تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٠

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١٥ ـ سورة الحجر

سميت هذه السورة سورة الحجر ، ولا يعرف لها اسم غيره. ووجه التسمية أن اسم الحجر لم يذكر في غيرها.

والحجر اسم البلاد المعروفة به وهو حجر ثمود. وثمود هم أصحاب الحجر. وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ). والمكتبون في كتاتيب تونس يدعونها سورة (رُبَما) لأن كلمة «ربّما» لم تقع في القرآن كله إلا في أول هذه السورة.

وهي مكية كلها وحكي الاتفاق عليه.

وعن الحسن استثناء قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) بناء على أن سبعا من المثاني هي سورة الفاتحة وعلى أنها مدنية. وهذا لا يصح لأن الأصح أن الفاتحة مكية.

واستثناء قوله تعالى : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) بناء على تفسيرهم (الْمُقْتَسِمِينَ) بأهل الكتاب وهو صحيح ، وتفسير (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أنهم قالوا : ما وافق منه كتابنا فهو صدق وما خالف كتابنا فهو كذب. ولم يقل ذلك إلا يهود المدينة ، وهذا لا نصححه كما نبينه عند الكلام على تلك الآية.

ولو سلم هذا التفسير من جهتيه فقد يكون لأن اليهود سمعوا القرآن قبل هجرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقليل فقالوا ذلك حينئذ ؛ على أنه قد روي أن قريشا لما أهمهم أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استشاروا في أمره يهود المدينة.

وقال في «الإتقان» ينبغي استثناء قوله : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا

٥

الْمُسْتَأْخِرِينَ) لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها وأنها في صفوف الصلاة اه.

وهو يشير بذلك إلى ما رواه الترمذي من طريق نوح بن قيس الجذامي عن أبي الجوزاء عن ابن عبّاس قال : كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسناء فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر (أي من صفوف الرجال) فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ). قال الترمذي : ورواه جعفر بن سليمان ولم يذكر ابن عباس. وهذا أشبه أن يكون أصح من حديث نوح اه. وهذا توهين لطريق نوح.

قال ابن كثير في تفسيره : «وهذا الحديث فيه نكارة شديدة. والظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء فقط ليس فيه لابن عباس ذكر ، فلا اعتماد إلا على حديث جعفر بن سليمان وهو مقطوع.

وعلى تصحيح أنها مكية فقد عدت الرابعة والخمسين في عدد نزول السور ، نزلت بعد سورة يوسف وقبل سورة الأنعام.

ومن العجيب اختلافهم في وقت نزول هذه السورة وهي مشتملة على آية (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) وقد نزلت عند خروج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دار الأرقم في آخر السنة الرابعة من بعثته.

وعدد آيها تسع وتسعون باتفاق العادّين.

مقاصد هذه السورة

افتتحت بالحروف المقطعة التي فيها تعريض بالتحدي بإعجاز القرآن. وعلى التنويه بفضل القرآن وهديه.

وإنذار المشركين بندم يندمونه على عدم إسلامهم.

وتوبيخهم بأنهم شغلهم عن الهدى انغماسهم في شهواتهم.

وإنذارهم بالهلاك عند حلول إبان الوعيد الذي عينه الله في علمه.

وتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عدم إيمان من لم يؤمنوا ، وما يقولونه في شأنه وما يتوركون بطلبه منه ، وأن تلك عادة المكذبين مع رسلهم.

٦

وأنهم لا تجدي فيهم الآيات والنذر لو أسعفوا بمجيء آيات حسب اقتراحهم به وأن الله حافظ كتابه من كيدهم.

ثم إقامة الحجة عليهم بعظيم صنع الله وما فيه من نعم عليهم.

وذكر البعث ودلائل إمكانه.

وانتقل إلى خلق نوع الإنسان وما شرف الله به هذا النوع.

وقصة كفر الشيطان.

ثم ذكر قصة إبراهيم ولوط ـ عليهما‌السلام ـ وأصحاب الأيكة وأصحاب الحجر.

وختمت بتثبيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتظار ساعة النصر ، وأن يصفح عن الذين يؤذونه ، ويكل أمرهم إلى الله ، ويشتغل بالمؤمنين ، وأن الله كافيه أعداءه.

مع ما تخلل ذلك من الاعتراض والإدماج من ذكر خلق الجن ، واستراقهم السمع ، ووصف أحوال المتقين ، والترغيب في المغفرة ، والترهيب من العذاب.

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١))

(الر)

تقدم الكلام على نظير فاتحة هذه السورة في أول سورة يونس.

