فإنّه قد مثّله فيما سلف بحبّة أنبتت سبع سنابل ، ومثّله فيما سلف تمثيلا غير كثير التركيب لتحصل السرعة بتخيّل مضاعفة الثواب ، فلما مثّل حال المنفق رئاء بالتمثيل الذي مضى أعيد تمثيل حال المنفق ابتغاء مرضاة الله بما هو أعجب في حسن التخيّل ؛ فإنّ الأمثال تبهج السامع كلّما كانت أكثر تركيبا وضمّنت الهيئة المشبّه بها أحوالا حسنة

٥٢١

تكسبها حسنا ليسري ذلك التحسين إلى المشبّه ، وهذا من جملة مقاصد التشبيه.

وانتصب (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً) على الحال بتأويل المصدر بالوصف ، أي مبتغين مرضاة الله ومثبّتين من أنفسهم. ولا يحسن نصبهما على المفعول له ، أما قوله «ابتغاء» فلأن مفاد الابتغاء هو مفاد اللام التي ينتصب المفعول لأجله بإضمارها ، لأنّ يؤول إلى معنى لأجل طلبهم مرضاة الله ، وأما قوله «وتثبيتا» فلأنّ حكمه حكم ما عطف هو عليه.

والتثبيت تحقيق الشيء وترسيخه ، وهو تمثيل يجوز أن يكون لكبح النفس عن التشكّك والتردّد ، أي أنّهم يمنعون أنفسهم من التردّد في الإنفاق في وجوه البر ولا يتركون مجالا لخواطر الشحّ ، وهذا من قولهم ثبت قدمه أي لم يتردّد ولم ينكص ، فإنّ إراضة النفس على فعل ما يشق عليها لها أثر في رسوخ الأعمال حتى تعتاد الفضائل وتصير لها ديدنا.

وإنفاق المال من أعظم ما ترسخ به الطاعة في النفس لأنّ المال ليس أمرا هينا على النفس ، وتكون «من» على هذا الوجه للتبعيض ، لكنه تبعيض مجازي باعتبار الأحوال ، أي تثبيتا لبعض أحوال النفس.

وموقع (من) هذه في الكلام يدل على الاستنزال والاقتصاد في تعلّق الفعل ، بحيث لا يطلب تسلّط الفعل على جميع ذات المفعول بل يكتفى ببعض المفعول ، والمقصود الترغيب في تحصيل الفعل والاستدراج إلى تحصيله ، وظاهر كلام «الكشاف» يقتضي أنّه جعل التبعيض فيها حقيقيا.

ويجوز أن يكون تثبيتا تمثيلا للتصديق أي تصديقا لوعد الله وإخلاصا في الدين ليخالف حال المنافقين ؛ فإنّ امتثال الأحكام الشاقة لا يكون إلّا عن تصديق للآمر بها ، أي يدلّون على تثبيت من أنفسهم.

و (من) على هذا الوجه ابتدائية ، أي تصديقا صادرا من أنفسهم.

ويجيء على الوجه الأول في تفسير التثبيت معنى أخلاقي جليل أشار إليه الفخر ، وهو ما تقرر في الحكمة الخلقية أن تكرّر الأفعال هو الذي يوجب حصول الملكة الفاضلة في النفس ، بحيث تنساق عقب حصولها إلى الكمالات باختيارها ، وبلا كلفة ولا ضجر. فالإيمان يأمر بالصدقة وأفعال البر ، والذي يأتي تلك المأمورات يثبّت نفسه بأخلاق

٥٢٢

الإيمان ، وعلى هذا الوجه تصير الآية تحريضا على تكرير الإنفاق.

ومثّل هذا الإنفاق بجنّة بربوة إلخ ، ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من مجموع أشياء تكامل بها تضعيف المنفعة ، فالهيئة المشبّهة هي النفقة التي حفّ بها طلب رضي الله والتصديق بوعده فضوعفت أضعافا كثيرة أو دونها في الكثرة ، والهيئة المشبّهة بها هي هيئة الجنّة الطيّبة المكان التي جاءها التهتان فزكا ثمرها وتزايد فأكملت الثمرة ، أو أصابها طلّ فكانت دون ذلك.

والجنّة مكان من الأرض ذو شجر كثير بحيث يجنّ أي يستر الكائن فيه فاسمها مشتقّ من جنّ إذا ستر ، وأكثر ما تطلق الجنّة في كلامهم على ذات الشجر المثمر المختلف الأصناف ، فأما ما كان مغروسا نخيلا بحتا فإنّما يسمى حائطا. والمشتهر في بلاد العرب من الشجر المثمر غير النخيل هو الكرم وثمره العنب أشهر الثمار في بلادهم بعد التمر ، فقد كان الغالب على بلاد اليمن والطائف. ومن ثمارهم الرمّان ، فإن كان النخل معها قيل لها جنّة أيضا كما في الآية التي بعد هذه. ومما يدل على أنّ الجنّة لا يراد بها حائط النخل قوله تعالى في [سورة الأنعام : ١٤١] (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ). فعطف النخل على الجنّات ، وذكر العريش وهو مما يجعل للكرم ، هذا ما يستخلص من كلام علماء اللغة.

وقد حصل من تمثيل حال الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بحبّة ثم بجنّة جناس مصحّف.

والربوة بضم الراء وفتحها مكان من الأرض مرتفع دون الجبيل. وقرأ جمهور العشرة بربوة بضم الراء وقرأه ابن عامر وعاصم بفتح الراء. وتخصيص الجنة بأنّها في ربوة لأنّ أشجار الربا تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا فكان لهذا القيد فائدتان إحداهما قوة وجه الشبه كما أفاده قول (ضِعْفَيْنِ) ، والثانية تحسين المشبّه به الراجع إلى تحسين المشبّه في تخيّل السامع.

والأكل بضم الهمزة وسكون الكاف وبضم الكاف أيضا ، وقد قيل إن كل فعل في كلام العرب فهو مخفف فعل كعنق وفلك وحمق ، وهو في الأصل ما يؤكل وشاع في ثمار الشجر قال تعالى : (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) [سبإ : ١٦] وقال : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) [إبراهيم : ٢٥] ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب «أكلها» بسكون الكاف ، وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف بضم الكاف.

٥٢٣

وقوله : «ضعفين» التثنية فيه لمجرد التكرير ـ مثل لبّيك ـ أي آتت أكلها مضاعفا على تفاوتها.

