تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

المنفق في سبيل الله ، والتقتير على البخيل. وفي الحديث «اللهم أعط منفقا خلفا وممسكا تلفا» وفي ابن عطية عن الحلواني عن قالون عن نافع «أنه لا يبالي كيف قرأ يبسط وبسطه بالسين أو بالصاد» أي لأنهما لغتان مثل الصراط والسراط ، والأصل هو السين ، ولكنها قلبت صادا في بصطه ويبصط لوجود الطاء بعدها ، ومخرجها بعيد عن مخرج السين ؛ لأن الانتقال من السين إلى الطاء ثقيل بخلاف الصاد.

وقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) خبر مستعمل في التنبيه والتذكير بأن ما أعد لهم في الآخرة من الجزاء على الإنفاق في سبيل الله أعظم مما وعدوا به من الخير في الدنيا ، وفيه تعريض بأن الممسك البخيل عن الإنفاق في سبيل الله محروم من خير كثير.

روي أنه لما نزلت الآية جاء أبو الدحداح إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال : «أو أنّ الله يريد منا القرض؟ قال : نعم يا أبا الدحداح ، قال : أرني يدك» فناوله يده فقال : «فإني أقرضت الله حائطا فيه ستمائة نخلة» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كم من عذق رداح ودار فساح في الجنة لأبي الدحداح».

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦))

جملة : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) استئناف ثان من جملة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣] سيق مساق الاستدلال لجملة (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ١٩٠] وفيها زيادة تأكيد لفظاعة حال التقاعس عن القتال بعد التهيؤ له في سبيل الله ، والتكرير في مثله يفيد مزيد تحذير وتعريض بالتوبيخ ؛ فإن المأمورين بالجهاد في قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) لا يخلون من نفر تعتريهم هواجس تثبطهم عن القتال ، حبا للحياة ومن نفر تعترضهم خواطر تهون عليهم الموت عند مشاهدة أكدار الحياة ، ومصائب المذلة ، فضرب الله لهذين الحالين مثلين : أحدهما ما تقدم في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) والثاني قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) وقد قدم أحدهما وأخر الآخر ليقع التحريض على القتال بينهما.

ومناسبة تقديم الأولى أنها تشنع حال الذين استسلموا واستضعفوا أنفسهم ، فخرجوا

٤٦١

من ديارهم مع كثرتهم ، وهذه الحالة أنسب بأن تقدم بين يدي الأمر بالقتال والدفاع عن البيضة ؛ لأن الأمر بذلك بعدها يقع موقع القبول من السامعين لا محالة ، ومناسبة تأخير الثانية أنها تمثيل حال الذين عرفوا فائدة القتال في سبيل الله لقولهم : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) إلخ. فسألوه دون أن يفرض عليهم فلما عين لهم القتال نكصوا على أعقابهم ، وموضع العبرة هو التحذير من الوقوع في مثل حالهم بعد الشروع في القتال أو بعد كتبه عليهم ، فلله بلاغة هذا الكلام ، وبراعة هذا الأسلوب تقديما وتأخيرا. وتقدم القول على (أَلَمْ تَرَ) [البقرة : ٢٤٣] في الآية قبل هذه.

والملأ : الجماعة الذين أمرهم واحد ، وهو اسم جمع كالقوم والرهط ، وكأنه مشتق من الملء وهو تعمير الوعاء بالماء ونحوه ، وأنه مؤذن بالتشاور لقولهم : تمالأ القوم إذا اتفقوا على شيء والكل مأخوذ من ملء الماء ؛ فإنهم كانوا يملئون قربهم وأوعيتهم كل مساء عند الورد ، فإذا ملأ أحد لآخر فقد كفاه شيئا مهما ؛ لأن الماء قوام الحياة ، فضربوا ذلك مثلا للتعاون على الأمر النافع الذي به قوام الحياة والتمثيل بأحوال الماء في مثل هذا منه قول علي «اللهم عليك بقريش فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفئوا إنائي» تمثيلا لإضاعتهم حقه.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ مُوسى) إعلام بأن أصحاب هذه القصة كانوا مع نبيء بعد موسى ، فإن زمان موسى لم يكن فيه نصب ملوك على بني إسرائيل وكأنه إشارة إلى أنهم أضاعوا الانتفاع بالزمن الذي كان فيه رسولهم بين ظهرانيهم ، فكانوا يقولون : اذهب أنت وربك فقاتلا ، وكان النصر لهم معه أرجى لهم ببركة رسولهم ، والمقصود التعريض بتحذير المسلمين من الاختلاف على رسولهم.

وتنكير نبيء لهم للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي فلا حاجة إلى تعيينه ، وإنما المقصود حال القوم وهذا دأب القرآن في قصصه ، وهذا النبي هو صمويل وهو بالعربية شمويل بالشين المعجمة ولذلك لم يقل : إذ قالوا لنبيهم ، إذ لم يكن هذا النبي معهودا عند السامعين حتى يعرف لهم بالإضافة.

وفي قوله : (لِنَبِيٍّ لَهُمُ) تأييد لقول علماء النحو إن أصل الإضافة أن تكون على تقدير لام الجر ، ومعنى (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) عين لنا ملكا ؛ وذلك أنه لما لم يكن فيهم ملك في حالة الحاجة إلى ملك فكأن الملك غائب عنهم ، وكأن حالهم يستدعي حضوره فإذا عين لهم شخص ملكا فكأنه كان غائبا عنهم فبعث أي أرسل إليهم ، أو هو مستعار من

٤٦٢

بعث البعير أي إنهاضه للمشي.

وقوله : (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) الآية ، استفهام تقريري وتحذير ، فقوله : (أَلَّا تُقاتِلُوا) مستفهم عنه بهل وخبر لعسى متوقع ، ودليل على جواب الشرط (إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) وهذا من أبدع الإيجاز فقد حكى جملا كثيرة وقعت في كلام بينهم ، وذلك أنه قررهم على إضمارهم نية عدم القتال اختبارا وسبرا لمقدار عزمهم عليه ، ولذلك جاء في الاستفهام بالنفي فقال ما يؤدي معنى «هل لا تقاتلون» ولم يقل : هل تقاتلون ؛ لأن المستفهم عنه هو الطرف الراجح عند المستفهم ، وإن كان الطرف الآخر مقدرا ، وإذا خرج الاستفهام إلى معانيه المجازية كانت حاجة المتكلم إلى اختيار الطرف الراجح متأكدة. وتوقع منهم عدم القتال وحذرهم من عدم القتال إن فرض عليهم ، فجملة : (أَلَّا تُقاتِلُوا) يتنازع معناها كل من هل وعسى وإن ، وأعطيت لعسى ، فلذلك قرنت بإن ، وهي دليل للبقية فيقدر لكل عامل ما يقتضيه. والمقصود من هذا الكلام التحريض لأن ذا الهمة يأنف من نسبته إلى التقصير ، فإذا سجل ذلك عليه قبل وجود دواعيه كان على حذر من وقوعه في المستقبل ، كما يقول من يوصي غيره : افعل كذا وكذا وما أظنك تفعل.

وقرأ نافع وحده عسيتم بكسر السين على غير قياس ، وقرأه الجمهور بفتح السين وهما لغتان في عسى إذا اتصل بها ضمير المتكلم أو المخاطب ، وكأنهم قصدوا من كسر السين التخفيف بإماتة سكون الياء.

