تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

[التوبة : ٢٩] كما نسخ حديث «أمرت أن أقاتل الناس» ، هذا ما يظهر لنا في معنى الآية ، والله أعلم.

ولأهل العلم قبلنا فيها قولان : الأول قال ابن مسعود وسليمان بن موسى : هي منسوخة بقوله (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) [التوبة : ٧٣] ، فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أكره العرب على الإسلام وقاتلهم ولم يرض منهم إلّا به. ولعلهما يريدان من النسخ معنى التخصيص. والاستدلال على نسخها بقتال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم العرب على الإسلام ، يعارضه أنّه عليه‌السلام أخذ الجزية من جميع الكفّار ، فوجه الجمع هو التنصيص. القول الثاني أنها محكّمة ولكنّها خاصة ، فقال الشعبي وقتادة والحسن والضحاك هي خاصة بأهل الكتاب فإنّهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية وإنّما يجبر على الإسلام أهل الأوثان ، وإلى هذا مال الشافعي فقال : إنّ الجزية لا تؤخذ إلّا من أهل الكتاب والمجوس. قال ابن العربي في الأحكام «وعلى هذا فكل من رأى قبول الجزية من جنس يحمل الآية عليه» ، يعني مع بقاء طائفة يتحقق فيها الإكراه. وقال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد : نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا في الجاهلية إذا كانت المرأة منهم مقلاتا ـ أي لا يعيش لها ولد ـ (١) تنذر إن عاش لها ولد أن تهوّده ، فلما جاء الإسلام وأسلموا كان كثير من أبناء الأنصار يهودا فقالوا : لا ندع أبناءنا بل نكرههم على الإسلام ، فأنزل الله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

وقال السدي : نزلت في قصة رجل من الأنصار يقال له أبو حصين من بني سلمة بن عوف وله ابنان جاء تجّار من نصارى الشام إلى المدينة فدعوهما إلى النصرانية ، فتنصّرا وخرجا معهم ، فجاء أبوهما فشكا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلب أن يبعث من يردّهما مكرهين فنزلت (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ، ولم يؤمر يومئذ بالقتال ثم نسخ ذلك بآيات القتال. وقيل : إن المراد بنفي الإكراه نفي تأثيره في إسلام من أسلم كرها فرارا من السيف ، على معنى قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [النساء : ٩٤]. وهذا القول تأويل في معنى الإكراه وحمل للنفي على الإخبار دون الأمر.

وقيل : إنّ المراد بالدين التوحيد ودين له كتاب سماوي وإنّ نفي الإكراه نهي ،

__________________

(١) المقلات ـ بكسر الميم ـ مشتقة من القلت بالتحريك وهو الهلاك ، وعليه فالتاء فيه أصلية وليست هاء تأنيث ، ووقع في كلام ابن عباس تكون المرأة مقلى ، رواه الطبري فيكون مقلاة مفعلة من قلى إذا أبغض.

٥٠١

والمعنى لا تكرهوا السبايا من أهل الكتاب لأنّهنّ أهل دين وأكرهوا المجوس منهم والمشركات.

وقوله : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) واقع موقع العلة لقوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) ولذلك فصلت الجملة.

والرشد ـ بضم فسكون ، وبفتح ففتح ـ الهدى وسداد الرأي ، ويقابله الغيّ والسفه ، والغيّ الضلال ، وأصله مصدر غوى المتعدي فأصله غوي قلبت الواو ياء ثم أدغمتا. وضمّن تبيّن معنى تميز فلذلك عدي بمن ، وإنّما تبيّن ذلك بدعوة الإسلام وظهوره في بلد مستقل بعد الهجرة.

وقوله : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) تفريع على قوله : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) إذ لم يبق بعد التبيين إلّا الكفر بالطاغوت ، وفيه بيان لنفي الإكراه في الدين ؛ إذ قد تفرّع عن تميّز الرشد من الغي ظهور أنّ متّبع الإسلام مستمسك بالعروة الوثقى فهو ينساق إليه اختيارا.

والطاغوت الأوثان والأصنام ، والمسلمون يسمّون الصّنم الطاغية ، وفي الحديث : «كانوا يهلون لمناة الطاغية» ، ويجمعون الطاغوت على طواغيت ، ولا أحسبه ألّا من مصطلحات القرآن وهو مشتق من الطغيان وهو الارتفاع والغلو في الكبر وهو مذموم ومكروه. ووزن طاغوت على التحقيق طغيوت ـ فعلوت ـ من أوزان المصادر مثل ملكوت ورهبوت ورحموت فوقع فيه قلب مكاني ـ بين عينه ولامه ـ فصير إلى فلعوت طيغوت ليتأتى قلب اللام ألفا فصار طاغوت ، ثم أزيل عنه معنى المصدر وصار اسما لطائفة مما فيه هذا المصدر فصار مثل ملكوت في أنه اسم طائفة مما فيه معنى المصدر ـ لا مثل رحموت ورهبوت في أنّهما مصدران ـ فتاؤه زائدة ، وجعل علما على الكفر وعلى الأصنام ، وأصله صفة بالمصدر ويطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كشأن المصادر.

وعطف (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) على الشرط لأنّ نبذ عبادة الأصنام لا مزيّة فيه إن لم يكن عوّضها بعبادة الله تعالى.

ومعنى استمسك تمسك ، فالسين والتاء للتأكيد كقوله : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) [الزخرف : ٤٣] وقوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) [آل عمران : ١٩٥] وقول النابغة :

٥٠٢

«فاستنكحوا أمّ جابر» إذ لا معنى لطلب التمسك بالعروة الوثقى بعد الإيمان ، بل الإيمان التمسك نفسه. والعروة ـ بضم العين ـ ما يجعل كالحلقة في طرف شيء ليقبض على الشيء منه ، فللدّلو عروة وللكوز عروة ، وقد تكون العروة في حبل بأن يشدّ طرفه إلى بعضه ويعقد فيصير مثل الحلقة فيه ، فلذلك قال في «الكشاف» : العروة الوثقى من الحبل الوثيق.

و (الْوُثْقى) المحكمة الشدّ. و (لَا انْفِصامَ لَها) أي لا انقطاع ، والفصم القطع بتفريق الاتصال دون تجزئة بخلاف القصم بالقاف فهو قطع مع إبانة وتجزئة.

والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيلي ، شبهت هيئة المؤمن في ثباته على الإيمان بهيئة من أمسك بعروة وثقى من حبل وهو راكب على صعب أو في سفينة في هول البحر ، وهي هيئة معقولة شبهت بهيئة محسوسة ، ولذلك قال في «الكشاف» «وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر ، بالمشاهد» وقد أفصح عنه في تفسير سورة لقمان إذ قال «مثلت حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه» ، فالمعنى أنّ المؤمن ثابت اليقين سالم من اضطراب القلب في الدنيا وهو ناج من مهاوي السقوط في الآخرة كحال من تمسك بعروة حبل متين لا ينفصم.

