تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

والمقصود إبطال ما اختلقوه من منع أكل البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحامي ، وما حكي الله عنهم في سورة الأنعام من قوله : (وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ) [الأنعام : ١٣٨] الآيات. قيل نزلت في ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حرّموا على أنفسهم من الأنعام أي مما ذكر في سورة الأنعام.

ومن في قوله : (مِمَّا فِي الْأَرْضِ) للتبعيض ، فالتبعيض راجع إلى كون المأكول بعضا من كل نوع وليس راجعا إلى كون المأكول أنواعا دون أنواع ، لأنه يفوت غرض الآية ، فما في الأرض عام خصصه الوصف بقوله : (حَلالاً طَيِّباً) فخرجت المحرمات الثابت تحريمها بالكتاب أو السنة.

وقوله : (حَلالاً طَيِّباً) حالان من (ما) الموصولة ، أولهما لبيان الحكم الشرعي والثاني لبيان علته لأن الطيب من شأنه أن تقصده النفوس للانتفاع به فإذا ثبت الطيب ثبتت الحلّية لأن الله رفيق بعباده لم يمنعهم مما فيه نفعهم الخالص أو الراجح.

والمراد بالطيب هنا ما تستطيبه النفوس بالإدراك المستقيم السليم من الشذوذ وهي النفوس التي تشتهي الملائم الكامل أو الراجح بحيث لا يعود تناوله بضر جثماني أو روحاني وسيأتي معنى الطيب لغة عند قوله تعالى : (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) [المائدة : ٤] في سورة المائدة.

وفي هذا الوصف معنى عظيم من الإيماء إلى قاعدة الحلال والحرام فلذلك قال علماؤنا : إن حكم الأشياء التي لم ينص الشرع فيها بشيء أن أصل المضار منها التحريم وأصل المنافع الحل ، وهذا بالنظر إلى ذات الشيء بقطع النظر عن عوارضه كتعلق حق الغير به الموجب تحريمه ، إذ التحريم حينئذ حكم للعارض لا للمعروض.

وقد فسر الطيب هنا بما يبيحه الشرع وهو بعيد لأنه يفضي إلى التكرار ، ولأنه يقتضي استعمال لفظ في معنى غير متعارف عندهم.

وقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) الضمير للناس لا محالة وهم المشركون المتلبسون بالمنهي عنه دوما ، وأما المؤمنون فحظهم منه التحذير والموعظة. واتباع الخطوات تمثيلية ، أصلها أن السائر إذا رأى آثار خطوات السائرين تبع ذلك المسلك علما منه بأنه ما سار فيه السائر قبله إلّا لأنه موصل للمطلوب ، فشبه المقتدي الذي لا دليل له سوى المقتدي به وهو يظن مسلكه موصلا ، بالذي يتبع خطوات السائرين وشاعت هاته

١٠١

التمثيلية حتى صاروا يقولون هو يتبع خطا فلان بمعنى يقتدي به ويمتثل له.

والخطوات بضم فسكون جمع خطوة ـ مثل الغرفة والقبضة بضم أولهما بمعنى المخطو ـ والمغروف والمقبوض ، فهي بمعنى مخطوة اسم لمسافة ما بين القدمين عند مشي الماشي فهو يخطوها ، وأما الخطوة بفتح الخاء فهي المرة من مصدر الخطو وتطلق على المخطو من إطلاق المصدر على المفعول.

وقرأ الجمهور (خطوات) بضم فسكون على أصل جمع السلامة ، وقرأه ابن عامر وقنبل عن ابن كثير وحفص عن عاصم بضم الخاء والطاء على الاتباع ، والاتباع يساوي السكون في الخفة على اللسان.

والاقتداء بالشيطان إرسال النفس على العمل بما يوسوسه لها من الخواطر الشرية ، فإن الشياطين موجودات مدركة لها اتصال بالنفوس البشرية لعله كاتصال الجاذبية بالأفلاك والمغناطيس بالحديد ، فإذا حصل التوجه من أحدهما إلى الآخر بأسباب غير معلومة حدثت في النفس خواطر سيئة ، فإن أرسل المكلف نفسه لاتباعها ولم يردعها بما له من الإرادة والعزيمة حققها في فاعله ، وإن كبحها وصدها عن ذلك غلبها. ولذلك أودع الله فينا العقل والإرادة والقدرة وكمّل لنا ذلك بالهدى الديني عونا وعصمة عن تلبيتها لئلا تضلنا الخواطر الشيطانية حتى نرى حسنا ما ليس بالحسن ، ولهذا جاء في الحديث «من همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة» لأنه لما هم بها فذلك حين تسلطت عليه القوة الشيطانية ولما عدل عنها فذلك حين غلب الإرادة الخيرية عليها ، ومثل هذا يقال في الخواطر الخيرية وهي الناشئة عن التوجهات الملكية ، فإذا تنازع الداعيان في نفوسنا احتجنا في التغلب إلى الاستعانة بعقولنا وآرائنا وقدرتنا ، وهدى الله تعالى إيانا وذلك هو المعبر عنه عند الأشعري بالكسب ، وعنه يترتب الثواب والعقاب.

واللام في (الشَّيْطانِ) للجنس ، ويجوز أن تكون للعهد ، ويكون المراد إبليس وهو أصل الشياطين وآمرهم فكل ما ينشأ من وسوسة الشياطين فهو راجع إليه لأنه الذي خطا الخطوات الأولى.

وقوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ، (إنّ) لمجرد الاهتمام بالخبر لأن العداوة بين الشيطان والناس معلومة متقررة عند المؤمنين والمشركين وقد كانوا في الحج يرمون الجمار ويعتقدون أنهم يرجمون الشيطان ، أو تجعل (إن) للتأكيد بتنزيل غير المتردد في الحكم

١٠٢

منزلة المتردد أو المنكر لأنهم لاتباعهم الإشارات الشيطانية بمنزلة من ينكر عداوته كما قال عبدة :

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفى غليل صدورهم أن تصرعوا

وأيا ما كان فإن تفيد معنى التعليل والربط في مثل هذا وتغني غناء الفاء وهو شأنها بعد الأمر والنهي على ما في «دلائل الإعجاز» ومثله قول بشار :

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير

إنّ ذاك النجاح في التبكير

وقد تقدم ذلك.

وإنما كان عدوا لأن عنصر خلقته مخالف لعنصر خلقة الإنسان فاتصاله بالإنسان يؤثر خلاف ما يلائمه ، وقد كثر في القرآن تمثيل الشيطان في صورة العدو المتربص بنا الدوائر لإثارة داعية مخالفته في نفوسنا كيلا نغتر حين نجد الخواطر الشريرة في أنفسنا فنظنها ما نشأت فينا إلّا وهي نافعة لنا لأنها تولدت من نفوسنا ، ولأجل هذا أيضا صورت لنا النفس في صورة العدو في مثل هاته الأحوال.

ومعنى المبين الظاهر العداوة من أبان الذي هو بمعنى بان وليس من أبان الذي همزته للتعدية بمعنى أظهر لأن الشيطان لا يظهر لنا العداوة بل يلبس لنا وسوسته في لباس النصيحة أو جلب الملائم ، ولذلك سماه الله وليّا فقال : (وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) [النساء : ١١٩] ، إلّا أن الله فضحه فلم يبق مسلم تروج عليه تلبيساته حتى في حال اتّباعه لخطواته فهو يعلم أنها وساوسه المضرة إلّا أنه تغلبه شهوته وضعف عزيمته ورقة ديانته.