وتقدم في أول سورة البقرة ما في مثل هذه الفواتح من إعلان التحديد بإعجاز القرآن.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ)

الإشارة إلى ما هو معروف قبل هذه السورة من مقدار ما نزل بالقرآن ، أي الآيات المعروفة عندكم المتميزة لديكم تميزا كتميز الشيء الذي تمكن الإشارة إليه هي آيات الكتاب. وهذه الإشارة لتنزيل آيات القرآن منزلة الحاضر المشاهد.

و (الْكِتابِ) علم بالغلبة على القرآن الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للهدى والإرشاد إلى الشريعة. وسمي كتابا لأنهم مأمورون بكتابة ما ينزل منه لحفظه ومراجعته ؛ فقد سمي القرآن كتابا قبل أن يكتب ويجمع لأنه بحيث يكون كتابا.

٧

ووقعت هذه الآية في مفتتح تهديد المكذبين بالقرآن لقصد الإعذار إليهم باستدعائهم للنظر في دلائل صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقية دينه.

ولمّا كان أصل التعريف باللام في الاسم المجعول علما بالغلبة جائيا من التوسل بحرف التعريف إلى الدلالة على معنى كمال الجنس في المعرف به لم ينقطع عن العلم بالغلبة أنه فائق في جنسه بمعونة المقام ، فاقتضى أن تلك الآيات هي آيات كتاب بالغ منتهى كمال جنسه ، أي من كتب الشرائع.

وعطف (وَقُرْآنٍ) على (الْكِتابِ) لأن اسم القرآن جعل علما على ما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للإعجاز والتشريع ، فهو الاسم العلم لكتاب الإسلام مثل اسم التوراة والإنجيل والزبور للكتب المشتهرة بتلك الأسماء.

فاسم القرآن أرسخ في التعريف به من الكتاب لأن العلم الأصلي أدخل في تعريف المسمى من العلم بالغلبة ، فسواء نكّر لفظ القرآن أو عرف باللام فهو علم على كتاب الإسلام. فإن نكّر فتنكيره على أصل الأعلام ، وإن عرّف فتعريفه للمح الأصل قبل العلمية كتعريف الأعلام المنقولة من أسماء الفاعلين لأن «القرآن» منقول من المصدر الدال على القراءة ، أي المقروء الذي إذا قرئ فهو منتهى القراءة.

وفي التسمية بالمصدر من معنى قوة الاتصاف بمادة المصدر ما هو معلوم.

وللإشارة إلى ما في كل من العلمين من معنى ليس في العلم الآخر حسن الجمع بينهما بطريق العطف ، وهو من عطف ما يعبر عنه بعطف التفسير لأن «قرآن» بمنزلة عطف البيان من «كتاب» وهو شبيه بعطف الصفة على الموصوف وما هو منه ، ولكنه أشبهه لأن المعطوف متبوع بوصف وهو (مُبِينٍ). وهذا كله اعتبار بالمعنى.

وابتدئ بالمعرّف باللام لما في التعريف من إيذان بالشهرة والوضوح وما فيه من الدلالة على معنى الكمال ، ولأن المعرّف هو أصل الإخبار والأوصاف. ثم جيء بالمنكر لأنه أريد وصفه بالمبين ، والمنكّر أنسب بإجراء الأوصاف عليه ، ولأن التنكير يدل على التفخيم والتعظيم ، فوزعت الدلالتان على نكتة التعريف ونكتة التنكير.

فأما تقديم الكتاب على القرآن في الذكر فلأن سياق الكلام توبيخ الكافرين وتهديدهم بأنهم سيجيء وقت يتمنون فيه أن لو كانوا مؤمنين. فلما كان الكلام موجها إلى المنكرين ناسب أن يستحضر المنزّل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوانه الأعم وهو كونه كتابا ، لأنهم

٨

حين جادلوا ما جالوا إلا في كتاب فقالوا : (لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام : ١٥٧] ولأنهم يعرفون ما عند الأمم الآخرين بعنوان «كتاب» ، ويعرفونهم بعنوان «أهل الكتاب».

فأما عنوان «القرآن» فهو مناسب لكون الكتاب مقروءا مدروسا وإنما يقرأه ويدرسه المؤمنون به. ولذلك قدم عنوان «القرآن» في سورة النمل كما سيأتي.

والمبين : اسم فاعل من أبان القاصر الذي هو بمعنى بان مبالغة في ظهوره ، أي ظهور قرآنيته العظيمة ، أي ظهور إعجازه الذي تحققه المعاندون وغيرهم.