وقد أشارت الآية إلى أنّ هذه فائدة المؤمن تنفعه في دنياه بأن يكون على الحق والبصيرة وذلك ممّا تطلبه النفوس ، وأشارت إلى فائدة ذلك في الآخرة بقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) الذي هو تعريض بالوعد والثواب.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

وقع قوله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية موقع التعليل لقوله : (لَا انْفِصامَ لَها) [البقرة : ٢٥٦] لأنّ الذين كفروا بالطاغوت وآمنوا بالله قد تولّوا الله فصار وليّهم ، فهو يقدّر لهم ما فيه نفعهم وهو ذبّ الشبهات عنهم ، فبذلك يستمر تمسّكهم بالعروة الوثقى ويأمنون انفصامها ، أي فإذا اختار أحد أن يكون مسلما فإنّ الله يزيده هدى.

والولي الحليف فهو ينصر مولاه. فالمراد بالنور نور البرهان والحق ، وبالظلمات ظلمات الشبهات والشك ، فالله يزيد الذين اهتدوا هدى لأنّ اتّباعهم الإسلام تيسير لطرق

٥٠٣

اليقين فهم يزدادون توغّلا فيها يوما فيوما ، وبعكسهم الذين اختاروا الكفر على الإسلام فإنّ اختيارهم ذلك دل على ختم ضرب على عقولهم فلم يهتدوا ، فهم يزدادون في الضلال يوما فيوما. ولأجل هذا الازدياد المتجدّد في الأمرين وقع التعبير بالمضارع في ـ يخرجهم ـ ويخرجونهم ـ وبهذا يتّضح وجه تعقيب هذه الآيات بآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) [البقرة : ٢٥٨] ثم بآية (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) [البقرة : ٢٥٩] ثم بآية (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) فإنّ جميعها جاء لبيان وجوه انجلاء الشك والشبهات عن أولياء الله تعالى الذين صدق إيمانهم ، ولا داعي إلى ما في «الكشاف» وغيره من تأويل الذين آمنوا والذين كفروا بالذين أرادوا ذلك ، وجعل النور والظلمات تشبيها للإيمان والكفر ، لما علمت من ظهور المعنى بما يدفع الحاجة إلى التأويل بذلك ، ولا يحسن وقعه بعد قوله : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) ، ولقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) فإنّه متعيّن للحمل على زيادة تضليل الكافر في كفره بمزيد الشك كما في قوله : (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ـ إلى قوله ـ (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) [هود : ١٠١] ، ولأن الطاغوت كانوا أولياء للذين آمنوا قبل الإيمان فإنّ الجميع كانوا مشركين ، وكذلك ما أطال به فخر الدين من وجود الاستدلال على المعتزلة واستدلالهم علينا. وجملة يخرجهم خبر ثان عن اسم الجلالة. وجملة يخرجونهم حال من الطاغوت. وأعيد الضمير إلى الطاغوت بصيغة جمع العقلاء لأنّه أسند إليهم ما هو من فعل العقلاء وإن كانوا في الحقيقة سبب الخروج لا مخرجين. وتقدم الكلام على الطاغوت عند قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [البقرة : ٢٥٦].

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨))

جرى هذا الكلام مجرى الحجة على مضمون الجملة الماضية أو المثال لها ؛ فإنّه لما ذكر أنّ الله يخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور وأنّ الطاغوت يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات ، ساق ثلاثة شواهد على ذلك هذا أولها وأجمعها لأنّه اشتمل على ضلال الكافر وهدى المؤمن ، فكان هذا في قوّة المثال.

والمقصود من هذا تمثيل حال المشركين في مجادلتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البعث بحال

٥٠٤

الذي حاجّ إبراهيم في ربه ، ويدل لذلك ما يرد من التخيير في التشبيه في قوله : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) [البقرة : ٢٥٩] الآية.

وقد مضى الكلام على تركيب ألم تر. والاستفهام في (أَلَمْ تَرَ) مجازي متضمّن معنى التعجيب ، وقد تقدم تفصيل معناه وأصله عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣]. وهذا استدلال مسوق لإثبات الوحدانية لله تعالى وإبطال إلاهية غيره لانفراده بالإحياء والإماتة ، وانفراده بخلق العوالم المشهودة للناس. ومعنى (حَاجَ) خاصم ، وهو فعل جاء على زنة المفاعلة ، ولا يعرف لحاجّ في الاستعمال فعل مجرد دال على وقوع الخصام ولا تعرف المادة التي اشتق منها. ومن العجيب أنّ الحجة في كلام العرب البرهان المصدّق للدعوى مع أنّ حاج لا يستعمل غالبا إلّا في معنى المخاصمة ؛ قال تعالى : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ) [غافر : ٤٧] مع قوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤] ، وأنّ الأغلب أنّه يفيد الخصام بباطل ، قال تعالى : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) [الأنعام : ٨٠] وقال : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) [آل عمران : ٢٠] والآيات في ذلك كثيرة. فمعنى (الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) أنّه خاصمه خصاما باطلا في شأن صفات الله ربّ إبراهيم.

والذي حاجّ إبراهيم كافر لا محالة لقوله : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) ، وقد قيل : إنّه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن كوش بن حام بن نوح ، فيكون أخا (رعو) جدّ إبراهيم. والذي يعتمد أنّه ملك جبّار ، كان ملكا في بابل ، وأنّه الذي بنى مدينة بابل ، وبنى الصرح الذي في بابل ، واسمه نمرود ـ بالدال المهملة في آخره ـ ويقال بالذال المعجمة ، ولم تتعرّض كتب اليهود لهذه القصة وهي في المرويات.

والضمير المضاف إليه رب عائد إلى إبراهيم ، والإضافة لتشريف المضاف إليه ، ويجوز عوده إلى الذي ، والإضافة لإظهار غلطه كقول ابن زيابة :

نبّئت عمرا غارزا رأسه

في سنة يوعد أخواله

أي ما كان من شأن المروءة أن يظهر شرا لأهل رحمه.