وقوله : (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ) جاءت واو العطف في حكاية قولهم ؛ إذ كان في كلامهم ما يفيد إرادة أن يكون جوابهم عن كلامه معطوفا على قولهم : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ما يؤدّى مثله بواو العطف فأرادوا تأكيد رغبتهم ، في تعيين ملك يدبر أمور القتال ، بأنهم ينكرون كل خاطر يخطر في نفوسهم من التثبيط عن القتال ، فجعلوا كلام نبيئهم بمنزلة كلام معترض في أثناء كلامهم الذي كملوه ، فما يحصل به جوابهم عن شك نبيهم في ثباتهم ، فكان نظم كلامهم على طريقة قوله تعالى حكاية عن الرسل : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران : ١٢٢] ، (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) [إبراهيم : ١٢].

و (ما) اسم استفهام بمعنى أي شيء واللام للاختصاص والاستفهام إنكاري وتعجبي من قول نبيهم : (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا) لأن شأن المتعجب منه أن يسأل عن سببه. واسم الاستفهام في موضع الابتداء ، و (لَنا) خبره ، ومعناه ما حصل لنا

٤٦٣

أو ما استقرّ لنا ، فاللام في قوله : (لَنا) لام الاختصاص و «أن» حرف مصدر واستقبال ، و (نُقاتِلْ) منصوب بأن ، ولما كان حرف المصدر يقتضي أن يكون الفعل بعده في تأويل المصدر ، فالمصدر المنسبك من أن وفعلها إما أن يجعل مجرورا بحرف جر مقدر قبل أن مناسب لتعلق (لا نقاتل) بالخبر ما لنا في ألا نقاتل أي انتفاء قتالنا أو ما لنا لألا نقاتل أي لأجل انتفاء قتالنا ، فيكون معنى الكلام إنكارهم أن يثبت لهم سبب يحملهم على تركهم القتال ، أو سبب لأجل تركهم القتال ، أي لا يكون لهم ذلك. وإما أن يجعل المصدر المنسبك بدلا من ضمير (لَنا) : بدل اشتمال ، والتقدير : ما لنا لتركنا القتال.

ومثل هذا النظم يجيء بأشكال خمسة : مثل (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ١١] (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) [يس : ٢٢] (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [الصافات : ١٥٤] فمالك والتلدد حول نجد (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء : ٨٨] ، والأكثر أن يكون ما بعد الاستفهام في موضع حال ، ولكن الإعراب يختلف ومآل المعنى متحد.

و «ما» مبتدأ و «لنا» خبره ، والمعنى : أي شيء كان لنا. وجملة «ألا نقاتل» حال وهي قيد للاستفهام الإنكاري ، أي لا يثبت لنا شيء في حالة تركنا القتال. وهذا كنظائره في قولك : ما لي لا أفعل أو ما لي أفعل ، فإن مصدرية مجرورة بحرف جر محذوف يقدر بفي أو لام الجر ، متعلق بما تعلق به (لَنا).

وجملة (وَقَدْ أُخْرِجْنا) حال معللة لوجه الإنكار ، أي إنهم في هذه الحال أبعد الناس عن ترك القتال ؛ لأن أسباب حب الحياة تضعف في حالة الضر والكدر بالإخراج من الديار والأبناء.

وعطف الأبناء على الديار لأن الإخراج يطلق على إبعاد الشيء من حيزه ، وعلى إبعاده من بين ما يصاحبه ، ولا حاجة إلى دعوى جعل الواو عاطفة عاملا محذوفا تقديره وأبعدنا عن أبنائنا.

وقوله : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا) إلخ. جملة معترضة ، وهي محل العبرة والموعظة لتحذير المسلمين من حال هؤلاء أن يتولوا عن القتال بعد أن أخرجهم المشركون من ديارهم وأبنائهم ، وبعد أن تمنوا قتال أعدائهم وفرضه الله عليهم والإشارة إلى ما حكاه الله عنهم بعد بقوله : (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [البقرة : ٢٤٩] إلخ.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) تذييل ، لأن فعلهم هذا من الظلم ؛ لأنهم لما طلبوا

٤٦٤

القتال خيلوا أنهم محبون له ثم نكصوا عنه. ومن أحسن التأديب قول الراجز :

من قال لا في حاجة

مسئولة فما ظلم

وإنما الظالم من

يقول لا بعد نعم

وهذه الآية أشارت إلى قصة عظيمة من تاريخ بني إسرائيل ، لما فيها من العلم والعبرة ، فإن القرآن يأتي بذكر الحوادث التاريخية تعليما للأمة بفوائد ما في التاريخ ، ويختار لذلك ما هو من تاريخ أهل الشرائع ، لأنه أقرب للغرض الذي جاء لأجله القرآن. هذه القصة هي حادث انتقال نظام حكومة بني إسرائيل من الصبغة الشورية ، المعبر عنها عندهم بعصر القضاة إلى الصبغة الملكية ، المعبر عنها بعصر الملوك وذلك أنه لما توفي موسى عليه‌السلام في حدود سنة ١٣٨٠ قبل الميلاد المسيحي ، خلفه في الأمة الإسرائيلية يوشع بن نون ، الذي عهد له موسى في آخر حياته بأن يخلفه فلما صار أمر بني إسرائيل إلى يوشع جعل لأسباط بني إسرائيل حكاما يسوسونهم ويقضون بينهم ، وسماهم القضاة فكانوا في مدن متعددة ، وكان من أولئك الحكام أنبياء ، وكان هنالك أنبياء غير حكام ، وكان كل سبط من بني إسرائيل يسيرون على ما يظهر لهم ، وكان من قضاتهم وأنبيائهم صمويل بن القانة ، من سبط أفرايم ، قاضيا لجميع بني إسرائيل ، وكان محبوبا عندهم ، فلما شاخ وكبر وقعت حروب بين بني إسرائيل والفلسطينيين وكانت سجالا بينهم ، ثم كان الانتصار للفلسطينيين ، فأخذوا بعض قرى بني إسرائيل حتى إن تابوت العهد ، الذي سيأتي الكلام عليه ، أسره الفلسطينيون ، وذهبوا به إلى (أشدود) بلادهم وبقي بأيديهم عدة أشهر ، فلما رأت بنو إسرائيل ما حل بهم من الهزيمة ، ظنوا أن سبب ذلك هو ضعف صمويل عن تدبير أمورهم ، وظنوا أن انتظام أمر الفلسطينيين ، لم يكن إلّا بسبب النظام الملكي ، وكانوا يومئذ يتوقعون هجوم ناحاش : ملك العمونيين عليهم أيضا ، فاجتمعت إسرائيل وأرسلوا عرفاءهم من كل مدينة ، وطلبوا من صمويل أن يقيم لهم ملكا يقاتل بهم في سبيل الله ، فاستاء صمويل من ذلك ، وحذرهم عواقب حكم الملوك «إن الملك يأخذ بينكم لخدمته وخدمة خيله ويتخذ منكم من يركض أمام مراكبه ، ويسخر منكم حراثين لحرثه ، وعملة لعدد حربه ، وأدوات مراكبه ، ويجعل بناتكم عطّارات وطباخات وخبازات ، ويصطفي من حقولكم ، وكرومكم ، وزياتينكم ، أجودها فيعطيها لعبيده ، ويتخذكم عبيدا ، فإذا صرختم بعد ذلك في وجه ملككم لا يستجيب الله لكم ، فقالوا : لا بد لنا من ملك لنكون مثل سائر الأمم ، وقال لهم : هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ)

٤٦٥

إلخ. وكان ذلك في أوائل القرن الحادي عشر قبل المسيح.

