تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

وقرأ بو جعفر : (فَمَنِ اضْطُرَّ) بكسر الطاء ، لأن أصله اضطرر براءين أولاهما مكسورة فلما أريد إدغام الراء الأولى في الثانية نقلت حركتها إلى الطاء بعد طرح حركة الطاء.

وقوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تذييل قصد به الامتنان ، أي إن الله موصوف بهذين الوصفين فلا جرم أن يغفر للمضطر أكل الميتة لأنه رحيم بالناس ، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما تمكن المؤاخذة عليه لا بمعنى تجاوز الذنب ، ونحوه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رؤيا القليب «وفي نزعه ضعف والله يغفر له». ومعنى الآية : أن رفع الإثم عن المضطر حكم يناسب من اتصف بالمغفرة والرحمة.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤))

عود إلى محاجّة أهل الكتاب لاحق بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) [البقرة : ١٥٩] بمناسبة قوله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ) [البقرة : ١٧٣] تحذيرا للمسلمين مما أحدثه اليهود في دينهم من تحريم بعض ما أحل الله لهم وتحليل بعض ما حرم الله عليهم ؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا التوسيع والتضييق تركوا أن يقرءوا من كتابهم ما غيّروا العمل بأحكامه كما قال تعالى : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً) [الأنعام : ٩١] كما فعلوا في ترك قراءة حكم رجم الزاني في التوراة حين دعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد اليهود ليقرأ ذلك الحكم من التوراة فوضع اليهودي يده على الكلام الوارد في ذلك كما أخرجه البخاري في كتاب الحدود ، ولجريانه على مناسبة إباحة ما أبيح من المأكولات جاء قوله هنا (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) لقصد المشاكلة.

وفي هذا تهيئة للتخلص إلى ابتداء شرائع الإسلام ؛ فإن هذا الكلام فيه إبطال لما شرعه أهل الكتاب في دينهم فكون التخلص ملونا بلوني الغرض السابق والغرض اللاحق.

وعدل عن تعريفهم بغير الموصول إلى الموصول لما في الصلة من الإيماء إلى سبب الخبر وعلته نحو قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) [غافر: ٦٠].

والقول في الكتمان تقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ

١٢١

وَالْهُدى) [البقرة : ١٥٩] والكتاب المذكور هنا هو الكتاب المعهود من السياق وهو كتاب (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) ، فيشبه أن تكون (أل) عوضا عن المضاف إليه ، والذين يكتمونه هم اليهود والنصارى أي يكتمون البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكتمون بعض الأحكام التي بدلوها.

وقوله : (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) تقدم تفسيره عند قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١] وهو المال الذي يأخذونه من الناس جزاء على إفتائهم بما يلائم هواهم مخالفا لشرعهم أو على الحكم بذلك ، فالثمن يطلق على الرشوة لأنها ثمن يدفع عوضا عن جور الحاكم وتحريف المفتي.

وقوله : (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) جيء باسم الإشارة لإشهارهم لئلا يخفى أمرهم على الناس وللتنبيه على أن ما يخبر به عن اسم الإشارة استحقوه بسبب ما ذكر قبل اسم الإشارة ، كما تقدم في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] ، وهو تأكيد للسببية المدلول عليها بالموصول ، وفعل (يَأْكُلُونَ) مستعار لأخذ الرّشا المعبر عنها بالثمن والظاهر أنه مستعمل في زمان الحال ، أي ما يأكلون وقت كتمانهم واشترائهم إلّا النار لأنه الأصل في المضارع.

والأكل مستعار للانتفاع مع الإخفاء ، لأن الأكل انتفاع بالطعام وتغييب له فهو خفي لا يظهر كحال الرشوة ، ولما لم يكن لآكل الرشوة على كتمان الأحكام أكل نار تعين أن في الكلام مجازا ، فقيل هو مجاز عقلي في تعلق الأكل بالنار وليست هي له وإنما له سببها أعني الرشوة ، قال التفتازاني : وهو الذي يوهمه ظاهر كلام «الكشاف» لكنه صرح أخيرا بغيره ، وقيل هو مجاز في الطّرف بأن أطلق لفظ النار على الرشوة إطلاقا للاسم على سببه قال التفتازاني : وهو الذي صرح به في «الكشاف» ونظّره بقول الأعرابي يوبخ امرأته وكان يقلاها :

أكلت دما إن لم أرعك بضرّة

بعيدة مهوى القرط طيبة النّشر

أراد الحلف بطريقة الدعاء على نفسه أن يأكل دما أي دية دم فقد تضمن الدعاء على نفسه بقتل أحد أقاربه وبذهاب مروءته ، لأنهم كانوا يتعيرون بأخذ الدية عن القتيل ولا يرضون إلّا بالقود.

واختار عبد الحكيم أنه استعارة تمثيلية شبهت الهيئة الحاصلة من أكلهم الرّشا بالهيئة المنتزعة من أكلهم النار وأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.

١٢٢

قلت : ولا يضر كون الهيئة المشبه بها غير محسوسة لأنها هيئة متخيلة كقوله : (أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد) فالمركب الذي من شأنه أن يدل على الهيئة المشبهة أن يقال : أولئك ما يأخذون إلّا أخذا فظيعا مهلكا فإن تناولها كتناول النار للأكل فإنه كلّه هلاك من وقت تناولها باليد إلى حصولها في البطن ، ووجه كون الرشوة مهلكة أن فيها اضمحلال أمر الأمة وذهاب حرمة العلماء والدين فتكون هذه الاستعارة بمنزلة قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران : ١٠٣] أي على وشك الهلاك والاضمحلال.

والذي يدعو إلى المصير للتمثيلية هو قوله تعالى : (فِي بُطُونِهِمْ) فإن الرشوة لا تؤكل في البطن فيتعين أن يكون المركب كله استعارة ، ولو جعلت الاستعارة في خصوص لفظ النار لكان قوله : (يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) مستعملا في المركب الحقيقي ، وهو لا يصح ، ولو لا قوله : (فِي بُطُونِهِمْ) لأمكن أن يقال : إنّ (يَأْكُلُونَ) هنا مستعمل حقيقة عرفية في غصب الحق ونحو ذلك.

وجوزوا أن يكون قوله : (يَأْكُلُونَ) مستقبلا ، أي ما سيأكلون إلّا النار على أنه تهديد ووعيد بعذاب الآخرة ، وهو وجيه ، ونكتة استعارة الأكل هنا إلى اصطلائهم بنار جهنم هي مشاكلة تقديرية لقوله : (يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) فإن المراد بالثمن هنا الرشوة ، وقد شاع تسمية أخذ الرشوة أكلا.

وقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) نفي للكلام والمراد به لازم معناه وهو الكناية عن الغضب ، فالمراد نفي كلام التكريم ، فلا ينافي قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٣].

وقوله : (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يثني عليهم في ذلك المجمع ، وذلك إشعار لهم بأنهم صائرون إلى العذاب ؛ لأنه إذا نفيت التزكية أعقبها الذم والتوبيخ ، فهو كناية عن ذمهم في ذلك الجمع إذ ليس يومئذ سكوت.

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥))

إن جعلت (أُولئِكَ) مبتدأ ثانيا لجملة هي خبر ثان عن المبتدأ الأول وهو اسم (إِنَ) في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) [البقرة : ١٧٤] فالقول فيه

١٢٣

كالقول في نظيره وهو (أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) [البقرة : ١٧٤] ونكتة تكريره أنه للتنبيه على أن المشار إليه جدير بأحكام أخرى غير الحكم السابق وأن تلك الأحكام لأهميتها ينبغي ألا تجعل معطوفة تابعة للحكم الأول بل تفرد بالحكمية.

وإن جعلته مبتدأ مستقلا مع جملته فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لبيان سبب انغماسهم في عذاب النار ؛ لأنه وعيد عظيم جدا يستوجب أن يسأل عنه السائل فيبين بأنهم أخذوا الضلال ونبذوا الهدى واختاروا العذاب ونبذوا المغفرة ، ومجيء المسند إليه حينئذ اسم إشارة لتفظيع حالهم ؛ لأنه يشير لهم بوصفهم السابق وهو كتمان ما أنزل الله من الكتاب.

ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى في كتمان الكتاب أن كل آية أخفوها أو أفسدوها بالتأويل فقد ارتفع مدلولها المقصود منها وإذا ارتفع مدلولها نسي العمل بها فأقدم الناس على ما حذرتهم منه ، ففي كتمانهم حق رفع وباطل وضع.

ومعنى اشتراء العذاب بالمغفرة أنهم فعلوا ذلك الكتمان عن عمد وعلم بسوء عاقبته ، فهم قد رضوا بالعذاب وإضاعة المغفرة فكأنهم استبدلوا بالمغفرة العذاب. والقول في معنى (اشْتَرَوُا) تقدم عند قوله تعالى : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١].

وقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) تعجيب من شدة صبرهم على عذاب النار ، ولما كان شأن التعجيب أن يكون ناشئا عن مشاهدة صبرهم على العذاب وهذا الصبر غير حاصل في وقت نزول هاته الآية بني التعجيب على تنزيل غير الواقع منزلة الواقع لشدة استحضار السامع إياه بما وصف به من الصفات الماضية ، وهذا من طرق جعل المحقق الحصول في المستقبل بمنزلة الحاصل ، ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وتنزيل المتخيل منزلة المشاهد كقول زهير :

تبصّر خليلي هل ترى من ظعائن

تحملن بالعلياء من فوق جرثم

بعد أن ذكر أنه وقف بالدار بعد عشرين حجة ، وقول مالك بن الرّيب :

دعاني الهوى من أهل ودّي وجيرتي

بذي الطّبسين فالتفتّ ورائيا

وقريب منه قوله تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) [التكاثر : ٥ ـ ٦] على جعل (لَتَرَوُنَ) جواب (لَوْ).

١٢٤

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦))

جيء باسم الإشارة لربط الكلام اللاحق بالسابق على طريقة العرب في أمثاله إذا طال الفصل بين الشيء وما ارتبط به من حكم أو علة أو نحوهما كقول النابغة :

وذلك من تلقاء مثلك رائع

بعد قوله :

أتاني أبيت اللعن أنّك لمتني

والكلام السابق الأظهر أنه قوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة : ١٧٥] والمعنى أنهم استحقوا العذاب على كتمانهم بسبب أن الله أنزل الكتاب بالحق فكتمانهم شيئا من الكتاب كتمان للحق وذلك فساد وتغيير لمراد الله ؛ لأن ما يكتم من الحق يخلفه الباطل كما بيناه آنفا فحقّ عليهم العذاب لكتمانه ، لأنه مخالف مراد الله من تنزيله ، وعليه فالكتاب في قوله : (بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ) هو عين الكتاب المذكور في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) [البقرة : ١٧٤] وهو كتابهم التوراة والإنجيل ليكون الموضوع في العلة والحكم المعلّل واحدا ، وعليه فالجملة فصلت من الجملة التي قبلها لجريانها منها مجرى العلة.

ويجوز أن يكون المشار إليه السابق هو الكتمان المأخوذ من (يَكْتُمُونَ) [البقرة : ١٧٤] ، أي إنما كتموا ما كتموا بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فعلموا أنه على النعت الذي بشر الله به على لسان التوراة. والمعنى أنهم كتموا دلائل صدق النبي حسدا وعنادا ؛ لأن الله أنزل القرآن على محمد ، فالكتاب هنا غير الكتاب في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) [البقرة : ١٧٤].

والجملة على هذا الوجه استئناف بياني لاستغراب تعمدهم كتمان ما أنزل الله من الكتاب وإن هذا الصنع الشنيع لا يكون إلّا عن سبب عظيم ، فبين بقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ).

وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) تذييل ولكنه عطف بالواو لأنه يتضمن تكملة وصف الذين اشتروا الضلالة بالهدى ووعيدهم ، والمراد بالذين اختلفوا

١٢٥

عين المراد من قوله : (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) [البقرة : ١٧٤] ، و (الَّذِينَ اشْتَرَوُا) [البقرة : ١٧٥] ، فالموصولات كلها على نسق واحد.

والمراد من الكتاب المجرور بفي يحتمل أنه المراد من الكتاب في قوله : (نَزَّلَ الْكِتابَ) فهو القرآن فيكون من الإظهار في مقام الإضمار ليناسب استقلال جملة التذييل بذاتها ويكون المراد باختلفوا على هذا الوجه أنهم اختلفوا مع الذين آمنوا منهم أو اختلفوا فيما يصفون به القرآن من تكذيب به كلّه أو تكذيب ما لا يوافق هواهم وتصديق ما يؤيد كتبهم ، ويحتمل أن المراد من الكتاب المجرور بفي هو المراد من المنصوب في قوله : (ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) [البقرة : ١٧٤] يعني التوراة والإنجيل أي اختلفوا في الذي يقرّونه والذي يغيرونه وفي الإيمان بالإنجيل والإيمان بالتوراة ، ومن المحتمل أن يكون المراد بالذين اختلفوا في الكتاب ما يشمل المشركين وأن يكون الاختلاف هو اختلاف معاذيرهم عن القرآن إذ قالوا : سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين. لكنه خروج عن سياق الكلام على أهل الكتاب ، ومن المحتمل أيضا أن يكون المراد بالكتاب الجنس أي الذين اختلفوا في كتب الله فآمنوا ببعضها وكفروا بالقرآن.