وقوله : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ) استئناف بياني لقوله : (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) فيئول إلى كونه علة للعلة إذ يسأل السامع عن ثبوت العداوة مع عدم سبق المعرفة ومع بعد ما بيننا وبينه فقيل (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ) أي لأنه لا يأمركم إلّا بالسوء إلخ أي يحسّن لكم ما فيه مضرتكم لأن عداوته أمر خفي عرفناه من آثار أفعاله.

والأمر في الآية مجاز عن الوسوسة والتزيين إذ لا يسمع أحد صيغ أمر من الشيطان. ولك أن تجعل جملة : (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ) تمثيلية بتشبيه حاله وحالهم في التسويل والوسوسة وفي تلقيهم ما يوسوس لهم بحال الآمر والمأمور ويكون لفظ يأمر مستعملا في حقيقته مفيدا مع ذلك الرمز إلى أنهم لا إرادة لهم ولا يملكون أمر أنفسهم وفي هذا زيادة

١٠٣

شنيع لحالهم وإثارة للعداوة بين الشيطان وبينهم.

والسوء الضّرّ من ساءه سوءا ، فالمصدر بفتح السين وأما السّوء بضم السين فاسم للمصدر.

والفحشاء اسم مشتق من فحش إذا تجاوز الحد المعروف في فعله أو قوله واختص في كلام العرب بما تجاوز حد الآداب وعظم إنكاره ، لأن وساوس النفس تئول إلى مضرة كشرب الخمر والقتل المفضي للثأر أو إلى سوأة وعار كالزنا والكذب ، فالعطف هنا عطف لمتغايرين بالمفهوم والذات لا محالة بشهادة اللغة وإن كانا متحدين في الحكم الشرعي لدخول كليهما تحت وصف الحرام أو الكبيرة وأما تصادقهما معا في بعض الذنوب كالسرقة فلا التفات إليه كسائر الكليات المتصادقة.

وقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) يشير إلى ما اختلقه المشركون وأهل الضلال من رسوم العبادات ونسبة أشياء لدين الله ما أمر الله بها. وخصه بالعطف مع أنه بعض السوء والفحشاء لاشتماله على أكبر الكبائر وهو الشرك والافتراء على الله.

ومفعول (تَعْلَمُونَ) محذوف وهو ضمير عائد إلى (ما) وهو رابط الصلة ، ومعنى (ما لا تَعْلَمُونَ) لا تعلمون أنه من عند الله بقرينة قوله : (عَلَى اللهِ) أي لا تعلمون أنه يرضيه ويأمر به ، وطريق معرفة رضا الله وأمره هو الرجوع إلى الوحي وإلى ما يتفرع عنه من القياس وأدلة الشريعة المستقراة من أدلتها ، ولذلك قال الأصوليون : يجوز للمجتهد أن يقول فيما أداه إليه اجتهاده بطريق القياس : إنه دين الله ولا يجوز أن يقول قاله الله ، لأن المجتهد قد حصلت له مقدمة قطعية مستقراة من الشريعة انعقد الإجماع عليها وهي وجوب عمله بما أداه إليه اجتهاده بأن يعمل به في الفتوى والقضاء وخاصة نفسه فهو إذا أفتى به وأخبر فقد قال على الله ما يعلم أنه يرضي الله تعالى بحسب ما كلف به من الظن (١).

__________________

(١) قال الألوسي عند شرح وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ «وظاهر الآية المنع من اتباع الظن رأسا لأن الظن مقابل للعلم لغة وعرفاه ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه الحاصل عنده من النصوص فكيف يسوغ اتباعه للمقلد ، وأجيب بأن الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به للدليل القاطع وهو الإجماع وكل حكم يجب العمل به قطعا علم قطعا بأنه حكم الله تعالى : وإلا لم يجب العمل به قطعا ، وكل ما علم قطعا أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا ، فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله ثم بواسطة الإجماع على وجوب ـ

١٠٤

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠))

الأحسن عندي أن يكون عطفا على قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) [البقرة: ١٦٨] ، فإن المقصود بالخطاب في ذلك هم المشركون فإنهم الذين ائتمروا لأمره بالسوء والفحشاء ، وخاصة بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون ، والمسلمون محاشون عن مجموع ذلك.

وفي هذه الآية المعطوفة زيادة تفظيع لحال أهل الشرك ، فبعد أن أثبت لهم اتباعهم خطوات الشيطان فيما حرّموا على أنفسهم من الطيبات ، أعقب ذلك بذكر إعراضهم عمن يدعوهم إلى اتباع ما أنزل الله ، وتشبثوا بعدم مخالفتهم ما ألفوا عليه آباءهم ، وأعرضوا عن الدعوة إلى غير ذلك دون تأمل ولا تدبر.

(بَلْ) إضراب إبطال ، أي أضربوا عن قول الرسول ، (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) ، إضراب إعراض بدون حجة إلّا بأنه مخالف لما ألفوا عليه آباءهم.

وفي ضمير لهم التفات من الخطاب الذي في قوله : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) [البقرة : ١٦٨].

والمراد بما ألفوا عليه آباءهم ، ما وجدوهم عليه من أمور الشرك كما قالوا : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] والأمة : الملة وأعظم ذلك عبادة الأصنام.

وقوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) كلام من جانب آخر للرد على قولهم (نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ، فإن المتكلم لما حكاه عنهم رد قولهم هذا باستفهام يقصد منه الرد ثم التعجيب ، فالهمزة مستعملة في الإنكار كناية وفي التعجيب إيماء ، والمراد بالإنكار الرد والتخطئة لا الإنكار بمعنى النفي.

و (لو) للشرط وجوابها محذوف دل عليه الكلام السابق ، تقديره : لاتّبعوهم ، والمستفهم عنه هو الارتباط الذي بين الشرط وجوابه ، وإنما صارت الهمزة للرد لأجل

__________________

ـ العمل صار المظنون معلوما وانقلب الظن علما ، فتقليد المجتهد ليس من اتباع الظن في شيء ، وزعم ذلك من اتباع الظن وتحقيقه في الأصول» «روح المعاني» (٢ / ٤٠) ، ط المنيرية.

١٠٥

العلم بأن المستفهم عنه يجاب عنه بالإثبات بقرائن حال المخبر عنه والمستفهم. ومثل هذا التركيب من بديع التراكيب العربية وأعلاها إيجازا و (لو) في مثله تسمى وصلية وكذلك (إن) إذا وقعت في موقع (لو).