وقوله : (وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) يقتضي أن الفلسطينيين أخذوا بعض مدن بني إسرائيل ، وقد صرح بذلك إجمالا في الإصحاح السابع من سفر صمويل الأول ، وأنهم أسروا أبناءهم ، وأطلقوا كهولهم وشيوخهم ، وفي ذكر الإخراج من الديار والأبناء تلهيب للمهاجرين من المسلمين على مقاتلة المشركين الذين أخرجوهم من مكة ، وفرقوا بينهم وبين نسائهم ، وبينهم وبين أبنائهم ، كما قال تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) [النساء : ٧٥].

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧))

أعاد الفعل في قوله : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) للدلالة على أن كلامه هذا ليس من بقية كلامه الأول ، بل هو حديث آخر متأخر عنه وذلك أنه بعد أن حذرهم عواقب الحكومة الملكية وحذرهم التولي عن القتال ، تكلم معهم كلاما آخر في وقت آخر.

وتأكيد الخبر بإنّ إيذان بأن من شأن هذا الخبر أن يتلقى بالاستغراب والشك ، كما أنبأ عنه قولهم : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا).

ووقع في سفر صمويل في الإصحاح التاسع أنه لما صمم بنو إسرائيل في سؤالهم أن يعين لهم ملكا ، صلّى لله تعالى فأوحى الله إليه أن أجبهم إلى كل ما طلبوه ، فأجابهم وقال لهم : اذهبوا إلى مدنكم ، ثم أوحى الله إليه صفة الملك الذي سيعينه لهم ، وأنه لقيه رجل من بنيامين اسمه شاول بن قيس ، فوجد فيه الصفة وهي أنه أطول القوم ، ومسحه صمويل ملكا على إسرائيل ، إذ صب على رأسه زيتا ، وقبّله وجمع بني إسرائيل بعد أيام في بلد المصفاة وأحضره وعينه لهم ملكا ، وذلك سنة ١٠٩٥ قبل المسيح.

وهذا الملك هو الذي سمي في الآية طالوت وهو شاول وطالوت لقبه ، وهو وزن اسم مصدر من الطول ، على وزن فعلوت مثل جبروت وملكوت ورهبوت ورغبوت ورحموت ، ومنه طاغوت أصله طغيوت فوقع فيه قلب مكاني ، وطالوت وصف به للمبالغة في طول قامته ، ولعله جعل لقبا له في القرآن للإشارة إلى الصفة التي عرف بها لصمويل

٤٦٦

في الوحي الذي أوحى الله إليه كما تقدم ، ولمراعاة التنظير بينه وبين جالوت غريمه في الحرب ، أو كان ذلك لقبا له في قومه قبل أن يؤتى الملك ، وإنما يلقب بأمثال هذا اللقب من كان من العموم. ووزن فعلوت وزن نادر في العربية ولعله من بقايا العربية القديمة السامية ، وهذا هو الذي يؤذن به منعه من الصرف ، فإن منعه من الصرف لا علة له إلّا العلمية والعجمة ، وجزم الراغب بأنه اسم عجمي ولم يذكر في كتب اللغة لذلك ولعله عومل معاملة الاسم العجمي لمّا جعل علما على هذا العجمي في العربية ، فعجمته عارضة وليس هو عجميا بالأصالة ، لأنه لم يعرف هذا الاسم في لغة العبرانيين كداود وشاوول ، ويجوز أن يكون منعه من الصرف لمصيره بالإبدال إلى شبه وزن فاعول ، ووزن فاعول في الأعلام عجمي ، مثل هاروت وماروت وشاوول وداود ، ولذلك منعوا قابوس من الصرف ، ولم يعتدوا باشتقاقه من القبس ، وكأنّ عدول القرآن عن ذكره باسمه شاول لثقل هذا اللفظ وخفة طالوت.

وأنّى في قوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) بمعنى كيف ، وهو استفهام مستعمل في التعجب ، تعجبوا من جعل مثله ملكا ، وكان رجلا فلاحا من بيت حقير ، إلّا أنه كان شجاعا ، وكان أطول القوم ، ولما اختاره صمويل لذلك ، فتح الله عليه بالحكمة ، وتنبأ نبوءات كثيرة ، ورضيت به بعض إسرائيل ، وأباه بعضهم ، ففي سفر صمويل أن الذين لم يرضوا به هم بنو بليعال والقرآن ذكر أن بني إسرائيل قالوا : أنى يكون له الملك علينا وهو الحق ؛ لأنهم لا بد أن يكونوا قد ظنوا أن ملكهم سيكون من كبرائهم وقوادهم. والسر في اختيار نبيئهم لهم هذا الملك أنه أراد أن تبقى لهم حالتهم الشورية بقدر الإمكان ، فجعل ملكهم من عامتهم لا من سادتهم ، لتكون قدمه في الملك غير راسخة ، فلا يخشى منه أن يشتد في استعباد أمته ، لأن الملوك في ابتداء تأسيس الدول يكونون أقرب إلى الخير لأنهم لم يعتادوا عظمة الملك ولم ينسوا مساواتهم لأمثالهم ، وما يزالون يتوقعون الخلع ، ولهذا كانت الخلافة سنّة الإسلام ، وكانت الوراثة مبدأ الملك في الإسلام ، إذ عهد معاوية ابن أبي سفيان لابنه يزيد بالخلافة بعده ، والظن به أنه لم يكن يسعه يومئذ إلّا ذلك ؛ لأن شيعة بني أمية راغبون فيه ، ثم كانت قاعدة الوراثة للملك في دول الإسلام وهي من تقاليد الدول من أقدم عصور التاريخ ، وهي سنة سيئة ولهذا تجد مؤسسي الدول أفضل ملوك عائلاتهم ، وقواد بني إسرائيل لم يتفطنوا لهذه الحكمة لقصر أنظارهم ، وإنما نظروا إلى قلة جدته ، فتوهموا ذلك مانعا من تمليكه عليهم ، ولم يعلموا أن الاعتبار بالخلال النفسانية ، وأن الغنى غنى النفس لا وفرة المال وما ذا تجدي وفرته إذا لم يكن ينفقه في المصالح ،

٤٦٧

وقد قال الراجز :