وفائدة الإظهار في مقام الإضمار في قوله : (الْكِتابَ) أن يكون التذييل مستقلا بنفسه لجريانه مجرى المثل ، وللمفسرين وجوه كثيرة في قوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ) متفاوتة البعد.

ووصف الشقاق بالبعيد مجاز عقلي أي بعيد صاحبه عن الوفاق كقوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود : ١١٨].

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧))

قدّمنا عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ١٥٣] أن قوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) متصل بقوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] ، وأنه

١٢٦

تام للمحاجة في شأن تحويل القبلة ، وأن ما بين هذا وذلك كله اعتراض أطنب فيه وأطيل لأخذ معانيه بعضها بحجز بعض.

فهذا إقبال على خطاب المؤمنين بمناسبة ذكر أحوال أهل الكتاب وحسدهم المؤمنين على اتّباع الإسلام مراد منه تلقين المسلمين الحجة على أهل الكتاب في تهويلهم على المسلمين إبطال القبلة التي كانوا يصلّون إليها ففي ذلك تعريض بأهل الكتاب. فأهل الكتاب رأوا أن المسلمين كانوا على شيء من البر باستقبالهم قبلتهم فلما تحولوا عنها لمزوهم بأنهم أضاعوا أمرا من أمور البر ، يقول عدّ عن هذا وأعرضوا عن تهويل الواهنين وهبوا أنّ قبلة الصلاة تغيرت أو كانت الصلاة بلا قبلة أصلا فهل ذلك أمر له أثر في تزكية النفوس واتصافها بالبر ، فذكر المشرق والمغرب اقتصار على أشهر الجهات أو هو للإشارة إلى قبلة اليهود وقبلة النصارى لإبطال تهويل الفريقين على المسلمين حين استقبلوا الكعبة ، ومنهم من جعله لكل من يسمع الخطاب.

والبرّ سعة الإحسان وشدة المرضاة والخير الكامل الشامل ولذلك توصف به الأفعال القوية الإحسان فيقال : بر الوالدين وبر الحج وقال تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] ، والمراد به هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره.

ونفي البر عن استقبال الجهات مع أن منها ما هو مشروع كاستقبال الكعبة : إما لأنه من الوسائل لا من المقاصد فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به قصارى همة المؤمنين ولذلك

أسقطه الله عن الناس في حال العجز والنسيان وصلوات النوافل على الدابة في السفر ، ولذلك قال : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) إلخ فإن ذلك كله من أهم مقاصد الشريعة وفيه جماع صلاح النفس والجماعة ، ونظير هذا قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) [التوبة : ١٩] الآيات فيكون النفي على معنى نفي الكمال ، وإمّا لأن المنفي عنه البرّ هو استقبال قبلتي اليهود والنصارى فقد تقدم لنا أن ذلك الاستقبال غير مشروع في أصل دينهم ولكنه شيء استحسنه أنبياؤهم ورهبانهم ولذلك نفي البر عن تولية المشرق والمغرب تنبيها على ذلك.

وقرأ الجمهور (لَيْسَ الْبِرَّ) برفع (الْبِرَّ) على أنه اسم (لَيْسَ) والخبر هو (أَنْ تُوَلُّوا) وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بنصب (الْبِرَّ) على أن قوله : (أَنْ تُوَلُّوا) اسم (لَيْسَ) مؤخر ، ويكثر في كلام العرب تقديم الخبر على الاسم في باب كان وأخواتها إذا كان أحد معمولي هذا الباب مركبا من أن المصدرية وفعلها كان المتكلم بالخيار في

١٢٧

المعمول الآخر بين أن يرفعه وأن ينصبه وشأن اسم (لَيْسَ) أن يكون هو الجدير بكونه مبتدأ به ، فوجه قراءة رفع (الْبِرَّ) أن البر أمر مشهور معروف لأهل الأديان مرغوب للجميع فإذا جعل مبتدأ في حالة النفي أصغت الأسماع إلى الخبر ، وأما توجيه قراءة النصب فلأن أمر استقبال القبلة هو الشغل الشاغل لهم فإذا ذكر خبره قبله ترقب السامع المبتدأ فإذا سمعه تقرر في علمه.

وقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) إخبار عن المصدر باسم الذّات للمبالغة كعكسه في قولها : «فإنما هي إقبال وإدبار» وذلك كثير في الكلام ومنه قوله تعالى : (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) [الملك : ٣٠] وقول النابغة :

وقد خفت ما تزيد مخافتي

على وعل في ذي المطارة عاقل

أي وعل هو مخافة أي خائف ، ومن قدر في مثله مضافا أي برّ من آمن أو ولكن ذو البر فإنما عنى بيان المعنى لا أن هنالك مقدارا ؛ لأنه يخرج الكلام عن البلاغة إلى كلام مغول كما قال التفتازاني ، وعن المبرد : لو كنت ممن يقرأ لقرأت ولكن البر بفتح الباء ، وكأنه أراد الاستغناء عن التقدير في الإخبار عن البر بجملة : (مَنْ آمَنَ) لأن من آمن هو البار لا نفس البر وكيف يقرأ كذلك و (الْبِرَّ) معطوف بلكن في مقابلة البر المثبت فهل يكون إلّا عينه ولذا لم يقرأ أحد إلّا البر بكسر الباء ، على أن القراءات مروية وليست اختيارا ولعل هذا لا يصح عن المبرد.

وقرأ نافع وابن عامر (ولكن البر) بتخفيف النون من لكن ورفع البر على الابتداء وقرأه بقية العشرة بتشديد نون (لكن) ونصب (البر) والمعنى واحد.

وتعريف (وَالْكِتابِ) تعريف الجنس المفيد للاستغراق أي آمن بكتب الله مثل التوراة والإنجيل والقرآن ، ووجه التعبير بصيغة المفرد أنها أخف مع عدم التباس التعريف بأن يكون للعهد ؛ لأن عطف (النبيين) على (الكتاب) قرينة على أن اللام في (الكتاب) للاستغراق فأوثرت صيغة المفرد طلبا لخفة اللفظ. وما يظن من أن استغراق المفرد المعرف باللام أشمل من استغراق الجمع المعرف بها ليس جاريا على الاستعمال وإنما توهمه السكاكي في «المفتاح» في قوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [مريم : ٤] من كلام وقع في «الكشاف» وما نقل عن ابن عباس أنه قرأ قوله تعالى : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ) [البقرة : ٢٨٥] ، وقال الكتاب أكثر من الكتب فلو صحّ عنه لم يكن مريدا به توجيه قراءته (وكتابه) المعرف بالإضافة بل عنى به الأسماء المنفية بلا التبرئة تفرقة بين

١٢٨

نحو لا رجل في الدار ونحو لا رجال في الدار في تطرق احتمال نفي جنس الجموع لا جنس الأفراد على ما فيه من البحث فلا ينبغي التعلّق بتلك الكلمة ولا يصح التعلق بما ذكره صاحب «المفتاح».

