تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

إلى (أخيه) ، والمعنى : فليرضى بما بذل له من الصلح المتيسر ، وليؤد باذل الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص ، والضمير المجرور باللام والضمير المجرور بإلى عائدان على (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ).

ومقصد الآية الترغيب في الرضا بأخذ العوض عن دم القتيل بدلا من القصاص لتغيير ما كان أهل الجاهلية يتعيرون به من أخذ الصلح في قتل العمد ويعدونه بيعا لدم مولاهم كما قال مرّة الفقعسي :

فلا تأخذوا عقلا من القوم إنّني

أرى العار يبقى والمعاقل تذهب

وقال غيره يذكر قوما لم يقبلوا منه صلحا عن قتيل :

فلو أنّ حيّا يقبل المال فدية

لسقنا لهم سببا من المال مفعما

ولكن أبى قوم أصيب أخوهم

رضا العار فاختاروا على اللّبن الدّما

وهذا كله في العفو على قتل العمد وأما قتل الخطأ فإن شأنه الدية عن عاقلة القاتل وسيأتي في سورة النساء.

وإطلاق وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام تأسيس أصل جاء به القرآن جعل به التوافق في العقيدة كالتوافق في نسب الإخوة ، وحقّا فإن التوافق في الدين آصرة نفسانية والتوافق في النسب آصرة جسدية والروح أشرف من الجسد.

واحتج ابن عباس بهذه الآية على الخوارج في أن المعصية لا تزيل الإيمان ، لأن الله سمى القاتل أخا لولي الدم وتلك أخوة الإسلام مع كون القاتل عاصيا.

وقوله : (بِالْمَعْرُوفِ) المعروف هو الذي تألفه النفوس وتستحسنه فهو مما تسر به النفوس ولا تشمئز منه ولا تنكره ، ويقال لضده منكر وسيأتي عند قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٠] في سورة آل عمران.

والباء في قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) للملابسة أي فاتباع مصاحب للمعروف أي رضا وقبول ، وحسن اقتضاء إن وقع مطل ، وقبول التنجيم إن سأله القاتل.

والأداء : الدفع وإبلاغ الحق والمراد به إعطاء مال الصلح ، وذكر متعلقه وهو قوله (إِلَيْهِ) المؤذن بالوصول إليه والانتهاء إليه للإشارة إلى إبلاغ مال الصلح إلى ولي المقتول

١٤١

بأن يذهب به إليه ولا يكلفه الحضور بنفسه لقبضه أو إرسال من يقبضه ، وفيه إشارة إلى أنه لا يمطله ، وزاد ذلك تقريرا بقوله : (بِإِحْسانٍ) أي دون غضب ولا كلام كريه أو جفاء معاملة.

وقوله : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ) إشارة إلى الحكم المذكور وهو قبول العفو وإحسان الأداء والعدول عن القصاص ، تخفيف من الله على الناس فهو رحمة منه أي أثر رحمته ، إذ التخفيف في الحكم أثر الرحمة ، فالأخذ بالقصاص عدل والأخذ بالعفو رحمة.

ولما كانت مشروعية القصاص كافية في تحقيق مقصد الشريعة في شرع القصاص من ازدجار الناس عن قتل النفوس وتحقيق حفظ حق المقتول بكون الخيرة للولي كان الإذن في العفو إن تراضيا عليه رحمة من الله بالجانبين ، فالعدل مقدم والرحمة تأتي بعده.

قيل : إن الآية أشارت إلى ما كان في الشريعة الإسرائيلية من تعيين القصاص من قاتل العمد دون العفو ودون الدية كما ذكره كثير من المفسرين وهو في «صحيح البخاري» عن ابن عباس ، وهو ظاهر ما في سفر الخروج الإصحاح الثالث : «من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده فأنا أجعل لك مكانا يهرب إليه وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحي تأخذه للموت» ، وقال القرطبي : إن حكم الإنجيل العفو مطلقا والظاهر أن هذا غير ثابت في شريعة عيسى ، لأنه ما حكى الله عنه إلّا أنه قال : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران : ٥٠] ، فلعله مما أخذه علماء المسيحية من أمره بالعفو والتسامح لكنه حكم تنزه شرائع الله عنه لإفضائه إلى انخرام نظام العالم ، وشتان بين حال الجاني بالقتل في الإسلام يتوقع القصاص ويضع حياته في يد ولي دم المقتول فلا يدري أيقبل الصلح أم لا يقبل ، وبين ما لو كان واثقا بأنه لا قصاص عليه فإن ذلك يجرئه على قتل عدوه وخصمه.

(فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

تفريع عن حكم العفو لأن العفو يقتضي شكر الله على أن أنجاه بشرع جواز العفو وبأن سخر الولي للعفو ، ومن الشكر ألّا يعود إلى الجناية مرة أخرى ، فإن عاد فله عذاب أليم ، وقد فسر الجمهور العذاب الأليم بعذاب الآخرة والمراد تشديد العذاب عليه كقوله تعالى : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] ، ثم له من حكم العفو والدية ما للقاتل ابتداء عندهم ، وفسره بعضهم بعذاب الدنيا أعني القتل فقالوا : إن عاد المعفو عنه إلى

١٤٢

القتل مرة أخرى فلا بد من قتله ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ونقلوا ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي ورواه أبو داود عن سمرة بن جندب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه موكول إلى اجتهاد الإمام.