قدني من نصر الخبيبين قدي

ليس الإمام بالشحيح الملحد

فقولهم : (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ) جملة حالية ، والضمير من المتكلمين ، وهم قادة بني إسرائيل وجعلوا الجملة حالا للدلالة على أنهم لما ذكروا أحقيتهم بالملك لم يحتاجوا إلى الاستدلال على ذلك ؛ لأن هذا الأمر عندهم مسلم معروف ، إذ هم قادة وعرفاء ، وشاوول رجل من السوقة ، فهذا تسجيل منهم بأرجحيتهم عليه ، وقوله : (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) معطوفة على جملة الحال فهي حال ثانية. وهذا إبداء مانع فيه من ولايته الملك في نظرهم ، وهو أنه فقير ، وشأن الملك أن يكون ذا مال ليكفي نوائب الأمة فينفق المال في العدد والعطاء وإغاثة الملهوف ، فكيف يستطيع من ليس بذي مال أن يكون ملكا ، وإنما قالوا هذا لقصورهم في معرفة سياسة الأمم ونظام الملك ؛ فإنهم رأوا الملوك المجاورين لهم في بذخة وسعة ، فظنوا ذلك من شروط الملك. ولذا أجابهم نبيئهم بقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) رادّا على قولهم : (وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) فإنهم استندوا إلى اصطفاء الجمهور إياهم فأجابهم بأنه أرجح منهم لأن الله اصطفاه ، وبقوله : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) رادا عليهم قولهم : (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) أي زاده عليكم بسطة في العلم والجسم ، فأعلمهم نبيئهم أن الصفات المحتاج إليها في سياسة أمر الأمة ترجع إلى أصالة الرأي وقوة البدن ؛ لأنه بالرأي يهتدي لمصالح الأمة ، لا سيما في وقت المضائق ، وعند تعذر الاستشارة أو عند خلاف أهل الشورى وبالقوة يستطيع الثبات في مواقع القتال فيكون بثباته ثبات نفوس الجيش.

وقدم النبي في كلامه العلم على القوة لأن وقعه أعظم ، قال أبو الطيب :

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أوّل وهي المحل الثاني

فالعلم المراد هنا ، هو علم تدبير الحرب وسياسة الأمة ، وقيل : هو علم النبوءة ، ولا يصح ذلك لأن طالوت لم يكن معدودا من أنبيائهم.

ولم يجبهم نبيئهم عن قوله : (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) اكتفاء بدلالة اقتصاره على قوله : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) فإنه ببسطة العلم وبالنصر يتوافر له المال ؛ لأن «المال تجلبه الرعية» كما قال أرسطاطاليس ، ولأن الملك ولو كان ذا ثروة ، فثروته لا تكفي لإقامة أمور المملكة ولهذا لم يكن من شرط ولاة الأمور من الخليفة فما دونه أن يكون ذا سعة ، وقد ولي على الأمة أبو بكر وعمر وعلي ولم يكونوا ذوي يسار ، وغنى الأمة في

٤٦٨

بيت مالها ومنه تقوم مصالحها ، وأرزاق ولاة أمورها.

والبسطة اسم من البسط وهو السعة والانتشار ، فالبسطة الوفرة والقوة من الشيء ، وسيجيء كلام عليها عند قوله تعالى : (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ) في الأعراف [٦٩].

وقوله : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) يحتمل أن يكون من كلام النبي ، فيكون قد رجع بهم إلى التسليم إلى أمر الله ، بعد أن بين لهم شيئا من حكمة الله في ذلك. ويحتمل أن يكون تذييلا للقصة من كلام الله تعالى ، وكذلك قوله : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨))

أراد نبيئهم أن يتحداهم بمعجزة تدل على أن الله تعالى اختار لهم شاوول ملكا ، فجعل لهم آية تدل على ذلك وهي أن يأتيهم التابوت ، أي تابوت العهد ، بعد أن كان في يد الفلسطينيين كما تقدم ، وهذا إشارة إلى قصة تيسير الله تعالى إرجاع التابوت إلى بني إسرائيل بدون قتال ، وذلك أن الفلسطينيين أرجعوا التابوت إلى بني إسرائيل في قصة ذكرت في سفر صمويل ، حاصلها أن التابوت بقي سبعة أشهر في بلاد فلسطين موضوعا في بيت صنمهم داجون ورأى الفلسطينيون آيات من سقوط صنمهم على وجهه ، وانكسار يديه ورأسه ، وإصابتهم بالبواسير في أشدود وتخومها ، وسلطت عليهم الجرذان تفسد الزروع ، فلما رأوا ذلك استشاروا الكهنة ، فأشاروا عليهم بإلهام من الله بإرجاعه إلى إسرائيل لأن إله إسرائيل قد غضب لتابوته وأن يرجعوه مصحوبا بهدية : صورة خمس بواسير من ذهب ، وصورة خمس فيران من ذهب ، على عدد مدن الفلسطينيين العظيمة : أشدود ، وغزة ، واشقلون ، وجت ، وعفرون. ويوضع التابوت على عجلة جديدة تجرها بقرتان ومعه صندوق به التماثيل الذهبية ، ويطلقون البقرتين تذهبان بإلهام إلى أرض إسرائيل ، ففعلوا واهتدت البقرتان إلى أن بلغ التابوت والصندوق إلى يد اللاويين في تخم بيت شمس ، هكذا وقع في سفر صمويل غير أن ظاهر سياقه أن رجوع التابوت إليهم كان قبل تمليك شاوول ، وصريح القرآن يخالف ذلك ، ويمكن تأويل كلام السفر بما يوافق هذا بأن تحمل الحوادث على غير ترتيبها في الذكر ، وهو كثير في كتابهم. والذي يظهر لي أن الفلسطينيين لما علموا اتحاد الإسرائيليين تحت ملك علموا أنهم ما أجمعوا أمرهم إلّا لقصد أخذ الثأر

٤٦٩

من أعدائهم وتخليص تابوت العهد من أيديهم ، فدبروا أن يظهروا إرجاع التابوت بسبب آيات شاهدوها ، ظنا منهم أن حدة بني إسرائيل تفل إذا أرجع إليهم التابوت بالكيفية المذكورة آنفا ، ولا يمكن أن يكون هذا الرعب حصل لهم قبل تمليك شاول ، وابتداء ظهور الانتصار به.

والتابوت اسم عجمي معرب فوزنه فاعول ، وهذا الوزن قليل في الأسماء العربية ، فيدل على أن ما كان على وزنه إنما هو معرب مثل ناقوس وناموس ، واستظهر الزمخشري أن وزنه فعلول بتحريك العين لقلة الأسماء التي فاؤها ولامها حرفان متحدان : مثل سلس وقلق ، ومن أجل هذا أثبته الجوهري في مادة توب لا في تبت.

والتابوت بمعنى الصندوق المستطيل : وهو صندوق أمر موسى عليه‌السلام بصنعه صنعه بصلئيل الملهم في صناعة الذهب والفضة والنحاس ونجارة الخشب ، فصنعه من خشب السنط ـ وهو شجرة من صنف القرظ ـ وجعل طوله ذراعين ونصفا وعرضه ذراعا ونصفا وارتفاعه ذراعا ونصفا ، وغشاه بذهب من داخل ومن خارج ، وصنع له إكليلا من ذهب ، وسبك له أربع حلق من ذهب على قوائمه الأربع ، وجعل له عصوين من خشب مغشاتين بذهب لتدخل في الحلقات لحمل التابوت ، وجعل غطاءه من ذهب ، وجعل على طريق الغطاء صورة تخيل بها اثنين من الملائكة من ذهب باسطين أجنحتهما فوق الغطاء ، وأمر الله موسى أن يضع في هذا التابوت لوحي الشهادة اللذين أعطاه الله إياهما وهي الألواح التي ذكرها الله في قوله : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ) [الأعراف: ١٥٤].