والذي ينبغي اعتماده أن استغراق المفرد والجمع في المعرف باللام وفي المنفي بلا التبرئة سواء وإنما يختلف تعبير أهل اللسان مرة بصيغة الإفراد ومرة بصيغة الجمع تبعا لحكاية الصورة المستحضرة في ذهن المتكلم والمناسبة لمقام الكلام ، فأما في المنفي بلا النافية للجنس فلك أن تقول لا رجل في الدار ولا رجال في الدار على السواء إلّا إذا رجح أحد التعبيرين مرجّح لفظي ، وأما في المعرف باللام أو الإضافة فكذلك في صحة التعبير بالمفرد والجمع سوى أنه قد يتوهم احتمال إرادة العهد وذلك يعرض للمفرد والجمع ويندفع بالقرائن.

وعلى في قوله : (عَلى حُبِّهِ) مجاز في التمكن من حب المال مثل (أُولئِكَ عَلى هُدىً) [البقرة : ٥] وهي في مثل هذا المقام للتنبيه على أبعد الأحوال من مظنة الوصف فلذلك تفيد مفاد كلمة مع وتدل على معنى الاحتراس كما هي في قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً) [الإنسان : ٨] وقول زهير :

من يلق يوما على علّاته هرما

يلق السماحة فيه والنّدى خلقا

قال الأعلم في «شرحه» أي فكيف به وهو على غير تلك الحالة ا ه.

وليس هذا معنى مستقلا من معاني على بل هو استعلاء مجازي أريد به تحقق ثبوت مدلول مدخولها لمعمول متعلقها ، لأنه لبعد وقوعه يحتاج إلى التحقيق ، والضمير للمال لا محالة والمراد أنه يعطي المال مع حبه للمال وعدم زهادته فيه فيدل على أنه إنما يعطيه مرضاة لله تعالى ولذلك كان فعله هذا برا.

وذكر أصنافا ممن يؤتون المال لأن إتيانهم المال ينجم عنه خيرات ومصالح.

فذكر ذوي القربى أي أصحاب قرابة المعطي فاللام في (القربى) عوض عن المضاف إليه ، أمر المرء بالإحسان إليهم لأن مواساتهم تكسبهم محبتهم إياه والتئامهم وهذا التئام القبائل الذي أراده الله بقوله : (لِتَعارَفُوا) [الحجرات : ١٣] فليس مقيّدا بوصف فقرهم كما فسر به بعض المفسرين بل ذلك شامل للهدية لأغنيائهم وشامل للتوسعة على المتضايقين وترفيه عيشتهم ، إذ المقصود هو التحابب.

١٢٩

ثم ذكر اليتامى وهم مظنة الضعف لظهور أن المراد اليتيم المحتاج حاجة دون الفقر وإنما هو فاقد ما كان ينيله أبوه من رفاهية عيش ، فإيتاؤهم المال يجبر صدع حياتهم. وذكر السائلين وهم الفقراء. والمسكنة : الذال مشتقة من السكون ووزن مسكني مفعيل للمبالغة مثل منطيق. والمسكين الفقير الذي أذله الفقر وقد اتفق أئمة اللغة أن المسكين غير الفقير هو أقل فقرا من الفقير وقيل هو أشد فقرا وهذا قول الجمهور وقد يطلق أحدهما في موضع الآخر إذا لم يجتمعا وقد اجتمع في قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) [التوبة : ٦٠] ونظيرها في ذكر هؤلاء الأربعة قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [البقرة : ٢١٥].

وذكر السائلين وهم الفقراء كنى عنهم بالسائلين لأن شأن المرء أن تمنع نفسه من أن يسأل الناس لغير حاجة غالبا. فالسؤال علامة الحاجة غالبا ، ولو أدخل الشك في العلامات الاعتيادية لارتفعت الأحكام فلو تحقق غنى السائل لما شرع إعطاؤه لمجرد سؤاله ، ورووا : «للسائل حق ولو جاء راكبا على فرس» وهو ضعيف.

وذكر ابن السبيل وهو الغريب أعني الضيف في البوادي ؛ إذ لم يكن في القبائل نزل أو خانات أو فنادق ولم يكن السائر يستصحب معه المال وإنما يحمل زاد يومه ولذلك كان حق الضيافة فرضا على المسلمين أي في البوادي ونحوها. وذكر الرقاب والمراد فداء الأسرى وعتق العبيد. ثم ذكر الزكاة وهي حق المال لأجل الغنى ومصارفها مذكورة في آياتها.

وذكر الوفاء بالعهد لما فيه من الثقة بالمعاهد ومن كرم النفس وكون الجد والحق لها دربة وسجية ، وإنما قيد بالظرف وهو إذا عاهدوا أي وقت حصول العهد فلا يتأخر وفاؤهم طرفة عين ، وفيه تنبيه على وجوب الاحتياط عند بذل العهد بحيث لا يعاهد حتى يتحقق أنه يستطيع الوفاء كأنه يقول : فإن علموا ألا يفوا فلا يعاهدوا. وعطف (وَالْمُوفُونَ) على (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) وغير أسلوب الوصف فلم يقل ومن أوفى بعهده للدلالة على مغايرة الوصفين بأن الأول من علائق حق الله تعالى وأصول الدين والثاني من حقوق العباد.

وذكر الصابرين في البأساء لما في الصبر من الخصائص التي ذكرناها عند قوله تعالى : وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥] ثم ذكر مواقعه التي لا يعدوها وهي حالة الشدة ، وحالة الضر ، وحالة القتال ، فالبأساء والضراء اسمان على وزن فعلاء وليسا

١٣٠

وصفين إذ لم يسمع لهما أفعل مذكّرا ، والبأساء مشتقة من البؤس وهو سوء الحالة من فقر ونحوه من المكروه ، قال الراغب : وقد غلب في الفقر ومنه البئيس الفقير ، فالبأساء الشدة في المال ، والضراء شدة الحال على الإنسان مشتقة من الضّرّ ويقابلها السّرّاء وهي ما يسرّ الإنسان من أحواله ، والبأس النكاية والشدة في الحرب ونحوها كالخصومة (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) [النمل : ٣٣] (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) [الحشر : ١٤] والشر أيضا بأس والمراد به هنا الحرب.

فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم. وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشئ عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال.

فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية ، لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها ، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها ، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة ويبذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحرارا. والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس ، وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض.

والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة ولذلك قال تعالى هنا : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) فحصر فيهم الصدق والتقوى حصرا ادعائيا للمبالغة ، ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر ، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم ، لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيئين ، ولأنهم حرموا كثيرا من الناس حقوقهم ، ولم يفوا بالعهد ، ولم يصبروا. وفيها أيضا تعريض بالمشركين إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر ، والنبيئين ، والكتب وسلبوا اليتامى أموالهم ، ولم يقيموا الصلاة ، ولم يؤتوا الزكاة.

ونصب (الصابرين) وهو معطوف على مرفوعات نصب على الاختصاص على ما هو المتعارف في كلام العرب في عطف النعوت من تخيير المتكلم بين الاتباع في الإعراب للمعطوف عليه وبين القطع قاله الرضي ، والقطع يكون بنصب ما حقه أن يكون مرفوعا أو مجرورا وبرفع ما هو بعكسه ليظهر قصد المتكلم القطع حين يختلف الإعراب ؛ إذ لا يعرف أن المتكلم قصد القطع إلّا بمخالفة الإعراب ، فأما النصب فبتقدير فعل مدح أو ذم بحسب المقام ، والأظهر تقدير فعل أخص لأنه يفيد المدح بين الممدوحين والذم بين المذمومين.

١٣١

وقد حصل بنصب (الصابرين) هنا فائدتان : إحداهما عامة في كل قطع من النعوت ، فقد نقل عن أبي علي الفارسي أنه إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف إعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا من مواضع الإطناب فإذا خولف إعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان.

قال في «الكشاف» «نصب على المدح وهو باب واسع كسّره سيبويه على أمثلة وشواهد» ا ه. قلت : قال سيبويه في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح (١) «وإن شئت جعلته صفة فجري على الأول ، وإن شئت قطعته فابتدأته ، مثل ذلك قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله (وَالصَّابِرِينَ) ولو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيدا ، ولو ابتدأته فرفعته على الابتداء كان جيدا ، ونظير هذا النصب قول الخرنق :

لا يبعدن قومي الذين همو

سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك

والطيّبون معاقد الأزر

بنصب النازلين ، ثم قال : وزعم الخليل أن نصب هذا على أنك لم ترد أن تحدّث الناس ولا من تخاطب بأمر جهلوه ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمت فجعلته ثناء وتعظيما ونصبه على الفعل كأنه قال أذكر أهل ذلك وأذكر المقيمين ولكنه فعل لا يستعمل إظهاره» ا ه قلت : يؤيد هذا الوجه أنه تكرر مثله في نظائر هذه الآية في سورة النساء (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) [النساء : ١٦٢] عطفا على (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [النساء : ١٦٢] ، وفي سورة العقود (وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩] عطفا على (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) [المائدة : ٦٩].

الفائدة الثانية أن في نصب (الصَّابِرِينَ) بتقدير أخص أو أمدح تنبيها على خصيصية الصابرين ومزية صفتهم التي هي الصبر.

قال في «الكشاف» : «ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم في النصب على الاختصاص من الافتتان ا ه» وأقول : إن تكرره كما ذكرنا وتقارب الكلمات يربأ به

__________________

(١) راجع «الكتاب» له (١ / ٢٤٨) ، دار صادر.

١٣٢

على أن يكون خطأ أو سهوا وهو بين كلمتين مخالفتين إعرابه.

وعن الكسائي أن نصبه عطف على مفاعيل (آتَى) أي وآتى المال الصابرين أي الفقراء المتعففين عن المسألة حين تصيبهم البأساء والضراء والصابرين حين البأس وهم الذين لا يجدون ما ينفقون للغزو ويحبون أن يغزوا ، لأن فيهم غناء عن المسلمين قال تعالى : (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) [التوبة : ٩٢].

وعن بعض المتأولين أن نصب (وَالصَّابِرِينَ) وقع خطأ من كتاب المصاحف وأنه مما أراده عثمان رضي‌الله‌عنه فيما نقل عنه أنه قال بعد أن قرأ المصحف الذي كتبوه : «إنّي أجد به لحنا ستقيمه العرب بألسنتها» وهذا متقوّل على عثمان ولو صح لكان يريد باللحن ما في رسم المصاحف من إشارات مثل كتابة الألف في صورة الياء إشارة إلى الإمالة ولم يكن اللحن يطلق على الخطأ.

وقرأ يعقوب والصابرون بالرفع عطفا على (وَالْمُوفُونَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى)

أعيد الخطاب بيا أيّها الذين آمنوا لأن هذا صنف من التشريع لأحكام ذات بال في صلاح المجتمع الإسلامي واستتباب نظامه وأمنه حين صار المسلمون بعد الهجرة جماعة ذات استقلال بنفسها ومدينتها ، فإن هاته الآيات كانت من أول ما أنزل بالمدينة عام الهجرة كما ذكره المفسرون في سبب نزولها في تفسير قوله تعالى بعد هذا : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] الآية.

تلك أحكام متتابعة من إصلاح أحوال الأفراد وأحوال المجتمع ، وابتدئ بأحكام القصاص ، لأن أعظم شيء من اختلال الأحوال اختلال حفظ نفوس الأمة ، وقد أفرط العرب في إضاعة هذا الأصل ، يعلم ذلك من له إلمام بتاريخهم وآدابهم وأحوالهم ، فقد بلغ بهم تطرفهم في ذلك إلى وشك الفناء لو طال ذلك فلم يتداركهم الله فيه بنعمة الإسلام ، فكانوا يغير بعضهم على بعض لغنيمة أنعامه وعبيده ونسائه فيدافع المغار عليه وتتلف نفوس بين الفريقين ثم ينشأ عن ذلك طلب الثارات فيسعى كل من قتل له قتيل في

١٣٣

قتل قاتل وليّه وإن أعوزه ذلك قتل به غيره من واحد كفء له ، أو عدد يراهم لا يوازونه ويسمون ذلك بالتكايل في الدم أي كأنّ دم الشريف يكال بدماء كثيرة فربما قدروه باثنين أو بعشرة أو بمائة ، وهكذا يدور الأمر ويتزايد تزايدا فاحشا حتى يصير تفانيا قال زهير :

تداركتما عبسا وذبيان بعد ما

تفانوا ودقّوا بينهم عطر منشم

وينتقل الأمر من قبيلة إلى قبيلة بالولاء والنسب والحلف والنصرة ، حتى صارت الإحن فاشية فتخاذلوا بينهم واستنصر بعض القبائل على بعض فوجد الفرس والروم مدخلا إلى التفرقة بينهم فحكموهم وأرهبوهم ، وإلى هذا الإشارة والله أعلم بقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ... حتى (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران : ١٠٣] أي كنتم أعداء بأسباب الغارات والحروب فألف بينكم بكلمة الإسلام ، وكنتم على وشك الهلاك فأنقذكم منه فضرب مثلا للهلاك العاجل الذي لا يبقي شيئا بحفرة النار فالقائم على حافتها ليس بينه وبين الهلاك إلّا أقلّ حركة.