والذي يستخلص من أقوالهم هنا سواء كان العذاب عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا أن تكرر الجناية يوجب التغليظ وهو ظاهر من مقاصد الشارع ؛ لأن الجناية قد تصير له دربة فعوده إلى قتل النفس يؤذن باستخفافه بالأنفس فيجب أن يراح منه الناس ، وإلى هذا نظر قتادة ومن معه ، غير أن هذا لا يمنع حكم العفو إن رضي به الولي ؛ لأن الحق حقه ، وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز بتفويضه إلى الإمام لينظر هل صار هذا القاتل مزهق أنفس ، وينبغي إن عفي عنه أن تشدد عليه العقوبة أكثر من ضرب مائة وحبس عام وإن لم يقولوه ؛ لأن ذكر الله هذا الحكم بعد ذكر الرحمة دليل على أن هذا الجاني غير جدير في هاته المرة بمزيد الرحمة ، وهذا موضع نظر من الفقه دقيق ، قد كان الرجل في الجاهلية يقتل ثم يدفع الدية ثم يغدره ولي الدم فيقتله وقريب من هذا قصة حصين بن ضمضم التي أشار إليها زهير بقوله :

لعمري لنعم الحيّ جرّ عليهم

بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

تذييل لهاته الأحكام الكبرى طمأن به نفوس الفريقين أولياء الدم والقاتلين في قبول أحكام القصاص فبين أن في القصاص حياة ، والتنكير في (حَياةٌ) للتعظيم بقرينة المقام ، أي في القصاص حياة لكم أي لنفوسكم ؛ فإن فيه ارتداع الناس عن قتل النفوس ، فلو أهمل حكم القصاص لما ارتدع الناس ؛ لأن أشدّ ما تتوقاه نفوس البشر من الحوادث هو الموت ، فلو علم القاتل أنه يسلم من الموت لأقدم على القتل مستخفا بالعقوبات كما قال سعد بن ناشب لما أصاب دما وهرب فعاقبه أمير البصرة بهدم داره بها :

سأغسل عني العار بالسيف جالبا

عليّ قضاء الله ما كان جالبا

وأذهل عن داري وأجعل هدمها

لعرضي من باقي المذمّة حاجبا

ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت

يميني بإدراك الذي كنت طالبا

ولو ترك الأمر للأخذ بالثأر كما كان عليه في الجاهلية لأفرطوا في القتل وتسلسل الأمر كما تقدم ، فكان في مشروعية القصاص حياة عظيمة من الجانبين ، وليس الترغيب في

١٤٣

أخذ مال الصلح والعفو بناقض لحكمة القصاص ؛ لأن الازدجار يحصل بتخيير الولي في قبول الدية فلا يطمئن مضمر القتل إلى عفو الولي إلّا نادرا وكفى بهذا في الازدجار.

وفي قوله تعالى : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص ولذلك جيء في التعريف بطريق الإضافة الدالة على أنهم من أهل العقول الكاملة ؛ لأن حكمة القصاص لا يدركها إلّا أهل النظر الصحيح ؛ إذ هو في بادئ الرأي كأنه عقوبة بمثل الجناية ؛ لأن في القصاص رزية ثانية لكنه عند التأمل هو حياة لا رزية للوجهين المتقدمين.

وقال : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) إكمالا للعلة أي تقريبا لأن تتقوا فلا تتجاوزوا في أخذ الثأر حدّ العدل والإنصاف. ولعل للرجاء وهي هنا تمثيل أو استعارة تبعية كما تقدم عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ـ إلى قوله ـ (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١] في أول السورة.

وقوله : (فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) من جوامع الكلم فاق ما كان سائرا مسرى المثل عند العرب وهو قولهم (القتل أنفى للقتل) وقد بينه السكاكي في «مفتاح العلوم» و «ذيله» من جاء بعده من علماء المعاني ، ونزيد عليهم : أن لفظ القصاص قد دل على إبطال التكايل بالدماء وعلى إبطال قتل واحد من قبيلة القاتل إذا لم يظفروا بالقاتل وهذا لا تفيده كلمتهم الجامعة.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠))

استئناف ابتدائي لبيان حكم المال بعد موت صاحبه ، فإنه لم يسبق له تشريع ولم يفتتح ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف ، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم ، ومناسبة ذكره أنه تغيير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات فإنهم كانوا كثيرا ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه ، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض ، ولما كان هذا مما يفضي بهم إلى الإحن وبها تختل الحالة الاجتماعية بإلقاء العداوة بين الأقارب كما قال طرفة :

وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة

على المرء من وقع الحسام المهنّد

١٤٤

كان تغييرها إلى حال العدل فيها من أهم مقاصد الإسلام كما بيّنا تفصيله فيما تقدم في آية : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [البقرة : ١٧٨]. أما مناسبة ذكره عقب حكم القصاص فهو جريان ذكر موت القتيل وموت القاتل قصاصا.

والقول في (كُتِبَ) تقدم في الآية السابقة وهو ظاهر في الوجوب قريب من النص فيه. وتجريده من علامة التأنيث مع كون مرفوعه مؤنثا لفظا لاجتماع مسوغين للتجريد وهما كون التأنيث غير حقيقي وللفصل بينه وبين الفعل بفاصل ، وقد زعم الشيخ الرضي أن اجتماع هذين المسوغين يرجح تجريد الفعل عن علامة التأنيث والدرك عليه.

ومعنى حضور الموت حضور أسبابه وعلاماته الدالة على أن الموت المتخيل للناس قد

حضر عند المريض ونحوه ليصيره ميتا قال تأبط شرا :

والموت خزيان ينظر

فإن حضور الشيء حلوله ونزوله وهو ضد الغيبة ، فليس إطلاق حضر هنا من قبيل إطلاق الفعل على مقاربة الفعل نحو قد قامت الصلاة ولا على معنى إرادة الفعل كما في (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] ، (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [المائدة : ٩٨] ، ولكنه إسناد مجازي إلى الموت لأنه حضور أسبابه ، وأما الحضور فمستعار للعرو والظهور ، ثم إن إطلاق الموت على أسبابه شائع قال رويشد بن كثير الطائي :

وقل لهم بادروا بالعفو والتمسوا

قولا يبرّئكم إنّي أنا الموت

والخير المال وقيل الكثير منه ، والجمهور على أن الوصية مشروعة في المال قليله وكثيره ، وروي عن عليّ وعائشة وابن عباس أن الوصية لا تجب إلّا في المال الكثير.

كانت عادة العرب في الجاهلية أن الميت إذا كان له ولد أو أولاد ذكور استأثروا بماله كله ، وإن لم يكن له ولد ذكر استأثر بماله أقرب الذكور له من أب أو عم أو ابن عم الأدنين فالأدنين ، وكان صاحب المال ربما أوصى ببعض ماله أو بجميعه لبعض أولاده أو قرابته أو أصدقائه ، فلما استقر المسلمون بدار الهجرة واختصوا بجماعتهم شرع الله لهم تشريك بعض القرابة في أموالهم ممن كانوا قد يهملون توريثه من البنات والأخوات والوالدين في حال وجود البنين ولذلك لم يذكر الأبناء في هذه الآية.

