تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

والصّلاة والسلام على أشرف المرسلين

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢))

قد خفي موقع هذه الآية من الآي التي بعدها لأن الظاهر منها أنها إخبار عن أمر يقع في المستقبل وأن القبلة المذكورة فيها هي القبلة التي كانت في أول الهجرة بالمدينة وهي استقبال بيت المقدس وأنّ التولي عنها هو نسخها باستقبال الكعبة فكان الشأن أن يترقب طعن الطاعنين في هذا التحويل بعد وقوع النسخ أي بعد الآيات الناسخة لاستقبال بيت المقدس لما هو معلوم من دأبهم من الترصد للطعن في تصرفات المسلمين فإن السورة نزلت متتابعة ، والأصل موافقة التلاوة للنزول في السورة الواحدة إلّا ما ثبت أنه نزل متأخرا ويتلى متقدما.

والظاهر أن المراد بالقبلة المحولة القبلة المنسوخة وهي استقبال بيت المقدس أعني الشرق وهي قبلة اليهود ، ولم يشف أحد من المفسرين وأصحاب «أسباب النزول» الغليل في هذا ، على أن المناسبة بينها وبين الآي الذي قبلها غير واضحة فاحتاج بعض المفسرين إلى تكلف إبدائها.

والذي استقر عليه فهمي أن مناسبة وقوع هذه الآية هنا مناسبة بديعة وهي أن الآيات التي قبلها تكرر فيها التنويه بإبراهيم وملته ، والكعبة وأن من يرغب عنها قد سفه نفسه ، فكانت مثارا لأن يقول المشركون ، ما ولّى محمدا وأتباعه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكة أي استقبال الكعبة مع أنه يقول إنه على ملة إبراهيم ويأبى عن اتباع اليهودية والنصرانية ، فكيف ترك قبلة إبراهيم واستقبل بيت المقدس؟ ولأنه قد تكررت الإشارة في الآيات السابقة إلى هذا الغرض بقوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) [البقرة : ١١٥]. وقوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة : ١٢٠] كما ذكرناه هنالك ، وقد علم الله ذلك منهم فأنبأ رسوله بقولهم وأتى فيه بهذا الموقع العجيب وهو أن جعله

٥

بعد الآيات المثيرة له وقبل الآيات التي أنزلت إليه في نسخ استقبال بيت المقدس والأمر بالتوجه في الصلاة إلى جهة الكعبة ، لئلا يكون القرآن الذي فيه الأمر باستقبال الكعبة نازلا بعد مقالة المشركين فيشمخوا بأنوفهم يقولون غيّر محمد قبلته من أجل اعتراضنا عليه فكان لموضع هذه الآية هنا أفضل تمكن وأوثق ربط ، وبهذا يظهر وجه نزولها قبل آية النسخ وهي قوله : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة : ١٤٤] الآيات ، لأن مقالة المشركين أو توقّعها حاصل قبل نسخ استقبال بيت المقدس وناشئ عن التنويه بملة إبراهيم والكعبة.

فالمراد بالسفهاء المشركون ويدل لذلك تبيينه بقوله (مِنَ النَّاسِ) ، فقد عرف في اصطلاح القرآن النازل بمكة أن لفظ الناس يراد به المشركون كما روي ذلك عن ابن عباس ولا يظهر أن يكون المراد به اليهود أو أهل الكتاب لأنه لو كان ذلك لناسب أن يقال سيقولون بالإضمار لأن ذكرهم لم يزل قريبا من الآي السابقة إلى قوله : (وَلا تُسْئَلُون) [البقرة : ١٣٤ ، ١٤١] الآية. ويعضدنا في هذا ما ذكر الفخر عن ابن عباس والبراء بن عازب والحسن أن المراد بالسفهاء المشركون وذكر القرطبي أنه قول الزجاج ، ويجوز أن يكون المراد بهم المنافقين وقد سبق وصفهم بهذا في أول السورة فيكون المقصود المنافقين الذين يبطنون الشرك ، والذي يبعثهم على هذا القول هو عين الذي يبعث المشركين عليه وقد روي عن السدي أن السفهاء هنا هم المنافقون.