فمعنى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) أنه حق لازم للأمة لا محيد عن الأخذ به فضمير (عَلَيْكُمُ) لمجموع الأمة على الجملة لمن توجه له حق القصاص وليس المراد على كل فرد فرد القصاص ، لأن ولي الدم له العفو عن دم وليه كما قال تعالى : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) وأصل الكتابة نقش الحروف في حجر أو رقّ أو ثوب ولما كان ذلك النقش يراد به التوثق بما نقش به دوام تذكره أطلق كتب على معنى حقّ وثبت أي حق لأهل القتيل.

والقصاص اسم لتعويض حق جناية أو حق غرم على أحد بمثل ذلك من عند المحقوق إنصافا وعدلا ، فالقصاص يطلق على عقوبة الجاني بمثل ما جنى ، وعلى محاسبة رب الدين بما عليه للمدين من دين يفي بدينه ، فإطلاقاته كلها تدل على التعادل والتناصف في الحقوق والتبعات المعروضة للغمص.

وهو بوزن فعال وهو وزن مصدر فاعل من القص وهو القطع ومنه قولهم : طائر مقصوص الجناح ومنه سمي المقص لآلة القص أي القطع وقصة الشعر بضم القاف ما يقص منه لأنه يجري في حقين متبادلين بين جانبين يقال قاصّ فلان فلانا إذا طرح من دين في ذمته مقدارا

بدين له في ذمة الآخر فشبه التناصف بالقطع لأنه يقطع النزاع الناشب قبله ، فلذلك سمي القود وهو تمكين ولي المقتول من قتل قاتل مولاه قصاصا قال تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ، وسميت عقوبة من يجرح أحدا جرحا عمدا

١٣٤

دوانا بأن يجرح ذلك الجارح مثل ما جرح غيره قصاصا قال تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة : ٤٥] وسموا معاملة المعتدي بمثل جرمه قصاصا (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) [البقرة : ١٩٤] ، فماهية القصاص تتضمن ماهية التعويض والتماثل.

فقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) يتحمّل معنى الجزاء على القتل بالقتل للقاتل وتتحمل معنى التعادل والتماثل في ذلك الجزاء بما هو كالعوض له والمثل ، وتتحمل معنى أنه لا يقتل غير القاتل ممن لا شركة له في قتل القتيل فأفاد قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) حق المؤاخذة بين المؤمنين في قتل القتلى فلا يذهب حق قتيل باطلا ولا يقتل غير القاتل باطلا ، وذلك إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إهمال دم الوضيع إذا قتله الشريف وإهمال حق الضعيف إذا قتله القوي الذي يخشى قومه ، ومن تحكّمهم بطلب قتل غير القاتل إذا قتل أحد رجلا شريفا يطلبون قتل رجل شريف مثله بحيث لا يقتلون القاتل إلّا إذا كان بواء للمقتول أي كفءا له في الشرف والمجد ويعتبرون قيمة الدماء متفاوتة بحسب تفاوت السودد والشرف ويسمون ذلك التفاوت تكايلا من الكيل ، قالت ابنة بهدل بن قرفة الطائي تستثير رهطها على قتل رجل قتل أباها وتذكر أنها ما كانت تقنع بقتله به لو لا أن الإسلام أبطل تكايل الدماء :

أما في بني حصن من ابن كريهة

من القوم طلّاب التّرات غشمشم

فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له

بواء ولكن لا تكايل بالدّم (١)

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «المسلمون تتكافأ دماؤهم».

وقد ثبت بهذه الآية شرع القصاص في قتل العمد ، وحكمة ذلك ردع أهل العدوان عند الإقدام على قتل الأنفس إذا علموا أن جزاءهم القتل ، فإن الحياة أعز شيء على الإنسان في الجبلة فلا تعادل عقوبة القتل في الردع والانزجار ، ومن حكمة ذلك تطمين أولياء القتلى بأن القضاء ينتقم لهم ممّن اعتدى على قتيلهم قال تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) [الإسراء : ٣٣] أي لئلا يتصدى أولياء القتيل للانتقام من قاتل مولاهم بأنفسهم ؛ لأن ذلك يفضي إلى صورة الحرب بين رهطين فيكثر فيه إتلاف الأنفس كما تقدم في الكلام على صدر الآية ، ويأتي عند قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩].

__________________

(١) جبر هو اسم قاتل أبيها.

١٣٥

وأول دم أقيد به في الإسلام دم رجل من هذيل قتله رجل من بني ليث فأقاد منه النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو سائر إلى فتح الطائف بموضع يقال له : بحرة الرّغاء في طريق الطائف وذلك سنة ثمان من الهجرة.

و (فِي) من قوله : (فِي الْقَتْلى) ، للظرفية المجازية والقصاص لا يكون في ذوات القتلى ، فتعين تقدير مضاف وحذفه هنا ليشمل القصاص سائر شئون القتلى وسائر معاني القصاص فهو إيجاز وتعميم.

وجمع (الْقَتْلى) باعتبار جمع المخاطبين أي في قتلاكم ، والتعريف في القتلى تعريف الجنس ، والقتيل هو من يقتله غيره من الناس والقتل فعل الإنسان إماتة إنسان آخر فليس الميت بدون فعل فاعل قتيلا.

وجملة (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) بيان وتفصيل لجملة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) فالباء في قوله : (بِالْحُرِّ) وما بعده ، متعلقة بمحذوف دل عليه معنى القصاص والتقدير الحر يقتصّ أو يقتل بالحر إلخ ومفهوم القيد مع ما في الحر والعبد والأنثى من معنى الوصفية يقتضي أن الحر يقتل بالحر لا بغيره والعبد يقتل بالعبد لا بغيره ، والأنثى تقتل بالأنثى لا بغيرها.