وعبر بفعل (ترك) وهو ماض عن معنى المستقبل أي إن يترك ، للتنبيه على اقتراب المستقبل من المضي إذا أوشك أن يصير ماضيا ، والمعنى : إن أوحشك أن يترك خيرا أو

١٤٥

شارف أن يترك خيرا ، كما قدّروه في قوله تعالى : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ) [النساء : ٩] في سورة النساء وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦] في سورة يونس أي حتى يقاربوا رؤية العذاب.

والوصية فعيلة من وصّى فهو الموصّى بها فوقع الحذف والإيصال ليتأتى بناء فعيلة بمعنى مفعولة ؛ لأن زنة فعيلة لا تبنى من القاصر. والوصية الأمر بفعل شيء أو تركه مما فيه نفع للمأمور أو للآمر في مغيب الآمر في حياته أو فيما بعد موته ، وشاع إطلاقها على أمر بشيء يصلح بعد موت الموصي وفي حديث العرباض بن سارية قال : «وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا إلخ».

والتعريف في الوصية تعريف الجنس أي كتب عليكم ما هو معروف عندكم بالوصية للوالدين والأقربين ، فقوله : (لِلْوالِدَيْنِ) متعلق بالوصية معمول له ؛ لأن اسم المصدر يعمل عمل المصدر ولا يحتاج إلى تأويله بأن والفعل ، والوصية مرفوع نائب عن الفاعل لفعل (كُتِبَ) ، و (إِذا) ظرف.

والمعروف الفعل الذي تألفه العقول ولا تنكره النفوس فهو الشيء المحبوب المرضي سمي معروفا لأنه لكثرة تداوله والتأنّس به صار معروفا بين الناس ، وضدّه يسمى المنكر وسيأتي عند قوله تعالى : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران : ١١٠] في سورة آل عمران.

والمراد بالمعروف هنا العدل الذي لا مضارة فيه ولا يحدث منه تحاسد بين الأقارب بأن ينظر الموصي في ترجيح من هو الأولى بأن يوصي إليه لقوة قرابة أو شدة حاجة ، فإنه إن توخي ذلك استحسن فعله الناس ولم يلوموه ، ومن المعروف في الوصية ألا تكون للإضرار يوارث أو زوج أو قريب وسيجيء عند قوله تعالى : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً) [البقرة : ١٨٢].

والباء في (بالمعروف) للملابسة ، والجار والمجرور في موضع الحال من الوصية.

وقد شمل قوله (بِالْمَعْرُوفِ) تقدير ما يوصي به وتمييز من يوصي له ووكل ذلك إلى نظر الموصي فهو مؤتمن على ترجيح من هو أهل للترجيح في العطاء كما أشار إليه قوله

١٤٦

تعالى: (عَلَى الْمُتَّقِينَ).

وقوله (حَقًّا) مصدر مؤكد ل (كُتِبَ) لأنه بمعناه و (عَلَى الْمُتَّقِينَ) صفة أي حقا كائنا على المتقين ، ولك أن تجعله معمول (حَقًّا) ولا مانع من أن يعمل المصدر المؤكد في شيء ولا يخرجه ذلك عن كونه مؤكدا بما زاده على معنى فعله ؛ لأن التأكيد حاصل بإعادة مدلول الفعل ، نعم إذا أوجب ذلك المعمول له تقييدا يجعله نوعا أو عددا فحينئذ يخرج عن التأكيد.

وخص هذا الحق بالمتقين ترغيبا في الرضى به ؛ لأن ما كان من شأن المتقي فهو أمر نفيس فليس في الآية دليل على أن هذا الوجوب على المتقين دون غيرهم من العصاة ، بل معناه أن هذا الحكم هو من التقوى وأن غيره معصية ، وقال ابن عطية : خص المتقون بالذكر تشريفا للرتبة ليتبارى الناس إليها.

وخص الوالدين والأقربين لأنهم مظنة النسيان من الموصي ، لأنهم كانوا يورثون الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة.

وقدم الوالدين للدلالة على أنهما أرجح في التبدية بالوصية ، وكانوا قد يوصون بإيثار بعض أولادهم على بعض أو يوصون بكيفية توزيع أموالهم على أولادهم ، ومن أشهر الوصايا في ذلك وصية نزار بن معد بن عدنان إذ أوصى لابنه مضر بالحمراء ، ولابنه ربيعة بالفرس ، ولابنه أنمار بالحمار ، ولابنه إياد بالخادم ، وجعل القسمة في ذلك للأفعى الجرهمي ، وقد قيل إن العرب كانوا يوصون للأباعد طلبا للفخر ويتركون الأقربين في الفقر وقد يكون ذلك لأجل العداوة والشنآن.

وهذه الآية صريحة في إيجاب الوصية ، لأن قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) صريح في ذلك وجمهور العلماء على أنها ثبت بها حكم وجوب الإيصاء للوالدين والأقربين ، وقد وقت الوجوب بوقت حضور الموت ويلحق به وقت توقع الموت ، ولم يعين المقدار الموصى به وقد حرضت السنة على إعداد الوصية من وقت الصحة بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حق امرئ له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيته مكتوبة عنده» أي لأنه قد يفجأه الموت.

والآية تشعر بتفويض تعيين المقدار الموصى به إلى ما يراه الموصي ، وأمره بالعدل بقوله (بِالْمَعْرُوفِ) فتقرر حكم الإيصاء في صدر الإسلام لغير الأبناء من القرابة زيادة على ما يأخذه الأبناء ، ثم إن آية المواريث التي في سورة النساء نسخت هذه الآية نسخا مجملا

١٤٧

فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفا على إيصاء الميت له بل صار حقه ثابتا معينا رضي الميت أم كره ، فيكون تقرر حكم الوصية في أول الأمر استئناسا لمشروعية فرائض الميراث ، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] فجعلها وصية نفسه سبحانه إبطالا للمنة التي كانت للموصي.

وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء ، الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد ، ففي البخاري في تفسير سورة النساء عن جابر بن عبد الله قال : عادني النبي وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليّ فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله فنزلت : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] الآية ا ه. فدل على أن آخر عهد بمشروعية الوصايا سؤال جابر بن عبد الله ، وفي البخاري عن ابن عباس كان المال وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب إلخ.