وللعلماء في معنى الواو وأداة الشرط في مثله ثلاثة أقوال :

القول الأول إنها للحال وإليه ذهب ابن جني والمرزوقي وصاحب «الكشاف» قال ابن جني في «شرح الحماسة» عند قول عمرو بن معديكرب :

ليس الجمال بمئزر

فاعلم وإن رديت بردا

ونحو منه بيت «الكتاب» :

عاود هراة وإن معمورها خربا (١)

وذلك أن الواو وما بعدها منصوبة الموضع بعاود كما أنها وما بعدها في قوله وإن رديت بردا منصوبة الموضع بما قبلها وقريب من هذا : أزورك راغبا فيّ وأحسن إليك شاكرا إليّ ، فراغبا وشاكرا منصوبان على الحال بما قبلهما وهما في معنى الشرط وما قبلهما نائب عن الجواب المقدر لهما ألا ترى أن معناه إن رغبت فيّ زرتك وإن شكرتني أحسنت إليك ، وسألت مرة أبا علي عن قوله :

عاود هراة وإن معمورها خربا

كيف موقع الواو هنا وأومأت في ذلك له إلى ما نحن بصدده فرأيته كالمصانع في الجواب لا قصورا بحمد الله عنه ولكن فتورا عن تكلفه فأجممته ، وقال المرزوقي هنالك : قوله : «وإن ردّيت بردا» في موضع الحال كأنه قال ليس جمالك بمئزر مردّى معه برد والحال قد يكون فيه معنى الشرط كما أن الشرط فيه معنى الحال فالأول كقولك لأفعلنّه كائنا ما كان أي إن كان هذا أو إن كان ذاك ، والثاني كبيت «الكتاب» :

__________________

(١) هو لرجل من ربيعة قاله يرثي زوجه في واقعة فتح عبد الله بن خازم هراة سنة ست وستين وبعده قوله : وأسعد اليوم مشغوفا إذا طربا

وارجع بطرفك نحو الخندقين ترى

رزءا جليلا وأمرا مفظعا عجبا

هاما تزقّى وأوصالا مفرّقة

ومنزلا مقفرا من أهله خربا

١٠٦

عاود هراة وإن معمورا خربا

لأن الواو منه في موضع الحال كما هو في بيت عمرو وفيه لفظ الشرط ومعناه وما قبله نائب عن الجواب ، وتقديره : إن معمورها خربا فعاودها وإن رديت بردا على مئزر فليس الجمال بذلك» اه.

وقال صاحب «الكشاف» : في هذه الآية وفي نظيرتها في سورة المائدة : «الواو للحال» ، ثم ظاهر كلام ابن جني والمرزوقي أن الحال في مثله من الجملة المذكورة قبل الواو وهو الذي نحاه البيضاوي هنا ورجحه عبد الحكيم ، وذهب صاحب «الكشاف» إلى أن الحال من جملة محذوفة تقديرها أيتبعونهم ولو كان آباؤهم ، وعلى اعتبار الواو واو الحال فهمزة الاستفهام في قوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) ليست مقدمة من تأخير كما هو شأنها مع واو العطف والفاء وثم بل الهمزة داخلة على الجملة الحالية ، لأن محل الإنكار هو تلك الحالة ولذلك قال في «الكشاف» في سورة المائدة : «الواو واو الحال قد دخلت عليها همزة الإنكار» وقدر هنا وفي المائدة محذوفا هو مدخول الهمزة في التقدير يدل عليه ما قبله فقدره هنا أيتبعون آباءهم وقدره في سورة المائدة أحسبهم ذلك ، وهذا اختلاف في رأيه ، فمن لا يقدر محذوفا يجعل الهمزة داخلة على جملة الحال.

القول الثاني أن الواو للعطف قيل على الجملة المتقدمة وإليه ذهب البيضاوي ولا أعلم له سلفا فيه وهو وجيه جدا أي قالوا بل نتبع ولو كان آباؤهم ، وعليه فالجملة المعطوفة تارة تكون من كلام الحاكي كما في الآية أي يقولونه في كل حال ولو كان آباؤهم إلخ فهو من مجيء المتعاطفين من كلامي متكلمين عطف التلقين كما تقدم في قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤] ، وتارة تكون من كلام صاحب الكلام الأول كما في بيت «الحماسة» وبيت «الكتاب» وتارة تكون من كلام الحاكي تلقينا للمحكي عنه وتقديرا له من كلامه كقول رؤبة :

قالت بنات العمّ يا سلمى وإن

كان فقيرا معدما قالت وإن

وقيل العطف على جملة محذوفة ونسبه الرضي للجرميّ وقدروا الجملة بشرطية مخالفة للشرط المذكور ، والتقدير : يتبعونهم إن كانوا يعقلون ويهتدون ولو كانوا لا يعقلون ولا يهتدون وكذلك التقدير في نظائره من الشواهد وهذا هو الجاري على ألسنة المعربين عندنا في نظائره لخفة مئونته.

القول الثالث : مختار الرضي أن الواو في مثله للاعتراض إما في آخر الكلام كما

١٠٧

هنا وإما في وسطه ، وليس الاعتراض معنى من معاني الواو ولكنه استعمال يرجع إلى واو الحال. فأما الشرط المقترن بهذه الواو فلكونه وقع موقع الحال أو المعطوف أو الاعتراض من كلام سابق غير شرط ، كان معنى الشرطية فيه ضعيفا ، لذلك اختلف النحاة في أنه باق على معنى الشرط أو انسلخ عنه إلى معنى جديد فظاهر كلام ابن جني والمرزوقي أن الشرطية باقية ولذلك جعلا يقرّبان معنى الشرط من معنى الحال يومئان إلى وجه الجمع بين كون الجملة حالية وكونها شرطية ، وإليه مال البيضاوي هنا وحسّنه عبد الحكيم وهو الحق ، ووجه معنى الشرطية فيه أن الكلام الذي قبله إذا ذكر فيه حكم وذكر معه ما يدل على وجود سبب لذلك الحكم وكان لذلك السبب أفراد أو أحوال متعددة منها ما هو مظنة لأن تتخلف السببية عنده لوجود ما ينافيها معه فإنهم يأتون بجملة شرطية مقترنة بإن أو لو دلالة على الربط والتعليق بين الحالة المظنون فيها تخلف التسبب وبين الفعل المسبب عن تلك الحالة ، لأن جملة الشرط تدل على السبب وجملة الجزاء تدل على المسبب ويستغنون حينئذ عن ذكر الجزاء لأنه يعلم من أصل الكلام الذي عقّب بجملة الشرط.

وإنما خص هذا النوع بحرفي (إن ـ ولو) في كلام العرب لدلالتهما على ندرة حصول الشرط أو امتناعه ، إلّا أنه إذا كان ذلك الشرط نادر الحصول جاءوا معه بإن كبيت عمرو ، وإذا كان ممتنع الحصول في نفس الأمر جاءوا معه بلو كما في هذه الآية ، وربما أتوا بلو لشرط شديد الندرة ، للدلالة على أنه قريب من الممتنع ، فيكون استعمال لو معه مجازا مرسلا تبعيّا.

وذهب جماعة إلى أن (إن ـ ولو) في مثل هذا التركيب خرجتا عن الشرطية إلى معنى جديد ، وظاهر كلام صاحب «الكشاف» في قوله تعالى : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) [الأحزاب : ٥٢] أن لو فيه للفرض ؛ إذ فسره بقوله : مفروضا إعجابك حسنهن ، وقال صاحب «الكشاف» هنا إن الشرط في مثله لمجرد التسوية وهي لا تقتضي جوابا على الصحيح لخروجها عن معنى الشرطية وإنما يقدرون الجواب توضيحا للمعنى وتصويرا له اه. وسمّى المتأخرون من النحاة (إن ـ ولو) هاتين وصليّتين ، وفسره التفتازاني في «المطوّل» بأنهما لمجرد الوصل والربط في مقام التأكيد.