أما الذين فسروا (السُّفَهاءُ) باليهود فقد وقعوا في حيرة من موقع هذه الآية لظهور أن هذا القول ناشئ عن تغيير القبلة إلى بيت المقدس وذلك قد وقع الإخبار به قبل سماع الآية الناسخة للقبلة لأن الأصل موافقة التلاوة للنزول فكيف يقول السفهاء هذا القول قبل حدوث داع إليه لأنهم إنما يطعنون في التحول عن استقبال بيت المقدس لأنه مسجدهم وهو قبلتهم في قول كثير من العلماء ، ولذلك جزم أصحاب هذا القول بأن هذه الآية نزلت بعد نسخ استقبال بيت المقدس ورووا ذلك عن مجاهد وروى البخاري في كتاب الصلاة (١) من طريق عبد الله بن رجاء عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء حديث تحويل القبلة ووقع فيه «فقال السفهاء ـ وهم اليهود ـ (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، وأخرجه في كتاب الإيمان (٢) من

__________________

(١) انظر : فتح الباري لابن حجر (١ / ٥٠٢. دار المعرفة ـ كتاب الصلاة (٣١) باب الترجمة نحو القبلة حيث كان.

(٢) المصدر السابق (١ / ٩٥) ، دار المعرفة ،كتاب الإيمان (٣٠) باب الصلاة من الإيمان.

٦

طريق عمرو بن خالد عن زهير عن أبي إسحاق عن البراء بغير هذه الزيادة ، ولكن قال عوضها : «وكانت اليهود قد أعجبهم إذ كان يصلي قبل بيت المقدس وأهل الكتاب ، فلما ولّى وجهه قبل البيت أنكروا ذلك» ، وأخرجه في كتاب التفسير (١) من طريق أبي نعيم عن زهير بدون شيء من هاتين الزيادتين ، والظاهر أن الزيادة الأولى مدرجة من إسرائيل عن أبي إسحاق ، والزيادة الثانية مدرجة من عمرو بن خالد لأن مسلما والترمذي والنسائي قد رووا حديث البراء عن أبي إسحاق من غير طريق إسرائيل ولم يكن فيه إحدى الزيادتين ، فاحتاجوا إلى تأويل حرف الاستقبال من قوله (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) بمعنى التحقيق لا غير أي قد قال السفهاء ما ولاهم.

ووجه فصل هذه الآية عما قبلها بدون عطف ، اختلاف الغرض عن غرض الآيات السابقة فهي استئناف محض ليس جوابا عن سؤال مقدر.

والأولى بقاء السين على معنى الاستقبال إذ لا داعي إلى صرفه إلى معنى المضي وقد علمتم الداعي إلى الإخبار به قبل وقوعه منهم وقال في «الكشاف» «فائدة الإخبار به قبل وقوعه أن العلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع وأن الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لشغبه» وذكر ابن عطية عن ابن عباس أنه من وضع المستقبل موضع الماضي ليدل على استمرارهم فيه وقال الفخر إنه مختار القفال.

وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك أنهم ينظرون إلى أن هذا القول وقع بعد نسخ استقبال بيت المقدس وأن الآية نزلت بعد ذلك وهذا تكلف ينبغي عدم التعويل عليه ، والإخبار عن أقوالهم المستقبلة ليس بعزيز في القرآن مثل قوله : (فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ) [الإسراء : ٥١] وإذا كان الذي دعاهم إلى ذلك ثبوت أنهم قالوا هذه المقالة قبل نزول هذه الآية وشيوع ذلك كان لتأويل المستقبل بالماضي وجه وجيه ، وكان فيه تأييد لما أسلفناه في تفسير قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) [البقرة : ١١٥] ـ وقوله ـ : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) [البقرة : ١٢٠].

والسفهاء جمع سفيه الذي هو صفة مشبهة من سفه بضم الفاء إذا صار السفه له سجية وتقدم القول في السفه عند قوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠] وفائدة وصفهم بأنهم من الناس مع كونه معلوما هو التنبيه على بلوغهم

__________________

(١) المصدر السابق (٨ / ١٧١ ، كتاب التفسير سورة البقرة (١٢) باب سَيَقُولُ السُّفَهاءُ إلخ.

٧

الحد الأقصى من السفاهة بحيث لا يوجد في الناس سفهاء غير هؤلاء فإذا قسم نوع الإنسان أصنافا كان هؤلاء صنف السفهاء فيفهم أنه لا سفيه غيرهم على وجه المبالغة ، والمعنى أن كل من صدر منه هذا القول هو سفيه سواء كان القائل اليهود أو المشركين من أهل مكة.

