تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٤

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١٢ ـ سورة يوسف

الاسم الوحيد لهذه السورة اسم سورة يوسف ، فقد ذكر ابن حجر في كتاب «الإصابة» في ترجمة رافع بن مالك الزرقي عن ابن إسحاق أن أبا رافع بن مالك أول من قدم المدينة بسورة يوسف ، يعني بعد أن بايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم العقبة.

ووجه تسميتها ظاهر لأنّها قصّت قصّة يوسف ـ عليه‌السلام ـ كلّها ، ولم تذكر قصّته في غيرها. ولم يذكر اسمه في غيرها إلّا في سورة الأنعام وغافر.

وفي هذا الاسم تميز لها من بين السّور المفتتحة بحروف الر ، كما ذكرناه في سورة يونس.

وهي مكيّة على القول الذي لا ينبغي الالتفات إلى غيره. وقد قيل : إنّ الآيات الثلاث من أوّلها مدنيّة. قال في «الإتقان» : وهو واه لا يلتفت إليه.

نزلت بعد سورة هود ، وقبل سورة الحجر.

وهي السورة الثالثة والخمسون في ترتيب نزول السّور على قول الجمهور.

ولم تذكر قصة نبيء في القرآن بمثل ما ذكرت قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ هذه السورة من الإطناب.

وعدد آيها مائة وإحدى عشرة آية باتّفاق أصحاب العدد في الأمصار.

من مقاصد هذه السورة

روى الواحدي والطبري يزيد أحدهما على الآخر عن سعد بن أبي وقّاص أنّه قال : أنزل القرآن فتلاه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على أصحابه زمانا ، فقالوا (أي المسلمون بمكة) :

٥

يا رسول الله لو قصصت علينا ، فأنزل الله (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [سورة يوسف : ١ ، ٢] الآيات الثلاث.

فأهم أغراضها : بيان قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ مع إخوته ، وما لقيه في حياته ، وما في ذلك من العبر من نواح مختلفة.

وفيها إثبات أنّ بعض المرائي قد يكون إنباء بأمر مغيّب ، وذلك من أصول النبوءات وهو من أصول الحكمة المشرقية كما سيأتي عند قوله تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) [سورة يوسف : ٤] الآيات.

وأن تعبير الرؤيا علم يهبه الله لمن يشاء من صالحي عباده.

وتحاسد القرابة بينهم.

ولطف الله بمن يصطفيه من عباده.

والعبرة بحسب العواقب ، والوفاء ، والأمانة ، والصدق ، والتوبة.

وسكنى إسرائيل وبنيه بأرض مصر.

وتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لقيه يعقوب ويوسف ـ عليهما‌السلام ـ من آلهم من الأذى. وقد لقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من آله أشدّ ما لقيه من بعداء كفار قومه ، مثل عمّه أبي لهب ، والنضر بن الحارث ، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وإن كان هذا قد أسلم بعد وحسن إسلامه ، فإن وقع أذى الأقارب في النفوس أشد من وقع أذى البعداء ، كما قال طرفة :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهنّد

قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) [سورة يوسف : ٧].

وفيها العبرة بصبر الأنبياء مثل يعقوب ويوسف ـ عليهم‌السلام ـ على البلوى. وكيف تكون لهم العاقبة.

وفيها العبرة بهجرة قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البلد الذي حلّ به كما فعل يعقوب ـ عليه‌السلام ـ وآله ، وذلك إيماء إلى أنّ قريشا ينتقلون إلى المدينة مهاجرين تبعا لهجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦

وفيها من عبر تاريخ الأمم والحضارة القديمة وقوانينها ونظام حكوماتها وعقوباتها وتجارتها. واسترقاق الصبي اللقيط. واسترقاق السارق ، وأحوال المساجين. ومراقبة المكاييل.

وإن في هذه السورة أسلوبا خاصا من أساليب إعجاز القرآن وهو الإعجاز في أسلوب القصص الذي كان خاصّة أهل مكّة يعجبون ممّا يتلقّونه منه من بين أقاصيص العجم والروم ، فقد كان النضر بن الحارث وغيره يفتنون قريشا بأنّ ما يقوله القرآن في شأن الأمم هو أساطير الأوّلين اكتتبها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وكان النضر يتردّد على الحيرة فتعلّم أحاديث (رستم) و (إسفنديار) من أبطال فارس ، فكان يحدّث قريشا بذلك ويقول لهم : أنا والله أحسن حديثا من محمّد فهلمّ أحدّثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدّثهم بأخبار الفرس ، فكان ما في بعضها من التّطويل على عادة أهل الأخبار من الفرس يموّه به عليهم بأنّه أشبع للسامع ، فجاءت هذه السورة على أسلوب استيعاب القصة تحدّيا لهم بالمعارضة.

على أنّها مع ذلك قد طوت كثيرا من القصة من كلّ ما ليس له كبير أثر في العبرة. ولذلك ترى في خلال السورة (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) [سورة يوسف : ٥٦] مرتين (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ) [سورة يوسف : ٧٦] فتلك عبر من أجزاء القصة.

وما تخلّل ذلك من الحكمة في أقوال الصّالحين كقوله : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [سورة يوسف : ٦٧] ، وقوله : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [سورة يوسف : ٩٠].