وإذ قد تحققت معنى هذا الشرط فقد حان أن نبين لك وجه الحق في الواو المقارنة له المختلف فيها ذلك الاختلاف الذي سمعته ، فإن كان ما بعد الواو معتبرا من جملة

١٠٨

الكلام الذي قبلها فلا شبهة في أن الواو للحال وأنه المعنى المراد وهو الغالب ، وإن كان ما بعدها من كلام آخر فهي واو العطف لا محالة عطفت ما بعدها على مضمون الكلام الأول على معنى التلقين ، وذلك كما في قوله تعالى : (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ)(١) [الزمر : ٤٣] وكذلك الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، فإن مجيء همزة الاستفهام دليل على أنه كلام آخر ، وكذلك بيت : «قالت بنات العم» المتقدم ، وإن كان ما بعدها من جملة الكلام الأول لكنه منظور فيه إلى جواب سؤال يخطر ببال السامع فالواو للاستئناف البياني الذي عبر عنه الرضي بالاعتراض مثل قول كعب بن زهير :

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم

أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل

فإن موقع الشرط فيه ليس موقع الحال بل موقع رد سؤال سائل يقول : أتنفي عن نفسك الذنب. وقد كثر القول في إثباته.

وقوله : (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) أي لا يدركون شيئا من المدركات ، وهذا مبالغة في إلزامهم بالخطإ في اتباع آبائهم من غير تبصر ولا تأمل ، وتقدم القول في كلمة شيء.

ومتعلق (وَلا يَهْتَدُونَ) محذوف أي إلى شيء ، وهذه الحالة ممتنعة في نفس الأمر؛ لأن لآبائهم عقولا تدرك الأشياء ، وفيهم بعض الاهتداء مثل اهتدائهم إلى إثبات وجود الله تعالى وإلى بعض ما عليه أمورهم من الخير كإغاثة الملهوف وقرى الضيف وحفظ العهد ونحو ذلك ، ولهذا صح وقوع (لو) الشرطية هنا. وقد أشبعت الكلام على (لو) هذه ؛ لأن الكلام عليها لا يوجد مفصلا في كتب النحو ، وقد أجحف فيه صاحب «المغني».

وليس لهذه الآية تعلق بأحكام الاجتهاد والتقليد ؛ لأنها ذم للذين أبوا أن يتبعوا ما أنزل الله ، فأما التقليد فهو تقليد للمتبعين ما أنزل الله (٢).

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ

__________________

(١) في المطبوعة (قل أو لو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) ولم أجدها في «معجم عبد الباقي» مادة يعقلون ويهتدون.

(٢) قال الألوسي : «في الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر ، وأما اتباع الغير في الدين بعد العلم بدليل ما إنه ملحق فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى ، وليس من التقليد المذموم في شيء ، وقد قال سبحانه : فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* [النحل : ٤٣] «روح المعاني» (٢ / ٤٠ ، ٤١) ، ط المنيرية.

١٠٩

عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١))

لما ذكر تلقيهم الدعوة إلى اتباع الدين بالإعراض إلى أن بلغ قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [البقرة : ١٧٠] ، وذكر فساد عقيدتهم إلى أن بلغ قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) [البقرة : ١٦٥] الآية ، فالمراد بالذين كفروا المضروب لهم المثل هنا هو عين المراد من (النَّاسِ) في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) وعين المراد من (الَّذِينَ ظَلَمُوا) في قوله : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) [البقرة : ١٦٥] ، وعين الناس في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) [البقرة : ١٦٨] ، وعين المراد من ضمير الغائب في قوله: (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) [البقرة : ١٧٠] ، عقّب ذلك كله بتمثيل فظيع حالهم إبلاغا في البيان واستحضارا لهم بالمثال ، وفائدة التمثيل تقدمت عند قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧]. وإنما عطفه بالواو هنا ولم يفصله كما فصل قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) لأنه أريد هنا جعل هذه صفة مستقلة لهم في تلقي دعوة الإسلام ولو لم يعطفه لما صح ذلك.

والمثل هنا لمّا أضيف إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا) كان ظاهرا في تشبيه حالهم عند سماع دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم إلى الإسلام بحال الأنعام عند سماع دعوة من ينعق بها في أنهم لا يفهمون إلّا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوهم إلى متابعته من غير تبصر في دلائل صدقه وصحة دينه ، فكلّ من الحالة المشبهة والحالة المشبه بها يشتمل على أشياء : داع ومدعو ودعوة ، وفهم وإعراض وتصميم ، وكل من هاته الأشياء التي هي أجزاء التشبيه المركب صالح لأن يكون مشبها بجزء من أجزاء المشبه به ، وهذا من أبدع التمثيل وقد أوجزته الآية إيجازا بديعا ، والمقصود ابتداء هو تشبيه حال الكفار لا محالة ، ويستتبع ذلك تشبيه حال النبي وحال دعوته ، وللكفار هنا حالتان : إحداهما حالة الإعراض عن داعي الإسلام ، والثانية حالة الإقبال على عبادة الأصنام ، وقد تضمنت الحالتين الآية السابقة وهي قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [البقرة : ١٧٠] وأعظمه عبادة الأصنام ، فجاء هذا المثل بيانا لما طوي في الآية السابقة.

فإن قلت : مقتضى الظاهر أن يقال : ومثل الذين كفروا كمثل غنم الذي ينعق ؛ لأن الكفار هم المشبهون والذي ينعق يشبهه داعي الكفار فلما ذا عدل عن ذلك؟ وهل هذا الأسلوب يدل على أن المقصود تشبيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه لهم بالذي ينعق؟ قلت : كلا

١١٠

الأمرين منتف ؛ فإن قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ) ، صريح في أنه تشبيه هيئة بهيئة كما تقدم في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) [البقرة : ١٧] ، وإذا كان كذلك كانت أجزاء المركبين غير منظور إليها استقلالا وأيّها ذكرت في جانب المركب المشبّه والمربة المشبه به أجزأك ، وإنما كان الغالب أن يبدءوا الجملة الدالة على المركب المشبه به بما يقابل المذكور في المركب المشبه نحو : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) وقد لا يلتزمون ذلك ، فقد قال الله تعالى : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) [آل عمران : ١١٧] الآية. والذي يقابل (ما يُنْفِقُونَ) في جانب المشبه به هو قوله : (حَرْثَ قَوْمٍ) [آل عمران : ١٧٧] وقال : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) [البقرة : ٢٦١] وإنما الذي يقابل (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) في جانب المشبه به هو زارع الحبة وهو غير مذكور في اللفظ أصلا وقال تعالى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) [البقرة : ٢٦٤] الآية ، والذي يقابل الصفوان في جانب المشبه هو المال المنفق لا الذي ينفق ، وفي الحديث الصحيح «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء» إلخ ، والذي يقابل الرجل الذي استأجر في جانب المشبه هو الله تعالى في ثوابه للمسلمين وغيرهم ممن آمن قبلنا ، وهو غير مذكور في جانب المشبه أصلا ، وهو استعمال كثير جدا ، وعليه فالتقديرات الواقعة للمفسرين هنا تقادير لبيان المعنى ، والآية تحتمل أن يكون المراد تشبيه حال المشركين في إعراضهم عن الإسلام بحال الذي ينعق بالغنم ، أو تشبيه حال المشركين في إقبالهم على الأصنام بحال الداعي للغنم ، وأيّا ما كان فالغنم تسمع صوت الدعاء والنداء ولا تفهم ما يتكلم به الناعق ، والمشركون لم يهتدوا بالأدلة التي جاء بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون قوله : (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) من تكملة أوصاف بعض أجزاء المركب التمثيلي في جانب المشبه به ، وذلك صالح لأن يكون مجرد إتمام للتشبيه إن كان المراد تشبيه المشركين بقلة الإدراك ، ولأن يكون احتراسا في التشبيه إن كان المراد تشبيه الأصنام حين يدعوها المشركون بالغنم حين ينعق بها رعاتها فهي لا تسمع إلّا دعاء ونداء ، ومعلوم أن الأصنام لا تسمع لا دعاء ولا نداء فيكون حينئذ مثل قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] ثم قال : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) [البقرة : ٧٤].