وإنما لم نجعل المبين بمعنى أبان المتعدي لأن كونه بيّنا في نفسه أشد في توبيخ منكريه من وصفه بأنه مظهر لما اشتمل عليه. وسيجيء قريب من هذه الآية في أول سورة النمل.

(رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢))

استئناف ابتدائي وهو مفتتح الغرض وما قبله كالتنبيه والإنذار.

و (رُبَما) مركبة من (رب). وهو حرف يدل على تنكير مدخوله ويجر ويختص بالأسماء. وهو بتخفيف الباء وتشديدها في جميع الأحوال. وفيها عدة لغات.

وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بتخفيف الباء. وقرأ الباقون بتشديدها.

واقترنت بها (ما) الكافة ل (ربّ) عن العمل. ودخول (ما) بعد (رب) يكف عملها غالبا. وبذلك يصح دخولها على الأفعال. فإذا دخلت على الفعل فالغالب أن يراد بها التقليل.

والأكثر أن يكون فعلا ماضيا ، وقد يكون مضارعا للدلالة على الاستقبال كما هنا. ولا حاجة إلى تأويله بالماضي في التحقق.

ومن النحويين من أوجب دخولها على الماضي ، وتأول نحو الآية بأنه منزّل منزلة الماضي لتحققه. ومعنى الاستقبال هنا واضح لأن الكفار لم يؤدّوا أن يكونوا مسلمين قبل ظهور قوة الإسلام من وقت الهجرة.

والكلام خبر مستعمل في التهديد والتهويل في عدم اتباعهم دين الإسلام. والمعنى :

٩

قد يود الذين كفروا لو كانوا أسلموا.

والتقليل هنا مستعمل في التهكم والتخويف ، أي احذروا ودادتكم أن تكونوا مسلمين ، فلعلها أن تقع نادرا كما يقول العرب في التوبيخ : لعلك ستندم على فعلك ، وهم لا يشكون في تندمه ، وإنما يريدون أنه لو كان الندم مشكوكا فيه لكان حقا عليك أن تفعل ما قد تندم على التفريط فيه لكي لا تندم ، لأن العاقل يتحرز من الضر المظنون كما يتحرز من المتيقن.

والمعنى أنهم قد يودّون أن يكونوا أسلموا ولكن بعد الفوات.

والإتيان بفعل الكون الماضي للدلالة على أنهم يودون الإسلام بعد مضي وقت التمكن من إيقاعه ، وذلك عند ما يقتلون بأيدي المسلمين ، وعند حضور يوم الجزاء ، وقد ودّ المشركون ذلك غير مرة في الحياة الدنيا حين شاهدوا نصر المسلمين.

وعن ابن مسعود : ودّ كفار قريش ذلك يوم بدر حين رأوا نصر المسلمين. ويتمنّون ذلك في الآخرة حين يساقون إلى النار لكفرهم ، قال تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) [سورة الفرقان : ٢٧]. وكذلك إذا أخرج عصاة المسلمين من النار ودّ الذين كفروا في النار لو كانوا مسلمين ، على أنهم قد ودّوا ذلك غير مرة وكتموه في نفوسهم عنادا وكفرا. قال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) [سورة الأنعام : ٢٧ ، ٢٨] ، أي فلا يصرحون به.

و (لَوْ) في (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) مستعملة في التمني لأن أصلها الشرطية إذ هي حرف امتناع لامتناع ، فهي مناسبة لمعنى التمني الذي هو طلب الأمر الممتنع الحصول ، فإذا وقعت بعد ما يدل على التمني استعملت في ذلك كأنها على تقدير قول محذوف يقوله المتمني ، ولما حذف فعل القول عدل في حكاية المقول إلى حكايته بالمعنى. فأصل (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) لو كنّا مسلمين.

والتزم حذف جواب (لَوْ) اكتفاء بدلالة المقام عليه ثم شاع حذف القول ، فأفادت (لَوْ) معنى المصدرية فصار المعنى : يودّ الذين كفروا كونهم مسلمين ، ولذلك عدّوها من حروف المصدرية وإنما المصدر معنى عارض في الكلام وليس مدلولها بالوضع.