والسكينة فعيلة بمعنى الاطمئنان والهدوء ، وفي حديث السعي إلى الصلاة «عليكم بالسكينة» وذلك أن من بركة التابوت أنه إذا كان بينهم في حرب أو سلم كانت نفوسهم واثقة بحسن المنقلب ، وفيه أيضا كتب موسى عليه‌السلام ، وهي مما تسكن لرؤيتها نفوس الأمة وتطمئن لأحكامها ، فالظرفية على الأول مجازية ، وعلى الثاني حقيقية ، وورد في حديث أسيد بن حضير إطلاق السكينة على شيء شبه الغمام ينزل من السماء عند قراءة القرآن ، فلعلها ملائكة يسمون بالسكينة.

والبقية في الأصل ما يفضل من شيء بعد انقضاء معظمه ، وقد بينت هنا بأنها مما ترك آل موسى وآل هارون ، وهي بقايا من آثار الألواح ، ومن الثياب التي ألبسها موسى أخاه هارون ، حين جعله الكاهن لبني إسرائيل ، والحافظ لأمور الدين ، وشعائر العبادة

٤٧٠

قيل : ومن ذلك عصا موسى. ويجوز أن تكون البقية مجازا عن النفيس من الأشياء ؛ لأن الناس إنما يحافظون ، على النفائس فتبقى كما قال النابغة :

بقيّة قدر من قدور توورثت

لآل الجلاح كابرا بعد كابر

وقد فسر بهذا المعنى قول رويشد الطائي :

إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم

فما عليّ بذنب منكم فوت

أي تأتيني الجماعة الذين ترجعون إليهم في مهامكم ، وقريب منه إطلاق التليد على القديم من المال الموروث.

والمراد من آل موسى وآل هارون أهل بيتهما من أبناء هارون ؛ فإنهم عصبة موسى ؛ لأن موسى لم يترك أولادا ، أو ما تركه آلهما هو آثارهما ، فيئول إلى معنى ما ترك موسى وهارون وآلهما ، أو أراد مما ترك موسى وهارون فلفظ آل مقحم كما في قوله (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) [غافر : ٤٦].

وهارون هو أخو موسى عليهما‌السلام وهو هارون بن عمران من سبط لاوي ولد قبل أن يأمر فرعون بقتل أطفال بني إسرائيل وهو أكبر من موسى ، ولما كلم الله موسى بالرسالة أعلمه بأنه سيشرك معه أخاه هارون فيكون كالوزير له ، وأوحى إلى هارون أيضا ، وكان موسى هو الرسول الأعظم ، وكان معظم وحي الله إلى هارون على لسان موسى ، وقد جعل الله هارون أول كاهن لبني إسرائيل لما أقام لهم خدمة خيمة العبادة ، وجعل الكهانة في نسله ، فهم يختصون بأحكام لا تشاركهم فيها بقية الأمة ، منها تحريم الخمر على الكاهن ، ومات هارون سنة ثمان أو سبع وخمسين وأربعمائة وألف قبل المسيح ، في جبل هور على تخوم أرض أدوم في مدة التيه في السنة الثالثة من الخروج من مصر.

وقوله : (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) حال من (التابوت) ، والحمل هنا هو الترحيل كما في قوله تعالى : (قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) [التوبة : ٩٢] لأن الراحلة تحمل راكبها ؛ ولذلك تسمى حمولة وفي حديث غزوة خيبر : «وكانت الحمر حمولتهم» وقال النابغة :

يخال به راعي الحمولة طائرا

فمعنى حمل الملائكة التابوت هو تسييرهم بإذن الله البقرتين السائرتين بالعجلة التي عليها التابوت إلى محلة بني إسرائيل ، من غير أن يسبق لهما إلف بالسير إلى تلك الجهة ، هذا هو الملاقى لما في كتب بني إسرائيل.

٤٧١

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) الإشارة إلى جميع الحالة أي في رجوع التابوت من يد أعدائكم إليكم ، بدون قتال ، وفيما يشتمل عليه التابوت من آثار موسى عليه‌السلام ، وفي مجيئه من غير سائق ولا إلف سابق.

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١))

(فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ).

عطفت الفاء جملة : (لما فصل) ، على جملة (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) [البقرة :٢٤٨] (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ) [البقرة : ٢٤٧] لأن بعث الملك لأجل القتال ، يترتب عليه الخروج للقتال الذي سألوا لأجله بعث النبي ، وقد حذف بين الجملتين كلام كثير مقدر : وهو الرضا بالملك ، ومجيء التابوت ، وتجنيد الجنود ؛ لأن ذلك مما يدل عليه جملة فصل طالوت بالجنود.

ومعنى فصل بالجنود : قطع وابتعد بهم ، أي تجاوزوا مساكنهم وقراهم التي خرجوا منها وهو فعل متعد لأن أصله فصل الشيء عن الشيء ثم عدوه إلى الفاعل فقالوا فصل نفسه حتى صار بمعنى انفصل ، فحذفوا مفعوله لكثرة الاستعمال ، ولذلك تجد مصدره

٤٧٢

الفصل بوزن مصدر المتعدي ، ولكنهم ربما قالوا فصل فصولا نظرا لحالة قصوره ، كما قالوا صده صدا ، ثم قالوا صد هو صدا ، ثم قالوا صد صدودا. ونظيره في حديث صفة الوحي «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال» أي فيفصل نفسه عني ، والمعنى فينفصل عني.

وضمير (قالَ) راجع إلى (طالوت) ، ولا يصح رجوعه إلى نبيئهم لأنه لم يخرج معهم ، وإنما أخبر طالوت عن الله تعالى بأنه مبتليهم ، مع أنه لم يكن نبيئا ، يوحى إليه : إما استنادا لإخبار تلقاه من صمويل ، وإما لأنه اجتهد أن يختبرهم بالشرب من النهر لمصلحة رآها في ذلك ، فأخبر عن اجتهاده ، إذ هو حكم الله في شرعهم فأسنده إلى الله ، وهذا من معنى قول علماء أصول الفقه إن المجتهد يصح له أن يقول فيما ظهر له باجتهاده إنه دين الله أو لأنه في شرعهم أن الله أوجب على الجيش طاعة أميرهم فيما يأمرهم به ، وطاعة الملك فيما يراه من مصالحهم ، وكان طالوت قد رأى أن يختبر طاعتهم ومقدار صبرهم بهذه البلوى فجعل البلوى من الله ؛ إذ قد أمرهم بطاعته بها. وعلى كل فتسمية هذا التكليف ابتلاء تقريب للمعنى إلى عقولهم لأن المقصود إظهار الاعتناء بهذا الحكم ، وأن فيه مرضاة الله تعالى على الممتثل ، وغضبه على العاصي ، وأمثال هذه التقريبات في مخاطبات العموم شائعة ، وأكثر كلام كتب بني إسرائيل من هذا القبيل.