وضمير الجمع في قوله : (ما وَلَّاهُمْ) عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور في اللفظ حكاية لقول السفهاء ، وهم يريدون بالضمير أو بما يعبر عنه في كلامهم أنه عائد على المسلمين.

وفعل (ولاهم) أصله مضاعف ولي إذا دنا وقرب ، فحقه أن يتعدى إلى مفعول واحد بسبب التضعيف فيقال ولاه من كذا أي قربه منه وولاه عن كذا أي صرفه عنه ومنه قوله تعالى هنا (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ) ، وشاع استعماله في الكلام فكثر أن يحذفوا حرف الجر الذي يعديه إلى متعلق ثان فبذلك عدوه إلى مفعول ثان كثيرا على التوسع فقالوا ولى فلانا وجهه مثلا دون أن يقولوا ولّى فلان وجهه من فلان أو عن فلان فأشبه أفعال كسا وأعطى ولذلك لم يعبئوا بتقديم أحد المفعولين على الآخر قال تعالى : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) [الأنفال : ١٥] أصله فلا تولوا الأدبار منهم ، فالأدبار هو الفاعل في المعنى لأنه لو رفع لقيل ولي دبره الكافرين ، ومنه قوله تعالى : (نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى) [النساء : ١١٥] أي نجعله واليا مما تولى أي قريبا له أي ملازما له فهذا تحقيق تصرفات هذا الفعل.

وجملة (ما وَلَّاهُمْ) إلخ هي مقول القول فضمائر الجمع كلها عائدة على معاد معلوم من المقام وهم المسلمون ولا يحتمل غير ذلك لئلا يلزم تشتيت الضمائر ومخالفة الظاهر في أصل حكاية الأقوال.

والاستفهام في قوله : (ما وَلَّاهُمْ) مستعمل في التعريض بالتخطئة واضطراب العقل. والمراد بالقبلة في قوله : (عَنْ قِبْلَتِهِمُ) الجهة التي يولّون إليها وجوههم عند الصلاة كما دل عليه السياق وأخبار سبب نزول هذه الآيات.

والقبلة في أصل الصيغة اسم على زنة فعلة بكسر الفاء وسكون العين ، وهي زنة المصدر الدال على هيئة فعل الاستقبال أي التوجه اشتق على غير قياس بحذف السين والتاء ثم أطلقت على الشيء الذي يستقبله المستقبل مجازا وهو المراد هنا لأن الانصراف لا يكون عن الهيئة قال حسان في رثاء أبي بكر رضي‌الله‌عنه :

٨

أليس أوّل من صلى لقبلتكم

والأظهر عندي أن تكون القبلة اسم مفعول على وزن فعل كالذّبح والطّحن وتأنيثه باعتبار الجهة كما قالوا : ما له في هذا الأمر قبلة ولا دبرة أي وجهة.

وإضافة القبلة إلى ضمير المسلمين للدلالة على مزيد اختصاصها بهم إذ لم يستقبلها غيرهم من الأمم لأن المشركين لم يكونوا من المصلين وأهل الكتاب لم يكونوا يستقبلون في صلاتهم ، وهذا مما يعضد حمل «السفهاء» على المشركين إذ لو أريد بهم اليهود لقيل عن قبلتنا إذ لا يرضون أن يضيفوا تلك القبلة إلى المسلمين ، ومن فسر «السفهاء» باليهود ونسب إليهم استقبال بيت المقدس حمل الإضافة على أدنى ملابسة لأن المسلمين استقبلوا تلك القبلة مدة سنة وأشهر فصارت قبلة لهم.

وضمير الجمع في قوله : (ما وَلَّاهُمْ) عائد إلى معلوم من المقام غير مذكور اللفظ حكاية لقول السفهاء وهم يريدون بالضمير أو بمساويه في كلامهم عوده على المسلمين.

وقوله : (الَّتِي كانُوا عَلَيْها) أي كانوا ملازمين لها فعلى هنا للتمكن المجازي وهو شدة الملازمة مثل وقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] ، وفيه زيادة توجيه للإنكار والاستغراب أي كيف عدلوا عنها بعد أن لاوموها ولم يكن استقبالهم إياها مجرد صدفة فإنهم استقبلوا الكعبة ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة.