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣))

١٠

لما دلّت (ربّ) على التقليل اقتضت أن استمرارهم على غلوائهم هو أكثر حالهم ، وهو الإعراض عما يدعوهم إليه الإسلام من الكمال النفسي ، فبإعراضهم عنه رضوا لأنفسهم بحياة الأنعام ، وهي الاقتصار على اللذات الجسدية ، فخوطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يعرّض لهم بذلك من أن حياتهم حياة أكل وشرب. وذلك مما يتعيّرون به في مجاري أقوالهم كما في قول الحطيئة :

دع المكارم لا تنهض لبغيتها

واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

وهم منغسمون فيما يتعيّرون به في أعمالهم قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) [سورة محمد : ١٢].

وذر أمر لم يسمع له ماض في كلامهم. وهو بمعنى الترك. وتقدم في قوله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) في سورة الأنعام [٧٠].

والأمر بتركهم مستعمل في لازمه وهو قلة جدوى الحرص على إصلاحهم. وليس مستعملا في الإذن بمتاركتهم لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بالدوام على دعائهم. قال تعالى : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً) إلى قوله : (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ) [سورة الأنعام : ٧٠]. فما أمره بتركهم إلا وقد أعقبه بأمره بالتذكير بالقرآن ؛ فعلم أن الترك مستعمل في عدم الرجاء في صلاحهم. وهذا كقول كبشة أخت عمرو بن معد يكرب في قتل أخيها عبد الله تستنهض أخاها عمرا للأخذ بثأره :

ودع عنك عمرا إن عمرا مسالم

وهل بطن عمرو غير شبر لمطعم

وقد يستعمل هذا الفعل وما يراد به كناية عن عدم الاحتياج إلى الإعانة أو عن عدم قبول الوساطة كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [سورة المدثر : ١١] ، وقوله : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) [سورة المزمل : ١١].

وقد يستعمل في الترك المجازي بتنزيل المخاطب منزلة المتلبّس بالضدّ كقول أبي تمام :

دعوني أنح من قبل نوح الحمائم

ولا تجعلوني عرضة للوائم

إذ مثل هذا يقال عند اليأس والقنوط عن صلاح المرء.

وقد حذف متعلق الترك لأن الفعل نزل منزلة ما لا يحتاج إلى متعلق ، إذ المعني به ترك الاشتغال بهم والبعد عنهم ، فلذلك عدّي فعل الترك إلى ذواتهم ليدل على اليأس

١١

منهم.

و (يَأْكُلُوا) مجزوم بلام الأمر محذوفة كما تقدم بيانه عند قوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) في سورة إبراهيم [٣١]. وهو أمر للتوبيخ والتوعد والإنذار بقرينة قوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ). وهو كقوله : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [سورة المرسلات : ٤٦].

ولا يحسن جعله مجزوما في جواب (ذَرْهُمْ) لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعوتهم أم دعاهم.

والتمتع : الانتفاع بالمتاع. وقد تقدم غير مرة ، منها قوله : (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) في سورة الأعراف [٢٤].

وإلهاء الأمل إياهم : هو إنساؤه إياهم ما حقهم أن يتذكروه ؛ بأن يصرفهم تطلب ما لا ينالون عن التفكير في البعث والحياة الآخرة.

و (الْأَمَلُ) : مصدر. وهو ظن حصول أمر مرغوب في حصوله مع استبعاد حصوله. فهو واسطة بين الرجاء والطمع. ألا ترى إلى قول كعب :

أرجو وآمل أن تدنو مودتها

وما إخال لدينا منك تنويل

وتفرع على التعريض التصريح بالوعيد بقوله : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) بأنه مما يستعمل في الوعيد كثيرا حتى صار كالحقيقة. وفيه إشارة إلى أن لإمهالهم أجلا معلوما كقوله : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) [سورة الفرقان : ٤٢].

[٤ ـ ٥] (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))

اعتراض تذييلي لأن في هذه الجملة حكما يشملهم وهو حكم إمهال الأمم التي حق عليها الهلاك ، أي ما أهلكنا أمّة إلا وقد متّعناها زمنا وكان لهلاكها أجل ووقت محدود ، فهي ممتعة قبل حلوله ، وهي مأخوذة عند إبانه.

وهذا تعريض لتهديد ووعيد مؤيد بتنظيرهم بالمكذبين السالفين.

وإنما ذكر حال القرى التي أهلكت من قبل لتذكير هؤلاء بسنّة الله في إمهال الظالمين لئلا يغرّهم ما هم فيه من التمتع فيحسبوا أنهم أفلتوا من الوعيد. وهذا تهديد لا يقتضي أن

١٢

المشركين قدر الله أجلا لهلاكهم ، فإن الله لم يستأصلهم ولكن هدى كثيرا منهم إلى الإسلام بالسيف وأهلك سادتهم يوم بدر.