وقيل نسخت مشروعية الوصية فصارت ممنوعة قاله إبراهيم بن خثيم وهو شذوذ وخلاف لما اشتهر في السنة إلّا أن يريد بأنها صارت ممنوعة للوارث.

وقيل : الآية محكمة لم تنسخ والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبدين والأقارب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاوس واختاره الطبري ، والأصح هو الأول.

ثم القائلون ببقاء حكم الوصية بعد النسخ منهم من قال : إنها بقيت مفروضة للأقربين الذين لا يرثون وهذا قول الحسن وطاوس والضحاك والطبري لأنهم قالوا : هي غير منسوخة ، وقال به ممن قال إنها منسوخة ابن عباس ومسروق ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد ، ومنهم من قال : بقيت مندوبة للأقربين وغيرهم وهذا قول الجمهور إلّا أنه إذا كان أقاربه في حاجة ولم يوص لهم فبئس ما صنع ولا تبطل الوصية ، وقيل تختص بالقرابة لو أوصى لغيرهم بطلت وترد على أقاربه قاله جابر بن زيد والشعبي وإسحاق بن راهويه والحسن البصري ، والذي عليه قول من تعتمد أقوالهم أن الوصية لغير الوارث إذا لم يخش بتركها ضياع حق أحد عند الموصي مطلوبة ، وأنها مترددة بين الوجوب والسنة المؤكدة لحديث «لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيته

١٤٨

مكتوبة عند رأسه» ، إذا كان هذا الحديث قد قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد مشروعية الفرائض فإن كان قبل ذلك كان بيانا لآية الوصية وتحريضا عليها ، ولم يزل المسلمون يرون الوصية في المال حقا شرعيا ، وفي «صحيح البخاري» عن طلحة بن مصرّف قال : سألت عبد الله بن أبي أوفى هل كان النبي أوصى فقال : لا ، فقلت : كيف كتبت على الناس الوصية ولم يوص؟ قال : أوصى بكتاب الله ا ه ، يريد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما كان لا يورث فكذلك لا يوصي بماله ولكنه أوصى بما يعود على المسلمين بالتمسك بكتاب الإسلام ، وقد كان من عادة المسلمين أن يقولوا للمريض إذا خيف عليه الموت أن يقولوا له أوص.

وقد اتفق علماء الإسلام على أن الوصية لا تكون لوارث لما رواه أصحاب «السنن» عن عمر بن خارجة وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي أمامة كلاهما يقول سمعت النبي قال : «إن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث» وذلك في حجة الوداع ، فخص بذلك عموم الوالدين وعموم الأقربين وهذا التخصيص نسخ ، لأنه وقع بعد العمل بالعام وهو وإن كان خبر آحاد فقد اعتبر من قبيل المتواتر ، لأنه سمعه الكافة وتلقاه علماء الأمة بالقبول.

والجمهور على أن الوصية بأكثر من الثلث باطلة للحديث المشهور عن سعد بن أبي وقاص أنه مرض فعاده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستأذنه في أن يوصي بجميع ماله فمنعه إلى أن قال له «الثلث والثلث كثير إنّك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس» ، وقال أبو حنيفة : إن لم يكن للموصي ورثة ولو عصبة دون بيت المال جاز للموصي أن يوصي بجميع ماله ومضى ذلك أخذا بالإيماء إلى العلة في قوله «إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير» إلخ. وقال : إن بيت المال جامع لا عاصب وروي أيضا عن علي وابن عباس ومسروق وإسحاق بن راهويه ، واختلف في إمضائها للوارث إذا أجازها بقية الورثة ومذهب العلماء من أهل الأمصار أنها إذا أجازها الوارث مضت.

هذا وقد اتفق المسلمون على أن الله تعالى عين كيفية قسمة تركة الميت بآية المواريث ، وأن آية الوصية المذكورة هنا صارت بعد ذلك غير مراد منها ظاهرها ، فالقائلون بأنها محكمة قالوا : بقيت الوصية لغير الوارث والوصية للوارث بما زاد على نصيبه من الميراث فلا نسخ بين الآيتين.

والقائلون بالنسخ يقول منهم من يرون الوصية لم تزل مفروضة لغير الوارث : إن آية المواريث نسخت الاختيار في الموصى له والإطلاق في المقدار الموصى به ، ومن يرى

١٤٩

منهم الوصية قد نسخ وجوبها وصارت مندوبة يقولون : إن آية المواريث نسخت هذه الآية كلها فأصبحت الوصية المشروعة بهذه الآية منسوخة بآية المواريث للإجماع على أن آية المواريث نسخت عموم الوالدين والأقربين الوارثين ، ونسخت الإطلاق الذي في لفظ (الوصية) والتخصيص بعد العمل بالعام ، والتقييد بعد العمل بالمطلق كلاهما نسخ ، وإن كان لفظ آية المواريث لا يدل على ما يناقض آية الوصية ، لاحتمالها أن يكون الميراث بعد إعطاء الوصايا أو عند عدم الوصية بل ظاهرها ذلك لقوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) [النساء : ١١] ، وإن كان الحديثان الواردان في ذلك آحادا لا يصلحان لنسخ القرآن عند من لا يرون نسخ القرآن بخبر الآحاد ، فقد ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة ، ولمّا ثبت حكم جديد للوصية فهو حكم غير مأخوذ من الآية المنسوخة بل هو حكم مستند للإجماع ، هذا تقرير أصل استنباط العلماء في هذه المسألة وفيه ما يدفع عن الناظر إشكالات كثيرة للمفسرين والفقهاء في تقرير كيفية النسخ.

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١))

الضمائر البارزة في (بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه) عائدة إلى القول أو الكلام الذي يقوله الموصي ودل عليه لفظ (الْوَصِيَّةُ) [البقرة : ١٨٠] ، وقد أكد ذلك بما دل عليه قوله (سَمِعَهُ) إذ إنما تسمع الأقوال وقيل هي عائدة إلى الإيصاء المفهوم من قوله : (الْوَصِيَّةُ) أي كما يعود الضمير على المصدر المأخوذ من الفعل نحو قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، ولك أن تجعل الضمير عائدا إلى (بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ١٨٠] ، والمعنى فمن بدل الوصية الواقعة بالمعروف ، لأن الإثم في تبديل المعروف ، بدليل قوله الآتي : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ١٨٢].