وقد اتفق علماء الإسلام على أن هذا المفهوم غير معمول به باطراد ، لكنهم اختلفوا في المقدار المعمول به منه بحسب اختلاف الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة وفي المراد من هذه الآية ومحمل معناها ، ففي «الموطأ» «قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية أن قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) فهؤلاء الذكور وقوله : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) أن القصاص يكون بين الإناث كما يكون بين الذكور والمرأة الحرة تقتل بالمرأة الحرة كما يقتل الحر بالحر والأمة تقتل بالأمة كما يقتل العبد بالعبد والقصاص يكون بين النساء كما يكون يبن الرجال. والقصاص أيضا يكون بين الرجال والنساء». أي وخصّت الأنثى بالذكر مع أنها مشمولة لعموم الحر بالحر والعبد لئلا يتوهم أن صيغة التذكير في قوله : (الْحُرُّ) وقوله: (الْعَبْدُ) مراد بها خصوص الذكور.

قال القرطبي عن طائفة أن الآية جاءت مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه فبيّنت حكم الحر إذا قتل حرا والعبد إذا قتل عبدا والأنثى إذا قتلت أنثى ولم يتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر ، فالآية محكمة وفيها إجمال يبيّنه قوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ) [المائدة : ٤٥] الآية ا ه. وعلى هذا الوجه فالتقييد لبيان عدم التفاضل في أفراد النوع ، ولا

١٣٦

مفهوم له فيما عدا ذلك من تفاضل الأنواع إثباتا ولا نفيا ، وقال الشعبي : نزلت في قوم قالوا : لنقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى ، وذلك وقع في قتال بين حيين من الأنصار ، ولم يثبت هذا الذي رواه وهو لا يغني في إقامة محمل الآية.

وعلى هذين التأويلين لا اعتبار بعموم مفهوم القيد ؛ لأن شرط اعتباره ألا يظهر لذكر القيد سبب إلّا الاحتراز عن نقيضه ، فإذا ظهر سبب غير الاحتراز بطل الاحتجاج بالمفهوم ، وحينئذ فلا دلالة في الآية على ألا يقتل حر بعبد ولا أنثى بذكر ولا على عكس ذلك ، وأن دليل المساواة بين الأنثى والذكر وعدم المساواة بين العبد والحر عند من نفى المساواة مستنبط من أدلة أخرى.

الثالث : نقل عن ابن عباس أن هذا كان حكما في صدر الإسلام ثم نسخ بآية المائدة (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [المائدة : ٤٥] ونقله في «الكشاف» عن سعيد بن المسيب والنخعي والثوري وأبي حنيفة ، ورده ابن عطية والقرطبي بأن آية المائدة حكاية عن بني إسرائيل فكيف تصلح نسخا لحكم ثبت في شريعة الإسلام ، أي حتى على القول بأن شرع من قبلنا شرع لنا فمحله ما لم يأتي في شرعنا خلافه.

وقال ابن العربي في «الأحكام» عن الحنفية : إن قوله تعالى : (فِي الْقَتْلى) هو نهاية الكلام وقوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) جاء بعد ذلك وقد ثبت عموم المساواة بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) لأن القتلى عام وخصوص آخر الآية لا يبطل عموم أولها ، ولذلك قالوا يقتل الحر بالعبد ، قلت : يرد على هذا أنه لا فائدة في التفصيل لو لم يكن مقصودا وإن الكلام بأواخره فالخاص يخصص العام لا محالة ، وإنه لا محيص من اعتبار كونه تفصيلا إلّا أن يقولوا إن ذلك كالتمثيل ، والمنقول عن الحنفية في «الكشاف» هو ما ذكرناه آنفا.

ويبقى بعد هاته التأويلات سؤال قائم عن وجه تخصيص الأنثى بعد قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) وهل تخرج الأنثى عن كونها حرة أو أمة بعد ما تبين أن المراد بالحر والعبد الجنسان ؛ إذ ليس صيغة الذكور فيها للاحتراز عن النساء منهم ؛ فإن (ال)

لمّا صيرته اسم جنس صار الحكم على الجنس وبطل ما فيه من صيغة تأنيث كما يبطل ما فيه من صيغة جمع إن كانت فيه.

ولأجل هذا الإشكال سألت العلامة الجد الوزير رحمه‌الله عن وجه مجيء هذه المقابلة المشعرة بألا يقتص من صنف إلّا لقتل مماثله في الصفة فترك لي ورقة بخطه فيها

١٣٧

ما يأتي : الظاهر والله تعالى أعلم أن الآية (يعني آية سورة المائدة) نزلت إعلاما بالحكم في بني إسرائيل تأنيسا وتمهيدا لحكم الشريعة الإسلامية ، ولذلك تضمنت إناطة الحكم بلفظ النفس المتناول للذكر والأنثى الحر والعبد الصغير والكبير ، ولم تتضمن حكما للعبيد ولا للإناث ، وصدرت بقوله (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) [المائدة : ٤٥] ، والآية الثانية (يعني آية سورة البقرة) صدرت بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) وناط الحكم فيها بالحرية المتناولة للأصناف كلها ثم ذكر حكم العبيد والأناث ردا على من يزعم أنه لا يقتص لهم ، وخصص الأنثى بالأنثى للدلالة على أن عدمها معصوم ، وذلك لأنه إذا اقتص لها من الأنثى ولم يقتص لها من الذكر صار الدم معصوما تارة لذاته غير معصوم أخرى وهذا من لطف التبليغ حيث كان الحكم متضمنا لدليله ، فقوله :

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جر الذيول

حكم جاهلي ا ه.

يعني أن الآية لم يقصد منها إلّا إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من ترك القصاص لشرف أو لقلة اكتراث ، فقصدت التسوية بقوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) أي لا فضل لحر شريف على حر ضعيف ولا لعبيد السادة على عبيد العامة وقصدت من ذكر الأنثى إبطال ما كان عليه الجاهلية من عدم الاعتداد بجناية الأنثى واعتبارها غير مؤاخذة بجناياتها ، وأراد بقوله : حكم جاهلي أنه ليس جاريا على أحكام الإسلام ؛ لأن البيت لعمر ابن أبي ربيعة وهو شاعر إسلامي من صدر الدولة الأموية.