واعلم أن اليهود يستقبلون بيت المقدس وليس هذا الاستقبال من أصل دينهم لأن بيت المقدس إنما بني بعد موسى عليه‌السلام بناه سليمان عليه‌السلام ، فلا تجد في أسفار «التوراة» الخمسة ذكرا لاستقبال جهة معينة في عبادة الله تعالى والصلاة والدعاء ، ولكن سليمانعليه‌السلام هو الذي سنّ استقبال بيت المقدس ففي سفر الملوك الأول أن سليمان لما أتم بناء بيت المقدس جمع شيوخ إسرائيل وجمهورهم ووقف أمام المذبح في بيت المقدس وبسط يديه ودعا الله دعاء جاء فيه : «إذا انكسر شعب إسرائيل أمام العدو ثم رجعوا واعترفوا وصلوا نحو هذا البيت فأرجعهم إلى الأرض التي أعطيت لآبائهم وإذا خرج الشعب لمحاربة العدو وصلّوا إلى الرب نحو المدينة التي اخترتها والبيت الذي بنيته لاسمك فاسمع صلاتهم وتضرعهم» إلخ ، وذكر بعد ذلك أن الله تجلّى لسليمان وقال له «قد سمعت صلاتك وتضرعك الذي تضرعت به أمامي» ، وهذا لا يدل على أن استقبال بيت المقدس شرط في الصلاة في دين اليهود وقصاراه الدلالة على أن التوجه نحو بيت المقدس بالصلاة والدعاء هيئة فاضلة ، فلعل بني إسرائيل التزموه لا سيما بعد خروجهم من

٩

بيت المقدس أو أن أنبياءهم الموجودين بعد خروجهم أمروهم بذلك بوحي من الله.

وقد قال ابن عباس ومجاهد : كان اليهود يظنون أن موافقة الرسول لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقا لهم بالكلية ، وجرى كلام ابن العربي في «أحكام القرآن» على الجزم بأن اليهود كانوا يستقبلون بيت المقدس بناء على كلام ابن عباس ومجاهد ، ولم يثبت هذا من دين اليهود ، كما علمت ، وذكر الفخر عن أبي مسلم ما فيه أن اليهود كانوا يستقبلون جهة المغرب وأن النصارى يستقبلون المشرق ، وقد علمت آنفا أن اليهود لم تكن لهم في صلاتهم جهة معينة يستقبلونها وأنهم كانوا يتيمنون في دعائهم بالتوجه إلى صوب بيت المقدس على اختلاف موقع جهته من البلاد التي هم بها فليس لهم جهة معينة من جهات مطلع الشمس ومغربها وما بينهما فلما تقرر ذلك عادة عندهم توهموه من الدين وتعجبوا من مخالفة المسلمين في ذلك. وأما النصارى فإنهم لم يقع في إنجيلهم تغيير لما كان عليه اليهود في أمر الاستقبال في الصلاة ولا تعيين جهة معينة ولكنهم لما وجدوا الروم يجعلون أبواب هياكلهم مستقبلة لمشرق الشمس بحيث تدخل أشعة الشمس عند طلوعها من باب الهيكل وتقع على الصّنم صاحب الهيكل الموضوع في منتهى الهيكل عكسوا ذلك فجعلوا أبواب الكنائس إلى الغرب وبذلك يكون المذبح إلى الغرب والمصلون مستقبلين الشرق ، وذكر الخفاجي أن بولس هو الذي أمرهم بذلك ، فهذه حالة النصارى في وقت نزول الآية ثم إن النصارى من العصور الوسطى إلى الآن توسعوا فتركوا استقبال جهة معينة فلذلك تكون كنائسهم مختلفة الاتجاه وكذلك المذابح المتعددة في الكنيسة الواحدة.

وأما استقبال الكعبة في الحنيفية فالظاهر أن إبراهيم عليه‌السلام لما بنى الكعبة استقبلها عند الدعاء وعند الصلاة وأنه بناها للصلاة حولها فإن داخلها لا يسع الجماهير من الناس وإذا كان بناؤها للصلاة حولها فهي أول قبلة وضعت للمصلي تجاهها وبذلك اشتهرت عند العرب ويدل عليه قول زيد بن عمرو بن نفيل :

عذت بما عاذ به إبراهم

مستقبل المعبة وهو قائم

أما توجهه إلى جهتها من بلد بعيد عنها فلا دليل على وقوعه فيكون الأمر بالتزام الاستقبال في الصلاة من خصائص هذه الشريعة ومن جملة معاني إكمال الدين بها كما سنبينه.