والمراد من التبديل هنا الإبطال أو النقص ؛ وما صدق (من بدّله) هو الذي بيده تنفيذ الوصية من خاصة الورثة كالأبناء ومن الشهود عليها بإشهاد من الموصي أو بحضور موطن الوصية كما في الوصية في السفر المذكورة في سورة المائدة : (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) [المائدة : ١٠٦] فالتبديل مستعمل في معناه المجازي لأن حقيقة التبديل جعل شيء في مكان شيء آخر والنقض يستلزم الإتيان بضد المنقوض وتقييد التبديل بظرف (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) تعليل للوعيد أي لأنه بدل ما سمعه وتحققه وإلّا فإن التبديل لا يتصور إلّا في معلوم مسموع ؛ إذ لا تتوجه النفوس إلى المجهول.

١٥٠

والقصر في قوله : (فَإِنَّما إِثْمُهُ) إضافي ، لنفي الإثم عن الموصي وإلّا فإن إثمه أيضا يكون على الذي يأخذ ما يجعله له الموصي مع علمه إذا حاباه منفذ الوصية أو الحاكم فإن الحكم لا يحل حراما ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار» ، وإنما انتفى الإثم عن الموصي لأنه استبرأ لنفسه حين أوصى بالمعروف فلا وزر عليه في مخالفة الناس بعده لما أوصى به ، إذ (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ، وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٨ ـ ٣٩].

والمقصود من هذا القصر إبطال تعلل بعض الناس بترك الوصية بعلة خيفة ألّا ينفذها الموكول إليهم تنفيذها ، أي فعليكم بالإيصاء ووجوب التنفيذ متعين على ناظر الوصية فإن بدله فعليه إثمه ، وقد دل قوله : (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) أي هذا التبديل يمنعه الشرع ويضرب ولاة الأمور على يد من يحاول هذا التبديل ؛ لأن الإثم لا يقرر شرعا.

وقوله : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) وعيد للمبدل ، لأن الله لا يخفى عليه شيء وإن تحيل الناس لإبطال الحقوق بوجوه الحيل وجاروا بأنواع الجور فالله سميع وصية الموصي ويعلم فعل المبدل ، وإذا كان سميعا عليما وهو قادر فلا حائل بينه وبين مجازاة المبدل. والتأكيد بإن ناظر إلى حالة المبدل الحكمية في قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) لأنه في إقدامه على التبديل يكون كمن ينكر أنّ الله عالم فلذلك أكّد له الحكم تنزيلا له منزلة المنكر.

(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

تفريع على الحكم الذي تقدمه وهو تحريم التبديل ، فكما تفرع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيد المبدل لها ، وتفرع عن وعيد المبدل الإذن في تبديل هو من المعروف وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقة الإصلاح بين الموصي لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية بأن كان جديرا بالإيصاء إليه فتركه الموصي أو كان جديرا بمقدار فأجحف به الموصي ؛ لأن آية الوصية حضرت قسمة تركة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولا إلى أمانته بالمعروف ، فإذا حاف حيفا واضحا وجنف عن المعروف أمر ولاة الأمور بالصلح.

ومعنى خاف هنا الظن والتوقع ؛ لأن ظن المكروه خوف فأطلق الخوف على لازمه وهو الظن والتوقع إشارة إلى أن ما توقعه المتوقع من قبيل المكروه ، والقرينة هي

١٥١

أن الجنف والإثم لا يخيفان أحدا ولا سيما من ليس من أهل الوصية وهو المصلح بين أهلها ، ومن إطلاق الخوف في مثل هذا قول أبي محجن الثقفي :

أخاف إذا ما متّ أن لا أذوقها

أي أظن وأعلم شيئا مكروها ولذا قال قبله :

تروّي عظامي بعد موتي عروقها

والجنف الحيف والميل والجور وفعله كفرح.

والإثم المعصية ، فالمراد من الجنف هنا تفضيل من لا يستحق التفضيل على غيره من القرابة المساوي له أو الأحق ، فيشمل ما كان من ذلك عن غير قصد ولكنه في الواقع حيف في الحق ، والمراد بالإثم ما كان قصد الموصي به حرمان من يستحق أو تفضيل غيره عليه.

والإصلاح جعل الشيء صالحا يقال : أصلحه أي جعله صالحا ، ولذلك يطلق على الدخول بين الخصمين بالمراضاة ؛ لأنه يجعلهم صالحين بعد أن فسدوا ، ويقال : أصلح بينهم لتضمينه معنى دخل ، والضمير المجرور ببين في الآية عائد إلى الموصي والموصى لهم المفهومين من قوله : (مُوصٍ) إذ يقتضي موصى لهم ، ومعنى (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ١٧٣] أنه لا يلحقه حرج من تغيير الوصية ؛ لأنه تغيير إلى ما فيه خير.

والمعنى : أن من وجد في وصية الموصي إضرارا ببعض أقربائه ، بأن حرمه من وصيته أو قدم عليه من هو أبعد نسبا ، أو أوصى إلى غني من أقربائه وترك فقيرهم فسعى في إصلاح ذلك وطلب من الموصي تبديل وصيته ، فلا إثم عليه في ذلك ؛ لأنه سعى في إصلاح بينهم ، أو حدث شقاق بين الأقربين بعد موت الموصي لأنه آثر بعضهم ، ولذلك عقبه بقوله : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وفيه تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصين حتى جعل تغيير جورهم محتاجا للإذن من الله تعالى والتنصيص على أنه مغفور.

وقرأ الجمهور : «موص» على أنه اسم فاعل أو أوصى وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف «موص» بفتح الواو وتشديد الصاد على أنه اسم فاعل وصى المضاعف.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ

١٥٢

مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ).

حكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة ، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها ، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فردا فردا ؛ إذ منها يتكون المجتمع. وفصلت الجملة عن سابقتها للانتقال إلى غرض آخر ، وافتتحت بيا أيها الذين آمنوا لما في النداء من إظهار العناية بما سيقال بعده.