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١))

(الر).

تقدم الكلام على نظائر (الر) ونحوها في أوّل سورة البقرة.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ).

الكلام على (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) مضى في سورة يونس. ووصف الكتاب هنا ب (الْمُبِينِ) ووصف به في طالعة سورة يونس بالحكيم لأنّ ذكر وصف إبانته هنا أنسب ، إذ كانت القصّة التي تضمّنتها هذه السّورة مفصّلة مبيّنة لأهمّ ما جرى في مدة

٧

يوسف ـ عليه‌السلام ـ بمصر. فقصّة يوسف ـ عليه‌السلام ـ لم تكن معروفة للعرب قبل نزول القرآن إجمالا ولا تفصيلا ، بخلاف قصص الأنبياء : هود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ـ عليهم‌السلام أجمعين ـ ، إذ كانت معروفة لديهم إجمالا ، فلذلك كان القرآن مبيّنا إيّاها ومفصّلا.

ونزولها قبل اختلاط النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باليهود في المدينة معجزة عظيمة من إعلام الله تعالى إيّاه بعلوم الأوّلين ، وبذلك ساوى الصحابة علماء بني إسرائيل في علم تاريخ الأديان والأنبياء وذلك من أهم ما يعلمه المشرعون.

فالمبين : اسم فاعل من أبان المتعدي. والمراد : الإبانة التامّة باللفظ والمعنى.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢))

استئناف يفيد تعليل الإبانة من جهتي لفظه ومعناه ، فإنّ كونه قرآنا يدل على إبانة المعاني ، لأنّه ما جعل مقروءا إلّا لما في تراكيبه من المعاني المفيدة للقارئ.

وكونه عربيا يفيد إبانة ألفاظه المعاني المقصودة للّذين خوطبوا به ابتداء ، وهم العرب ، إذ لم يكونوا يتبيّنون شيئا من الأمم التي حولهم لأنّ كتبهم كانت باللغات غير العربية.

والتّأكيد ب (إنّ) متوجّه إلى خبرها وهو فعل (أَنْزَلْناهُ) ردّا على الذين أنكروا أن يكون منزلا من عند الله.

وضمير (أَنْزَلْناهُ) عائد إلى (الْكِتابِ) في قوله : (الْكِتابِ الْمُبِينِ) [سورة يوسف : ١].

و (قُرْآناً) حال من الهاء في (أَنْزَلْناهُ) ، أي كتابا يقرأ ، أي منظما على أسلوب معدّ لأن يقرأ لا كأسلوب الرسائل والخطب أو الأشعار ، بل هو أسلوب كتاب نافع نفعا مستمرا يقرؤه الناس.

و (عَرَبِيًّا) صفة ل (قُرْآناً). فهو كتاب بالعربيّة ليس كالكتب السّالفة فإنّه لم يسبقه كتاب بلغة العرب.

وقد أفصح عن التعليل المقصود جملة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، أي رجاء حصول العلم لكم من لفظه ومعناه ، لأنّكم عرب فنزوله بلغتكم مشتملا على ما فيه نفعكم هو سبب

٨

لعقلكم ما يحتوي عليه ، وعبّر عن العلم بالعقل للإشارة إلى أنّ دلالة القرآن على هذا العلم قد بلغت في الوضوح حدّ أن ينزّل من لم يحصل له العلم منها منزلة من لا عقل له ، وأنّهم ما داموا معرضين عنه فهم في عداد غير العقلاء.

وحذف مفعول (تَعْقِلُونَ) للإشارة إلى أنّ إنزاله كذلك هو سبب لحصول تعقل لأشياء كثيرة من العلوم من إعجاز وغيره.

وتقدّم وجه وقوع (لعلّ) في كلام الله تعالى ، ومحمل الرجاء المفاد بها على ما يؤول إلى التعليل عند قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) في سورة البقرة [٥٢] ، وفي آيات كثيرة بعدها بما لا التباس بعده.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣))

هذه الجملة تتنزل من جملة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [سورة يوسف : ٢] منزلة بدل الاشتمال لأنّ أحسن القصص ممّا يشتمل عليه إنزال القرآن. وكون القصص من عند الله يتنزّل منزلة الاشتمال من جملة تأكيد إنزاله من عند الله.

وقوله : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) يتضمّن رابطا بين جملة البدل والجملة المبدل منها.

وافتتاح الجملة بضمير العظمة للتّنويه بالخبر ، كما يقول كتّاب «الديوان» : أمير المؤمنين يأمر بكذا.

وتقديم الضمير على الخبر الفعليّ يفيد الاختصاص ، أي نحن نقصّ لا غيرنا ، ردّا على من يطعن من المشركين في القرآن بقولهم : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ)[سورة النحل : ١٠٣] وقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) [سورة الفرقان : ٥] ـ وقولهم : يعلمه رجل من أهل اليمامة اسمه الرّحمن. وقول النضر بن الحارث المتقدّم ديباجة تفسير هذه السورة.

وفي هذا الاختصاص توافق بين جملة البدل والجملة المبدل منها في تأكيد كون القرآن من عند الله المفاد بقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [سورة يوسف : ٢].