وقوله : (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) ، أي فإن لم يصبها مطر غزير كفاها مطر قليل فآتت أكلها دون الضعفين. والمعنى أن الإنفاق لابتغاء مرضاة الله له ثواب عظيم ، وهو ـ مع ذلك ـ متفاوت على تفاوت مقدار الإخلاص في الابتغاء والتثبيت كما تتفاوت أحوال الجنات الزكية في مقدار زكائها ولكنها لا تخيب صاحبها.

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦))

استئناف بياني أثاره ضرب المثل العجيب للمنفق في سبيل الله بمثل حبّة أنبتت سبع سنابل ، ومثل جنة بربوة إلى آخر ما وصف من المثلين. ولمّا أتبع بما يفيد أنّ ذلك إنّما هو للمنفقين في سبيل الله الذين لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى ، ثم أتبع بالنهي عن أن يتبعوا صدقاتهم بالمنّ والأذى ، استشرفت نفس السامع لتلقي مثل لهم يوضح حالهم الذميمة كما ضرب المثل لمن كانوا بضدّ حالهم في حالة محمودة.

ضرب الله هذا مثلا لمقابل مثل النفقة لمرضاة الله والتصديق وهو نفقة الرئاء ، ووجه الشبه هو حصول خيبة ويأس في وقت تمام الرجاء وإشراف الإنتاج ، فهذا مقابل قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة : ٢٦٥] الآية. وقد وصف الجنّة بأعظم ما يحسن به أحوال الجنّات وما يرجى منه توفر ريعها ، ثم وصف صاحبها بأقصى صفات الحاجة إلى فائدة جنّته ، بأنّه ذو عيال فهو في حاجة إلى نفعهم وأنهم ضعفاء ـ أي صغار ـ إذ الضعيف في «لسان العرب» هو القاصر ، ويطلق الضعيف على الفقير أيضا ، قال تعالى : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) [البقرة : ٢٨٢] ، وقال أبو خالد العتّابي :

لقد زاد الحياة إليّ حبا

بناتي إنّهنّ من الضّعاف

وقد أصابه الكبر فلا قدرة له على الكسب غير تلك الجنة ، فهذه أشدّ الأحوال الحرص كقول الأعشى :

كجابية الشّيخ العراقي تفهق

٥٢٤

فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقّب لثمرة هذه الجنة كما كان المعطي صدقته في ترقّب لثوابها.

فأصابها إعصار ، أي ريح شديدة تقلع الشجر والنبات ، فيها نار أي شدة حرارة ـ وهي المسمّاة بريح السموم ، فإطلاق لفظ نار على شدة الحر تشبيه بليغ ، فأحرقت الجنّة ـ أي أشجارها ـ أي صارت أعوادها يابسة ، فهذا مفاجأة الخيبة في حين رجاء المنفعة.

والاستفهام في قوله : (أَيَوَدُّ) استفهام إنكار وتحذير كما في قوله : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) [الحجرات : ١٢]. والهيئة المشبّهة محذوفة وهي هيئة المنفق نفقة متبعة بالمنّ والأذى.

روى البخاري أنّ عمر بن الخطاب سأل يوما أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيم ترون هذه الآية نزلت : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) الآية ، فقال بعضهم : «الله أعلم» ، فغضب عمر وقال : «قولوا نعلم أو لا نعلم» ، فقال ابن عباس : «في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين» ، فقال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك» ، قال ابن عباس : «ضربت مثلا لعمل» ، قال عمر : «أيّ عمل» ، قال ابن عباس : «لعمل» ، قال : صدقت ، لرجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله عزوجل إليه الشيطان لما فني عمره فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله.

وقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) تذييل ، أي كهذا البيان الذي فيه تقريب المعقول بالمحسوس بين الله نصحا لكم ، رجاء تفكّركم في العواقب حتى لا تكونوا على غفلة. والتشبيه في قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) نحو ما في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧))

إفضاء إلى المقصود وهو الأمر بالصدقات بعد أن قدم بين يديه مواعظ وترغيب وتحذير. وهي طريقة بلاغية في الخطابة والخطاب. فربما قدموا المطلوب ثم جاءوا بما يكسبه قبولا عند السامعين ، وربما قدموا ما يكسب القبول قبل المقصود كما هنا. وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجمل ، ونكتة ذلك أنّه قد شاع بين الناس

٥٢٥

الترغيب في الصدقة وتكرّر ذلك في نزول القرآن فصار غرضا دينيا مشهورا ، وكان الاهتمام بإيضاحه والترغيب في أحواله والتنفير من نقائصه أجدر بالبيان. ونظير هذا قول علي في خطبته التي خطبها حين دخل سفيان الغامدي ـ أحد قواد أهل الشام ـ بلد الأنبار ـ وهي من البلاد المطيعة للخليفة علي ـ وقتلوا عاملها حسان بن حسان البكري : «أما بعد فإنّ من ترك الجهاد رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل ، وشمله البلاء ، وديّث بالصّغار ، وضرب على قلبه ، وسيم الخسف ، ومنع النّصف. ألا وإنّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم ، فو الله ما غزي قوم في عقر دارهم إلّا ذلوا ، فتواكلتم. هذا أخو غامد قد وردت خيله الأنباء» إلخ. وانظر كلمة «الجهاد» في هذه الخطبة فلعل أصلها القتال كما يدل عليه قوله بعده إلى قتال هؤلاء فحرفها قاصد أو غافل ولا إخالها تصدر عن علي رضي‌الله‌عنه.

والأمر يجوز أن يكون للوجوب فتكون الآية في الأمر بالزكاة ، أو للندب وهي في صدقة التطوّع ، أو هو للقدر المشترك في الطلب فتشمل الزكاة وصدقة التطوّع ، والأدلة الأخرى تبيّن حكم كل. والقيد بالطّيّبات يناسب تعميم النفقات.