فإن قلت : كان الوجه ألا يقول : (بِالْأُنْثى) المشعر بأن الأنثى لا تقتل بالرجل مع إجماع المسلمين على أن المرأة يقتص منها للرجل. قلت : الظاهر أن القيد خرج مخرج الغالب ، فإن الجاري في العرف أن الأنثى لا تقتل إلّا أنثى ، إذ لا يتثاور الرجال والنساء فذكر (بِالْأُنْثى) خارج على اعتبار الغالب كمخرج وصف السائمة في قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم «في الغنم السائمة الزكاة» والخلاصة أن الآية لا يلتئم منها معنى سليم من الإشكال إلّا معنى إرادة التسوية بين الأصناف لقصد إبطال عوائد الجاهلية.

وإذا تقرر أن الآية لا دلالة لها على نفي القصاص بين الأصناف المختلفة ولا على إثباته من جهة ما ورد على كل تأويل غير ذلك من انتقاض بجهة أخرى ، فتعين أن قوله:(الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) محمله الذي لا شك فيه هو مساواة أفراد كل صنف بعضها مع بعض دون تفاضل بين الأفراد ، ثم أدلة العلماء في تسوية القصاص بين

١٣٨

بعض الأصناف مع بعض الذكور بالإناث وفي عدمها كعدم تسوية الأحرار بالعبيد عند الذين لا يسوون بين صنفيهما خلافا لأبي حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وداود أدلة أخرى غير هذا القيد الذي في ظاهر الآية ، فأما أبو حنيفة فأخذ بعموم قوله : (الْقَتْلى) ولم يثبت له مخصصا ولم يستثن منه إلّا القصاص بين المسلم والكافر الحربي واستثناؤه لا خلاف فيه ، ووجهه أن الحربي غير معصوم الدم ، وأما المعاهد ففي حكم قتل المسلم إياه مذاهب ، وأما الشافعي وأحمد فنفيا القصاص من المسلم للذمي والمعاهد وأخذا بحديث «لا يقتل مسلم بكافر» ، ومالك والليث قالا لا قصاص من المسلم إذا قتل الذمي والمعاهد قتل عدوان وأثبتا القصاص منه إذا قتل غيلة.

وأما القصاص بين الحر والعبد في قطع الأطراف فليس من متعلقات هذه الآية وسيأتي عند قوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة : ٤٥] في سورة العقود. ونفي مالك والشافعي وأحمد القصاص من الحر للعبد استنادا لعمل الخلفاء الراشدين وسكوت الصحابة ، واستنادا لآثار مروية ، وقياسا على انتفاء القصاص من الحر في إصابة أطراف العبد فالنفس أولى بالحفظ. والقصاص من العبد لقتله الحر ثابت عندهما بالفحوى ، والقصاص من الذكر لقتل الأنثى ثابت بلحن الخطاب.

(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ).

الفاء لتفريع الإخبار أي لمجرد الترتيب اللفظي لا لتفريع حصول ما تضمنته الجملة المعطوفة بها على حصول ما تضمنته ما قبلها ، والمقصود بيان أن أخذ الولي بالقصاص المستفاد من صور (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ليس واجبا عليه ولكنه حق له فقط لئلا يتوهم من قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) أن الأخذ به واجب على ولي القتيل ، والتصدي لتفريع ذكر هذا بعد ذكر حق القصاص للإيماء إلى أن الأولى بالناس قبول الصلح استبقاء لأواصر أخوة الإسلام.

قال الأزهري : «هذه آية مشكلة وقد فسروها تفسيرا قربوه على قدر أفهام أهل عصرهم» ثم أخذ الأزهري في تفسيرها بما لم يكشف معنى وما أزال إشكالا ، وللمفسرين مناح كثيرة في تفسير ألفاظها ذكر القرطبي خمسة منها ، وذكر في «الكشاف» تأويلا آخر ، وذكر الطيبي تأويلين راجعين إلى تأويل «الكشاف» ، واتفق جميعهم على أن المقصد منها

١٣٩

لترغيب في المصالحة عن الدماء ، وينبغي ألا نذهب بأفهام الناظر طرائق قددا ، فالقول الفصل أن نقول : إن ما صدق من في قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) هو ولي المقتول وإن المراد بأخيه هو القاتل وصفا بأنه أخ تذكيرا بأخوة الإسلام وترقيقا لنفس ولي المقتول ؛ لأنه إذا اعتبر القاتل أخا له كان من المروءة ألا يرضى بالقود منه ؛ لأنه كمن رضي بقتل أخيه ، ولقد قال بعض العرب : قتل أخوه ابنا له عمدا فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف وقال :

أقول للنفس تأساء وتعزية

إحدى يديّ أصابتني ولم ترد

كلاهما خلف من فقد صاحبه

هذا أخي حين أدعوه وذا ولدي

وما صدق (شَيْءٌ) هو عرض الصلح ، ولفظ شيء اسم متوغل في التنكير دال على نوع ما يصلح له سياق الكلام ، وقد تقدم حسن موقع كلمة شيء عند قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) [البقرة : ١٥٥].

ومعنى (عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ) أنه أعطى العفو أي الميسور على القاتل من عوض الصلح. ومن معاني العفو أنه الميسور من المال الذي لا يجحف بباذله وقد فسر به العفو من قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ) [الأعراف : ١٩٩] ، وإيثار هذا الفعل لأنه يؤذن بمراعاة التيسير والسماحة وهي من خلق الإسلام فهذا تأكيد للترغيب الذي دل عليه قوله : (مِنْ أَخِيهِ) ، والتعبير عن عوض الدم بشيء لأن العوض يختلف فقد يعرض على ولي الدم مال من ذهب أو فضة وقد يعرض عليه إبل أو عروض أو مقاصة دماء بين الحيين ؛ إذ ليس العوض في قتل العمد معينا كما هو في دية قتل الخطأ.

(واتّباع) و (أداء) مصدران وقعا عوضا عن فعلين والتقدير : فليتبع اتباعا وليؤد أداء فعدل عن أن ينصب على المفعولية المطلقة إلى الرفع لإفادة معنى الثبات والتحقيق الحاصل بالجملة الاسمية كما عدل إلى الرفع في قوله تعالى : (قالَ سَلامٌ) [هود : ٦٩] بعد قوله : (قالُوا سَلاماً) [هود : ٦٩] ، وقد تقدم تطور المصدر الذي أصله مفعول مطلق إلى مصيره مرفوعا عند قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] ، فنظم الكلام : فاتباع حاصل ممن عفي له من أخيه شيء وأداء حاصل من أخيه إليه ، وفي هذا تحريض لمن عفي له على أن يقبل ما عفي له وتحريض لأخيه على أداء ما بذله بإحسان. والاتباع مستعمل في القبول والرضا ، أي فليرض بما عفي له كقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع».

والضمير المقدر في (اتباع) عائد إلى (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) والضمير المقدر في أداء عائد

١٤٠