ومعنى (نَقُصُ) نخبر الأخبار السّالفة. وهو منقول من قصّ الأثر إذا تتبّع مواقع الأقدام ليتعرّف منتهى سير صاحبها. ومصدره : القصّ بالإدغام ، والقصص بالفكّ. قال

٩

تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) [سورة الكهف : ٦٤]. وذلك أنّ حكاية أخبار الماضين تشبه اتّباع خطاهم ، ألا ترى أنّهم سمّوا الأعمال سيرة وهي في الأصل هيئة السّير ، وقالوا : سار فلان سيرة فلان ، أي فعل مثل فعله ، وقد فرّقوا بين هذا الإطلاق المجازي وبين قصّ الأثر فخصّوا المجازي بالصّدر المفكّك وغلبوا المصدر المدغم على المعنى الحقيقيّ مع بقاء المصدر المفكك أيضا كما في قوله : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً).

ف (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) هنا إمّا مفعول مطلق مبيّن لنوع فعله ، وإمّا أن يكون القصص بمعنى المفعول من إطلاق المصدر وإرادة المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق ، وهو إطلاق للقصص شائع أيضا. قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [سورة يوسف : ١١١]. وقد يكون وزن فعل بمعنى المفعول كالنّبإ والخبر بمعنى المنبّأ به والمخبّر به ، ومثله الحسب والنقض.

وجعل هذا القصص أحسن القصص لأنّ بعض القصص لا يخلو عن حسن ترتاح له النفوس. وقصص القرآن أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه وإعجاز أسلوبه وبما يتضمّنه من العبر والحكم ، فكلّ قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه ، وكلّ قصة في القرآن هي أحسن من كلّ ما يقصّه القاصّ في غير القرآن. وليس المراد أحسن قصص القرآن حتى تكون قصّة يوسف ـ عليه‌السلام ـ أحسن من بقيّة قصص القرآن كما دلّ عليه قوله : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ).

والباء في (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) للسببيّة متعلّقة ب (نَقُصُ) ، فإنّ القصص الوارد في القرآن كان أحسن لأنّه وارد من العليم الحكيم ، فهو يوحي ما يعلم أنّه أحسن نفعا للسّامعين في أبدع الألفاظ والتراكيب ، فيحصل منه غذاء العقل والروح وابتهاج النفس والذّوق ممّا لا تأتي بمثله عقول البشر.

واسم الإشارة لزيادة التمييز ، فقد تكرّر ذكر القرآن بالتّصريح والإضمار واسم الإشارة ستّ مرّات ، وجمع له طرق التعريف كلّها وهي اللّام والإضمار والعلمية والإشارة والإضافة.

وجملة (وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) في موضع الحال من كاف الخطاب. وحرف (إِنْ) مخفّف من الثقيلة ، واسمها ضمير شأن محذوف.

١٠

وجملة (كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) خبر عن ضمير الشأن المحذوف واللّام الدّاخلة على خبر (كُنْتَ) لام الفرق بين (إِنْ) المخففة و (إن) النافية.

وأدخلت اللّام في خبر كان لأنه جزء من الجملة الواقعة خبرا عن (إن).

والضمير في (قَبْلِهِ) عائد إلى القرآن. والمراد من قبل نزوله بقرينة السياق.

والغفلة : انتفاء العلم لعدم توجّه الذهن إلى المعلوم ، والمعنى المقصود من الغفلة ظاهر. ونكتة جعله من الغافلين دون أن يوصف وحده بالغفلة للإشارة إلى تفضيله بالقرآن على كل من لم ينتفع بالقرآن فدخل في هذا الفضل أصحابه والمسلمون على تفاوت مراتبهم في العلم.

ومفهوم (مِنْ قَبْلِهِ) مقصود منه التعريض بالمشركين المعرضين عن هدي القرآن. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنّما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» ، أي المشركين الذين مثلهم كمثل من لا يرفع رأسه لينظر.

(إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤))

(إِذْ قالَ) بدل اشتمال أو بعض من (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [سورة يوسف : ٣] على أن يكون أحسن القصص بمعنى المفعول ، فإنّ أحسن القصص يشتمل على قصص كثير ، منه قصص زمان قول يوسف ـ عليه‌السلام ـ لأبيه (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) وما عقب قوله ذلك من الحوادث. فإذا حمل (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [سورة يوسف : ٣] على المصدر فالأحسن أن يكون (إِذْ) منصوبا بفعل محذوف يدلّ عليه المقام ، والتّقدير : اذكر.

ويوسف اسم عبراني تقدم ذكر اسمه عند قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) إلخ في سورة الأنعام [٨٣]. وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق من زوجه (راحيل). وهو أحد الأسباط الذين تقدم ذكرهم في سورة البقرة. وكان يوسف أحب أبناء