والقرية : المدينة. وتقدمت عند قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) في سورة البقرة [٢٥٩].

والكتاب : القدر المحدود عند الله. شبّه بالكتاب في أنه لا يقبل الزيادة والنقص. وهو معلوم عند الله ، لا يضلّ ربي ولا ينسى.

وجملة (وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) في موضع الحال ، وكفاك علما على ذلك اقترانها بالواو فهي استثناء من عموم أحوال ، وصاحب الحال هو (قَرْيَةٍ) وهو وإن كان نكرة فإن وقوعها في سياق النفي سوّغ مجيء الحال منه كما سوّغ العموم صحة الإخبار عن النكرة.

وجملة (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) بيان لجملة (وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) لبيان فائدة التحديد: أنه عدم المجاوزة بدءا ونهاية.

ومعنى (تسبق أجلها) تفوته ، أي تعدم قبل حلوله ، شبّه ذلك بالسبق.

و (يَسْتَأْخِرُونَ) : يتأخرون. فالسين والتاء للتأكيد.

وأنّث مفردا ضمير الأمّة مرة مراعاة للفظ ، وجمع مذكرا مراعاة للمعنى. وحذف متعلق (يَسْتَأْخِرُونَ) للعلم به ، أي وما يستأخرون عنه.

[٦ ـ ٧] (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧))

عطف على جملة (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) [سورة الحجر : ٣]. والمناسبة أن المعطوف عليها تضمّنت انهماكهم في الملذّات والآمال ، وهذه تضمّنت توغّلهم في الكفر وتكذيبهم الرسالة المحمّدية.

والمعنى : ذرهم يكذبون ويقولون شتى القول من التكذيب والاستهزاء.

والجملة كلها من مقولهم.

والنداء في (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) للتشهير بالوصف المنادى به ، واختيار الموصولية لما في الصلة من المعنى الذي جعلوه سبب التهكّم. وقرينة التهكّم قولهم :

١٣

(إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ). وقد أرادوا الاستهزاء بوصفه فأنطقهم الله بالحق فيه صرفا لألسنتهم عن الشتم. وهذا كما كانوا إذا شتموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو هجوه يدعونه مذمما ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعائشة: «ألم ترى كيف صرف الله عني أذى المشركين وسبّهم ، يسبون مذمما وأنا محمد».

وفي هذا إسناد الصلة إلى الموصول بحسب ما يدعبه صاحب اسم الموصول ، لا بحسب اعتقاد المتكلم على طريقة التهكّم.

و (الذِّكْرُ) : مصدر ذكر ، إذا تلفظ. ومصدر ذكر إذا خطر بباله شيء. فالذكر الكلام الموحى به ليتلى ويكرر ، فهو للتلاوة لأنه يذكر ويعاد ؛ إما لأن فيه التذكير بالله واليوم الآخر ، وإما بمعنى أن به ذكرهم في الآخرين ، وقد شملها قوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [سورة الأنبياء : ١٠] وقال : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [سورة الزخرف : ٤٤] والمراد به هنا القرآن.

فتسمية القرآن ذكرا تسمية جامعة عجيبة لم يكن للعرب علم بها من قبل أن ترد في القرآن.

وكذلك تسميته قرآنا لأنه قصد من إنزاله أن يقرأ ، فصار الذكر والقرآن صنفين من أصناف الكلام الذي يلقى للناس لقصد وعيه وتلاوته ، كما كان من أنواع الكلام الشعر والخطبة والقصة والأسطورة.

ويدلك لهذا قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) [سورة يس : ٦٩] ، فنفى أن يكون الكتاب المنزل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم شعرا ، ووصفه بأنه ذكر وقرآن ، ولا يخفى أن وصفه بذلك يقتضي مغايرة بين الموصوف والصفة ، وهي مغايرة باعتبار ما في الصفتين من المعنى الذي أشرنا إليه. فالمراد : أنه من صنف الذكر ومن صنف القرآن ، لا من صنف الشعر ولا من صنف الأساطير.

ثم صار «القرآن» بالتعريف باللام علما بالغلبة على الكتاب المنزّل على محمد كما علمت آنفا.

وإنما وصفوه بالجنون لتوهّمهم أن ادعاء نزول الوحي عليه لا يصدر من عاقل ، لأن ذلك عندهم مخالف للواقع توهّما منهم بأن ما لا تقبله عقولهم التي عليها غشاوة ليس من شأنه أن يقبله العقلاء ، فالداعي به غير عاقل.