والقول في معنى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) ودلالته على الوجوب تقدم آنفا عند قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ) [البقرة : ١٨٠] الآية.

والصيام ـ ويقال الصوم ـ هو في اصطلاح الشرع : اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله.

والصيام اسم منقول من مصدر فعال وعينه واو قلبت ياء لأجل كسرة فاء الكلمة ، وقياس المصدر الصوم ، وقد ورد المصدران في القرآن ، فلا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلّا على ترك كل طعام وشراب ، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء ، فلو ترك أحد بعض أصناف المأكول أو بعض النساء لم يكن صياما كما قال العرجي :

فإن شئت حرّمت النساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

وللصيام إطلاقات أخرى مجازية كإطلاقه على إمساك الخيل عن الجري في قول النابغة:

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج وأخرى تعلك اللّجما

وأطلق على ترك شرب حمار الوحش الماء ، وقال لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء لاجترائها بالمرعى الرطب :

حتى إذا سلخا جمادى ستّة

جزءا فطال صيامه وصيامها

والظاهر أن اسم الصوم في اللغة حقيقة في ترك الأكل والشرب بقصد القربة فقد

١٥٣

عرف العرب الصوم في الجاهلية من اليهود في صومهم يوم عاشوراء كما سنذكره. وقول الفقهاء : إن الصوم في اللغة مطلق الإمساك ، وإن إطلاقه على الإمساك عن الشهوتين اصطلاح شرعي ، لا يصح ، لأنه مخالف لأقوال أهل اللغة كما في «الأساس» وغيره ، وأما إطلاق الصوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول عيسى : (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) [مريم : ٢٦] فليس إطلاقا للصوم على ترك الكلام ولكن المراد أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل.

فالتعريف في الصيام في الآية تعريف العهد الذهني ، أي كتب عليكم جنس الصيام المعروف. وقد كان العرب يعرفون الصوم ، فقد جاء في «الصحيحين» عن عائشة قالت : «كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية» وفي بعض الروايات قولها : «وكان رسول الله يصومه» وعن ابن عباس «لما هاجر رسول الله إلى المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فقال ما هذا ، فقالوا : هذا يوم نجّى الله فيه موسى ، فنحن نصومه فقال رسول الله : نحن أحق بموسى منكم فصام وأمر بصومه» فمعنى سؤاله هو السؤال عن مقصد اليهود من صومه لا تعرف أصل صومه ، وفي حديث عائشة «فلما نزل رمضان كان رمضان الفريضة وقال رسول الله من شاء صام يوم عاشوراء ومن شاء لم يصمه فوجب صوم يوم عاشوراء بالسنة ثم نسخ ذلك بالقرآن فالمأمور به صوم معروف زيدت في كيفيته المعتبرة شرعا قيود تحديد أحواله وأوقاته بقوله تعالى: (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) إلى قوله (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة : ١٨٧] ـ وقوله ـ (شَهْرُ رَمَضانَ) [البقرة : ١٨٥] الآية ، (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٥] وبهذا يتبين أن في قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) إجمالا وقع تفصيله في الآيات بعده.

فحصل في صيام الإسلام ما يخالف صيام اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها ، ولم يكن صيامنا مماثلا لصيامهم تمام المماثلة. فقوله : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم لا في الكيفيات ، والتشبيه يكتفى فيه ببعض وجوه المشابهة وهو وجه الشبه المراد في القصد ، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة ، ولكن فيهم أغراضا ثلاثة تضمنها التشبيه:

أحدها الاهتمام بهذه العبادة ، والتنويه بها لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا

١٥٤

قبل المسلمين ، وشرعها للمسلمين ، وذلك يقتضي اطّراد صلاحها ووفرة ثوابها. وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كيلا يتميز بها من كان قبلهم. إن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات كما ورد في الحديث «أنّ ناسا من أصحاب رسول الله قالوا يا رسول الله ذهب أهل الدّثور بالأجور يصلّون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم» الحديث ويحبون التفضيل على أهل الكتاب وقطع تفاخر أهل الكتاب عليهم بأنهم أهل شريعة قال تعالى : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) [الأنعام : ١٥٦ ، ١٥٧]. فلا شك أنهم يغتبطون أمر الصوم وقد كان صومهم الذي صاموه وهو يوم عاشوراء إنما اقتدوا فيه باليهود ، فهم في ترقب إلى تخصيصهم من الله بصوم أنف ، فهذه فائدة التشبيه لأهل الهمم من المسلمين إذا ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة قال تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦].

والغرض الثاني أن في التشبيه بالسابقين تهوينا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم ؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب ، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ولمن يستثقله من قريبى العهد بالإسلام ، وقد أكّد هذا المعنى الضّمني قوله بعده : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ).

والغرض الثالث إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة.

وقال أبو بكر بن العربي في «العارضة» قوله : «كان من قول مالك في كيفية صيامنا أنه كان مثل صيام من قبلنا وذلك معنى قوله : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، وفيه بحث سنتعرض له عند تفسير قوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ١٨٧].

فهذه الآية شرعت وجوب صيام رمضان ، لأن فعل (كُتِبَ) يدل على الوجوب ، وابتداء نزول سورة البقرة كان في أول الهجرة كما تقدم فيكون صوم عاشوراء تقدم عاما ثم فرض رمضان في العام الذي يليه وفي «الصحيح» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صام تسع رمضانات فلا شك أنه صام أول رمضان في العام الثاني من الهجرة ويكون صوم عاشوراء قد فرض عاما فقط وهو أول العام الثاني من الهجرة.