والظاهر أن الملك لما علم أنه سائر بهم إلى عدو كثير العدد ، وقوي العهد أراد أن يختبر قوة يقينهم في نصرة الدين ، ومخاطرتهم بأنفسهم وتحملهم المتاعب وعزيمة معاكستهم نفوسهم فقال لهم إنكم ستمرون على نهر ، وهو نهر الأردن ، فلا تشربوا منه فمن شرب منه فليس مني ، ورخص لهم في غرفة يغترفها الواحد بيده يبل بها ريقه ، وهذا غاية ما يختبر به طاعة الجيش ، فإن السير في الحرب يعطش الجيش ، فإذا وردوا الماء توافرت دواعيهم إلى الشرب منه عطشا وشهوة ، ويحتمل أنه أراد إبقاء نشاطهم : لأن المحارب إذا شرب ماء كثيرا بعد التعب ، انحلت عراه ومال إلى الراحة ، وأثقله الماء. والعرب تعرف ذلك قال طفيل يذكر خيلهم :

فلما شارفت أعلام طي

وطيّ في المغار وفي الشعاب

سقيناهنّ من سهل الأداوى

فمصطبح على عجل وآبي

يريد أن الذي مارس الحرب مرارا لم يشرب ؛ لأنه لا يسأم من الركض والجهد ، فإذا كان حاجزا كان أخفّ له وأسرع ، والغر منهم يشرب لجهله لما يراد منه ، ولأجل هذا

٤٧٣

رخص لهم في اغتراف غرفة واحدة.

والنهر بتحريك الهاء وبسكونها للتخفيف ، ونظيره في ذلك شعر وبحر وحجر فالسكون ثابت لجميعها.

وقوله : (فَلَيْسَ مِنِّي) أي فليس متصلا بي ولا علقة بيني وبينه ، وأصل «من» في مثل هذا التركيب للتبعيض ، وهو تبعيض مجازي في الاتصال ، وقال تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) [آل عمران : ٢٨] وقال النابغة :

إذا حاولت في أسد فجورا

فإني لست منك ولست مني

وسمى بعض النحاة «من» هذه بالاتصالية. ومعنى قول طالوت «ليس مني» يحتمل أنه أراد الغضب عليه والبعد المعنوي ، ويحتمل أنه أراد أنه يفصله عن الجيش ، فلا يكمل الجهاد معه ، والظاهر الأول لقوله (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) لأنه أراد به إظهار مكانة من ترك الشرب من النهر وولائه وقربه ، ولو لم يكن هذا مراده لكان في قوله : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) غنية عن قوله : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي) ؛ لأنه إذا كان الشارب مبعدا من الجيش فقد علم أن من لم يشرب هو باقي الجيش.

والاستثناء في قوله : (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) من قوله : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) لأنه من الشاربين ، وإنما أخره عن هذه الجملة ، وأتى به بعد جملة (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) ليقع بعد الجملة التي فيها المستثنى منه مع الجملة المؤكدة لها ؛ لأن التأكيد شديد الاتصال بالمؤكد ، وقد علم أن الاستثناء راجع إلى منطوق الأولى ومفهوم الثانية ، فإن مفهوم (من لم يطعمه فإنه منّي) أن من طعمه ليس منه ، ليعلم السامعون أن المغترف غرفة بيده هو كمن لم يشرب منه شيئا ، وأنه ليس دون من لم يشرب في الولاء والقرب ، وليس هو قسما واسطة. والمقصود من هذا الاستثناء الرخصة للمضطر في بلال ريقه ، ولم تذكر كتب اليهود هذا الأمر بترك شرب الماء من النهر حين مرور الجيش في قصة شاول ، وإنما ذكرت قريبا منه إذ قال في سفر صمويل لما ذكر أشد وقعة بين اليهود وأهل فلسطين : «وضنك رجال إسرائيل في ذلك اليوم ؛ لأن شاول حلف القوم قائلا ملعون من يأكل خبزا إلى المساء حتى أنتقم من أعدائي» وذكر في سفر القضاة في الإصحاح السابع مثل واقعة النهر ، في حرب جدعون قاضي إسرائيل للمديانيين ، والظاهر أن الواقعة تكررت لأن مثلها يتكرر فأهملتها كتبهم في أخبار شاول.

٤٧٤

وقوله : (لَمْ يَطْعَمْهُ) بمعنى لم يذقه ، فهو من الطعم بفتح الطاء ، وهو الذوق أي اختبار المطعوم ، وكان أصله اختبار طعم الطعام أي ملوحته أو ضدها ، أو حلاوته أو ضدها ، ثم توسع فيه فأطلق على اختبار المشروب ، ويعرف ذلك بالقرينة ، قال الحارث بن خالد المخزومي وقيل العرجي :

فإن شئت حرّمت النساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا (١)

فالمعنى لم أذق. فأما أن يطلق الطعم على الشرب أي ابتلاع الماء فلا ، لأن الطعم الأكل ولذلك جاء في الآية والبيت منفيا ، لأن المراد أنه لم يحصل أقل ما يطلق عليه اسم الذوق ، ومن أجل هذا عيروا خالد بن عبد الله القسري لما أخبر وهو على المنبر بخروج المغيرة بن سعيد عليه فقال «أطعموني ماء» إذ لم يعرف في كلام العرب الأمر من الإطعام إلّا بمعنى الأكل ، وأما من يطلب الشراب فإنما يقول اسقوني لأنه لا يقال طعم بمعنى شرب ، وإنما هو بمعنى أكل (٢).

والغرفة بفتح الغين في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي جعفر ، المرّة من الغرف وهو أخذ الماء باليد ، وقرأه حمزة وعاصم والكسائي ويعقوب وخلف ، بضم الغين ، وهو المقدار المغروف من الماء.

ووجه تقييده بقوله : (بِيَدِهِ) مع أن الغرف لا يكون إلّا باليد لدفع توهم أن يكون المراد تقدير مقدار الماء المشروب ، فيتناوله بعضهم كرها ، فربما زاد على المقدار فجعلت الرخصة الأخذ باليد.

وقد دل قوله : (فَشَرِبُوا مِنْهُ) على قلة صبرهم ، وأنهم ليسوا بأهل لمزاولة الحروب ، ولذلك لم يلبثوا أن صرحوا بعد مجاوزة النهر فقالوا : (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ) فيحتمل أن ذلك قالوه لما رأوا جنود الأعداء ، ويحتمل أنهم كانوا يعلمون قوة العدو ، وكانوا يسرون الخوف ، فلما اقترب الجيشان ، لم يستطيعوا كتمان ما بهم.

__________________

(١) هو شاعر جاهلي قتل يوم بدر والنقاخ بضم النون وبخاء معجمة هو الماء الصافي والبرد قيل هو النوم والظاهر أنه أراد الماء البارد والخطاب لليلى بنت أبي مرة بن عروة بن مسعود.

(٢) لدلالته على الهلع واضطراب الفؤاد فيعتريه العطش وقد هجاه بعضهم لذلك فقال :

بلّ المنابر من خوف ومن وهل

واستطعم الماء لما جدّ في الهرب

فأشار إلى هجائه بأنه طلب الماء وبأنه استطعمه أي سماه طعاما.

٤٧٥

وفي الآية انتقال بديع إلى ذكر جند جالوت والتصريح باسمه ، وهو قائد من قواد الفلسطينيين اسمه في كتب اليهود جليات كان طوله ستة أذرع وشبرا ، وكان مسلحا مدرعا ، وكان لا يستطيع أن يبارزه أحد من بني إسرائيل ، فكان إذا خرج للصف عرض عليهم مبارزته وعيرهم بجنبهم.