والمراد بالطيّبات خيار الأموال ، فيطلق الطيّب على الأحسن في صنفه. والكسب ما يناله المرء بسعيه كالتجارة والإجارة والغنيمة والصيد. ويطلق الطيّب على المال المكتسب بوجه حلال لا يخالطه ظلم ولا غشّ ، وهو الطيّب عند الله كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تصدق بصدقة من كسب طيّب ـ ولا يقبل الله إلّا طيّبا ـ تلقّاها الرحمن بيمينه» الحديث ، وفي الحديث الآخر : «إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا». ولم يذكر الطيّبات مع قوله : (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) اكتفاء عنه بتقدم ذكره في قسيمه ، ويظهر أنّ ذلك لم يقيّد بالطيّبات لأنّ قوله : (أَخْرَجْنا لَكُمْ) أشعر بأنّه مما اكتسبه المرء بعمله بالحرث والغرس ونحو ذلك ، لأنّ الأموال الخبيثة تحصل غالبا من ظلم الناس أو التحيّل عليهم وغشّهم وذلك لا يتأتّى في الثمرات المستخرجة من الأرض غالبا.

والمراد بما أخرج من الأرض الزروع والثمار ، فمنه ما يخرج بنفسه ، ومنه ما يعالج بأسبابه كالسقي للشجر والزرع ، ثم يخرجه الله بما أوجد من الأسباب العادية. وبعض المفسرين عد المعادن داخلة في (مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ). وتجب على المعدن الزكاة عند مالك إذا بلغ مقدار النّصاب ، وفيه ربع العشر. وهو من الأموال المفروضة وليس بزكاة عند أبي حنيفة ، ولذلك قال فيه الخمس. وبعضهم عدّ الركاز داخلا فيما

٥٢٦

أخرج من الأرض ولكنّه يخمس ، والحق في الحكم بالغنيمة عند المالكية. ولعلّ المراد بما كسبتم الأموال المزكّاة من العين والماشية ، وبالمخرج من الأرض الحبوب والثمار المزكّاة.

وقوله : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) أصل تيمّموا تتيمموا ، حذفت تاء المضارعة في المضارع وتيمّم بمعنى قصد وعمد.

والخبيث الشديد سوءا في صنفه فلذلك يطلق على الحرام وعلى المستقذر قال تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] وهو الضدّ الأقصى للطيّب فلا يطلق على الرديء إلّا على وجه المبالغة ، ووقوع لفظه في سياق النهي يفيد عموم ما يصدق عليه اللفظ.

وجملة (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) حال ، والجار والمجرور معمولان للحال قدما عليه للدلالة على الاختصاص ، أي لا تقصدوا الخبيث في حال إلّا تنفقوا إلّا منه ، لأنّ محل النهي أن يخرج الرجل صدقته من خصوص رديء ماله. أما إخراجه من الجيد ومن الرديء فليس بمنهي لا سيما في الزكاة الواجبة لأنّه يخرج عن كل ما هو عنده من نوعه. وفي حديث «الموطأ» في البيوع «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل عاملا على صدقات خيبر فأتاه بتمر جنيب فقال له : أكلّ تمر خيبر هكذا قال : لا ، ولكنّي أبيع الصاعين من الجمع بصاع من جنيب (١). فقال له : بع الجمع بالدّراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا» ، فدل على أنّ الصدقة تؤخذ من كل نصاب من نوعه ، ولكنّ المنهي عنه أن يخصّ الصدقة بالأصناف الرديئة. وأما في الحيوان فيؤخذ الوسط لتعذّر التنويع غالبا إلّا إذا أكثر عدده فلا إشكال في تقدير الظرف هنا.

وقرأ الجمهور (تَيَمَّمُوا) بتاء واحدة خفيفة وصلا وابتداء ، أصله تتيمّموا ، وقرأه البزي عن ابن كثير بتشديد التاء في الوصل على اعتبار الإدغام.

وقوله : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) جملة حالية من ضمير تنفقون ويجوز أن يكون الكلام على ظاهره من الإخبار فتكون جملة الحال تعليلا لنهيهم عن الإنفاق من المال الخبيث شرعا بقياس الإنفاق منه على اكتسابه قياس مساواة أي كما تكرهون كسبه كذلك ينبغي أن تكرهوا إعطاءه. وكأنّ كراهية كسبه كانت معلومة لديهم متقرّرة في نفوسهم ، ولذلك وقع القياس عليها.

__________________

(١) الجمع صنف من التمر رديء والجنيب صنف طيب.

٥٢٧

ويجوز أن يكون الكلام مستعملا في النهي عن أخذ المال الخبيث ، فيكون الكلام منصرفا إلى غرض ثان وهو النهي عن أخذ المال الخبيث والمعنى لا تأخذوه ، وعلى كلا الوجهين هو مقتض تحريم أخذ المال المعلومة حرمته على من هو بيده ولا يحلّه انتقاله إلى غيره.

والإغماض إطباق الجفن ويطلق مجازا على لازم ذلك ، فيطلق تارة على الهناء والاستراحة لأنّ من لوازم الإغماض راحة النائم قال الأعشى :

عليك مثل الذي صلّيت فاغتمضي

جفنا فإنّ لجنب المرء مضطجعا

أراد فاهنئي. ويطلق تارة على لازمه من عدم الرؤية فيدل على التسامح في الأمر المكروه كقول الطرماح :

لم يفتنا بالوتر قوم وللضّ

يم رجال يرضون بالإغماض

فإذا أرادوا المبالغة في التغافل عن المكروه الشديد قالوا أغمض عينه على قذى ؛ وذلك لأنّ إغماض الجفن مع وجود القذى في العين. لقصد الراحة من تحرّك القذى ، قال عبد العزيز بن زرارة الكلائي (١) :

وأغمضت الجفون على قذاها

ولم أسمع إلى قال وقيل

والاستثناء في قوله : (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) على الوجه الأول من جعل الكلام إخبارا ، هو تقييد للنفي. وأما على الوجه الثاني من جعل النفي بمعنى النهي فهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه أما لا تأخذوه إلّا إذا تغاضيتم عن النهي وتجاهلتموه.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) تذييل ، أي غني عن صدقاتكم التي لا تنفع الفقراء ، أو التي فيها استساغة الحرام. حميد ، أي شاكر لمن تصدّق صدقة طيّبة. وافتتحه باعلموا للاهتمام بالخبر كما تقدم عند قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) [البقرة : ٢٢٣] ، أو نزّل المخاطبون الذين نهوا عن الإنفاق من الخبيث منزلة من لا يعلم أن الله

__________________

(١) الكلائي نسبة إلى الكلاء بوزن جبار محلة بالبصرة قرب الشاطئ. والكلاء الشاطي. وهذه الأبيات قالها بعد أن مكث عاما بباب معاوية لم يؤذن له ثم أذن له وأدناه وأولاه مصر ، وقبله :

دخلت على معاوية بن حرب

ولكن بعد يأس من دخول

وما نلت الدخول عليه حتى

حللت محلة الرجل الذليل

٥٢٨

غني فأعطوا لوجهه ما يقبله المحتاج بكل حال ولم يعلموا أنّه يحمد من يعطي لوجهه من طيّب الكسب.