١٥٥

والمراد بالذين من قبلكم من كان قيل المسلمين من أهل الشرائع وهم أهل الكتاب أعني اليهود ؛ لأنهم الذين يعرفهم المخاطبون ويعرفون ظاهر شئونهم وكانوا على اختلاط بهم في المدينة وكان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم وهو الشهر المسمى عندهم (تسري) يبتدئ الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر وهو يوم كفارة الخطايا ويسمونه (كبّور) ثم إن أحبارهم شرعوا صوم أربعة أيام أخرى وهي الأيام الأول من الأشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر من سنتهم تذكارا لوقائع بيت المقدس وصوم يوم (بوريم) تذكارا لنجاتهم من غصب ملك الأعاجم (أحشويروش) في واقعة (استير) ، وعندهم صوم التطوع ، وفي الحديث : «أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» ، أما النصارى فليس في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتبعون صوم اليهود وفي «صحيح مسلم» عن ابن عباس : «قالوا يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى» ، ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين يوما اقتداء بالمسيح ؛ إذ صام أربعين يوما قبل بعثته ، ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها ، إلّا أنهم يتوسعون في صفة الصوم ، فهو عندهم ترك الأقوات القوية والمشروبات ، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع ، فهو في قوة المفعول لأجله لكتب. و (لعل) إما مستعارة لمعنى كي استعارة تبعية ، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله؛في إرادته من تشريع الصوم التقوى بحال المترجي من غيره فعلا ما ، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي ، وإنما كان الصيام موجبا لاتقاء المعاصي ، لأن المعاصي قسمان ، قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير ، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر ، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها ، لأنه يعدّل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي ، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الرّوحاني ، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية. وفي الحديث الصحيح «الصّوم جنّة» أي وقاية ولما ترك ذكر متعلّق جنّة تعيّن حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة ، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة ، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات.

١٥٦

وقوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ظرف للصيام مثل قولك الخروج يوم الجمعة ، ولا يضر وقوع الفصل بين (الصِّيامُ) وبين (أَيَّاماً) وهو قوله : (كَما كُتِبَ) إلى (تَتَّقُونَ) لأن الفصل لم يكن بأجنبي عند التحقيق ، إذ الحال والمفعول لأجله المستفاد من (لعلّ) كل ذلك من تمام عامل المفعول فيه وهو قوله صيام ، ومن تمام العامل في ذلك العامل وهو (كُتِبَ) فإن عامل العامل في الشيء عامل في ذلك الشيء ولجواز الفصل بالأجنبي إذا كان المعمول ظرفا ، لاتساعهم في الظروف وهذا مختار الزجاج والزمخشري والرضي ، ومرجع هذه المسألة إلى تجنب تشتيت الكلام باختلال نظامه المعروف ، تجنبا للتعقيد المخل بالفصاحة.

والغالب على أحوال الأمم في جاهليتها وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة ، وكل ذلك يوفر القوى الجسمانية والدموية في الأجساد ، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية. وتطغيان على القوة العاقلة ، فجاءت الشرائع بشرع الصيام ، لأنه يفي بتهذيب تلك القوى ، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها ، فتكون نتيجته تعديلها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرى.

والصوم بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع أو ترك بعض المأكل : أصل قديم من أصول التقوى لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين ، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان ، بناء على أن للإنسان قوتين : إحداهما روحانية منبثة في قرارتها من الحواس الباطنية ، والأخرى حيوانية منبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها ، وإذ كان الغذاء يخلف للجسد ما يضيعه من قوته الحيوانية إضاعة تنشأ عن العمل الطبيعي للأعضاء الرئيسية وغيرها ، فلا جرم كانت زيادة الغذاء على القدر المحتاج إليه توفر للجسم من القوة الحيوانية فوق ما يحتاجه وكان نقصانه يقتّر عليه منها إلى أن يبلغ إلى المقدار الذي لا يمكن حفظ الحياة بدونه ، وكان تغلب مظهر إحدى القوتين بمقدار تضاؤل مظهر القوة الأخرى ، فلذلك وجدوا أن ضعف القوة الحيوانية يقلل معمولها فتتغلب القوة الروحانية على الجسد ويتدرج به الأمر حتى يصير صاحب هذه الحال أقرب إلى الأرواح والمجردات منه إلى الحيوان ، بحيث يصير لا حظّ له في الحيوانية إلّا حياة الجسم الحافظة لبقاء الروح فيه ، ولذلك لزم تعديل مقدار هذا التناقص بكيفية لا تفضي إلى اضمحلال الحياة ، لأن ذلك يضيع المقصود من تزكية

١٥٧

النفس وإعدادها للعوالم الأخروية ، فهذا التعادل والترجيح بين القوتين هو أصل مشروعية الصيام في الملل ووضعيته في حكمة الإشراق ، وفي كيفيته تختلف الشرائع اختلافا مناسبا للأحوال المختصة هي بها بحيث لا يفيت المقصد من الحياتين ، ولا شك أن أفضل الكيفيات لتحصيل هذا الغرض من الصيام هو الكيفيّة التي جاء بها الإسلام.

قيل في «هياكل النور» (١) «النفوس الناطقة من جوهر الملكوت إنما شغلها عن عالمها القوى البدنية ومشاغلتها ، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوى البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحيانا إلى عالم القدس وتتصل بأبيها المقدس وتتلقّى منه المعارف» ، فمن الصوم ترك البراهمة أكل لحوم الحيوان والاقتصار على النبات أو الألبان ، وكان حكماء اليونان يرتاضون على إقلال الطعام بالتدريج حتى يعتادوا تركه أياما متوالية ، واصطلحوا على أن التدريج في إقلال الطعام تدريجا لا يخشى منه انخرام صحة البدن أن يزن الحكيم شبعه من الطعام بأعواد من شجر التين رطبة ثم لا يجددها فيزن بها كل يوم طعامه لا يزيد على زنتها وهكذا يستمر حتى تبلغ من اليبس إلى حد لا يبس بعده فتكون هي زنة طعام كل يوم.

وفي «حكمة الإشراق» للسهروردي «وقبل الشروع في قراءة هذا الكتاب يرتاض أربعين يوما تاركا للحوم الحيوانات مقللا للطعام منقطعا إلى التأمل لنور الله ا ه».