والمجنون : الذي جنّ ، أي أصابه فساد في العقل من أثر مسّ الجنّ إياه في

١٤

اعتقادهم ، فالمجنون اسم مفعول مشتق من الفعل المبني للمجهول وهو من الأفعال التي لم ترد إلا مسندة للمجهول.

وتأكيد الجملة ب (إن) واللام لقصدهم تحقيق ذلك له لعلّه يرتدع عن الاستمرار فيه أو لقصدهم تحقيقه للسامعين حاضري مجالسهم.

وجملة (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) استدلال على ما اقتضته الجملة قبلها باعتبار أن المقصود منها تكذيب الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأن ما يصدر من المجنون من الكلام لا يكون جاريا على مطابقة الواقع فأكثره كذب.

و (لَوْ ما) حرف تحضيض بمنزلة لو لا التحضيضية. ويلزم دخولها الجملة الفعلية.

والمراد بالإتيان بالملائكة حضورهم عندهم ليخبرهم بصدقه في الرسالة. وهذا كما حكى الله في الآية الأخرى بقوله تعالى : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [سورة الإسراء: ٩٢].

و (مِنَ الصَّادِقِينَ) أي من الناس الذين صفتهم الصدق ، وهو أقوى من (إن كنت صادقا) ، كما تقدم في قوله تعالى : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) في سورة براءة [٢١٩] ، وفي قوله : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧].

(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨))

مستأنفة ابتدائية جوابا لكلامهم وشبهاتهم ومقترحاتهم.

وابتدئ في الجواب بإزالة شبهتهم إذ قالوا : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) [سورة الحجر : ٧]. أريد منه إزالة جهالتهم إذ سألوا نزول الملائكة علامة على التصديق لأنهم وإن طلبوا ذلك بقصد التهكم فهم مع ذلك معتقدون أن نزول الملائكة هو آية صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان جوابهم مشوبا بطرف من الأسلوب الحكيم ، وهو صرفهم إلى تعليمهم الميز بين آيات الرسل وبين آيات العذاب ، فأراد الله أن لا يدخرهم هديا وإلا فهم أحرياء بأن لا يجابوا.

والنزول : التدلي من علو إلى سفل. والمراد به هنا انتقال الملائكة من العالم العلوي إلى العالم الأرضي نزولا مخصوصا. وهو نزولهم لتنفيذ أمر الله بعذاب يرسله على

١٥

الكافرين ، كما أنزلوا إلى مدائن لوط ـ عليه‌السلام ـ. وليس مثل نزول جبريل ـ عليه‌السلام ـ أو غيره من الملائكة إلى الرسل ـ عليهم‌السلام ـ بالشرائع أو بالوحي. قال تعالى في ذكر زكرياء ـ عليه‌السلام ـ (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) [سورة آل عمران : ٣٩].

والمراد ب «الحق» هنا الشيء الحاقّ ، أي المقتضي ، مثل إطلاق القضاء بمعنى المقضيّ. وهو هنا صفة لمحذوف يعلم من المقام ، أي العذاب الحاقّ. قال تعالى : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) [سورة الحج : ١٨] وبقرينة قوله : (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) ، أي لا تنزل الملائكة للناس غير الرسل والأنبياء. عليهم الصلاة والسلام ـ إلا مصاحبين للعذاب الحاقّ على الناس كما تنزلت الملائكة على قوم لوط وهو عذاب الاستئصال. ولو تنزلت الملائكة لعجل للمنزل عليهم ولما أمهلوا.

ويفهم من هذا أن الله منظرهم ، لأنه لم يرد استئصالهم ، لأنه أراد أن يكون نشر الدين بواسطتهم فأمهلهم حتى اهتدوا ، ولكنه أهلك كبراءهم ومدبريهم.

ونظير هذا قوله تعالى في سورة الأنعام [٨] : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ). وقد نزلت الملائكة عليهم يوم بدر يقطعون رءوس المشركين.

والإنظار : التأخير والتأجيل.

و (إِذاً) حرف جواب وجزاء. وقد وسطت هنا بين جزأي جوابها رعيا لمناسبة عطف جوابها على قول : ما تنزل الملائكة. وكان شأن (إذن) أن تكون في صدر جوابها. وجملتها هي الجواب المقصود لقولهم : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) [سورة الحجر : ٧]. وجملة ما تنزل الملائكة إلا بالحق مقدمة من تأخير لأنها تعليل للجواب ، فقدم لأنه أوقع في الرد ، ولأنه أسعد بإيجاز الجواب.