وقوله : (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) الآية ، أي الذين لا يحبون الحياة ويرجون الشهادة في سبيل الله ، فلقاء الله هنا كناية عن الموت في مرضاة الله شهادة وفي الحديث «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه» فالظن على بابه. وفي قوله : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ) خبرية لا محالة إذ لا موقع للاستفهام فإنهم قصدوا بقولهم هذا تثبيت أنفسهم وأنفس رفقائهم ، ولذلك دعوا إلى ما به النصر وهو الصبر والتوكل فقالوا (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).

والفئة : الجماعة من الناس مشتقة من الفيء وهو الرجوع ، لأن بعضهم يرجع إلى بعض ، ومنه سميت مؤخرة الجيش فئة ، لأن الجيش يفىء إليها.

وقوله : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) هذا دعاؤهم حين اللقاء بطلب الصبر من الله ، وعبروا عن إلهامهم إلى الصبر بالإفراغ استعارة لقوة الصبر فإن القوة والكثرة يتعاوران الألفاظ الدالة عليهما ، كقول أبي كبير الهذلي :

كثير الهوى شتّى النوى والمسالك

وقد تقدم نظيره ، فاستعير الإفراغ هنا للكثرة مع التعميم والإحاطة وتثبيت الأقدام استعارة لعدم الفرار شبه الفرار والخوف بزلق القدم ، فشبه عدمه بثبات القدم في المأزق.

وقد أشارت الآية في قوله : (فَهَزَمُوهُمْ) إلخ إلى انتصار بني إسرائيل على الفلسطينيين وهو انتصار عظيم كان به نجاح بني إسرائيل في فلسطين وبلاد العمالقة ، مع قلة عددهم فقد قال مؤرخوهم إن طالوت لما خرج لحرب الفلسطينيين جمع جيشا فيه ثلاثة آلاف رجل ، فلما رأوا كثرة الفلسطينيين حصل لهم ضنك شديد واختبأ معظم الجيش في جبل افرايم في المغارات والغياض والآبار ، ولم يعبروا الأردن ، ووجم طالوت واستخار صمويل ، وخرج للقتال فلما اجتاز نهر الأردن عد الجيش الذي معه فلم يجد إلّا نحو ستمائة رجل ، ثم وقعت مقاتلات كان النصر فيها لبني إسرائيل ، وتشجع الذين جبنوا واختبئوا في المغارات وغيرها فخرجوا وراء الفلسطينيين وغنموا غنيمة كثيرة ، وفي تلك الأيام من غير بيان في كتب اليهود لمقدار المدد بين الحوادث ولا تنصيص على المتقدم

٤٧٦

منها والمتأخر ومع انتقالات في القصص غير متناسبة ، ظهر داود بن يسى اليهودي إذ أوحى الله إلى صمويل أن يذهب إلى بيت يسى في بيت لحم ويمسح أصغر أبناء يسى ليكون ملكا على إسرائيل بعد حين ، وساق الله داود إلى شاول (طالوت) بتقدير عجيب فحظى عند شاول ، وكان داود من قبل راعي غنم أبيه ، وكان ذا شجاعة ونشاط وحسن سمت ، وله نبوغ في رمي المقلاع ، فكان ذات يوم التقى الفلسطينيون مع جيش طالوت وخرج زعيم من زعماء فلسطين اسمه جليات كما تقدم ، فلم يستطع أحد مبارزته فانبرى له داود ورماه بالمقلاع فأصاب الحجر جبهته وأسقطه إلى الأرض واعتلاه داود واخترط سيفه وقطع رأسه ، فذهب به إلى شاول وانهزم الفلسطينيون ، وزوج شاول ابنته المسماة ميكال من داود ، وصار داود بعد حين ملكا عوض شاول ، ثم آتاه الله النبوءة فصار ملكا نبيئا ، وعلمه مما يشاء. ويأتي ذكر داود عند قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) في سورة الأنعام [٨٣].

(وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ).

ذيلت هذه الآية العظيمة كل الوقائع العجيبة التي أشارت بها الآيات السالفة لتدفع عن السامع المتبصر ما يخامره من تطلب الحكمة في حدثان هذه الوقائع وأمثالها في هذا العالم ولكون مضمون هذه الآية عبرة من عبر الأكوان وحكمة من حكم التاريخ ، ونظم العمران التي لم يهتد إليها أحد قبل نزول هذه الآية ، وقبل إدراك ما في مطاويها ، عطفت على العبر الماضية كما عطف قوله : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) [البقرة : ٢٤٧] وما بعده من رءوس الآي. وعدل عن المتعارف في أمثالها من ترك العطف ، وسلوك سبيل الاستئناف.

وقرأ نافع وأبو جعفر ويعقوب (ولو لا دفاع الله الناس) بصيغة المفاعلة ، وقرأه الجمهور (دفع) بصيغة المجرد.

والدفاع مصدر دافع الذي هو مبالغة في دفع لا للمفاعلة ، كقول موسى بن جابر الحنفي :

لا أشتهي يا قوم إلّا كارها

باب الأمير ولا دفاع الحاجب

وإضافته إلى الله مجاز عقلي كما هو في قوله : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج : ٣٨] أي يدفع لأن الذي يدفع حقيقة هو الذي يباشر الدفع في متعارف الناس وإنما

٤٧٧

أسند إلى الله لأنه الذي قدره وقدر أسبابه ، ولذلك قال : (بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) فجعل سبب الدفاع بعضهم وهو من باب (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] وأصل معنى الدفع الضرب باليد للإقصاء عن المرام. قال :

فدفعتها فتدافعت

وهو ذب عن مصلحة الدافع. ومعنى الآية : أنه لو لا وقوع دفع بعض الناس بعضا آخر بتكوين الله وإيداعه قوة الدفع وبواعثه في الدافع لفسدت الأرض ، أي من على الأرض ، واختل نظام ما عليها ، ذلك أن الله تعالى لما خلق الموجودات التي على الأرض من أجناس وأنواع وأصناف ، خلقها قابلة للاضمحلال ، وأودع في أفرادها سننا دلت على أن مراد الله بقاؤها إلى أمد أراده ، ولذلك نجد قانون الخلفية منبثا في جميع أنواع الموجودات فما من نوع إلّا وفي أفراده قوة إيجاد أمثالها لتكون تلك الأمثال أخلافا عن الأفراد عند اضمحلالها ، وهذه القوة هي المعبر عنها بالتناسل في الحيوان ، والبذر في النبت ، والنضح في المعادن ، والتولد في العناصر الكيماوية. ووجود هذه القوة في جميع الموجودات أول دليل على أن موجدها قد أراد بقاء الأنواع ، كما أراد اضمحلال الأفراد عند آجال معينة ، لاختلال أو انعدام صلاحيتها ، ونعلم من هذا أن الله خالق هذه الأكوان لا يحب فسادها ، وقد تقدم لنا تفسير قوله : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥].