١١

يعقوب ـ عليهما‌السلام ـ إليه وكان فرط محبة أبيه إياه سبب غيرة إخوته منه فكادوا له مكيدة فسألوا أباهم أن يتركه يخرج معهم. فأخرجوه معهم بعلّة اللعب والتفسح ، وألقوه في جبّ ، وأخبروا أباهم أنّهم فقدوه ، وأنهم وجدوا قميصه ملوّثا بالدّم ، وأروه قميصه بعد أن لطّخوه بدم ، والتقطه من البئر سيارة من العرب الإسماعيليين كانوا سائرين في طريقهم إلى مصر ، وباعوه كرقيق في سوق عاصمة مصر السفلى التي كانت يومئذ في حكم أمّة من الكنعانيين يعرفون بالعمالقة أو (الهكصوص). وذلك في زمن الملك (أبو فيس) أو (ابيبي). ويقرب أن يكون ذلك في حدود سنة تسع وعشرين وسبعمائة وألف قبل المسيح ـ عليه‌السلام ـ ، فاشتراه (فوطيفار) رئيس شرطة فرعون الملقّب في القرآن بالعزيز ، أي رئيس المدينة. وحدثت مكيدة له من زوج سيّده ألقي بسببها في السجن. وبسبب رؤيا رآها الملك وعبّرها يوسف ـ عليه‌السلام ـ وهو في السجن ، قرّبه الملك إليه زلفى ، وأولاه على جميع أرض مصر ، وهو لقب العزيز وسمّاه (صفنات فعنيج) ، وزوّجه (أسنات) بنت أحد الكهنة وعمره يومئذ ثلاثون سنة. وفي مدة حكمه جلب أباه وأقاربه من البريّة إلى أرض مصر ، فذلك سبب استيطان بني إسرائيل أرض مصر. وتوفي بمصر في حدود سنة خمس وثلاثين وستمائة وألف قبل ميلاد عيسى ـ عليه‌السلام ـ. وحنّط على الطريقة المصرية. ووضع في تابوت ، وأوصى قبل موته قومه بأنهم إذا خرجوا من مصر يرفعون جسده معهم. ولمّا خرج بنو إسرائيل من مصر رفعوا تابوت يوسف ـ عليه‌السلام ـ معهم وانتقلوه معهم في رحلتهم إلى إلى أن دفنوه في (شكيم) في مدة يوشع بن نون.

والتاء في (أبت) تاء خاصّة بكلمة الأب وكلمة الأم في النداء خاصة على نية الإضافة إلى المتكلم ، فمفادها مفاد : يا أبي ، ولا يكاد العرب يقولون : يا أبي. وورد في سلام ابن عمر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبه حين وقف على قبورهم المنوّرة. وقد تحيّر أئمّة اللغة في تعليل وصلها بآخر الكلمة في النداء واختاروا أن أصلها تاء تأنيث بقرينة أنهم قد يجعلونها هاء في الوقف ، وأنها جعلت عوضا عن ياء المتكلم لعلة غير وجيهة. والذي يظهر لي أنّ أصلها هاء السكت جلبوها للوقف على آخر الأب لأنّه نقص من لام الكلمة ، ثم لما شابهت هاء التأنيث بكثرة الاستعمال عوملت معاملة آخر الكلمة إذا أضافوا المنادى فقالوا : يا أبتي ، ثم استغنوا عن ياء الإضافة بالكسرة لكثرة الاستعمال. ويدل لذلك بقاء الياء في بعض الكلام كقول الشاعر الذي لا نعرفه :

أيا أبتي لا زلت فينا فإنّما

لنا أمل في العيش ما دمت عائشا

١٢

ويجوز كسر هذه التّاء وفتحها ، وبالكسر قرأها الجمهور ، وبفتح التّاء قرأ ابن عامر وأبو جعفر.

والنداء في الآية مع كون المنادى حاضرا مقصود به الاهتمام بالخبر الذي سيلقى إلى المخاطب فينزل المخاطب منزلة الغائب المطلوب حضوره ، وهو كناية عن الاهتمام أو استعارة له.

والكوكب : النجم ، تقدّم عند قوله تعالى : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) في سورة الأنعام [٧٦].

وجملة (رَأَيْتُهُمْ) مؤكدة لجملة (رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) ، جيء بها على الاستعمال في حكاية المرائي الحلمية أن يعاد فعل الرؤية تأكيدا لفظيا أو استئنافا بيانيا ، كأن سامع الرؤيا يستزيد الرائي أخبارا عمّا رأى.

ومثال ذلك ما وقع في «الموطّأ» أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم» الحديث.

وفي البخاري أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأيت في المنام أني أهاجر من مكّة إلى أرض بها نخل ، ورأيت فيها بقرا تذبح ، ورأيت .. والله خير». وقد يكون لفظ آخر في الرؤيا غير فعلها كما في الحديث الطّويل «إنّه أتاني الليلة آتيان ، وإنهما ابتعثاني ، وإنّهما قالا لي : انطلق ، وإنّي انطلقت معهما ، وإنّا أتينا على رجل مضطجع» الحديث بتكرار كلمة (إنّ) وكلمة (إنّا) مرارا في هذا الحديث.

وقرأ الجمهور (أَحَدَ عَشَرَ) ـ بفتح العين ـ من (عَشَرَ). وقرأه أبو جعفر ـ بسكون العين ـ.

واستعمل ضمير جمع المذكر للكواكب والشمس والقمر في قوله : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) ، لأن كون ذلك للعقلاء غالب لا مطرد ، كما قال تعالى في الأصنام (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [سورة الأعراف : ١٩٨] ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا) [سورة النمل : ١٨].