والغني الذي لا يحتاج إلى ما تكثر حاجة غالب الناس إليه ، ولله الغنى المطلق فلا يعطى لأجله ولامتثال أمره إلّا خير ما يعطيه أحد للغني عن المال.

والحميد من أمثلة المبالغة ، أي شديد الحمد ؛ لأنه يثني على فاعلي الخيرات. ويجوز أن يكون المراد أنّه محمود ، فيكون حميد بمعنى مفعول ، أي فتخلّقوا بذلك لأنّ صفات الله تعالى كمالات ، فكونوا أغنياء القلوب عن الشحّ محمودين على صدقاتكم ، ولا تعطوا صدقات تؤذن بالشحّ ولا تشكرون عليها.

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨))

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ).

استئناف عن قوله : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) [البقرة : ٢٦٧] لأنّ الشيطان يصدّ الناس عن إعطاء خيار أموالهم ، ويغريهم بالشحّ أو بإعطاء الرديء والخبيث ، ويخوّفهم من الفقر إن أعطوا بعض مالهم.

وقدّم اسم الشيطان مسندا إليه لأنّ تقديمه مؤذن بذمّ الحكم الذي سيق له الكلام وشؤمه لتحذير المسلمين من هذا الحكم ، كما يقال في مثال علم المعاني «السّفّاح في دار صديقك» ، ولأنّ في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي تقوّي الحكم وتحقيقه.

ومعنى (يَعِدُكُمُ) يسوّل لكم وقوعه في المستقبل إذا أنفقتم خيار أموالكم ، وذلك بما يلقيه في قلوب الذين تخلّقوا بالأخلاق الشيطانية. وسمّي الإخبار بحصول أمر في المستقبل وعدا مجازا لأنّ الوعد إخبار بحصول شيء في المستقبل من جهة المخبر ، ولذلك يقال : أنجز فلان وعده أو أخلف وعده ، ولا يقولون أنجز خبره ، ويقولون صدق خبره وصدق وعده ، فالوعد أخصّ من الخبر ، وبذلك يؤذن كلام أئمة اللغة. فشبّه إلقاء الشيطان في نفوسهم توقّع الفقر بوعد منه بحصوله لا محالة ، ووجه الشبه ما في الوعد من معنى التحقق ، وحسّن هذا المجاز هنا مشاكلته لقوله : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً) فإنّه وعد حقيقي.

٥٢٩

ثم إن كان الوعد يطلق على التعهد بالخير والشر كما هو كلام «القاموس» ـ تبعا لفصيح ثعلب ـ ففي قوله يعدكم الفقر مجاز واحد ، وإن كان خاصا بالخير كما هو قول الزمخشري في الأساس ، ففي قوله : (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) مجازان.

والفقر شدّة الحاجة إلى لوازم الحياة لقلة أو فقد ما يعاوض به ، وهو مشتق من فقار الظهر ، فأصله مصدر فقره إذا كسر ظهره ، جعلوا العاجز بمنزلة من لا يستطيع أدنى حركة لأنّ الظّهر هو مجمع الحركات ، ومن هذا تسميتهم المصيبة فاقرة ، وقاصمة الظهر ، ويقال فقر وفقر وفقر وفقر ـ بفتح فسكون ، وبفتحتين ، وبضم فسكون ، وبضمتين ـ ، ويقال رجل فقير ، ويقال رجل فقر وصفا بالمصدر.

والفحشاء اسم لفعل أو قول شديد السوء واستحقاق الذم عرفا أو شرعا. مشتق من الفحش ـ بضم الفاء وسكون الحاء ـ تجاوز الحد. وخصّه الاستعمال بالتجاوز في القبيح ، أي يأمركم بفعل قبيح. وهذا ارتقاء في التحذير من الخواطر الشيطانية التي تدعو إلى الأفعال الذميمة ، وليس المراد بالفحشاء البخل لأنّ لفظ الفحشاء لا يطلق على البخل وإن كان البخيل يسمّى فاحشا. وإطلاق الأمر على وسوسة الشيطان وتأثير قوته في النفوس مجاز لأنّ الأمر في الحقيقة من أقسام الكلام. والتعريف في الفحشاء تعريف الجنس.

(وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

عطف على جملة (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) لإظهار الفرق بين ما تدعو إليه وساوس الشيطان وما تدعو إليه أوامر الله تعالى ، والوعد فيه حقيقة لا محالة. والقول في تقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ) على طريقة القول في تقديم اسم الشيطان في قوله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ).

ومعنى «واسع» أنّه واسع الفضل ، والوصف بالواسع مشتق من وسع المتعدي ـ إذا عمّ بالعطاء ونحوه ـ قال الله تعالى : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر : ٧] ، وتقول العرب : «لا يسعني أن أفعل كذا» ، أي لا أجد فيه سعة ، وفي حديث علي في وصف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد وسع الناس بشره وخلقه». فالمعنى هنا أنّه وسع الناس والعالمين بعطائه.

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

٥٣٠

هذه الجملة اعتراض وتذييل لما تضمنته آيات الإنفاق من المواعظ والآداب وتلقين الأخلاق الكريمة ، مما يكسب العاملين به رجاحة العقل واستقامة العمل.

فالمقصود التنبيه إلى نفاسة ما وعظهم الله به ، وتنبيههم إلى أنّهم قد أصبحوا به حكماء بعد أن كانوا في جاهلية جهلاء. فالمعنى : هذا من الحكمة التي آتاكم الله ، فهو يؤتى الحكمة من يشاء ، وهذا كقوله : (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ) [البقرة : ٢٣١].

قال الفخر : «نبه على أنّ الأمر الذي لأجله وجب ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان هو أنّ وعد الرحمن ترجّحه الحكمة والعقل ، ووعد الشيطان ترجّحه الشهوة والحسّ من حيث إنّهما يأمران بتحصيل اللذّة الحاضرة ، ولا شك أنّ حكم الحكمة هو الحكم الصادق المبرّأ عن الزيغ ، وحكم الحسّ والشهوة يوقع في البلاء والمحنة. فتعقيب قوله : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً) [البقرة : ٢٦٨] ، بقوله : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) إشارة إلى أنّ ما وعد به تعالى من المغفرة والفضل من الحكمة ، وأنّ الحكمة كلّها من عطاء الله تعالى ، وأنّ الله تعالى يعطيها من يشاء.