وقوله : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) تعليل حذفت منه لام التعليل ، وهو تعليل لما يتضمنه حاجّ من الإقدام على هذا الغلط العظيم الذي سهّله عنده ازدهاؤه وإعجابه بنفسه ، فهو تعليل محض وليس علة غائيّة مقصودة للمحاجّ من حجاجه. وجوّز صاحب «الكشاف» أن

٥٠٥

يكون تعليلا غائيا أي حاجّ لأجل أنّ الله آتاه الملك ، فاللام استعارة تبعية لمعنى يؤدّى بحرف غير اللام ، والداعي لهاته الاستعارة التهكّم ، أي أنّه وضع الكفر موضع الشكر كما في أحد الوجهين في قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] ، أي جزاء رزقكم. وإيتاء الملك مجاز في التفضّل عليه بتقدير أن جعله ملكا وخوّله ذلك ، ويجيء تفصيل هذا الفعل عند قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) في سورة الأنعام [٨٣]. قيل : كان نمرود أول ملك في الأرض وأول من وضع التاج على رأسه. و (إِذْ قالَ) ظرف لحاجّ. وقد دل هذا على أنّ إبراهيم هو الذي بدأ بالدعوة إلى التوحيد واحتجّ بحجة واضحة يدركها كل عاقل وهي أن الرّب الحق هو الذي يحيي ويميت ؛ فإن كل أحد يعلم بالضرورة أنّه لا يستطيع إحياء ميت فلذلك ابتدأ إبراهيم الحجة بدلالة عجز الناس عن إحياء الأموات ، وأراد بأنّ الله يحيي أنّه يخلق الأجسام الحيّة من الإنسان والحيوان وهذا معلوم بالضرورة. وفي تقديم الاستدلال بخلق الحياة إدماج لإثبات البعث لأنّ الذي حاجّ إبراهيم كان من عبدة الأصنام ، وهم ينكرون البعث. وذلك موضع العبرة من سياق الآية في القرآن على مسامع أهل الشرك ، ثم أعقبه بدلالة الأمانة ، فإنّه لا يستطيع تنهية حياة الحي ، ففي الإحياء والأمانة دلالة على أنّهما من فعل فاعل غير البشر ، فالله هو الذي يحيي ويميت. فالله هو الباقي دون غيره الذين لا حياة لهم أصلا كالأصنام إذ لا يعطون الحياة غيرهم وهم فاقدوها ، ودون من لا يدفع الموت على نفسه مثل هذا الذي حاجّ إبراهيم.

وجملة (قالَ أَنَا أُحْيِي) بيان لحاجّ والتقدير حاجّ إبراهيم قال أنا أحيي وأميت حين قال له إبراهيم (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ). وقد جاء بمغالطة عن جهل أو غرور في الإحياء والإماتة إذ زعم أنّه يعمد إلى من حكم عليه بالموت فيعفو عنه ، وإلى بريء فيقتله ، كذا نقلوه. ويجوز أن يكون مراده أنّ الإحياء والإماتة من فعله هو لأنّ أمرهما خفي لا يقوم عليه برهان محسوس.

وقرأ الجمهور ألف ضمير (أنا) بقصر الألف بحيث يكون كفتحة غير مشبعة وذلك استعمال خاص بألف (أنا) في العربية. وقرأه نافع وأبو جعفر مثلهم إلّا إذا وقع بعد الألف همزة قطع مضمومة أو مفتوحة كما هنا ، وكما في قوله تعالى : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام : ١٦٣] فيقرأه بألف ممدودة. وفي همزة القطع المكسورة روايتان لقالون عن نافع نحو قوله تعالى : (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) [الأعراف : ١٨٨] وهذه لغة فصيحة.

٥٠٦

وقوله : (قالَ إِبْراهِيمُ) مجاوبة فقطعت عن العطف جريا على طريقة حكاية المحاورات ، وقد عدل إبراهيم عن الاعتراض بأنّ هذا ليس من الإحياء المحتجّ به ولا من الإماتة المحتجّ بها ، فأعرض عنه لما علم من مكابرة خصمه وانتقل إلى ما لا يستطيع الخصم انتحاله ، ولذلك بهت ، أي عجز لم يجد معارضة.

وبهت فعل مبني للمجهول يقال بهته فبهت بمعنى أعجزه عن الجواب فعجز أو فاجأه بما لم يعرف دفعه قال تعالى : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) [الأنبياء : ٤٠] وقال عروة العذري :

فما هو إلّا أن أراها فجاءة

فأبهت حتى ما أكاد أجيب

ومنه البهتان وهو الكذب الفظيع الذي يبهت سامعه.

وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل هو حوصلة الحجة على قوله (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ، وإنّما انتفى هدي الله لقوم الظالمين لأنّ الظلم حائل بين صاحبه وبين التنازل إلى التأمّل من الحجج وإعمال النظر فيما فيه النفع ؛ إذ الذهن في شاغل عن ذلك بزهوه وغروره.

والآية دليل على جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقائد ، والقرآن مملوء بذلك ، وأما ما نهي عنه من الجدل فهو جدال المكابرة والتعصّب وترويج الباطل والخطإ.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))

تخيير في التشبيه على طريقة التشبيه ، وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩] لأنّ قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) [البقرة : ٢٥٨] في معنى التمثيل والتشبيه كما تقدم ، وهو مراد صاحب «الكشاف» بقوله : «ويجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ كأنه قيل : أرأيت كالذي حاجّ أو كالذي مرّ» وإذ قد قرّر بالآية قبلها ثبوت انفراد الله بالإلهية ، وذلك أصل الإسلام ، أعقب بإثبات البعث الذي إنكاره أصل أهل الإشراك.

٥٠٧

واعلم أنّ العرب تستعمل الصيغتين في التعجّب : يقولون ألم تر إلى كذا ، ويقولون أرأيت مثل كذا أو ككذا ، وقد يقال ألم تر ككذا لأنّهم يقولون لم أر كاليوم في الخير أو في الشر ، وفي الحديث «فلم أره كاليوم منظرا قط» ، وإذا كان ذلك يقال في الخير جاز أن يدخل عليه الاستفهام فتقول : ألم تر كاليوم ـ في الخير والشر ـ ، وحيث حذف الفعل المستفهم عنه فلك أن تقدره على الوجهين ، ومال صاحب «الكشاف» إلى تقديره : أرأيت كالذي لأنّه الغالب في التعجّب مع كاف التشبيه.

والذي مر على قرية قيل هو أرميا بن حلقيا ، وقيل هو عزير بن شرخيا (عزرا بن سرّيّا). والقرية بيت المقدس في أكثر الأقوال ، والذي يظهر لي أنّه حزقيال ابن بوزي نبيء إسرائيل كان معاصرا لأرميا ودانيال وكان من جملة الذين أسرهم بختنصر إلى بابل في أوائل القرن السادس قبل المسيح ، وذلك أنه لما رأى عزم بختنصر على استئصال اليهود وجمعه آثار الهيكل ليأتي بها إلى بابل ، جمع كتب شريعة موسى وتابوت العهد وعصا موسى ورماها في بئر في أورشليم خشية أن يحرقها بختنصر ، ولعله اتّخذ علامة يعرفها بها وجعلها سرا بينه وبين أنبياء زمانه وورثتهم من الأنبياء. فلما أخرج إلى بابل بقي هنالك وكتب كتابا في مراء رآها وحيا تدل على مصائب اليهود وما يرجى لهم من الخلاص ، وكان آخر ما كتبه في السنة الخامسة والعشرين بعد سبي اليهود ، ولم يعرف له خبر بعد كما ورد في تاريخهم ، ويظن أنّه مات أو قتل. ومن جملة ما كتبه «أخرجني روح الرب وأنزلني في وسط البقعة وهي ملآنة عظاما كثيرة وأمّرني عليها وإذا تلك البقعة يابسة فقال لي : أتحيي هذه العظام؟ فقلت : يا سيدي الرّب أنت تعلم. فقال لي : تنبأ على هذه العظام وقل لها : أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب قال ها أنا ذا أدخل فيكم الروح وأضع عليكم عصبا وأكسوكم لحما وجلدا. فتنبأت ، كما أمرني فتقاربت العظام كل عظم إلى عظمه ، ونظرت وإذا باللحم والعصب كساها وبسط الجلد عليها من فوق ودخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا». ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا فلا شكّ أنّ الله لما أعاد عمران أورشليم في عهد عزرا النبي في حدود سنة ٤٥٠ قبل المسيح أحيا النبي حزقيال ـ عليه‌السلام ـ ليرى مصداق نبوته ، وأراه إحياء العظام ، وأراه آية في طعامه وشرابه وحماره ـ وهذه مخاطبة بين الخالق وبعض أصفيائه على طريق المعجزة ـ وجعل خبره آية للناس من أهل الإيمان الذين يوقنون بما أخبرهم الله تعالى ، أو لقوم أطلعهم الله على ذلك من أصفيائه ، أو لأهل القرية التي كان فيها وفقد من بينهم فجاءهم بعد مائة سنة وتحققه من يعرفه بصفاته ، فيكون قوله تعالى : (مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) إشارة إلى