وقد جوز المفسرون أن يكون التمثيل على إحدى الطريقتين ، وعندي أن الجمع بينهما ممكن ولعله من مراد الله تعالى ، فقد قدمنا أن التشبيه التمثيلي يحتمل كل ما حمّلته من الهيئة كلها ، وهيئة المشركين في تلقي الدعوة مشتملة على إعراض عنها وإقبال على

١١١

دينهم كما هو مدلول قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ) [البقرة : ١٧٠] الآية ، فهذه الحالة كلها تشبه حال الناعق بما لا يسمع ، فالنبي يدعوهم كناعق بغنم لا تفقه دليلا ، وهم يدعون أصنامهم كناعق بغنم لا تفقه شيئا. ومن بلاغة القرآن صلوحية آياته لمعان كثيرة يفرضها السامع.

والنعق نداء الغنم وفعله كضرب ومنع ولم يقرأ إلّا بكسر العين فلعل وزن ضرب فيه أفصح وإن كان وزن منع أقيس ، وقد أخذ الأخطل معنى هذه الآية في قوله يصف جريرا بأن لا طائل في هجائه الأخطل :

فانعق بضأنك يا جرير فإنما

منّتك نفسك في الظلام ضلالا

والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد ، فهو تأكيد ولا يصح ، وقيل الدعاء للقريب والنداء للبعيد ، وقيل الدعاء ما يسمع والنداء قد يسمع وقد لا يسمع ولا يصح.

والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات التي تفهمها الغنم ، فالدعاء ما يخاطب به الغنم من الأصوات الدالة على الزجر وهي أسماء الأصوات ، والنداء رفع الصوت عليها لتجتمع إلى رعاتها ، ولا يجوز أن يكونا بمعنى واحد مع وجود العطف ؛ لأن التوكيد اللفظي لا يعطف فإن حقيقة النداء رفع الصوت لإسماع الكلام ، أو المراد به هنا نداء الرّعاء بعضهم بعضا للتعاون على ذود الغنم ، وسيأتي معنى النداء عند قوله تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) [الأعراف : ٤٣] في سورة الأعراف.

وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) أخبار لمحذوف على طريقة الحذف المعبر عنه في علم المعاني بمتابعة الاستعمال بعد أن أجرى عليهم التمثيل ، والأوصاف إن رجعت للمشركين فهي تشبيه بليغ وهو الظاهر وإن رجعت إلى الأصنام المفهومة من ينعق على أحد الاحتمالين المتقدمين فهي حقيقة وتكون شاهدا على صحة الوصف بالعدم لمن لا يصح اتصافه بالملكة كقولك للحائط : هو أعمى ، إلّا أن يجاب بأن الأصنام لما فرضها المشركون عقلاء آلهة وأريد إثبات انعدام الإحساس منهم عبر عنها بهذه الأوصاف تهكما بالمشركين فقيل : صم بكم عمي كقول إبراهيم : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) [مريم : ٤٢].

وقوله : (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) تقريع كمجيء النتيجة بعد البرهان ، فإن كان ذلك راجعا للمشركين فالاستنتاج عقب الاستدلال ظاهر لخفاء النتيجة في بادئ الرأي ، أي إن تأملتم

١١٢

وجدتموهم لا يعقلون ؛ لأنهم كالأنعام والصمّ والبكم إلخ ، وإن كان راجعا للأصنام فالاستنتاج للتنبيه على غباوة المشركين الذين عبدوها. ومجيء الضمير لهم بضمير العقلاء تهكم بالمشركين لأنهم جعلوا الأصنام في أعلى مراتب العقلاء كما تقدم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢))

اعتراض بخطاب المسلمين بالامتنان عليهم بإباحة ما في الأرض من الطيبات ، جرّت إليه مناسبة الانتقال ، فقد انتقل من توبيخ أهل الشرك على أن حرّموا ما خلقه الله من الطيبات إلى تحذير المسلمين من مثل ذلك مع بيان ما حرّم عليهم من المطعومات ، وقد أعيد مضمون الجملة المتقدمة جملة (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ١٦٨] بمضمون جملة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ليكون خطاب المسلمين مستقلا بنفسه ، ولهذا كان الخطاب هنا بيا أيها الذين آمنوا ، والكلام على الطيبات تقدم قريبا.

وقوله : (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) معطوف على الأمر بأكل الطيبات الدال على الإباحة والامتنان ، والأمر في (اشْكُرُوا) للوجوب لأن شكر المنعم واجب. وتقدم وجه تعدية فعل الشكر بحرف اللام عند قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي) [البقرة: ١٥٢].

والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر لأن في الاسم الظاهر إشعارا بالإلهية فكأنه يومئ إلى ألّا تشكر الأصنام ؛ لأنها لم تخلق شيئا مما على الأرض باعتراف المشركين أنفسهم فلا تستحق شكرا. وهذا من جعل اللقب ذا مفهوم بالقرينة ؛ إذ الضمير لا يصلح لذلك إلّا في مواضع. ولذلك جاء بالشرط فقال : (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) أي اشكروه على ما رزقكم إن كنتم ممن يتصف بأنه لا يعبد إلّا الله أي إن كنتم هذا الفريق وهذه سجيتكم ، ومن شأن كان إذا جاءت وخبرها جملة مضارعية أن تدل على الاتصاف بالعنوان لا على الوقوع بالفعل مثل قوله : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف : ٤٣] أي إن كان هذا العلم من صفاتكم ، والمعنى إن كنتم لا تشركون معه في العبادة غيره فاشكروه وحده. فالمراد بالعبادة هنا الاعتقاد بالإلهية والخضوع والاعتراف وليس المراد بها الطاعات الشرعية. وجواب الشرط محذوف أغني عنه ما تقدم من قوله (وَاشْكُرُوا).

(إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ

١١٣

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣))

استئناف بياني ، ذلك أن الإذن بأكل الطيبات يثير سؤال من يسأل ما هي الطيبات فجاء هذا الاستئناف مبيّنا المحرمات وهي أضداد الطيبات ، لتعرف الطيبات بطريق المضادة المستفادة من صيغة الحصر ، وإنما سلك طريق بيان ضد الطيبات للاختصار ؛ فإن المحرمات قليلة ، ولأن في هذا الحصر تعريضا بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيرا من الطيبات وأحلوا الميتة والدم ، ولما كان القصر هنا حقيقيا لأن المخاطب به هم المؤمنون وهم لا يعتقدون خلاف ما يشرع لهم ، لم يكن في هذا القصر قلب اعتقاد أحد وإنما حصل الرد به على المشركين بطريقة التعريض.

و (إِنَّما) بمعنى ما وإلّا أي ما حرّم عليكم إلّا الميتة وما عطف عليها ، ومعلوم من المقام أن المقصود ما حرّم من المأكولات.

والحرام : الممنوع منعا شديدا.

والميتة بالتخفيف هي في أصل اللغة الذّات التي أصابها الموت فمخففها ومشدّدها سواء كالميت والميّت ، ثم خص المخفف مع التأنيث بالدابة التي تقصد ذكاتها إذا ماتت بدون ذكاة ، فقيل : إن هذا من نقل الشرع وقيل : هو حقيقة عرفية قبل الشرع وهو الظاهر بدليل إطلاقها في القرآن على هذا المعنى.

وقرأ الجمهور (الميتة) بتخفيف الياء وقرأه أبو جعفر بتشديد الياء.

وإضافة التحريم إلى ذات الميتة وما عطف عليها هو من المسألة الملقبة في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان ، ومحمله على تحريم ما يقصد من تلك العين باعتبار نوعها نحو (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] أو باعتبار المقام نحو (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) [النساء : ٢٣] فيقدر في جميع ذلك مضاف يدل عليه السياق ، أو يقال : أقيم اسم الذات مقام الفعل المقصود منها للمبالغة ، فإذا تعين ما تقصد له قصر التحريم والتحليل على ذلك ، وإلّا عمّم احتياطا ، فنحو (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) متعين لحرمة تزوجهن وما هو من توابع ذلك كما اقتضاه السياق ، فلا يخطر بالبال أن يحرم تقبيلهن أو محادثتهن ، ونحو : (فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة : ٩٠] بالنسبة إلى الميسر والأزلام متعين لاجتناب اللعب بها دون نجاسة ذواتها.

والميتة هنا عام ؛ لأنه معرّف بلام الجنس ، فتحريم أكل الميتة هو نصّ الآية

١١٤

صريحها لوقوع فعل (حَرَّمَ) بعد قوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة :١٧٢] وهذا القدر متفق عليه بين علماء الإسلام ، واختلفوا فيما عدا الأكل من الانتفاع بأجزاء الميتة كالانتفاع بصوفها وما لا يتصل بلحمها مما كان ينتزع منها في وقت حياتها فقال مالك:يجوز الانتفاع بذلك ، ولا ينتفع بقرنها وأظلافها وريشها وأنيابها لأن فيها حياة إلّا ناب الفيل المسمى العاج ، وليس دليله على هذا التحريم منتزعا من هذه الآية ولكنه أخذ بدلالة الإشارة ؛ لأن تحريم أكل الميتة أشار إلى خباثة لحمها وما في معناها ، وقال الشافعي: يحرم الانتفاع بكل أجزاء الميتة ، ولا دليل له من فعل (حَرَّمَ) ؛ لأن الفعل في حيز الإثبات لا عموم له ، ولأن لفظ (الْمَيْتَةَ) كلّ وليس كليّا فليس من صيغ العموم ، فيرجع الاستدلال به إلى مسألة الخلاف في الأخذ بأوائل الأسماء أو أواخرها وهي مسألة ترجع إلى إعمال دليل الاحتياط وفيه مراتب وعليه قرائن ولا أحسبها متوافرة هنا ، وقال أبو حنيفة لا يجوز الانتفاع بالميتة بوجه ولا يطعمها الكلاب ولا الجوارح ، لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها وقد حرمها الله تحريما مطلقا معلقا بعينها مؤكدا به حكم الحظر ، فقوله موافق لقول مالك فيما عدا استدلاله.

وأما جلد الميتة فله شبه من جهة ظاهره كشبه الشعر والصوف ، ومن جهة باطنه كشبه اللحم ، ولتعارض هذين الشبهين اختلف الفقهاء في الانتفاع بجلد الميتة (١) إذا دبغ فقال أحمد ابن حنبل : لا يطهر جلد الميتة بالدبغ ، وقال أبو حنيفة والشافعي : يطهر بالدبغ ما عدا جلد الخنزير لأنه محرم العين ، ونسب هذا إلى الزهري ، وألحق الشافعي جلد الكلب بجلد الخنزير ، وقال مالك يطهر ظاهر الجلد بالدبغ لأنه يصير صلبا لا يداخله ما يجاوره ، وأما باطنه فلا يطهر بالدبغ ولذلك قال : يجوز استعمال جلد الميتة المدبوغ في غير وضع الماء فيه ، ومنع أن يصلي به أو عليه ، وقول أبي حنيفة أرجح للحديث الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى شاة ميتة كانت لميمونة أم المؤمنين فقال «هلّا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» ، ولما جاء في الحديث الآخر من قوله : «أيّما إهاب دبغ فقد طهر» (٢) ، ويظهر أن هذين الخبرين لم يبلغا مبلغ الصحة عند مالك ولكن صحتهما ثبتت عند غيره ، والقياس يقتضي طهارة الجلد المدبوغ لأن الدبغ يزيل ما في الجلد من توقع العفونة العارضة للحيوان غير المذكى فهو مزيل لمعنى القذارة والخباثة العارضتين للميتة.

__________________

(١) انظر هذه المسألة في «البداية» لابن رشد (١ / ٧٨) ، دار المعرفة.

(٢) رواه الترمذي والنسائي وأحمد وابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١١٥

ويستثنى من عموم الميتة ميتة الحوت ونحوه من دواب البحر التي لا تعيش في البر وسيأتي الكلام عليها عند قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ) [المائدة : ٩٦] في سورة العقود.

واعلم أن حكمة تحريم الميتة فيما أرى هي أن الحيوان لا يموت غالبا إلّا وقد أصيب بعلة والعلل مختلفة وهي تترك في لحم الحيوان أجزاء منها فإذا أكلها الإنسان قد يخالط جزءا من دمه جراثيم الأمراض ، مع أن الدم الذي في الحيوان إذا وقفت دورته غلبت فيه الأجزاء الضارة على الأجزاء النافعة ، ولذلك شرعت الذكاة لأن المذكى مات من غير علة غالبا ولأن إراقة الدم الذي فيه تجعل لحمه نقيا مما يخشى منه أضرار.

ومن أجل هذا قال مالك في الجنين : إن ذكاته ذكاة أمه (١) ؛ لأنه لاتصاله بأجزاء أمه صار استفراغ دم أمه استفراغا لدمه ولذلك يموت بموتها فسلم من عاهة الميتة وهو مدلول

الحديث الصحيح «ذكاة الجنين ذكاة أمه» وبه أخذ الشافعي ، وقال أبو حنيفة لا يؤكل الجنين إذا خرج ميتا فاعتبر أنه ميتة لم يذكّ ، وتناول الحديث بما هو معلوم في الأصول ، ولكن القياس الذي ذكرناه في تأييد مذهب مالك لا يقبل تأويلا.