وقال جماعة من المفسّرين : إنه لمّا كانت الحالة المرئية من الكواكب والشمس والقمر حالة العقلاء ، وهي حالة السجود نزّلها منزلة العقلاء ، فأطلق عليها ضمير (هم) وصيغة جمعهم.

١٣

وتقديم المجرور على عامله في قوله : (لِي ساجِدِينَ) للاهتمام ، عبّر به عن معنى تضمّنه كلام يوسف ـ عليه‌السلام ـ بلغته يدل على حالة في الكواكب من التعظيم له تقتضي الاهتمام بذكره فأفاده تقديم المجرور في اللغة العربيّة.

وابتداء قصة يوسف ـ عليه‌السلام ـ بذكر رؤياه إشارة إلى أنّ الله هيّأ نفسه للنبوءة فابتدأه بالرؤيا الصّادقة كما جاء في حديث عائشة «أنّ أوّل ما ابتدئ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح». وفي ذلك تمهيد للمقصود من القصة وهو تقرير فضل يوسف ـ عليه‌السلام ـ من طهارة وزكاء نفس وصبر. فذكر هذه الرؤيا في صدر القصّة كالمقدّمة والتّمهيد للقصّة المقصودة.

وجعل الله تلك الرؤيا تنبيها ليوسف ـ عليه‌السلام ـ بعلو شأنه ليتذكرها كلما حلت به ضائقة فتطمئن بها نفسه أن عاقبته طيبة.

وإنما أخبر يوسف ـ عليه‌السلام ـ أباه بهاته الرؤيا لأنّه علم بإلهام أو بتعليم سابق من أبيه أن للرؤيا تعبيرا ، وعلم أنّ الكواكب والشّمس والقمر كناية عن موجودات شريفة ، وأنّ سجود المخلوقات الشّريفة له كناية عن عظمة شأنه. ولعلّه علم أنّ الكواكب كناية عن موجودات متماثلة ، وأنّ الشمس والقمر كناية عن أصلين لتلك الموجودات فاستشعر على الإجمال دلالة رؤياه على رفعة شأنه فأخبر بها أباه.

وكانوا يعدّون الرؤيا من طرق الإنباء بالغيب ، إذا سلمت من الاختلاط وكان مزاج الرائي غير منحرف ولا مضطرب ، وكان الرائي قد اعتاد وقوع تأويل رؤياه ، وهو شيء ورثوه من صفاء نفوس أسلافهم إبراهيم وإسحاق ـ عليهم‌السلام ـ. فقد كانوا آل بيت نبوءة وصفاء سريرة.

ولمّا كانت رؤيا الأنبياء وحيا ، وقد رأى إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ في المنام أنّه يذبح ولد فلمّا أخبره (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) [سورة الصافات : ١٠٢]. وإلى ذلك يشير قول أبي يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) [سورة يوسف : ٦]. فلا جرم أن تكون مرائي أبنائهم مكاشفة وحديثا ملكيا.

وفي الحديث : «لم يبق من المبشرات إلّا الرؤيا الصّالحة يراها المسلم أو ترى له».

والاعتداد بالرؤيا من قديم أمور النبوءة. وقد جاء في التّوراة أن الله خاطب إبراهيم

١٤

ـ عليه‌السلام ـ في رؤيا رآها وهو في طريقه ببلاد شاليم بلد ملكي صادق وبشّره بأنه يهبه نسلا كثيرا ، ويعطيه الأرض التي هو سائر فيها (في الإصحاح ١٥ من سفر التكوين).

أما العرب فإنهم وإن لم يرد في كلامهم شيء يفيد اعتدادهم بالأحلام ، ولعل قول كعب بن زهير :

إن الأماني والأحلام تضليل

يفيد عدم اعتدادهم بالأحلام ، فإن الأحلام في البيت هي مرائي النوم.

ولكن ذكر ابن إسحاق رؤيا عبد المطلب وهو قائم في الحجر أنه أتاه آت فأمره بحفر بئر زمزم فوصف له مكانها ، وكانت جرهم سدموها عند خروجهم من مكة. وذكر ابن إسحاق رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب أن : «راكبا أقبل على بعير فوقف بالأبطح ثم صرخ : يا آل غدر أخرجوا إلى مصارعكم في ثلاث» فكانت وقعة بدر عقبها بثلاث ليال.

وقد عدت المرائي النوميّة في أصول الحكمة الإشراقية وهي من تراثها عن حكمة الأديان السّالفة مثل الحنيفية. وبالغ في تقريبها بالأصول النفسية شهاب الدّين الحكيم السهروردي في هياكل النور وحكمة الإشراق ، وأبو علي بن سينا في الإشارات بما حاصله : وأصله : أنّ النفس الناطقة (وهي المعبّر عنها بالروح) هي من الجواهر المجرّدة التي مقرها العالم العلوي ، فهي قابلة لاكتشاف الكائنات على تفاوت في هذا القبول ، وأنّها تودع في جسم الجنين عند اكتمال طور المضغة ، وأنّ للنفس الناطقة آثارا من الانكشافات إذا ظهرت فقد ينتقش بعضها بمدارك صاحب النفس في لوح حسّه المشترك ، وقد يصرفه عن الانتقاش شاغلان : أحدهما حسّيّ خارجيّ ، والآخر باطنيّ عقليّ أو وهميّ ، وقوى النفس متجاذبة متنازعة فإذا اشتدّ بعضها ضعف البعض الآخر كما إذا هاج الغضب ضعفت الشهوة ، فكذلك إن تجرّد الحس الباطن للعمل شغل عن الحسّ الظاهر ، والنوم شاغل للحسّ ، فإذا قلّت شواغل الحواس الظاهرة فقد تتخلّص النفس عن شغل مخيلاتها ، فتطلع على أمور مغيبة ، فتكون المنامات الصادقة.