٥٠٨

قوله : «أخرجني روح الرب وأمّرني عليها». فقوله : (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ) إشارة إلى قوله أتحيي هذه العظام فقلت يا سيدي أنت تعلم لأنّ كلامه هذا ينبئ باستبعاد إحيائها ، ويكون قوله تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ) إلخ مما زاده القرآن من البيان على ما في كتب اليهود لأنّهم كتبوها بعد مرور أزمنة ، ويظن من هنا أنّه مات في حدود سنة ٥٦٠ قبل المسيح ، وكان تجديد أورشليم في حدود ٤٥٨ فتلك مائة سنة تقريبا ، ويكون قوله : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) تذكرة له بتلك النبوءة وهي تجديد مدينة إسرائيل.

وقوله : (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) الخاوية : الفارغة من السكان والبناء. والعروش جمع عرش وهو السقف. والظرف مستقر في موضع الحال ، والمعنى أنّها خاوية ساقطة على سقفها وذلك أشدّ الخراب لأنّ أول ما يسقط من البناء السقف ثم تسقط الجدران على تلك السقف. والقرية هي بيت المقدس رآها في نومه كذلك أو رآها حين خربها رسل بختنصر ، والظاهر الأول لأنّه كان ممن سبي مع (يهويا قيم) ملك إسرائيل وهو لم يقع التخريب في زمنه بل وقع في زمن (صدقيا) أخيه بعد إحدى عشرة سنة.

وقوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) استفهام إنكار واستبعاد ، وقوله : (فَأَماتَهُ اللهُ) التعقيب فيه بحسب المعقب فلا يلزم أن يكون أماته في وقت قوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ). وقد قيل : إنّه نام فأماته الله في نومه.

وقوله : (ثُمَّ بَعَثَهُ) أي أحياه وهي حياة خاصة ردّت بها روحه إلى جسده ؛ لأنّ جسده لم يبل كسائر الأنبياء ، وهذا بعث خارق للعادة وهو غير بعث الحشر.

وقوله : (لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) اعتقد ذلك بعلم أودعه الله فيه أو لأنّه تذكر أنّه نام في أول النهار ووجد الوقت الذي أفاق فيه آخر نهار.

وقوله : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) تفريع على قوله : (لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ). والأمر بالنظر أمر للاعتبار أي فانظره في حال أنّه لم يتسنه ، والظاهر أنّ الطعام والشراب كانا معه حين أميت أو كانا موضوعين في قبره إذا كان من أمة أو في بلد يضعون الطعام للموتى المكرّمين كما يفعل المصريون القدماء ، أو كان معه طعام حين خرج فأماته الله في نومه كما قيل ذلك.

ومعنى (لَمْ يَتَسَنَّهْ) لم يتغيّر ، وأصله مشتق من السّنة لأنّ مر السنين يوجب التغيّر

٥٠٩

وهو مثل تحجّر الطين ، والهاء أصلية لا هاء سكت ، وربما عاملوا هاء سنة معاملة التاء في الاشتقاق فقالوا أسنت فلان إذا أصابته سنة أي مجاعة ، قال مطرود الخزاعي ، أو ابن الزبعري :

عمرو الذي هشم الثريد لقومه

قوم بمكة مسنتين عجاف

وقوله : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) قيل : كان حماره قد بلي فلم تبق إلّا عظامه فأحياه الله أمامه. ولم يؤت مع قوله : (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) بذكر الحالة التي هي محل الاعتبار لأنّ مجرد النظر إليه كاف ، فأنّه رآه عظاما ثم رآه حيا ، ولعلّه هلك فبقي بتلك الساحة التي كان فيها حزقيال بعيدا عن العمران ، وقد جمع الله له أنواع الإحياء إذ أحيا جسده بنفخ الروح ـ عن غير إعادة ـ وأحيا طعامه بحفظه من التغيّر وأحيا حماره بالإعادة فكان آية عظيمة للناس الموقنين بذلك ، ولعلّ الله أطلع على ذلك الإحياء بعض الأحياء من أصفيائه.

فقوله : (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً) معطوف على مقدر دل عليه قوله (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) وانظر إلى حمارك ؛ فإن الأمر فيه للاعتبار لأنّه ناظر إلى ذلك لا محالة ، والمقصود اعتباره في استبعاده أن يحيي الله القرية بعد موتها ، فكان من قوة الكلام انظر إلى ما ذكر جعلناه آية لك على البعث وجعلناك آية للناس لأنّهم لم يروا طعامه وشرابه وحماره ، ولكن رأوا ذاته وتحقّقوه بصفاته. ثم قال له : وانظر إلى العظام كيف ننشرها ، والظاهر أنّ المراد عظام بعض الآدميين الذين هلكوا ، أو أراد عظام الحمار فتكون (أل) عوضا عن المضاف إليه فيكون قوله إلى العظام في قوة البدل من حمارك إلّا أنّه برز فيه العامل المنويّ تكريره.

وقرأ جمهور العشرة ننشرها بالرّاء مضارع أنشر الرباعي بمعنى الإحياء. وقرأه ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف : (نُنْشِزُها) ـ بالزاي ـ مضارع أنشزه إذا رفعه ، والنشز الارتفاع ، والمراد ارتفاعها حين تغلظ بإحاطة العصب واللحم والدم بها فحصل من القراءتين معنيان لكملة واحدة ، وفي كتاب (حزقيال) «فتقاربت العظام كل عظم إلى عظمه ، ونظرت وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها».