وقد دلت هذه الآية على أن المسلمين كانوا يستقبلون جهة ثم تحولوا عنها إلى جهة

١٠

أخرى وليست التي تحول إليها المسلمون إلّا جهة الكعبة فدل على أنهم كانوا يستقبلون بيت المقدس وبذلك جاءت الآثار. والأحاديث الصحيحة في هذا ثلاثة ، أولها وأصحها حديث «الموطأ» عن ابن دينار عن ابن عمر «بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أنزل عليه الليلة [قرآن] (١) وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة» ورواه أيضا البخاري من طريق مالك ، ومسلم من طريق مالك ومن طريق عبد العزيز بن مسلم وموسى بن عقبة ، وفيه أن نزول آية تحويل القبلة كان قبل صلاة الصبح وأنه لم يكن في أثناء الصلاة وأنه صلى الصبح للكعبة وهذا الحديث هو أصل الباب وهو فصل الخطاب.

ثانيها : حديث مسلم عن أنس بن مالك وفيه «فمر رجل من بني سلمة وهم ركوع في صلاة الفجر وقد صلوا ركعة فنادى ألا إن القبلة قد حوّلت فمالوا كما هم نحو القبلة».

الثالث حديث البخاري ومسلم واللفظ للبخاري في كتاب التفسير عن البراء بن عازب قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا ، وكان رسول الله يحب أن يوجه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة : ١٤٤] فتوجه نحو الكعبة ـ ثم قال ـ فصلى مع النبي رجل ثم خرج بعد ما صلى فمر على قوم من الأنصار في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس فقال : هو يشهد أنه صلى مع رسول الله وأنه توجه نحو الكعبة فتحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة» ، وحمل ذكر صلاة الصبح في روايتي ابن عمر وأنس بن مالك وذكر صلاة العصر في رواية البراء كلّ على أهل مكان مخصوص ، وهنالك آثار أخرى تخالف هذه لم يصح سندها ذكرها القرطبي. فتحويل القبلة كان في رجب سنة اثنتين من الهجرة قبل بدر بشهرين وقيل يوم الثلاثاء نصف شعبان منها.

واختلفوا في أن استقباله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت المقدس هل كان قبل الهجرة أو بعدها؟ فالجمهور على أنه لما فرضت عليه الصلاة بمكة كان يستقبل الكعبة فلما قدم المدينة استقبل بيت المقدس تألّفا لليهود قاله بعضهم وهو ضعيف ، وقيل كان يستقبل بيت المقدس وهو في

__________________

(١) زيادة من الموطا (١ / ١٩٥) تحقيق عبد الباقي ، كتاب القبلة باب ما جاء في القبلة ، ومن صحيح البخاري ، انظر فتح الباري ، (١ / ٥٠٦) ، دار المعرفة ، كتاب الصلاة ، (٣٢) باب ما جاء في القبلة ، وهذه الزيادة ليست في صحيح مسلم وهو من رواته كما سيذكر المصنف.

١١

مكان يجعل الكعبة أمامه من جهة الشرق فيكون مستقبلا الكعبة وبيت المقدس معا ، ولم يصح هذا القول.

واختلفوا هل كان استقبال بيت المقدس بأمر من الله؟ فقال ابن عباس والجمهور أوجبه الله عليه بوحي ثم نسخه باستقبال الكعبة ودليلهم قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) [البقرة : ١٤٣] الآية ، وقال الطبري كان مخيرا بين الكعبة وبيت المقدس واختار بيت المقدس استئلافا لليهود ، وقال الحسن وعكرمة وأبو العالية : كان ذلك عن اجتهاد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى هذا القول يكون قوله تعالى : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) [البقرة : ١٤٤] دالا على أنه اجتهد فرأى أن يتبع قبلة الدينين اللذين قبله ومع ذلك كان يود أن يأمره الله باستقبال الكعبة ، فلما غيرت القبلة قال السفهاء وهم اليهود أو المنافقون على اختلاف الروايات المتقدمة وقيل كفار قريش قالوا اشتاق محمد إلى بلده وعن قريب يرجع إلى دينكم ذكره الزجاج ونسب إلى البراء بن عازب وابن عباس والحسن ، وروى القرطبي أن أول من صلى نحو الكعبة من المسلمين أبو سعيد بن المعلى وفي الحديث ضعف.