والحكمة إتقان العلم وإجراء الفعل على وفق ذلك العلم ، فلذلك قيل : نزلت الحكمة على ألسنة العرب ، وعقول اليونان ، وأيدي الصينيين. وهي مشتقة من الحكم ـ وهو المنع ـ لأنّها تمنع صاحبها من الوقوع في الغلط والضلال ، قال تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ١] ، ومنه سميت الحديدة التي في اللجام وتجعل في فم الفرس ، حكمة.

ومن يشاء الله تعالى إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعدا إلى ذلك ، من سلامة عقله واعتدال قواه ، حتى يكون قابلا لفهم الحقائق منقادا إلى الحق إذا لاح له ، لا يصدّه عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة ، ثم ييسّر له أسباب ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من العتاة ، فإذا انضمّ إلى ذلك توجّهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيرا ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير. وفسرت الحكمة بأنّها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة ، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ولا يغلط في العلل والأسباب.

والحكمة قسمت أقساما مختلفة الموضوع اختلافا باختلاف العصور والأقاليم. ومبدأ ظهور علم الحكمة في الشرق عند الهنود البراهمة والبوذيين ، وعند أهل الصين البوذيين ، وفي بلاد فارس في حكمة زرادشت ، وعند القبط في حكمة الكهنة. ثم انتقلت حكمة

٥٣١

هؤلاء الأمم الشرقية إلى اليونان وهذّبت وصحّحت وفرّعت وقسّمت عندهم إلى قسمين : حكمة عملية ، وحكمة نظرية.

فأما الحكمة العملية فهي المتعلّقة بما يصدر من أعمال الناس ، وهي تنحصر في تهذيب النفس ، وتهذيب العائلة ، وتهذيب الأمة.

والأول علم الأخلاق ، وهو التخلّق بصفات العلوّ الإلهيّ بحسب الطاقة البشرية ، فيما يصدر عنه كمال في الإنسان.

والثاني علم تدبير المنزل.

والثالث علم السياسة المدنية والشرعية.

وأما الحكمة النظرية في الباحثة عن الأمور التي تعلّم وليست من الأعمال ، وإنّما تعلم لتمام استقامة الأفهام والأعمال ، وهي ثلاثة علوم :

علم يلقّب بالأسفل وهو الطبيعيّ ، وعلم يلقّب بالأوسط وهو الرياضيّ ، وعلم يلقّب بالأعلى وهو الإلهيّ.

فالطبيعيّ يبحث عن الأمور العامة للتكوين والخواصّ والكون والفساد ، ويندرج تحته حوادث الجوّ وطبقات الأرض والنبات والحيوان والإنسان ، ويندرج فيه الطبّ والكيمياء والنجوم.

والرياضيّ الحساب والهندسة والهيئة والموسيقى ، ويندرج تحته الجبر والمساحة والحيل المتحركة (الماكينية) وجرّ الأثقال.

وأما الإلهيّ فهو خمسة أقسام : معاني الموجودات ، وأصول ومبادئ وهي المنطق ومناقضة الآراء الفاسدة ، وإثبات واجب الوجود وصفاته ، وإثبات الأرواح والمجرّدات ، وإثبات الوحي والرسالة ، وقد بيّن ذلك أبو نصر الفارابي وأبو علي ابن سينا.

فأمّا المتأخّرون ـ من حكماء الغرب ـ فقد قصروا الحكمة في الفلسفة على ما وراء الطبيعة وهو ما يسمّى عند اليونان بالإلهيّات.

والمهمّ من الحكمة في نظر الدين أربعة فصول :

أحدها معرفة الله حق معرفته وهو علم الاعتقاد الحق ، ويسمّى عند اليونان العلم الإلهيّ أو ما وراء الطبيعة.

٥٣٢

الثاني ما يصدر عن العلم به كمال نفسية الإنسان ، وهو علم الأخلاق.

الثالث تهذيب العائلة ، وهو المسمّى عند اليونان علم تدبير المنزل.

الرابع تقويم الأمة وإصلاح شئونها وهو المسمّى علم السياسة المدنية ، وهو مندرج في أحكام الإمامة والأحكام السلطانية. ودعوة الإسلام في أصوله وفروعه لا تخلو عن شعبة من شعب هذه الحكمة.

وقد ذكر الله الحكمة في مواضع كثيرة من كتابه مرادا بها ما فيه صلاح النفوس ، من النبوءة والهدى والإرشاد. وقد كانت الحكمة تطلق عند العرب على الأقوال التي فيها إيقاظ للنفس ووصاية بالخير ، وإخبار بتجارب السعادة والشقاوة ، وكليات جامعة لجماع الآداب .. وذكر الله تعالى ـ في كتابه ـ حكمة لقمان ووصاياه في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) [لقمان : ١٢] الآيات. وقد كانت لشعراء العرب عناية بإبداع الحكمة في شعرهم وهي إرسال الأمثال ، كما فعل زهير في الأبيات التي أولها «رأيت المنايا خبط عشواء» والتي افتتحها بمن ومن في معلقته. وقد كانت بيد بعض الأحبار صحائف فيها آداب ومواعظ مثل شيء من جامعة سليمان عليه‌السلام وأمثاله ، فكان العرب ينقلون منها أقوالا. وفي «صحيح البخاري» في باب الحياء من كتاب الأدب أنّ عمران بن حصين قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحياء لا يأتي إلّا بخير ، فقال بشير بن كعب العدوي : مكتوب في الحكمة إنّ من الحياء وقارا وإنّ من الحياء سكينة ، فقال له عمران : أحدّثك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحدّثني عن صحيفتك».

والحكيم هو النابغ في هاته العلوم أو بعضها فبحكمته يعتصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار مبلغ حكمته ، وفي الغرض الذي تتعلّق به حكمته.