وقوله : (قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قرأ الجمهور أعلم بهمزة قطع على أنّه مضارع علم فيكون جواب الذي مر على قرية عن قول الله له (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) الآية ، وجاء بالمضارع ليدل على ما في كلام هذا النبي من الدلالة على تجدد علمه بذلك لأنه علمه في قبل وتجدد علمه إياه. وقرأه حمزة والكسائي بهمزة وصل على أنه من كلام

٥١٠

الله تعالى ، وكان الظاهر أن يكون معطوفا على (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ) لكنّه ترك عطفه لأنّه جعل كالنتيجة للاستدلال بقوله : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) الآية.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠))

معطوف على قوله : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) [البقرة : ٢٥٩] ، فهو مثال ثالث لقضية قوله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٢٥٧] الآية ومثال ثان لقضية (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) فالتقدير : أو هو كإبراهيم إذ قال رب أرني إلخ. فإنّ إبراهيم لفرط محبته الوصول إلى مرتبة المعاينة في دليل البعث رام الانتقال من العلم النظري البرهاني ، إلى العلم الضروري ، فسأل الله أن يريه إحياء الموتى بالمحسوس.

وانتصب (كَيْفَ) هنا على الحال مجردة عن الاستفهام ، كانتصابها في قوله تعالى:(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) [آل عمران : ٦].

وقوله : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) الواو فيه واو الحال ، والهمزة استفهام تقريري على هذه الحالة ، وعامل الحال فعل مقدر دل عليه قوله : (أَرِنِي) والتقدير : أأريك في حال أنّك لم تؤمن ، وهو تقرير مجازي مراد به لفت عقله إلى دفع هواجس الشك ، فقوله : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) كلام صدر عن اختباره يقينه وإلفائه سالما من الشك.

وقوله : (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) معناه لينبت ويتحقّق علمي وينتقل من معالجة الفكر والنظر إلى بساطة الضرورة بيقين المشاهدة وانكشاف المعلوم انكشافا لا يحتاج إلى معاودة الاستدلال ودفع الشبه عن العقل ، وذلك أنّ حقيقة يطمئن يسكن ، ومصدره الاطمئنان ، واسم المصدر الطّمأنينة ، فهو حقيقة في سكون الأجسام ،. وإطلاقه على استقرار العلم في النفس وانتفاء معالجة الاستدلال أصله مجاز بتشبيه التردّد وعلاج الاستدلال بالاضطراب والحركة ، وشاع ذلك المجاز حتى صار مساويا للحقيقة ، يقال اطمأنّ باله واطمأنّ قلبه.

والأظهر أنّ اطمأن وزنه افعلل وأنّه لا قلب فيه ، فالهمزة فيه هي لام الكلمة والميم عين الكلمة ، وهذا قول أبي عمرو وهو البيّن إذ لا داعي إلى القلب ، فإنّ وقوع الهمزة لا ما أكثر وأخف من وقوعها عينا ، وذهب سيبويه إلى أنّ اطأمنّ مقلوب وأصله اطمأنّ وقد سمع طمأنته وطأمنته وأكثر الاستعمال على تقديم الميم على الهمزة ، والذي أوجب

٥١١

الخلاف عدم سماع المجرد منه إذ لم يسمع طمن.

والقلب مراد به العلم إذ القلب لا يضطرب عند الشك ولا يتحرك عند إقامة الدليل وإنّما ذلك للفكر ، وأراد بالاطمئنان العلم المحسوس وانشراح النفس به وقد دلّه الله على طريقة يرى بها إحياء الموتى رأي العين.

وقوله : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) اعلم أنّ الطير يطلق على الواحد مرادفا لطائر ؛ فإنّه من التسمية بالمصدر وأصلها وصف فأصلها الوحدة ، ولا شك في هذا الإطلاق ، وهو قول أبي عبيدة والأزهري وقطرب ولا وجه للتردّد فيه ، ويطلق على وجمعه أيضا وهو اسم جمع طائر كصحب وصاحب ، وذلك أنّ أصله المصدر والمصدر يجري على الواحد وعلى الجمع.

وجيء بمن للتبعيض لدلالة على أنّ الأربعة مختلفة الأنواع ، والظاهر أنّ حكمة التعدّد والاختلاف زيادة في تحقّق أنّ الإحياء لم يكن أهون في بعض الأنواع دون بعض ، فلذلك عدّدت الأنواع ، ولعلّ جعلها أربعة ليكون وضعها على الجهات الأربع : المشرق والمغرب والجنوب والشمال لئلّا يظنّ لبعض الجهات مزيد اختصاص بتأتي الإحياء ، ويجوز أنّ المراد بالأربعة أربعة أجزاء من طير واحد فتكون اللام للعهد إشارة إلى طير حاضر ، أي خذ أربعة من أجزائه ثم ادعهنّ ، والسعي من أنواع المشي لا من أنواع الطيران ، فجعل ذلك آية على أنّهنّ أعيدت إليهن حياة مخالفة للحياة السابقة ، لئلا يظن أنّهن لم يمتن تماما.

وذكر كل جبل يدل على أنّه أمر بجعل كل جزء من أجزاء الطير على جبل لأنّ وضعها على الجبال تقوية لتفرق تلك الأجزاء ؛ فإنها فرقت بالفصل من أجسادها وبوضعها في أمكنة متباعدة وعسرة التناول.

والجبل قطعة عظيمة من الأرض ذات حجارة وتراب ناتئة تلك القطعة من الأرض المستوية ، وفي الأرض جبال كثيرة متفاوتة الارتفاع ، وفي بعضها مساكن للبشر مثل جبال طيّئ ، وبعضها تعتصم به الناس من العدوّ كما قال السّموأل :

لنا جبل يحتلّه من نجيره

منيع يردّ الطّرف وهو كليل

ومعنى (فَصُرْهُنَ) أدنهن أو أيلهن يقال صاره يصوره ويصيره بمعنى وهو لفظ عربي على الأصح وقيل معرب ، فعن عكرمة أنّه نبطي ، وعن قتادة هو حبشي ، وعن وهب هو

٥١٢

رومي ، وفائدة الأمر بإدنائها أن يتأمل أحوالها حتى يعلم بعد إحيائها أنّها لم ينتقل جزء منها عن موضعه.

وقوله : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) عطف على محذوف دلّ عليه قوله (جُزْءاً) لأن تجزئتهن إنّما تقع بعد الذبح. فالتقدير فاذبحهن ثم اجعل إلخ.

وقرأ الجمهور (فَصُرْهُنَ) ـ بضم الصاد وسكون الراء ـ من صاره يصوره ، وقرأ حمزة وأبو جعفر وخلف ورويس عن يعقوب (فَصُرْهُنَ) ـ بكسر الصاد ـ من صار يصير لغة في هذا الفعل.

وقرأ الجمهور (جُزْءاً) ـ بسكون الزاي ـ وقرأه أبو بكر عن عاصم بضم الزاي ، وهما لغتان.

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢))

عود إلى التحريض على الإنفاق في سبيل الله ، فهذا المثل راجع إلى قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٢٥٤]. وهو استئناف بياني لأنّ قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) [البقرة : ٢٥٤] الآية يثير في نفوس السامعين الاستشراف لما يلقاه المنفق في سبيل الله يومئذ بعد أن أعقب بدلائل ومواعظ وعبر وقد تهيّأت نفوس السامعين إلى التمحّض لهذا المقصود فأطيل الكلام فيه إطالة تناسب أهميته.

وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) تشبيه حال جزائهم وبركتهم ، والصلة مؤذنة بأنّ المراد خصوص حال إنفاقهم بتقدير مثل نفقة الدين. وقد شبه حال إعطاء النفقة ومصادفتها موقعها وما أعطي من الثواب لهم بحال حبّة أنبتت سبع سنابل إلخ ، أي زرعت في أرض نقية وتراب طيّب وأصابها الغيث فأنبتت سبع سنابل. وحذف ذلك كله إيجازا لظهور أنّ الحبّة لا تنبت ذلك إلّا كذلك ، فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس والمشبه به هيئة معلومة ، وجعل أصل التمثيل في التضعيف حبّة لأنّ تضعيفها من ذاتها لا بشيء يزاد عليها ، وقد شاع تشبيه المعروف بالزرع وتشبيه الساعي بالزارع ، وفي المثل «رب ساع لقاعد وزارع غير حاصد». ولما كانت المضاعفة تنسب إلى أصل

٥١٣

وحدة ، فأصل الوحدة هنا هي ما يثيب الله به على الحسنات الصغيرة ، أي ما يقع ثوابا على أقلّ الحسنات كمن همّ بحسنة فلم يعملها ، فإنّه في حسنة الإنفاق في سبيل الله يكون سبعمائة ضعف.

قال الواحدي في أسباب النزول وغيره : إنّ هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف ؛ ذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك حث الناس على الإنفاق في سبيل الله. وكان الجيش يومئذ بحاجة إلى الجهاز ـ وهو جيش العسرة ـ فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف ، وقال عثمان بن عفان : «عليّ جهاز من لا جهاز له» فجهّز الجيش بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وقيل جاء بألف دينار ذهبا فصبّها في حجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومعنى قوله : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) أنّ المضاعفة درجات كثيرة لا يعلمها إلّا الله تعالى ؛ لأنّها تترتّب على أحوال المتصدّق وأحوال المتصدّق عليه وأوقات ذلك وأماكنه. وللإخلاص وقصد الامتثال ومحبة الخير للناس والإيثار على النفس وغير ذلك مما يحفّ بالصدقة والإنفاق ، تأثير في تضعيف الأجر ، والله واسع عليم.

وأعاد قوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) إظهارا للاهتمام بهذه الصلة. وقوله : (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ) جاء في عطفه بشم مع أنّ الظاهر أن يعطف بالواو ، قال في «الكشاف» : «لإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى ، وإنّ تركهما خير من نفس الإنفاق» ؛ يعني أنّ ثم للترتيب الرتبي لا للمهلة الزمنية ترفيعا لرتبة ترك المنّ والأذى على رتبة الصدقة ؛ لأنّ العطاء قد يصدر عن كرم النفس وحبّ المحمدة فللنفوس حظّ فيه مع حظّ المعطى ، بخلاف ترك المنّ والأذى فلا حظ فيه لنفس المعطي ؛ فإنّ الأكثر يميلون إلى التبجّح والتطاول على المعطى ، فالمهلة في (ثم) هنا مجازية ؛ إذ شبّه حصول الشيء المهم ـ في عزّة حصوله ـ بحصول الشيء المتأخّر زمنه ، وكأنّ الذي دعا الزمخشري إلى هذا أنّه رأى معنى المهلة هنا غير مراد لأنّ المراد حصول الإنفاق وترك المنّ معا.

والمنّ أصله الإنعام والفضل ، يقال منّ عليه منّا ، ثم أطلق على عدّ الإنعام على المنعم عليه ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦] ، وهو إذا ذكر بعد الصدقة والعطاء تعيّن للمعنى الثاني.

وإنّما يكون المنّ في الإنفاق في سبيل الله بالتطاول على المسلمين والرياء بالإنفاق ، وبالتطاول على المجاهدين الذين يجهّزهم أو يحملهم ، وليس من المنّ التمدّح بمواقف

٥١٤

المجاهد في الجهاد أو بمواقف قومه ، فقد قال الحريش بن هلال القريعي يذكر خيله في غزوة فتح مكة ويوم حنين :

شهدن مع النبي مسوّمات

حنينا وهي دامية الحوامي

ووقعة خالد شهدت وحكّت

سنابكها على البلد الحرام

وقال عباس بن مرداس يتمدّح بمواقع قومه في غزوة حنين :

حتّى إذا قال النبي محمد

أبني سليم قد وفيتم فأرجعوا

عدنا ولو لا نحن أحدق جمعهم

بالمسلمين وأحرزوا ما جمّعوا

والأذى هو أن يؤذي المنفق من أنفق عليه بإساءة في القول أو في الفعل قال النابغة :

عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة

لوالده ليست بذات عقارب

فالمقصد الشرعي أن يكون إنفاق المنفق في سبيل الله مرادا به نصر الدين ولا حظّ للنفس فيه ، فذلك هو أعلى درجات الإنفاق وهو الموعود عليه بهذا الأجر الجزيل ، ودون ذلك مراتب كثيرة تتفاوت أحوالها.

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤))

تخلّص من غرض التنويه بالإنفاق في سبيل الله إلى التنويه بضرب آخر من الإنفاق وهو الإنفاق على المحاويج من الناس ، وهو الصدقات. ولم يتقدم ذكر للصدقة إلّا أنّها تخطر بالبال عند ذكر الإنفاق في سبيل الله ، فلما وصف الإنفاق في سبيل الله بصفة الإخلاص لله فيه بقوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا) [البقرة : ٢٦٢] الآية انتقل بمناسبة ذلك إلى طرد ذلك الوصف في الإنفاق على المحتاجين ؛ فإنّ المنّ والأذى في الصدقة أكثر حصولا لكون الصدقة متعلّقة بأشخاص معيّنين ، بخلاف الإنفاق في سبيل الله فإن أكثر من تنالهم النفقة لا يعلمهم المنفق.

فالمنّ على المتصدّق عليه هو تذكيره بالنعمة كما تقدم آنفا.

٥١٥

ومن فقرات الزمخشري في «الكلم النّوابغ» : «طعم الآلاء أحلى من المنّ. وهو أمرّ من الآلاء عند المنّ» الآلاء الأول النعم والآلاء الثاني شجر مر الورق ، والمنّ الأول شيء شبه العسل يقع كالنّدى على بعض شجر بادية سينا وهو الذي في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى) [البقرة : ٥٧] ، والمنّ الثاني تذكير المنعم عليه بالنعمة.