وقد ألحق بعض الفقهاء بالحوت الجراد تؤكل ميتته لأنه تتعذر ذكاته وهو قول ابن نافع وابن عبد الحكم من المالكية تمسكا بما في «صحيح مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى «غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبع غزوات كنا نأكل الجراد معه» اه.

وسواء كان معه ظرفا لغوا متعلقا بنأكل أم كان ظرفا مستقرا حالا من ضمير «كنا» فهو يقتضي الإباحة إما بأكله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه وإما بتقريره ذلك فتخص به الآية لأنه حديث صحيح ، وأما حديث «أحلت لنا ميتتان السمك والجراد» فلا يصلح للتخصيص لأنه ضعيف كما قال ابن العربي في «الأحكام» (٢) ، ومنعه مالك وجمهور أصحابه إلّا أن يذكى ذكاة أمثاله كالطرح في الماء السخن أو قطع ما لا يعيش بقطعه.

ولعل مالك رحمه‌الله استضعف الحديث الذي في مسلم أو حمله على الاضطرار في السفر أو حمله على أنهم كانوا يصنعون به ما يقوم مقام الذكاة قال ابن وهب : إن ضم

__________________

(١) المصدر السابق (١ / ٤٤٢) ، دار المعرفة.

(٢) وابن رشد أيضا كما في المصدر السابق (١ / ٨٠) ، دار المعرفة ، وقال في (١ / ٤٦٧) ، دار المعرفة : «هذا الحديث في غالب ظني ليس هو في الكتب المشهورة من كتب الحديث».

١١٦

الجراد في غرائر فضمه ذلك ذكاة له ، وقد ذكر في «الموطأ» حديث عمر وقول كعب الأحبار في الجراد إنه من الحوت وبينت توهم كعب الأحبار في كتابي المسمى «كشف المغطى على الموطأ»(١).

وأما الدّم فإنما نص الله على تحريمه لأن العرب كانت تأكل الدم ، كانوا يأخذون المباعر فيملئونها دما ثم يشوونها بالنار ويأكلونها ، وحكمة تحريم الدم أن شربه يورث ضراوة في الإنسان فتغلظ طباعه ويصير كالحيوان المفترس ، وهذا مناف لمقصد الشريعة ، لأنها جاءت لإتمام مكارم الأخلاق وإبعاد الإنسان عن التهور والهمجية ، ولذلك قيد في بعض الآيات بالمسفوح أي المهراق ، لأنه كثير لو تناوله الإنسان اعتاده ولو اعتاده أورثه ضراوة ، ولذا عفت الشريعة عما يبقى في العروق بعد خروج الدم المسفوح بالذبح أو النحر ، وقاس كثير من الفقهاء نجاسة الدم على تحريم أكله وهو مذهب مالك ، ومداركهم في ذلك ضعيفة ، ولعلهم رأوا مع ذلك أن فيه قذارة.

والدم معروف مدلوله في اللغة وهو إفراز من المفرزات الناشئة عن الغذاء وبه الحياة وأصل خلقته في الجسد آت من انقلاب دم الحيض في رحم الحامل إلى جسد الجنين بواسطة المصران المتصل بين الرحم وجسد الجنين وهو الذي يقطع حين الولادة ، وتجدده في جسد الحيوان بعد بروزه من بطن أمه يكون من الأغذية بواسطة هضم الكبد للغذاء المنحدر إليها من المعدة بعد هضمه في المعدة ويخرج من الكبد مع عرق فيها فيصعد إلى القلب الذي يدفعه إلى الشرايين وهي العروق الغليظة وإلى العروق الرقيقة بقوّة حركة القلب بالفتح والإغلاق حركة ماكينية هوائية ، ثم يدور الدم في العروق منتقلا من بعضها إلى بعض بواسطة حركات القلب وتنفس الرئة وبذلك الدوران يسلم من التعفن فلذلك إذا تعطلت دورته حصة طويلة مات الحيوان.

ولحم الخنزير هو لحم الحيوان المعروف بهذا الاسم. وقد قال بعض المفسرين : إن العرب كانوا يأكلون الخنزير الوحشي دون الإنسي ، أي لأنهم لم يعتادوا تربية الخنازير وإذا كان التحريم واردا على الخنزير الوحشي فالخنزير الإنسي أولى بالتحريم أو مساو للوحشي.

وذكر اللحم هنا لأنه المقصود للأكل فلا دلالة في ذكره على إباحة شيء آخر منه

__________________

(١) «كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ».

١١٧

ولا على عدمها ، فإنه قد يعبر ببعض الجسم على جميعه كقوله تعالى عن زكرياء (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) [مريم : ٤] ، وأما نجاسته ونجاسة شعره أو إباحتها فذلك غرض آخر ليس هو المراد من الآية.

وقد قيل في وجه ذكر اللحم هنا وتركه في قوله : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) وجوه قال ابن عطية : إن المقصد الدلالة على تحريم عينه ذكّي أم لم يذكّ اه. ومراده بهذا ألا يتوهم متوهم أنه إنما يحرم إذا كان ميتة وفيه بعد ، وقال الألوسي خصه لإظهار حرمته ، لأنهم فضلوه على سائر اللحوم فربما استعظموا وقوع تحريمه اه. يريد أن ذكره لزيادة التغليظ أي ذلك اللحم الذي تذكرونه بشراهة ، ولا أحسب ذلك ، لأن الذين استجادوا لحم الخنزير هم الروم دون العرب ، وعندي أن إقحام لفظ اللحم هنا إما مجرد تفنن في الفصاحة وإما للإيماء إلى طهارة ذاته كسائر الحيوان ، وإنما المحرم أكله لئلا يفضي تحريمه بالناس إلى قتله أو تعذيبه ، فيكون فيه حجة لمذهب مالك بطهارة عين الخنزير كسائر الحيوان الحي ، وإما للترخيص في الانتفاع بشعره لأنهم كانوا يغرزون به الجلد.

وحكمة تحريم لحم الخنزير أنه يتناول القاذورات بإفراط فتنشأ في لحمه دودة (١) مما يقتاته لا تهضمها معدته فإذا أصيب بها آكله قتلته.

ومن عجيب ما يتعرض له المفسرون والفقهاء البحث في حرمة خنزير الماء وهي مسألة فارغة إذ أسماء أنواع الحوت روعيت فيها المشابهة كما سموا بعض الحوت فرس البحر وبعضه حمام البحر وكلب البحر ، فكيف يقول أحد بتأثير الأسماء والألقاب في الأحكام الشرعية وفي «المدونة» توقّف مالك أن يجيب في خنزير الماء وقال : أنتم تقولون خنزير. قال ابن شأس : رأى غير واحد أن توقّف مالك حقيقة لعموم (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ) [المائدة : ٩٦] وعموم قوله تعالى : (وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) ورأى بعضهم أنه غير متوقّف فيه حقيقة ، وإنما امتنع من الجواب إنكارا عليهم تسميتهم إياه خنزيرا ولذلك قال أنتم تسمونه خنزيرا يعني أن العرب لم يكونوا يسمونه خنزيرا وأنه لا ينبغي تسميته خنزيرا ثم السؤال عن أكله حتى يقول قائلون أكلوا لحم الخنزير ، أي فيرجع كلام مالك إلى صون ألفاظ الشريعة ألا يتلاعب بها ، وعن أبي حنيفة أنه منع أكل خنزير البحر غير متردد أخذا بأنه سمي خنزيرا ، وهذا عجيب منه وهو المعروف بصاحب الرأي ، ومن أين لنا ألا يكون

__________________

(١) وتسمى في الفرنسية (Trichine) والمرض يسمى (Trichinose).