والرؤيا الصادقة حالة يكرم الله بها بعض أصفيائه الذين زكت نفوسهم فتتّصل نفوسهم بتعلّقات من علم الله وتعلّقات من إرادته وقدرته وأمره التكوينيّ فتنكشف بها الأشياء المغيبة بالزّمان قبل وقوعها ، أو المغيبة بالمكان قبل اطلاع الناس عليها اطلاعا عاديّا ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «الرؤيا الصالحة من الرّجل الصالح جزء من ستّة وأربعين جزءا من

١٥

النبوءة». وقد بيّن تحديد هذه النسبة الواقعة في الحديث في شروح الحديث. وقال : «لم يبق من النبوءة إلا المبشّرات وهي الرؤيا الصّالحة للرجل الصالح يراها أو ترى له».

وإنّما شرطت المرائي الصادقة بالنّاس الصّالحين لأنّ الارتياض على الأعمال الصّالحة شاغل للنفس عن السيّئات ، ولأنّ الأعمال الصّالحات ارتقاءات وكمالات فهي معينة لجوهر النفس على الاتّصال بعالمها الذي خلقت فيه وأنزلت منه ، وبعكس ذلك الأعمال السيّئة تبعدها عن مألوفاتها وتبلدها وتذبذبها.

والرؤيا مراتب :

منها أن : ترى صور أفعال تتحقّق أمثالها في الوجود مثل رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يهاجر من مكّة إلى أرض ذات نخل ، وظنّه أنّ تلك الأرض اليمامة فظهر أنّها المدينة ، ولا شك أنّه لمّا رأى المدينة وجدها مطابقة للصّورة التي رآها ، ومثل رؤياه امرأة في سرقة من حرير فقيل له اكشفها فهي زوجك فكشف فإذا هي عائشة ، فعلم أن سيتزوجها. وهذا النوع نادر وحالة الكشف فيه قوية.

ومنها أن ترى صور تكون رموزا للحقائق التي ستحصل أو التي حصلت في الواقع ، وتلك من قبيل مكاشفة النفس للمعاني والمواهي وتشكيل المخيّلة تلك الحقائق في أشكال محسوسة هي من مظاهر تلك المعاني ، وهو ضرب من ضروب التشبيه والتمثيل الذي تخترعه ألباب الخطباء والشعراء ، إلّا أنّ هذا تخترعه الألباب في حالة هدوّ الدماغ من الشواغل الشاغلة ، فيكون أتقن وأصدق. وهذا أكثر أنواع المرائي. ومنه رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه يشرب من قدح لبن حتى رأى الريّ في أظفاره ثم أعطى فضله عمر بن الخطّاب ـ رضي‌الله‌عنه ـ. وتعبيره ذلك بأنّه العلم.

وكذلك رؤياه امرأة سوداء ناشرة شعرها خارجة من المدينة إلى الجحفة ، فعبّرها بالحمى تنتقل من المدينة إلى الجحفة ، ورئي عبد الله بن سلام أنه في روضة ، وأنّ فيها عمودا ، وأنّ فيه عروة ، وأنّه أخذ بتلك العروة فارتقى إلى أعلى العمود ، فعبّره النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنّه لا يزال آخذا بالإيمان الذي هو العروة الوثقى ، وأنّ الروضة هي الجنّة ، فقد تطابق التمثيل النوميّ مع التمثيل المتعارف في قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [سورة البقرة : ٢٥٦] ، وفي قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة».

١٦

وسيأتي تأويل هذه الرؤيا عند قوله تعالى : (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) [سورة يوسف : ١٠٠].

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥))

جاءت الجملة مفصولة عن التي قبلها على طريقة المحاورات. وقد تقدّمت عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

والنّداء مع حضور المخاطب مستعمل في طلب إحضار الذهن اهتماما بالغرض المخاطب فيه.

و (بُنَيَ) ـ بكسر الياء المشدّدة ـ تصغير ابن مع إضافته إلى ياء المتكلم وأصله بنيوي أو بنييي على الخلاف في أنّ لام ابن الملتزم عدم ظهورها هي واو أم ياء. وعلى كلا التقديرين فإنّها أدغمت فيها ياء التصغير بعد قلب الواو ياء لتقارب الياء والواو ، أو لتماثلهما فصار (بنيّي). وقد اجتمع ثلاث ياءات فلزم حذف واحدة منها فحذفت ياء المتكلم لزوما وألقيت الكسرة التي اجتلبت لأجلها على ياء التصغير دلالة على الياء المحذوفة. وحذف ياء المتكلم من المنادى المضاف شائع ، وبخاصة إذا كان في إبقائها ثقل كما هنا ، لأنّ التقاء ياءات ثلاث فيه ثقل.