والأذى الإساءة والضرّ القليل للمنعم عليه قال تعالى : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) [آل عمران : ١١١] ، والمراد به الأذى الصريح من المنعم للمنعم عليه كالتطاول عليه بأنّه أعطاه ، أو أن يتكبّر عليه لأجل العطاء ، بله تعييره بالفقر ، وهو غير الأذى الذي يحصل عند المن. وأشار أبو حامد الغزالي في كتاب الزكاة من «الإحياء» إلى أنّ المنّ له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته ، ثم تتفرّع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح. ومنبع الأذى أمران : كراهية المعطي إعطاء ماله وشدّة ذلك على نفسه ورؤيته أنّه خير من الفقير ، وكلاهما منشؤه الجهل ؛ فإنّ كراهية تسليم المال حمق لأنّ من بذل المال لطلب رضا الله والثواب فقد علم أنّ ما حصل له من بذل المال أشرف ممّا بذله ، وظنه أنّه خير من الفقير جهل بخطر الغنى ، أي أنّ مراتب الناس بما تتفاوت به نفوسهم من التزكية لا بعوارض الغنى والفقر التي لا تنشأ عن درجات الكمال النفساني.

ولما حذّر الله المتصدّق من أن يؤذي المتصدّق عليه علم أنّ التحذير من الإضرار به كشتمه وضربه حاصل بفحوى الخطاب لأنّه أولى بالنهي.

أوسع الله تعالى هذا المقام بيانا وترغيبا وزجرا بأساليب مختلفة وتفنّنات بديعة فنبّهنا بذلك إلى شدّة عناية الإسلام بالإنفاق في وجوه البرّ والمعونة.

وكيف لا تكون كذلك وقوام الأمة دوران أموالها بينها ، وإنّ من أكبر مقاصد الشريعة الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة بين رعي المنفعة العامة ورعي الوجدان الخاص ، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كدّ لجمع المال وكسبه ، ومراعاة الإحسان للذي بطّأ به جهده ، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية. ولقد كان مقدار الإصابة والخطإ فيه هو ميزان ارتقاء الأمم وتدهورها ، ولا تجد شريعة ظهرت ولا دعاة خير دعوا إلّا وهم يجعلون لتنويل أفراد الأمة حظا من الأموال التي بين أيدي أهل الثروة وموضعا عظيما من تشريعهم أو دعوتهم ، إلّا أنّهم في ذلك متفاوتون بين مقارب ومقصّر أو آمل ومدبّر ، غير أنّك لا تجد شريعة سدّدت السهم لهذا الغرض. وعرفت كيف تفرق بين المستحبّ فيه والمفترض. ومثل هذه الشريعة المباركة ، فإنّها قد تصرّفت في

٥١٦

نظام الثروة العامة تصرّفا عجيبا أقامته على قاعدة توزيع الثروة بين أفراد الأمة ، وذلك بكفاية المحتاج من الأمة مئونة حاجته ، على وجوه لا تحرم المكتسب للمال فائدة اكتسابه وانتفاعه به قبل كل أحد.

فأول ما ابتدأت به تأمين ثقة المكتسب ـ بالأمن على ماله ـ من أن ينتزعه منه منتزع إذ قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [النساء : ٢٩] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في خطبة حجة الوداع : «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» ، سمع ذلك منه مائة ألف نفس أو يزيدون وتناقلوه في آفاق الإسلام حتى بلغ مبلغ التواتر ، فكان من قواعد التشريع العامة قاعدة حفظ الأموال لا يستطيع مسلم إبطالها.

وقد أتبعت إعلان هذه الثقة بحفظ الأموال بتفاريع الأحكام المتعلّقة بالمعاملات والتوثيقات ، كمشروعية الرهن في السلف والتوثّق بالإشهاد كما تصرّح به الآيات الآتية وما سوى ذلك من نصوص الشريعة تنصيصا واستنباطا.

ثم أشارت إلى أنّ من مقاصدها ألّا تبقى الأموال متنقّلة في جهة واحدة أو عائلة أو قبيلة من الأمة بل المقصد دورانها بقوله تعالى في آية الفيء : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) [الحشر : ٧] ، فضمير يكون عائد إلى ما أفاء الله باعتبار كونه مالا أي كيلا يكون المال دولة. والدّولة ما يتداوله الناس من المال ، أي شرعنا صرفه لمن سمّيناهم دون أن يكون لأهل الجيش حق فيه ، لينال الفقراء منه حظوظهم فيصبحوا أغنياء فلا يكون مدالا بين طائفة الأغنياء كما كانوا في الجاهلية يأخذ قادتهم المرباع ويأخذ الغزاة ثلاثة الأرباع فيبقى المال كله لطائفة خاصة.

ثم عمدت إلى الانتزاع من هذا المال انتزاعا منظّما فجعلت منه انتزاعا جبريا بعضه في حياة صاحب المال وبعضه بعد موته. فأما الذي في حياته فهو الصدقات الواجبة ، ومنها الزكاة ، وهي في غالب الأحوال عشر المملوكات أو نصف عشرها أو ربع عشرها. وقد بيّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجه تشريعها بقوله لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن «إن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم» ، وجعل توزيع ما يتحصّل من هذا المال لإقامة مصالح الناس وكفاية مؤن الضعفاء منهم ، فصاروا بذلك ذوي حق في أموال الأغنياء ، غير مهينين ولا مهدّدين بالمنع والقساوة. والتفت إلى الأغنياء فوعدهم على هذا

٥١٧

العطاء بأفضل ما وعد به المحسنون ، من تسميته قرضا لله تعالى ، ومن توفير ثوابه ، كما جاءت به الآيات التي نحن بصدد تفسيرها.

ويلحق بهذا النوع أخذ الخمس من الغنيمة مع أنّها حق المحاربين ، فانتزع منهم ذلك وقال لهم : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) ـ إلى قوله ـ (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) [الأنفال : ٤١] فحرضهم على الرضا بذلك ، ولا شك أنّه انتزعه من أيدي الذين اكتسبوه بسيوفهم ورماحهم. وكذلك يلحق به النفقات الواجبة غير نفقة الزوجة لأنّها غير منظور فيها إلى الانتزاع إذ هي في مقابلة تألّف العائلة ، ولا نفقة الأولاد كذلك لأنّ الداعي إليها جبليّ. أما نفقة غير البنين عند من يوجب نفقة القرابة فهي من قسم الانتزاع الواجب ، ومن الانتزاع الواجب الكفارات في حنث اليمين ، وفطر رمضان ، والظهار ، والإيلاء ، وجزاء الصيد. فهذا توزيع بعض مال الحي في حياته.

وأما توزيع المال بعد وفاة صاحبه فذلك ببيان فرائض الإرث على وجه لا يقبل الزيادة والنقصان. وقد كان العرب يعطون أموالهم لمن يحبّون من أجنبي أو قريب كما قدمنا بيانه في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) [١٨٠] ، وكان بعض الأمم يجعل الإرث للأكبر.