وتقدير الكلام لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين إذن ما كنتم منظرين بالحياة ولعجل لكم الاستئصال إذ ما تنزل الملائكة إلا مصحوبين بالعذاب الحاقّ. وهذا المعنى وارد في قوله تعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) [سورة العنكبوت : ٥٣].

١٦

وقرأ الجمهور ما تنزل بفتح التاء على أن أصله (تتنزّل).

وقرأ أبو بكر عن عاصم ـ بضم التاء وفتح الزاي على البناء للمجهول ورفع الملائكة على النيابة ـ.

وقرأ الكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) ـ بنون في أوله وكسر الزاي ونصب الملائكة على المفعولية ـ.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩))

استئناف ابتدائي لإبطال جزء من كلامهم المستهزئين به ، إذ قالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) [سورة الحجر : ٦] ، بعد أن عجل كشف شبهتهم في قولهم : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [سورة الحجر : ٧].

جاء نشر الجوابين على عكس لفّ المقالين اهتماما بالابتداء بردّ المقال الثاني بما فيه من الشبهة بالتعجيز والإفحام ، ثم ثني العنان إلى ردّ تعريضهم بالاستهزاء وسؤال رؤية الملائكة.

وكان هذا الجواب من نوع القول بالموجب بتقرير إنزال الذكر على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجاراة لظاهر كلامهم. والمقصود الردّ عليهم في استهزائهم ، فأكد الخبر ب (إِنَّا) وضمير الفصل مع موافقته لما في الواقع كقوله : (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [سورة المنافقون : ١].

ثم زاد ذلك ارتقاء ونكاية لهم بأن منزل الذكر هو حافظه من كيد الأعداء ؛ فجملة (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) معترضة ، والواو اعتراضية.

والضمير المجرور باللام عائد إلى (الذِّكْرَ) ، واللام لتقوية عمل العامل لضعفه بالتأخير عن معموله.

وشمل حفظه الحفظ من التلاشي ، والحفظ من الزيادة والنقصان فيه ، بأن يسّر تواتره وأسباب ذلك ، وسلّمه من التبديل والتغيير حتى حفظته الأمّة عن ظهور قلوبها من حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستقرّ بين الأمّة بمسمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصار حفّاظه بالغين عدد التواتر في كل مصر.

وقد حكى عياض في «المدارك» : أن القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد المالكي

١٧

البصري (١) سئل عن السرّ في تطرق التغيير للكتب السالفة وسلامة القرآن من طرق التغيير له. فأجاب بأن الله أوكل للأحبار حفظ كتبهم فقال : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) [سورة المائدة : ٤٤] وتولى حفظ القرآن بذاته تعالى فقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

قال أبو الحسن بن المنتاب ذكرت هذا الكلام للمحاملي فقال لي : لا أحسن من هذا الكلام (٢).

وفي تفسير «القرطبي» في خبر رواه عن يحيى بن أكثم : أنه ذكر قصة إسلام رجل يهودي في زمن المأمون ، وحدث بها سفيان بن عيينة فقال سفيان : قال الله في التوراة والإنجيل (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) فجعل حفظه إليهم فضاع. وقال عزوجل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) فحفظه الله تعالى علينا فلم يضع» اه. ولعل هذا من توارد الخواطر.

وفي هذا مع التنويه بشأن القرآن إغاظة للمشركين بأن أمر هذا الدين سيتم وينتشر القرآن ويبقى على ممرّ الأزمان. وهذا من التحدّي ليكون هذا الكلام كالدليل على أن القرآن منزّل من عند الله آية على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لو كان من قول البشر أو لم يكن آية لتطرّقت إليه الزيادة والنقصان ولاشتمل على الاختلاف ، قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [سورة النساء : ٨٢].

[١٠ ـ ١١] (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١)).

__________________

(١) هو القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حمّاد الأزدي البصري ثم البغدادي المالكي الإمام المفسّر قاضي بغداد ولد سنة ٢٠٠ وتوفي في ذي الحجة سنة ٣٨٢ أخذ عن أصحاب مالك بن أنس مثل عبد الله بن مسلمة القعنبي ، وأخذ عن أئمة الحديث مثل إسماعيل بن أبي أويس وعلي بن المديني وأبي بكر بن أبي شيبة. قال الباجي لم تحصل درجة الاجتهاد واجتماع آلته بعد مالك إلا لإسماعيل القاضي

(٢) أبو الحسن عبيد الله بن المنتاب البغدادي المالكي قاضي المدينة المنورة في زمن المقتدر (من سنة ٢٩٥ إلى سنة ٣٢٠) كان من أصحاب القاضي إسماعيل. والمحاملي نسبة إلى صنع المحامل فهو بفتح الميم ، وهو الحسين بن إسماعيل. روى عن البخاري. وولي قضاء الكوفة وتوفي سنة ٣٨٠.