١١٨

لذلك الحوت اسم آخر في لغة بعض العرب فيكون أكله محرما على فريق ومباحا لفريق.

وقوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) أي ما أعلن به أو نودي عليه بغير اسم الله تعالى ، وهو مأخوذ من أهل إذا رفع صوته بالكلام ومثله استهل ويقولون : استهل الصبي صارخا إذا رفع صوته بالبكاء ، وأهلّ بالحج أو العمرة إذا رفع صوته بالتلبية عند الشروع فيهما ، والأقرب أنه مشتق من قول الرجل : هلا لقصد التنبيه المستلزم لرفع الصوت وهلا أيضا اسم صوت لزجر الخيل ، وقيل مشتق من الهلال ، لأنهم كانوا إذا رأوا الهلال نادى بعضهم بعضا وهو عندي من تلفيقات اللغويين وأهل الاشتقاق ، ولعل اسم الهلال إن كان مشتقا وكانوا يصيحون عند رؤيته وهو الذي اشتق من هلّ وأهلّ بمعنى رفع صوته ، لأن تصاريف أهلّ أكثر ، ولأنهم سموا الهلال شهرا من الشهرة كما سيأتي.

وكانت العرب في الجاهلية إذا ذبحت أو نحرت للصنم صاحوا باسم الصنم عند الذبح فقالوا باسم اللات أو باسم العزّى أو نحوهما ، وكذلك كان عند الأمم التي تعبد آلهة إذا قربت لها القرابين ، وكان نداء المعبود ودعاؤه عند الذبح إليه عادة عند اليونان كما جاء في «الإلياذة» لهوميروس.

فأهلّ في الآية مبني للمجهول أي ما أهل عليه المهل غير اسم الله ، وضمن (أهل) معنى تقرب فعدي لمتعلقه بالباء وباللام مثل تقرب ، فالضمير المجرور بالباء عائد إلى (ما أُهِلَ) ، وفائدة هذا التضمين تحريم ما تقرب به لغير الله تعالى سواء نودي عليه باسم المتقرب إليه أم لا ، والمراد بغير الله الأصنام ونحوها.

وأما ما يذبحه سودان بلدنا بنية أن الجن تشرب دمه ولا يذكرون اسم الله عليه زعما بأن الجن تفر من نورانية اسم الله فالظاهر أنه لا يجوز أكله وإن كان الذين يفعلونه مسلمين ولا يخرجهم ذلك عن الإسلام. وقال ابن عرفة في «تفسيره» : الأظهر جواز أكله لأنه لم يهل به لغير الله.

وقوله : «فمن اضطر» إلخ الفاء فيه لتفريع الإخبار لا لتفريع المعنى ، فإن معنى رفع الحرج عن المضطر لا ينشأ عن التحريم ، والمضطر هو الذي ألجأته الضرورة أي الحاجة أي اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات فلا إثم عليه ، وقوله : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) حال ، والبغي الظلم ، والعدوان المحاربة والقتال ، ومجيء هذه الحال هنا للتنويه بشأن المضطر في حال إباحة هاته المحرمات له بأنه بأكلها يكون غير باغ ولا عاد ، لأن الضرورة تلجئ إلى البغي والاعتداء فالآية إيماء إلى علة الرخصة وهي رفع البغي

١١٩

والعدوان بين الأمة ، وهي أيضا إيماء إلى حد الضرورة وهي الحاجة التي يشعر عندها من لم يكن دأبه البغي والعدوان بأنه سيبغي ويعتدي وهذا تحديد منضبط ، فإن الناس متفاوتون في تحمل الجوع ولتفاوت الأمزجة في مقاومته ، ومن الفقهاء من يحدد الضرورة بخشية الهلاك ومرادهم الإفضاء إلى الموت والمرض وإلّا فإن حالة الإشراف على الموت لا ينفع عندها الأكل ، فعلم أن نفي الإثم عن المضطر فيما يتناوله من هذه المحرمات منوط بحالة الاضطرار ، فإذا تناول ما أزال به الضرورة فقد عاد التحريم كما كان ، فالجائع يأكل من هاته المحرمات إن لم يجد غيرها أكلا يغنيه عن الجوع وإذا خاف أن تستمر به الحاجة كمن توسط فلاة في سفر أن يتزود من بعض هاته الأشياء حتى إن استغنى عنها طرحها ، لأنه لا يدري هل يتفق له وجدانها مرة أخرى.

ومن عجب الخلاف بين الفقهاء أن ينسب إلى أبي حنيفة والشافعي أنّ المضطرّ لا يشبع ولا يتزود خلافا لمالك في ذلك والظاهر أنه خلاف لفظي والله تعالى يقول : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في معرض الامتنان فكيف يأمر الجائع بالبقاء على بعض جوعه ويأمر السائر بالإلقاء بنفسه إلى التهلكة إن لم يتزود ، وقد فسر قوله (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) بتفاسير أخرى فعن الشافعي أنه غير الباغي والعادي على الإمام لا عاص بسفره فلا رخصة له فلا يجوز له أكل ذلك عند الاضطرار فأجاب المالكية : بأن عصيانه بالسفر لا يقتضي أن يؤمر بمعصية أكبر وهي إتلاف نفسه بترك أكل ما ذكر وهو إلجاء مكين.

ومما اختلفوا في قياسه على ضرورة الجوع ضرورة التداوي ، فقيل لا يتداوى بهاته المحرمات ولا بشيء مما حرم الله كالخمر وهذا قول مالك والجمهور ، ولم يزل الناس يستشكلونه لاتحاد العلة وهي حفظ الحياة ، وعندي أن وجهه أن تحقق العلة فيه منتف إذ لم يبلغ العلم بخصائص الأدوية ظن نفعها كلها إلّا ما جرب منها ، وكم من أغلاط كانت للمتطببين في خصائص الدواء ، ونقل الفخر عن بعضهم إباحة تناول المحرمات في الأدوية ، وعندي أنه إذا وقع قوة ظن الأطباء الثقات بنفع الدواء المحرم من مرض عظيم وتعينه أو غلب ذلك في التجربة فالجواز قياسا على أكل المضطر وإلّا فلا (١).

__________________

(١) انظر : «حاشية ابن عابدين» (٤ / ١١٣ ، ٢١٥) ، «حاشية الدسوقي» (٤ / ٣٥٣ ، ٣٥٤) ، «الفواكه الدواني» (٢ / ٤٤١) ، «حواشي الشرواني وابن قاسم على «التحفة» (٩ / ١٧٠) «قليوبي وعميرة» (٣ / ٢٠٣) ، «كشاف القناع» (٢ / ٧٦ ، ٦ / ١١٦ ، ٢٠٠) ، «الإنصاف» (٢ / ٤٦٣ ، ٤٧٤) ، «الفروع» (٢ / ١٦٥) وما بعدها.

١٢٠