وجعل توزيع هذه الفرائض على وجه الرحمة بالناس أصحاب الأموال ، فلم تعط أموالهم إلّا لأقرب الناس إليهم ، وكان توزيعه بحسب القرب كما هو معروف في مسائل الحجب من الفرائض ، وبحسب الأحوجية إلى المال ، كتفضيل الذكر على الأنثى لأنّه يعول غيره والأنثى يعولها غيرها. والتفت في هذا الباب إلى أصحاب الأموال فترك لهم حقّ التصرّف في ثلث أموالهم يعينون من يأخذه بعد موتهم على شرط ألّا يكون وارثا ، حتى لا يتوسلوا بذلك إلى تنفيل وارث على غيره.

وجعلت الشريعة من الانتزاع انتزاعا مندوبا إليه غير واجب ، وذلك أنواع المواساة بالصدقات والعطايا والهدايا والوصايا وإسلاف المعسر بدون مراباة وليس في الشريعة انتزاع أعيان المملوكات من الأصول فالانتزاع لا يعدو انتزاع الفوائد بالعدالة والمساواة.

وجملة (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) إلى آخرها مستأنفة استئنافا بيانيا. وتنكير (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) للتقليل ، أي أقلّ قول معروف خير من صدقة يتبعها أذى. والمعروف هو الذي يعرفه الناس ، أي لا ينكرونه. فالمراد به القول الحسن وهو ضدّ الأذى.

٥١٨

والمغفرة هنا يراد بها التجاوز عن الإساءة أي تجاوز المتصدق عن الملحّ أو الجافي في سؤاله إلحاحه أو جفاءه مثل الذي يسأل فيقول : أعطني حقّ الله الذي عندك أو نحو ذلك ، ويراد بها أيضا تجاوز الله تعالى عن الذنوب بسبب تلك الصدقة إذا كان معها قول معروف ، وفي هذا تعريض بأنّ الأذى يوشك أن يبطل ثواب الصدقة.

وقوله : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) تذييل للتذكير بصفتين من صفات الله تعالى ليتخلّق بهما المؤمنون وهما : الغنى الراجع إليه الترفّع عن مقابلة العطية بما يبرد غليل شحّ نفس المعطي ، والحلم الراجع إليه العفو والصفح عن رعونة بعض العفاة.

والإبطال جعل الشيء باطلا أي زائلا غير نافع لما أريد منه. فمعنى بطلان العمل عدم ترتّب أثره الشرعي عليه سواء كان العمل واجبا أم كان متطوّعا به ، فإن كان العمل واجبا فبطلانه عدم إجزائه بحيث لا تبرأ ذمة المكلّف من تكليفه بذلك العمل وذلك إذا اختلّ ركن أو شرط من العمل. وإن كان العمل متطوّعا به رجع البطلان إلى عدم الثواب على العمل لمانع شرعي من اعتبار ثوابه وهو المراد هنا جمعا بين أدلة الشريعة.

وقوله : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) الكاف ظرف مستقر هو حال من ضمير تبطلوا ، أي لا تكونوا في اتباع صدقاتكم بالمنّ والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس وهو كافر لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وإنّما يعطي ليراه الناس وذلك عطاء أهل الجاهلية.

فالموصول من قوله : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ) مراد به جنس وليس مراد به جنس وليس مراد به معيّنا ولا واحدا ، والغرض من هذا التشبيه تفظيع المشبّه به وليس المراد المماثلة في الحكم الشرعي ، جمعا بين الأدلة الشرعية.

والرئاء ـ بهمزتين ـ فعال من رأى ، وهو أن يكثر من إظهار أعماله الحسنة للناس ، فصيغة الفعال فيه للمبالغة والكثرة ، وأولى الهمزتين أصلية والأخيرة مبدلة عن الياء بعد الألف الزائدة ، ويقال رياء ـ بياء بعد الراء ـ على إبدال الهمزة ياء بعد الكسرة.

والمعنى تشبيه بعض المتصدّقين المسلمين الذين يتصدّقون طلبا للثواب ويعقبون صدقاتهم بالمنّ والأذى ، بالمنفقين الكافرين الذين ينفقون أموالهم لا يطلبون من إنفاقها إلّا الرئاء والمدحة ـ إذ هم لا يتطلّبون أجر الآخرة ـ.

ووجه الشبه عدم الانتفاع ممّا أعطوا بأزيد من شفاء ما في صدورهم من حبّ التطاول على الضعفاء وشفاء خلق الأذى المتطبعين عليه دون نفع في الآخرة.

٥١٩

ومثّل حال الذي ينفق ماله رئاء الناس المشبه به ـ تمثيلا يسري إلى الذين يتبعون صدقاتهم بالمنّ والأذى بقوله : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) إلخ ـ وضمير مثله عائد إلى الذي ينفق ماله رئاء للناس ، لأنّه لما كان تمثيلا لحال المشبّه به كان لا محالة تمثيلا لحال المشبّه ، ففي الكلام ثلاثة تشبيهات.

مثّل حال الكافر الذي ينفق ماله رئاء الناس بحال صفوان عليه تراب يغشيه ، يعني يخاله الناظر تربة كريمة صالحة للبذر ، فتقدير الكلام عليه تراب صالح للزرع فحذفت صفة التراب إيجازا اعتمادا على أنّ التراب الذي يرقب الناس أن يصيبه الوابل هو التراب الذي يبذرون فيه ، فإذا زرعه الزارع وأصابه وابل وطمع الزارع في زكاء زرعه ، جرفه الماء من وجه الصفوان فلم يترك منه شيئا وبقي مكانه صلدا أملس فخاب أمل زارعه.

وهذا أحسن وأدقّ من أن نجعل المعنى تمثيل إنفاق الكافر بحال تراب على صفوان أصابه وابل فجرفه ، وأنّ وجه الشبه هو سرعة الزوال وعدم القرار كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [إبراهيم : ١٨] فإنّ مورد تلك الآية مقام آخر.

ولك (١) أن تجعل كاف التشبيه في قوله تعالى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ) صفة لمصدر محذوف دل عليه ما في لفظ صدقاتهم من معنى الإنفاق وحذف مضاف بين الكاف وبين اسم الموصول ، والتقدير إنفاقا كإنفاق الذي ينفق ماله رئاء الناس.

وقد روعي في هذا التمثيل عكس التمثيل لمن ينفق ماله في سبيل الله بحبّة أغلّت سبعمائة حبّة.

فالتشبيه تشبيه مركب معقول بمركب محسوس. ووجه الشبه الأمل في حالة تغر بالنفع

ثم لا تلبث ألّا تأتي لآملها بما أمّله فخاب أمله. ذلك أنّ المؤمنين لا يخلون من رجاء حصول الثواب لهم من صدقاتهم ، ويكثر أن تعرض الغفلة للمتصدّق فيتبع صدقته بالمنّ والأذى اندفاعا مع خواطر خبيثة.

وقوله : (لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) أوقع موقعا بديعا من نظم الكلام تنهال به معان كثيرة فهو بموقعه كان صالحا لأن يكون حالا من الذي ينفق ماله رئاء الناس

__________________

(١) هذا مقابل قولنا في الصفحة السابقة «هو حال من ضمير تبطلوا».

٥٢٠