ثم إن الله تعالى كما أودع في الأفراد قوة بها بقاء الأنواع ، أودع في الأفراد أيضا قوى بها بقاء تلك الأفراد بقدر الطاقة ، وهي قوى تطلّب الملائم ودفع المنافي ، أو تطلّب البقاء وكراهية الهلاك ، ولذلك أودع في جميع الكائنات إدراكات تنساق بها ، بدون تأمل أو بتأمل ، إلى ما فيه صلاحها وبقاؤها ، كانسياق الوليد لالتهام الثدي ، وأطفال الحيوان إلى الأثداء والمراعي ، ثم تتوسع هذه الإدراكات ، فيتفرع عنها كل ما فيه جلب النافع الملائم عن بصيرة واعتياد ، ويسمى ذلك بالقوة الشاهية. وأودع أيضا في جميع الكائنات إدراكات تندفع بها إلى الذب عن أنفسها ، ودفع العوادي عنها ، عن غير بصيرة ، كتعريض اليد بين الهاجم وبين الوجه ، وتعريض البقرة رأسها بمجرد الشعور بما يهجم عليها من غير تأمل في تفوق قوة الهاجم على قوة المدافع ، ثم تتوسع هاته الإدراكات فتتفرع إلى كل ما فيه دفع المنافر من ابتداء بإهلاك من يتوقع منه الضر ، ومن طلب الكن ، واتخاذ السلاح ، ومقاومة العدو عند توقع الهلاك ، ولو بآخر ما في القوة وهو القوة الغاضبة ولهذا تزيد قوة

٤٧٨

المدافعة اشتدادا عند زيادة توقع الأخطار حتى في الحيوان. وما جعله الله في كل أنواع الموجودات من أسباب الأذى لمريد السوء به أدل دليل على أن الله خلقها لإرادة بقائها ، وقد عوّض الإنسان عما وهبه إلى الحيوان العقل والفكرة في التحيل على النجاة ممن يريد به ضررا ، وعلى إيقاع الضر بمن يريده به قبل أن يقصده به ، وهو المعبر عنه بالاستعداد.

ثم إنه تعالى جعل لكل نوع من الأنواع ، أو فرد من الأفراد خصائص فيها منافع لغيره ولنفسه ليحرص كل على إبقاء الآخر ، فهذا ناموس عام ، وجعل الإنسان بما أودعه من العقل هو المهيمن على بقية الأنواع. وجعل له العلم بما في الأنواع من الخصائص ، وبما في أفراد نوعه من الفوائد. فخلق الله تعالى أسباب الدفاع بمنزلة دفع من الله يدفع مريد الضر بوسائل يستعملها المراد إضراره ، ولو لا هذه الوسائل التي خولها الله تعالى أفراد الأنواع ، لاشتد طمع القوي في إهلاك الضعيف ، ولاشتدت جراءة من يجلب النفع إلى نفسه على منافع يجدها في غيره ، فابتزها منه ، ولأفرطت أفراد كل نوع في جلب النافع الملائم إلى أنفسها بسلب النافع الملائم لغيرها ، مما هو له ، ولتناسى صاحب الحاجة حين الاحتياج ما في بقاء غيره من المنفعة له أيضا. وهكذا يتسلط كل ذي شهوة على غيره ، وكل قوي على ضعيفه ، فيهلك القوي الضعيف ، ويهلك الأقوى القويّ ، وتذهب الأفراد تباعا ، والأنواع كذلك حتى لا يبقى إلّا أقوى الأفراد من أقوى الأنواع ، وذلك شيء قليل ، حتى إذا بقي أعوزته حاجات كثيرة لا يجدها في نفسه ، وكان يجدها في غيره من أفراد نوعه ، كحاجة أفراد البشر بعضهم إلى بعض ، أو من أنواع أخر ، كحاجة الإنسان إلى البقرة ، فيذهب هدرا.

ولما كان نوع الإنسان هو المهيمن على بقية موجودات الأرض وهو الذي تظهر في أفراده جميع التطورات والمساعي ، خصته الآية بالكلام فقالت : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) إذ جعل الله في الإنسان القوة الشاهية لبقائه وبقاء نوعه ، وجعل فيه القوة الغاضبة لرد المفرط في طلب النافع لنفسه ، وفي ذلك استبقاء بقية الأنواع ؛ لأن الإنسان يذب عنها لما في بقائها من منافع له. وبهذا الدفاع حصلت سلامة القوي ، وهو ظاهر ، وسلامة الضعيف أيضا لأن القوي إذا وجد التعب والمكدرات في جلب النافع سئم ذلك ، واقتصر على ما تدعو إليه الضرورة. وإنما كان الحاصل هو الفساد ، لو لا الدفاع ، دون الصلاح ، لأن الفساد كثيرا ما تندفع إليه القوة الشاهية بما يوجد في أكثر المفاسد من اللذات العاجلة القصيرة الزمن ، ولأن في كثير من النفوس أو أكثرها

٤٧٩

الميل إلى مفاسد كثيرة ، لأن طبع النفوس الشريرة ألا تراعي مضرة غيرها ، بخلاف النفوس الصالحة ، فالنفوس الشريرة أعمد إلى انتهاك حرمات غيرها ، ولأن الأعمال الفاسدة أسرع في حصول آثارها وانتشارها ، فالقليل منها يأتي على الكثير من الصالحات ، فلا جرم لو لا دفاع الناس بأن يدافع صالحهم المفسدين ، لأسرع ذلك في فساد حالهم ، ولعم الفساد أمورهم في أسرع وقت.

وأعظم مظاهر هذا الدفاع هو الحروب ؛ فبالحرب الجائرة يطلب المحارب غصب منافع غيره ، وبالحرب العادلة ينتصف المحق من المبطل ، ولأجلها تتألف العصبيات والدعوات إلى الحق ، والإنحاء على الظالمين ، وهزم الكافرين.

ثم إن دفاع الناس بعضهم بعضا يصد المفسد عن محاولة الفساد ، ونفس شعور المفسد بتأهب غيره لدفاعه يصده عن اقتحام مفاسد جمة.

ومعنى فساد الأرض : إما فساد الجامعة البشرية كما دل عليه تعليق الدفاع بالناس ، أي لفسد أهل الأرض ، وإما فساد جميع ما يقبل الفساد فيكون في الآية احتباك ، والتقدير : ولو لا دفاع الله الناس بعضهم ببعض وبقية الموجودات بعضها ببعض لفسدت الأرض أي من على الأرض ولفسد الناس.

والآية مسوقة مساق الامتنان ، فلذلك قال تعالى : (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) لأنا لا نحب فساد الأرض ، إذ في فسادها ـ بمعنى فساد ما عليها ـ اختلال نظامنا وذهاب أسباب سعادتنا ، ولذلك عقبه بقوله : (وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) فهو استدراك مما تضمنته «لو لا» من تقدير انتفاء الدفاع ؛ لأن أصل لو لا لو مع لا النافية ، أي لو كان انتفاء الدفاع موجودا لفسدت الأرض وهذا الاستدراك في هذه الآية أدل دليل على تركيب (لو لا) من (لو) و (لا) ، إذ لا يتم الاستدراك على قوله : (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) لأن فساد الأرض غير واقع بعد فرض وجود الدفاع ، إن قلنا «لو لا» حرف امتناع لوجود.

وعلق الفضل بالعالمين كلهم لأن هذه المنة لا تختص.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))

الإشارة إلى ما تضمنته القصص الماضية وما فيها من العبر ، ولكن الحكم العالية في قوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [البقرة : ٢٥١] ، وقد نزّلها منزلة المشاهد لوضوحها وبيانها وجعلت آيات لأنها دلائل على عظم تصرف الله تعالى وعلى سعة علمه.

٤٨٠