وهذا التّصغير كناية عن تحبيب وشفقة. نزل الكبير منزلة الصغير لأنّ شأن الصغير أن يحب ويشفق عليه. وفي ذلك كناية عن إمحاض النصح له.

والقصّ : حكاية الرؤيا. يقال : قص الرؤيا إذا حكاها وأخبر بها. وهو جاء من القصص كما علمت آنفا.

والرؤيا ـ بألف التأنيث ـ هي : رؤية الصور في النوم ، فرّقوا بينها وبين رؤية اليقظة باختلاف علامتي التأنيث ، وهي بوزن البشرى والبقيا.

وقد علم يعقوب ـ عليه‌السلام ـ أن إخوة يوسف ـ عليه‌السلام ـ العشرة كانوا يغارون منه لفرط فضله عليهم خلقا وخلقا ، وعلم أنّهم يعبرون الرؤيا إجمالا وتفصيلا ، وعلم أن تلك الرؤيا تؤذن برفعة ينالها يوسف ـ عليه‌السلام ـ على إخوته الذين هم أحد عشر فخشي إن قصّها يوسف ـ عليه‌السلام ـ عليهم أن تشتد بهم الغيرة إلى حدّ الحسد ،

١٧

وأن يعبّروها على وجهها فينشأ فيهم شرّ الحاسد إذا حسد ، فيكيدوا له كيدا ليسلموا من تفوّقه عليهم وفضله فيهم.

والكيد : إخفاء عمل يضرّ المكيد. وتقدّم عند قوله تعالى : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) في سورة الأعراف [١٨٣].

واللّام في (لَكَ) لتأكيد صلة الفعل بمفعوله كقوله : شكرت لك النعمى.

وتنوين (كَيْداً) للتعظيم والتهويل زيادة في تحذيره من قص الرؤيا عليهم.

وقصد يعقوب ـ عليه‌السلام ـ من ذلك نجاة ابنه من أضرار تلحقه ، وليس قصده إبطال ما دلّت عليه الرؤيا فإنّه يقع بعد أضرار ومشاق. وكان يعلم أن بنيه لم يبلغوا في العلم مبلغ غوص النظر المفضي إلى أن الرّؤيا إن كانت دالة على خير عظيم يناله فهي خبر إلهي ، وهو لا يجوز عليه عدم المطابقة للواقع في المستقبل ، بل لعلّهم يحسبونها من الإنذار بالأسباب الطبيعية التي يزول تسببها بتعطيل بعضها.

وقول يعقوب ـ عليه‌السلام ـ هذا لابنه تحذير له مع ثقته بأنّ التحذير لا يثير في نفسه كراهة لإخوته لأنّه وثق منه بكمال العقل ، وصفاء السريرة ، ومكارم الخلق. ومن كان حاله هكذا كان سمحا ، عاذرا ، معرضا عن الزلّات ، عالما بأثر الصبر في رفعة الشأن ، ولذلك قال لإخوته (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[سورة يوسف : ٩٠] وقال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[سورة يوسف : ٩٢]. وقد قال أحد ابني آدم ـ عليه‌السلام ـ لأخيه الذي قال له لأقتلنّك حسدا (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) [سورة المائدة : ٢٨]. فلا يشكل كيف حذّر يعقوب يوسف ـ عليهما‌السلام ـ من كيد إخوته ، ولذلك عقب كلامه بقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ليعلم أنه ما حذّره إلّا من نزغ الشيطان في نفوس إخوته. وهذا كاعتذار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرّجلين من الأنصار اللذين لقياه ليلا وهو يشيّع زوجه أمّ المؤمنين إلى بيتها فلمّا رأياه ولّيا ، فقال : «على رسلكما إنها صفية ، فقالا : سبحان الله يا رسول الله وأكبرا ذلك ، فقال لهما : إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في نفوسكما». فهذه آية عبرة بتوسّم يعقوب ـ عليه‌السلام ـ أحوال أبنائه وارتيائه أن يكفّ كيد بعضهم لبعض.

فجملة (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ) إلخ واقعة موقع التعليل للنهي عن قصّ الرؤيا على

١٨

إخوته. وعداوة الشيطان لجنس الإنسان تحمله على أن يدفعهم إلى إضرار بعضهم ببعض.

وظاهر الآية أن يوسف ـ عليه‌السلام ـ لم يقص رؤياه على إخوته وهو المناسب لكماله الذي يبعثه على طاعة أمر أبيه. ووقع في الإسرائيليات أنه قصّها عليهم فحسدوه.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

عطف هذا الكلام على تحذيره من قصّ الرؤيا على إخوته إعلاما له بعلوّ قدره ومستقبل كماله ، كي يزيد تمليا من سموّ الأخلاق فيتسع صدره لاحتمال أذى إخوته ، وصفحا عن غيرتهم منه وحسدهم إيّاه ليتمحّض تحذيره للصلاح ، وتنتفي عنه مفسدة إثارة البغضاء ونحوها ، حكمة نبويّة عظيمة وطبّا روحانيّا ناجعا.

والإشارة في قوله : (وَكَذلِكَ) إلى ما دلّت عليه الرؤيا من العناية الربّانيّة به ، أي ومثل ذلك الاجتباء يجتبيك ربّك في المستقبل ، والتّشبيه هنا تشبيه تعليل لأنّه تشبيه أحد المعلولين بالآخر لاتّحاد العلّة. وموقع الجار والمجرور موقع المفعول المطلق ل (يَجْتَبِيكَ) المبيّن لنوع الاجتباء ووجهه.