١٨

عطف على جملة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] باعتبار أن تلك جواب عن استهزائهم في قولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] فإن جملة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) قول بموجب قولهم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ). وجملة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) إبطال لاستهزائهم على طريقة التمثيل بنظرائهم من الأمم السالفة.

وفي هذا التنظير تحقيق لكفرهم لأن كفر أولئك السالفين مقرّر عند الأمم ومتحدّث به بينهم.

وفيه أيضا تعريض بوعيد أمثالهم وإدماج بالكناية عن تسلية الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

والتأكيد بلام القسم و (قد) لتحقيق سبق الإرسال من الله ، مثل الإرسال الذي جحدوه واستعجبوه كقوله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) [سورة يونس : ٢]. وذلك مقتضى موقع قوله : (مِنْ قَبْلِكَ).

والشيع جمع شيعة وهي الفرقة التي أمرها واحد ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) في سورة الأنعام [٦٥]. ويأتي في قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) في سورة مريم [٦٩] ، أي في أمم الأولين ، أي القرون الأولى فإن من الأمم من أرسل إليهم ومن الأمم من لم يرسل إليهم. فهذا وجه إضافة (شِيَعِ) إلى (الْأَوَّلِينَ).

و (كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) يدلّ على تكرر ذلك منهم وأنه سنتهم ، ف (كان) دلّت على أنه سجية لهم ، والمضارع دل على تكرره منهم.

ومفعول (أَرْسَلْنا) محذوف دلت عليه صيغة الفعل ، أي رسلا ، ودلّ عليه قوله : (مِنْ رَسُولٍ).

وتقديم المجرور على (يَسْتَهْزِؤُنَ) يفيد القصر للمبالغة ، لأنهم لما كانوا يكثرون الاستهزاء برسولهم وصار ذلك سجية لهم نزلوا منزلة من ليس له عمل إلا الاستهزاء بالرسول.

[١٢ ، ١٣] (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣))

١٩

استئناف بياني ناشئ عن سؤال يخطر ببال السامع لقوله (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [سورة الحجر : ١١] فيتساءل كيف تواردت هذه الأمم على طريق واحد من الضلال فلم تفدهم دعوة الرسل ـ عليهم‌السلام ـ كما قال تعالى : (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [سورة الذاريات : ٥٣].

والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [سورة الحجر : ٩]؛ إذ قد يخطر بالبال أن حفظ الذكر يقتضي أن لا يكفر به من كفر. فأجيب بأن ذلك عقاب من الله لهم لإجرامهم وتلقّيهم الحق بالسخرية وعدم التدبر ، ولأجل هذا اختير لهم وصف المجرمين دون الكافرين لأن وصف الكفر صار لهم كاللقب لا يشعر بمعنى التعليل. ونظيره قوله في الآية الأخرى (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [سورة التوبة : ١٢٥].

والتعبير بصيغة المضارع في (نَسْلُكُهُ) للدلالة على أن المقصود إسلاك في زمن الحال ، أي زمن نزول القرآن ، ليعلم أن المقصود بيان تلقي المشركين للقرآن ، فلا يتوهم أن المراد بالمجرمين شيع الأولين مع ما يفيده المضارع من الدلالة على التجديد المناسب لقوله : (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) ، أي تجدد لهؤلاء إبلاغ القرآن على سنة إبلاغ الرسالات لمن قبلهم.

وفيه تعريض بأن ذلك إعذار لهم ليحل بهم العذاب كما حل بمن قبلهم.

والمشار إليه بقوله : (كَذلِكَ) هو السلك المأخوذ من (نَسْلُكُهُ) على طريقة أمثالها المقررة في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) في سورة البقرة [١٤٣].

والسلك : الإدخال. قال الأعشى :

كما سلك السّكّي في الباب فيتق

أي مثل السلك الذي سنصفه نسلك الذكر في قلوب المجرمين ، أي هكذا نولج القرآن في عقول المشركين ، فإنهم يسمعونه ويفهمونه إذ هو من كلامهم ويدركون خصائصه ؛ ولكنه لا يستقر في عقولهم استقرار تصديق به بل هم مكذبون به ، كما قال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) [سورة التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥].

٢٠