وعلوم الحكمة هي مجموع ما أرشد إليه هدي الهداة من أهل الوحي الإلهي الذي هو أصل إصلاح عقول البشر ، فكان مبدأ ظهور الحكمة في الأديان ، ثم ألحق بها ما أنتجه ذكاء العقول من أنظارهم المتفرّعة على أصول الهدى الأول. وقد مهّد قدماء الحكماء طرائق من الحكمة فنبعت ينابيع الحكمة في عصور متقاربة كانت فيها مخلوطة بالأوهام والتخيّلات والضلالات. بين الكلدانيين والمصريين والهنود والصين ، ثم درسها حكماء اليونان فهذّبوا وأبدعوا ، وميّزوا علم الحكمة عن غيره ، وتوخّوا الحق ما استطاعوا فأزالوا أوهاما عظيمة وأبقوا كثيرا. وانحصرت هذه العلوم في طريقتي سقراط وهي نفسية ، وفيثاغورس وهي رياضية عقلية. والأولى يونانية والثانية لإيطاليا اليونانية. وعنهما أخذ

٥٣٣

أفلاطون ، واشتهر أصحابه بالإشراقيين ، ثم أخذ عنه أفضل تلامذته وهو أرسطاطاليس وهذّب طريقته ووسّع العلوم ، وسمّيت أتباعه بالمشّائين ، ولم تزل الحكمة من وقت ظهوره معوّلة على أصوله إلى يومنا هذا.

(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) وهو الذي شاء الله إيتاءه الحكمة. والخير الكثير منجرّ إليه من سداد الرأي والهدي الإلهي ، ومن تفاريع قواعد الحكمة التي تعصم من الوقوع في الغلط والضلال بمقدار التوغّل في فهمها واستحضار مهمها ؛ لأنّنا إذا تتبّعنا ما يحلّ بالناس من المصائب نجد معظمها من جرّاء الجهالة والضلالة وأفن الرأي. وبعكس ذلك نجد ما يجتنيه الناس من المنافع والملائمات منجرّا من المعارف والعلم بالحقائق ، ولو أنّنا علمنا الحقائق كلّها لاجتنبنا كل ما نراه موقعا في البؤس والشقاء.

وقرأ الجمهور (وَمَنْ يُؤْتَ) بفتح المثناة الفوقية بصيغة المبني للنائب ، على أنّ ضمير يؤت نائب فاعل عائد على من الموصولة وهو رابط الصلة بالموصول. وقرأ يعقوب ومن يؤت الحكمة ـ بكسر المثناة الفوقية ـ بصيغة البناء للفاعل. فيكون الضمير الذي في فعل يؤت عائدا إلى الله تعالى ، وحينئذ فالعائد ضمير نصب محذوف والتقدير : ومن يؤته الله.

وقوله : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) تذييل للتنبيه على أنّ من شاء الله إيتاء الحكمة هو ذو اللّب. وأنّ تذكر الحكمة واستصحاب إرشادها بمقدار استحضار اللّب وقوته واللّب في الأصل خلاصة الشيء وقلبه ، وأطلق هنا على عقل الإنسان لأنّه أنفع شيء فيه.

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠))

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ).

تذييل للكلام السابق المسوق للأمر بالإنفاق وصفاته المقبولة والتحذير من المثبّطات عنه ابتداء من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) [البقرة : ٢٦٧].

والمقصود من هذا التذييل التذكير بأنّ الله لا يخفى عليه شيء من النفقات وصفاتها ، وأدمج النذر مع الإنفاق فكان الكلام جديرا بأن يكون تذييلا.

٥٣٤

والنذر التزام قربة أو صدقة بصيغة الإيجاب على النفس كقوله عليّ صدقة وعليّ تجهيز غاز أو نحو ذلك ، ويكون مطلقا ومعلّقا على شيء. وقد عرفت العرب النذر من الجاهلية ، فقد نذر عبد المطلب أنّه إن رزق عشرة أولاد ليذبحنّ عاشرهم قربانا للكعبة ، وكان ابنه العاشر هو عبد الله ثاني الذبيحين ، وأكرم بها مزية ، ونذرت نتيلة زوج عبد المطلب ـ لما افتقدت ابنها العباس وهو صغير ـ أنّها إن وجدته لتكسونّ الكعبة الديباج ففعلت. وهي أول من كسا الكعبة الديباج. وفي حديث البخاري أنّ عمر بن الخطاب قال : «يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، فقال أوف بنذرك».

وفي الأمم السالفة كان النذر ، وقد حكى الله عن امرأة عمران (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) [آل عمران : ٣٥]. والآية دلّت على مشروعيته في الإسلام ورجاء ثوابه ، لعطفه على ما هو من فعل الخير سواء كان النذر مطلقا أم معلّقا ، لأنّ الآية أطلقت ، ولأنّ قوله : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) مراد به الوعد بالثواب. وفي الحديث الصحيح عن عمر وابنه عبد الله وأبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّ النذر لا يقدّم شيئا ولا يؤخّر ، ولا يردّ شيئا ولا يأتي ابن آدم بشيء لم يكن قدر له ، ولكنّه يستخرج به من البخيل». ومساقه الترغيب في النذر غير المعلّق لا إبطال فائدة النذر. وقد مدح الله عباده فقال : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) [الإنسان : ٧]. وفي «الموطأ» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه».

و (من) في قوله : (مِنْ نَفَقَةٍ) و (مِنْ نَذْرٍ) بيان لما أنفقتم ونذرتم ، ولما كان شأن البيان أن يفيد معنى زائدا على معنى المبيّن ، وكان معنى البيان هنا عين معنى المبيّن ، تعيّن أن يكون المقصود منه بيان المنفق والمنذور بما في تنكير مجروري (من) من إرادة أنواع النفقات والمنذورات فأكّد بذلك العموم ما أفادته ما الشرطية من العموم من خير أو شر في سبيل الله أو في سبيل الطاغوت ، قال التفتازاني : «مثل هذا البيان يكون لتأكيد العموم ومنع الخصوص».

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) كناية عن الجزاء عليه لأنّ علم الله بالكائنات لا يشك فيه السامعون ، فأريد لازم معناه ، وإنّما كان لازما له لأنّ القادر لا يصدّه عن الجزاء إلّا عدم العلم بما يفعله المحسن أو المسيء.

(وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ).

٥٣٥

هذا وعيد قوبل به الوعد الذي كنّي عنه بقوله : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) ، والمراد بالظالمين المشركون علنا والمنافقون ، لأنّهم إن منعوا الصدقات الواجبة فقد ظلموا مصارفها في حقّهم في المال وظلموا أنفسهم بإلقائها في تبعات المنع ، وإن منعوا صدقة التطوّع فقد ظلموا أنفسهم بحرمانها من فضائل الصدقات وثوابها في الآخرة.