والاجتباء : الاختيار والاصطفاء. وتقدّم في قوله تعالى : (وَاجْتَبَيْناهُمْ) في سورة الأنعام [٨٧] ، أي اختياره من بين إخوته ، أو من بين كثير من خلقه. وقد علم يعقوب ـ عليه‌السلام ـ ذلك بتعبير الرؤيا ودلالتها على رفعة شأنه في المستقبل فتلك إذا ضمّت إلى ما هو عليه من الفضائل آلت إلى اجتباء الله إياه ، وذلك يؤذن بنبوته. وإنّما علم يعقوب ـ عليه‌السلام ـ أنّ رفعة يوسف ـ عليه‌السلام ـ في مستقبله رفعة إلهية لأنّه علم أن نعم الله تعالى متناسبة فلمّا كان ما ابتدأه به من النعم اجتباء وكمالا نفسيّا تعيّن أن يكون ما يلحق بها ، من نوعها.

ثم إنّ ذلك الارتقاء النفساني الذي هو من الواردات الإلهية غايته أن يبلغ بصاحبه إلى النبوءة أو الحكمة فلذلك علم يعقوب ـ عليه‌السلام ـ أنّ الله سيعلم يوسف ـ عليه‌السلام ـ من تأويل الأحاديث ، لأنّ مسبّب الشيء مسبّب عن سبب ذلك الشيء ، فتعليم التّأويل ناشئ عن التشبيه الذي تضمنه قوله : (وَكَذلِكَ) ، ولأنّ اهتمام يوسف ـ عليه‌السلام ـ برؤياه وعرضها على أبيه دلّ أباه على أنّ الله أودع في نفس يوسف ـ عليه‌السلام ـ الاعتناء بتأويل الرؤيا وتعبيرها. وهذه آية عبرة بحال يعقوب ـ عليه‌السلام ـ مع ابنه إذ

١٩

أشعره بما توسّمه من عناية الله به ليزداد إقبالا على الكمال بقوله : (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ).

والتّأويل : إرجاع الشيء إلى حقيقته ودليله. وتقدّم عند قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [سورة آل عمران : ٧].

و (الْأَحادِيثِ) : يصحّ أن يكون جمع حديث بمعنى الشيء الحادث ، فتأويل الأحاديث : إرجاع الحوادث إلى عللها وأسبابها بإدراك حقائقها على التمام. وهو المعنى بالحكمة ، وذلك بالاستدلال بأصناف الموجودات على قدرة الله وحكمته ، ويصحّ أن يكون الأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر المتحدّث به ، فالتأويل : تعبير الرؤيا. سمّيت أحاديث لأنّ المرائيّ يتحدث بها الراءون وعلى هذا المعنى حملها بعض المفسرين. واستدلوا بقوله في آخر القصة (وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) [سورة يوسف : ١٠٠]. ولعلّ كلا المعنيين مراد بناء على صحة استعمال المشترك في معنييه وهو الأصح ، أو يكون اختيار هذا اللفظ إيجازا معجزا ، إذ يكون قد حكي به كلام طويل صدر من يعقوب ـ عليه‌السلام ـ بلغته يعبّر عن تأويل الأشياء بجميع تلك المعاني.

وإتمام النعمة عليه هو إعطاؤه أفضل النعم وهي نعمة النبوءة ، أو هو ضميمة الملك إلى النبوءة والرسالة ، فيكون المراد إتمام نعمة الاجتباء الأخروي بنعمة المجد الدنيوي.

وعلم يعقوب ـ عليه‌السلام ـ ذلك من دلالة الرؤيا على سجود الكواكب والنيرين له ، وقد علم يعقوب ـ عليه‌السلام ـ تأويل تلك بإخوته وأبويه أو زوج أبيه وهي خالة يوسف ـ عليه‌السلام ـ ، وعلم من تمثيلهم في الرؤيا أنّهم حين يسجدون له يكون أخوته قد نالوا النبوءة ، وبذلك علم أيضا أنّ الله يتمّ نعمته على إخوته وعلى زوج يعقوب ـ عليه‌السلام ـ بالصديقية إذا كانت زوجة نبيء. فالمراد من آل يعقوب خاصتهم وهم أنباؤه وزوجه ، وإن كان المراد بإتمام النعمة ليوسف ـ عليه‌السلام ـ إعطاء الملك فإتمامها على آل يعقوب هو أن زادهم على ما أعطاهم من الفضل نعمة قرابة الملك ، فيصح حينئذ أن يكون المراد من آله جميع قرابته.

والتّشبيه في قوله : (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ) تذكير له بنعم سابقة ، وليس ممّا دلت عليه الرؤيا. ثم إن كان المراد من إتمام النعمة النبوءة فالتّشبيه تام ، وإن كان المراد من إتمام النعمة الملك فالتشبيه في إتمام النعمة على الإطلاق.

وجعل إبراهيم وإسحاق ـ عليهما‌السلام ـ أبوين له لأنّ لهما ولادة عليه ، فهما أبواه

٢٠