وإذ قد كان من المتعذر على الهيكل البشري بما هو مستودع حياة حيوانية أن يتجرد عن حيوانيته ، فمن المتعذر عليه الانقطاع البات عن إمداد حيوانيته بمطلوباتها فكان من اللّازم لتطلب ارتقاء نفسه أن يتدرج به في الدرجات الممكنة من تهذيب حيوانيته وتخليصه من التوغل فيها بقدر الإمكان ، لذلك كان الصوم أهم مقدمات هذا الغرض ، لأن فيه خصلتين عظيمتين ؛ هما الاقتصاد في إمداد القوى الحيوانية وتعود الصبر بردها عن دواعيها ، وإذ قد كان البلوغ إلى الحد الأتم من ذلك متعذرا كما علمت ، حاول أساطين الحكمة النفسانية الإقلال منه ، فمنهم من عالج الإقلال بنقص الكميات وهذا صوم الحكماء ، ومنهم من حاوله من جانب نقص أوقات التمتع بها وهذا صوم الأديان وهو أبلغ إلى القصد وأظهر في ملكة الصبر ، وبذلك يحصل للإنسان دربة على ترك شهواته ، فيتأهل للتخلق بالكمال فإن الحائل بينه وبين الكمالات والفضائل هو ضعف التحمل للانصراف

__________________

(١) هو للسهروردي.

١٥٨

عن هواه وشهواته :

إذا المرء لم يترك طعاما يحبّه

ولم ينه قلبا غاويا حيث يمما

فيوشك أن تلقى له الدهر سبّة

إذا ذكرت أمثالها تملأ الفما

فإن قلت : إذا كان المقصد الشرعي من الصوم ارتياض النفس على ترك الشهوات وإثارة الشعور بما يلاقيه أهل الخصاصة من ألم الجوع ، واستشعار المساواة بين أهل الجدة والرفاهية وأهل الشظف في أصول الملذات بني الفريقين من الطعام والشراب واللهو ، فلما ذا اختلفت الأديان الإلهية في كيفية الصيام ولما ذا التزمت الديانة الإسلامية في كيفيته صورة واحدة ، ولم تكل ذلك إلى المسلم يتخذ لإراضة نفسه ما يراه لائقا به في تحصيل المقاصد المرادة؟.

قلت : شأن التعليم الصالح أن يضبط للمتعلم قواعد وأساليب تبلغ به إلى الثمرة المطلوبة من المعارف التي يزاولها فإن معلم الرياضة البدنية يضبط للتعلم كيفيات من الحركات بأعضائه وتطور قامته انتصابا وركوعا وقرفصاء ، بعض ذلك يثمر قوة عضلاته وبعضها يثمر اعتدال الدورة الدموية وبعضها يثمر وظائف شرايينه ، وهي كيفيات حددها أهل تلك المعرفة وأدنوا بها حصول الثمرة المطلوبة ، ولو وكل ذلك للطالبين لذهبت أوقات طويلة في التجارب وتعددت الكيفيات بتعدد أفهام الطالبين واختيارهم وهذا يدخل تحت قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥].

والمراد بالأيام من فقوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) شهر رمضان عند جمهور المفسرين ، وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضا ؛ تهوينا لأمره على المكلفين ، والمعدودات كناية عن القلة ؛ لأن الشيء القليل يعد عدا ؛ ولذلك يقولون : الكثير لا يعد ، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر.

قال أبو حيان عند قوله تعالى الآتي بعده : (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة : ١٨٥] صفة الجمع الذي لا يعقل تارة تعامل معاملة الواحدة المؤنثة ، نحو قوله تعالى : (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] وتارة تعامل معاملة جمع المؤنث نحو : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فمعدودات جمع لمعدودة ، وأنت لا تقول يوم معدودة وكلا الاستعمالين فصيح ، ويظهر أنه ترك فيه تحقيقا وذلك أن الوجه في الوصف الجاري على جمع مذكر إذا أنثوه أن يكون مؤنثا مفردا ، لأن الجمع قد أول بالجماعة والجماعة كلمة مفردة وهذا هو الغالب ، غير أنهم إذا أرادوا

١٥٩

التنبيه على كثرة ذلك الجمع أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث ليكون في معنى الجماعات وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة ، ولذلك فأنا أرى أن معدودات أكثر من معدودة ولأجل هذا قال تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] لأنهم يقللونها غرورا أو تغريرا ، وقال هنا (مَعْدُوداتٍ) لأنها ثلاثون يوما ، وقال في الآية الآتية : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [البقرة : ١٩٧] وهذا مثل قوله في جمع جمل (جِمالَتٌ) [المرسلات : ٣٣] على أحد التفسيرين وهو أكثر من جمال ، وعن المازني أن الجمع لما لا يعقل يجيء الكثير منه بصيغة الواحدة المؤنثة تقول : الجذوع انكسرت والقليل منه يجيء بصيغة الجمع تقول : الأجذاع انكسرن ا ه وهو غير ظاهر.

وقيل المراد بالأيام غير رمضان بل هي أيام وجب صومها على المسلمين عند ما فرض الصيام بقوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) ثم نسخ صومها بصوم رمضان وهي يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر وهي أيام البيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وإليه ذهب معاذ وقتادة وعطاء ولم يثبت من الصوم المشروع للمسلمين قبل رمضان إلّا صوم يوم عاشوراء كما في «الصحيح» وهو مفروض بالسنة ، وإنما ذكر أن صوم عاشوراء والأيام البيض كان فرضا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يثبت رواية ، فلا يصح كونها المراد من الآية لا لفظا ولا أثرا ، على أنه قد نسخ ذلك كله بصوم رمضان كما دل عليه حديث السائل الذي قال : «لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفلح إن صدق».

(فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

تعقيب لحكم العزيمة بحكم الرخصة ، فالفاء لتعقيب الأخبار لا للتفريع ، وتقديمه هنا قبل ذكر بقية تقدير الصوم تعجيل بتطمين نفوس السامعين لئلا يظنوا وجوب الصوم عليهم في كل حال.

والمريض من قام به المرض وهو انحراف المزاج عن حد الاعتدال الطبيعي بحيث تثور في الجسد حمى أو وجع أو فشل.

وقد اختلف الفقهاء في تحديد المرض الموجب للفطر ، فأما المرض الغالب الذي لا يستطيع المريض معه الصوم بحال بحيث يخشى الهلاك أو مقاربته فلا خلاف بينهم في أنه مبيح للفطر بل يوجب الفطر ، وأما المرض الذي دون ذلك فقد اختلفوا في مقداره فذهب محققو الفقهاء إلى أنه المرض الذي تحصل به مع الصيام مشقة زائدة على مشقة الصوم

١٦٠