والأنصار جمع نصير ، ونفي الأنصار كناية عن نفي النصر والغوث في الآخرة وهو ظاهر ، وفي الدنيا لأنّهم لما بخلوا بنصرهم الفقير بأموالهم فإنّ الله يعدمهم النصير في المضائق ، ويقسي عليهم قلوب عباده ، ويلقي عليهم الكراهية من الناس.

(إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١))

استئناف بياني ناشئ عن قوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) [البقرة : ٢٧٠] ، إذ أشعر تعميم «من نفقة» بحال الصدقات الخفيّة فيتساءل السامع في نفسه هل إبداء الصدقات يعد رياء وقد سمع قبل ذلك قوله : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) [البقرة : ٢٦٤] ، ولأنّ قوله : (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) [البقرة : ٢٧٠] قد كان قولا فصلا في اعتبار نيّات المتصدّقين وأحوال ما يظهرونه منها وما يخفونه من صدقاتهم. فهذا الاستئناف يدفع توهّما من شأنه تعطيل الصدقات والنفقات ، وهو أن يمسك المرء عنها إذا لم يجد بدّا من ظهورها فيخشى أن يصيبه الرياء.

والتعريف في قوله : (الصَّدَقاتِ) تعريف الجنس ، ومحمله على العموم فيشمل كل الصدقات فرضها ونفلها ، وهو المناسب لموقع هذه الآية عقب ذكر أنواع النفقات.

وجاء الشرط بإن في الصدقتين لأنّها أصل أدوات الشرط ، ولا مقتضى للعدول عن الأصل ، إذ كلتا الصدقتين مرض لله تعالى ، وتفضيل صدقة السرّ قد وفى به صريح قوله : (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

وقوله : (فَنِعِمَّا) أصله فنعم ما ، فأدغم المثلان وكسرت عين نعم لأجل التقاء الساكنين ، وما في مثله نكرة تامة أي متوغّلة في الإبهام لا يقصد وصفها بما يخصّصها ، فتمامها من حيث عدم اتباعها بوصف لا من حيث إنّها واضحة المعنى ، ولذلك تفسّر بشيء. ولما كانت كذلك تعيّن أن تكون في موضع التمييز لضمير نعم المرفوع المستتر ، فالقصد منه التنبيه على القصد إلى عدم التمييز حتى إنّ المتكلم ـ إذا ميّز ـ لا يميّز إلّا

٥٣٦

بمثل المميّز.

وقوله (هِيَ) مخصوص بالمدح ، أي الصدقات ، وقد علم السامع أنّها الصدقات المبدأة ، بقرينة فعل الشرط ، فلذلك كان تفسير المعنى فنعما إبداؤهما.

وقرأ ورش عن نافع وابن كثير وحفص ويعقوب فنعمّا ـ بكسر العين وتشديد الميم من نعم مع ميم ما ـ. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين. وقرأه قالون عن نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بكسر النون واختلاس حركة العين بين الكسر والسكون. وقرأه أبو جعفر بكسر النون وسكون العين مع بقاء تشديد الميم ، ورويت هذه أيضا عن قالون وأبي عمرو وأبي بكر.

وقوله : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) تفضيل لصدقة السرّ لأنّ فيها إبقاء على ماء وجه الفقير ، حيث لم يطّلع عليه غير المعطي. وفي الحديث الصحيح ، عد من السبعة الذين يظلّهم الله بظلّه «... ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه» ، (يعني مع شدّة القرب بين اليمين والشمال ؛ لأنّ حساب الدراهم ومناولة الأشياء بتعاونهما ، فلو كانت الشمال من ذوات العلم لما اطلعت على ما أنفقته اليمين).

وقد فضّل الله في هذه الآية صدقة السرّ على صدقة العلانية على الإطلاق ، فإن حملت الصدقات على العموم ـ كما هو الظاهر ـ إجراء للفظ الصدقات مجرى لفظ الإنفاق في الآي السابقة واللّاحقة ـ كان إخفاء صدقة الفرض والنفل أفضل ، وهو قول جمهور العلماء ، وعن الكيا الطّبري أنّ هذا أحد قول الشافعي. وعن المهدوي : كان الإخفاء أفضل فيهما في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ساءت ظنون الناس بالناس فاستحسن العلماء إظهار صدقة الفرض ، قال ابن عطية : وهذا مخالف للآثار أنّ إخفاء الصدقة أفضل. فيكون عموم الصدقات في الآية مخصوصا بصدقة التطوّع ، ومخصّص العموم الإجماع ، وحكى ابن العربي الإجماع عليه. وإن أريد بالصدقات في الآية غير الزكاة كان المراد بها أخصّ من الإنفاق المذكور في الآي قبلها وبعدها ، وكان تفضيل الإخفاء مختصا بالصدقات المندوبة. وقال ابن عباس والحسن : إظهار الزكاة أفضل ، وإخفاء صدقة التطوّع أفضل من إظهارها وهو قول الشافعي.

وقوله : (وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ) ، توقّف المفسّرون في حكمة ذكره ، مع العلم بأنّ الصدقة لا تكون إلّا للفقراء ، وأنّ الصدقة المبداة أيضا تعطي للفقراء.

٥٣٧

فقال العصام : «كأنّ نكتة ذكره هنا أنّ الإبداء لا ينفكّ عن إيتاء الفقراء ؛ لأنّ الفقير يظهر فيه ويمتاز عن غيره إذ يعلمه الناس بحاله ، بخلاف الإخفاء ، فاشترط معه إيتاؤها للفقير حثّا على الفحص عن حال من يعطيه الصدقة» (أي لأنّ الحريصين ـ من غير الفقراء ـ يستحيون أن يتعرّضوا للصدقات الظاهرة ولا يصدّهم شيء عن التعرّض للصدقات الخفيّة).

وقال الخفاجي : «لم يذكر الفقراء مع المبداة لأنّه أريد بها الزكاة ومصارفها الفقراء وغيرهم ، وأما الصدقة المخفاة فهي صدقة التطوّع ومصارفها الفقراء فقط». وهو ضعيف لوجهين : أحدهما أنّه لا وجه لقصر الصدقة المبداة على الفريضة ولا قائل به بل الخلاف في أنّ تفضيل الإخفاء هل يعمّ الفريضة أولا ، الثاني أنّ الصدقة المتطوّع بها لا يمتنع صرفها لغير الفقراء كتجهيز الجيوش.

وقال الشيخ ابن عاشور جدّي في تعليق له على حديث فضل إخفاء الصدقة من «صحيح مسلم» : «عطف إيتاء الفقراء على الإخفاء المجعول شرطا للخيرية في الآية ـ مع العلم بأنّ الصدقة للفقراء ـ يؤذن بأنّ الخيرية لإخفاء حال الفقير وعدم إظهار اليد العليا عليه» ، أي فهو إيماء إلى العلة وأنّها الإبقاء على ماء وجه الفقير ، وهو القول الفصل لانتفاء شائبة الرياء.

وقوله : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) قرأه نافع والكسائي وأبو بكر وأبو جعفر وخلف بنون العظمة ، وبجزم الراء عطفاء على موضع جملة الجواب وهي جملة فهو خير لكم ، فيكون التكفير معلّقا على الإخفاء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو بالنون أيضا وبرفع الراء على أنّه وعد على إعطاء الصدقات ظاهرة أو خفية وقرأه ابن عامر وحفص بالتحتية ـ على أنّ ضميره عائد إلى الله ـ وبالرفع.

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢))

استئناف معترض به بين قوله (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) [البقرة : ٢٧١] وبين قوله: (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) ، ومناسبته هنا أنّ الآيات المتقدمة يلوح من خلالها أصناف من الناس : منهم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ومنهم

٥٣٨

الذين يبطلون صدقاتهم بالمنّ والأذى ، ومنهم الذين يتيمّمون الخبيث منه ينفقون ، ومنهم من يعدهم الشيطان الفقر ويأمرهم بالفحشاء. وكان وجود هذه الفرق مما يثقل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعقّب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هداهم ولكن عليه البلاغ. فالهدى هنا بمعنى الإلجاء لحصول الهدي في قلوبهم ، وأما الهدى بمعنى التبليغ والإرشاد فهو على النّبيء ، ونظائر هذا في القرآن كثيرة. فالضمير راجع إلى جميع من بقي فيهم شيء من عدم الهدى وأشدّهم المشركون والمنافقون ، وقيل الضمير راجع إلى ناس معروفين ، روي أنّه كان لأسماء ابنة أبي بكر أمّ كافرة وجدّ كافر فأرادت أسماء ـ عام عمرة القضية ـ أن تواسيهما بمال ، وأنّه أراد بعض الأنصار الصدقة على قرابتهم وأصهارهم في بني النضير وقريظة ، فنهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين عن الصدقة على الكفّار ، إلجاء لأولئك الكفّار على الدّخول في الإسلام ، فأنزل الله تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) الآيات ، أي هدى الكفّار إلى الإسلام ، أي فرخّص للمسلمين الصدقة على أولئك الكفرة.

فالضمير عائد إلى معلوم للمخاطب. فيكون نزول الآية لذلك السبب ناشئا عن نزول آيات الأمر بالإنفاق والصدقة ، فتكون الآيات المتقدمة سبب السبب لنزول هذه الآية.

والمعنى أن ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد ، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء ؛ إذ لا هادي لمن يضلل الله ، وليس مثل هذا بميسّر للهدى.

والخطاب في (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) ظاهره أنّه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير هداهم. ويجوز أن يكون خطابا لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول ، أي ليس عليك أيها المتردّد في إعطاء قريبك.

و (على) في قوله (عَلَيْكَ) للاستعلاء المجازي ، أي طلب فعل على وجه الوجوب. والمعنى ليس ذلك بواجب على الرسول ، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنّه أدّى واجب التبليغ ، أو المعنى ليس ذلك بواجب عليكم أيّها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء.

وتقديم الظرف وهو (عَلَيْكَ) على المسند إليه وهو (هُداهُمْ) إذا أجرى على ما تقرّر في علم المعاني من أنّ تقديم المسند الذي حقّه التأخير يفيد قصر المسند إليه إلى المسند ، وكان ذلك في الإثبات بيّنا لا غبار عليه نحو (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦]

٥٣٩

وقوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] ، فهو إذا وقع في سياق النفي غير بيّن لأنّه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيدا للحصر اقتضى أنّه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار ؛ لأنّ الجملة المكيّفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيّدة نسبتها بقيد الانحصار أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها. فإذا دخل عليها النفي كان مقتضيا نفي النسبة المقيّدة ، أي نفي ذلك الانحصار ، لأنّ شأن النفي إذا توجّه إلى كلام مقيّد أن ينصبّ على ذلك القيد. لكنّ أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سوّوا فيها بين الإثبات ـ كما ذكرنا ـ وبين النفي نحو (لا فِيها غَوْلٌ) [الصافات : ٤٧] ، فقد مثل به في «الكشاف» عند قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] فقال : «قصد تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا» ، وقال السيد في شرحه هنالك «عدّ قصرا للموصوف على الصفة ، أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعدّاه إلى عدم الحصول فيما يقابلها ، أو عدم الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور». وقد أحلت عند قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] على هذه الآية هنا ، فبنا أن نبيّن طريقة القصر بالتقديم في النفي ، وهي أنّ القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيدا لفظيا بحيث يتوجّه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي ، فنحو (لا فِيها غَوْلٌ) يفيد قصر الغول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد نفي قصر الغول على الكون في خمور الجنة. وإلى هذا أشار السيّد في شرح «الكشاف» عند قوله (لا رَيْبَ فِيهِ) إذ قال «وبالجملة يجعل حرف النفي جزءا أو حرفا من حروف المسند أو المسند إليه». وعلى هذا بنى صاحب «الكشاف» فجعل وجه أن لم يقدّم الظرف في قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) كما قدم الظرف في قوله : (لا فِيها غَوْلٌ) لأنّه لو أوّل لقصد أنّ كتابا آخر فيه الريب ، لا في القرآن ، وليس ذلك بمراد.

فإذا تقرر هذا فقوله : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) إذا أجرى على هذا المنوال كان مفاده هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك ، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب ، أي إبطال انتفاء كونه على الله ، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يعتقد الأول ولا الثاني. فالوجه : إما أن يكون التقديم هنا لمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري :

ما فيه من عيب سوى أنّه

يوم النّدى قسمته ضيزى

بنفي كون هداهم حقا على الرسول تهوينا للأمر عليه ، فأما الدلالة على كون ذلك

٥٤٠