وقوله : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) جواب قاطع معناه أن الجهات كلها سواء في أنها مواقع لبعض المخلوقات المعظمة فالجهات ملك لله تبعا للأشياء الواقعة فيها المملوكة له ، وليست مستحقة للتوجه والاستقبال استحقاقا ذاتيا. وذكر المشرق والمغرب مراد به تعميم الجهات كما تقدم عند قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) [البقرة : ١١٥] ، ويجوز أن يكون المراد من المشرق والمغرب الكناية عن الأرض كلها لأن اصطلاح الناس أنهم يقسمون الأرض إلى جهتين شرقية وغربية بحسب مطلع الشمس ومغربها ، والمقصود أن ليس لبعض الجهات اختصاص بقرب من الله تعالى لأنه منزه عن الجهة وإنما يكون أمره باستقبال بعض الجهات لحكمة يريدها كالتيمن أو التذكر فلا بدع في التولي لجهة دون أخرى حسب ما يأمر به الله تعالى ، فقوله تعالى : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ، إشارة إلى وجه صحة التولية إلى الكعبة وقوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إشارة إلى وجه ترجيح التولية إلى الكعبة على التولية إلى غيرها لأن قوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) تعريض بأن الذي أمر الله به المسلمين هو الهدى دون قبلة اليهود إلّا أن هذا التعريض جيء به على طريقة الكلام المنصف من حيث ما في قوله (مَنْ يَشاءُ) من الإجمال الذي يبينه المقام فإن المهدي من فريقين كانا في حالة واحدة هو الفريق الذي أمره من بيده الهدى بالعدول عن الحالة التي شاركه فيها الفريق الآخر إلى حالة اختص هو

١٢

بها ، فهذه الآية بهذا المعنى فيها إشارة إلى ترجيح أحد المعنيين من الكلام الموجه أقوى من آية : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤].

وقد سلك في هذا الجواب لهم طريق الإعراض والتبكيت لأن إنكار هم كان عن عناد لا عن طلب الحق فأجيبوا بما لا يدفع عنهم الحيرة ولم تبين لهم حكمة تحويل القبلة ولا أحقية الكعبة بالاستقبال وذلك ما يعلمه المؤمنون.

فأما إذا جرينا على قول الذين نسبوا إلى اليهود استقبال جهة المغرب وإلى النصارى استقبال جهة المشرق من المفسرين فيأتي على تفسيرهم أن تقول إن ذكر المشرق والمغرب إشارة إلى قبلة النصارى وقبلة اليهود ، فيكون الجواب جوابا بالإعراض عن ترجيح قبلة المسلمين لعدم جدواه هنا ، أو يكون قوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إيماء إلى قبلة الإسلام ، والمراد بالصراط المستقيم هنا وسيلة الخير وما يوصل إليه كما تقدم في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦] فيشمل ذلك كل هدي إلى خير ومنه الهدى إلى استقبال أفضل جهة. فجملة : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) حال من اسم الجلالة ولا يحسن جعلها بدل اشتمال من جملة : (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) لعدم وضوح اشتمال جملة: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) على معنى جملة : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) إذ مفاد الأولى أن الأرض جميعها لله أي فلا تتفاضل الجهات ومفاد الثانية أن الهدى بيد الله.

واتفق علماء الإسلام على أن استقبال الكعبة أي التوجه إليها شرط من شروط صحة الصلاة المفروضة والنافلة إلّا لضرورة في الفريضة كالقتال والمريض لا يجد من يوجهه إلى جهة القبلة أو لرخصة في النافلة للمسافر إذا كان راكبا على دابة أو في سفينة لا يستقر بها. فأما الذي هو في المسجد الحرام ففرض عليه استقبال عين الكعبة من أحد جوانبها ومن كان بمكة في موضع يعاين منه الكعبة فعليه التوجه إلى جهة الكعبة التي يعاينها فإذا طال الصف من أحد جوانب الكعبة وجب على من كان من أهل الصف غير مقابل لركن من أركان الكعبة أن يستدير بحيث يصلون دائرين بالكعبة صفا وراء صف بالاستدارة ، وأما الذي تغيب ذات الكعبة عن بصره فعليه الاجتهاد بأن يتوخى أن يستقبل جهتها فمن العلماء من قال يتوخّى المصلي جهة مصادفة عين الكعبة بحيث لو فرض خط بينه وبين الكعبة لوجد وجهه قبالة جدارها ، وهذا شاق يعسر تحققه إلّا بطريق أرصاد علم الهيئة (١) ويعبر

__________________

(١) قاله ابن رشد في البداية (١ / ١١١) ، دار لمعرفة ، وفيه إن اسابة العين شيء لا يدرك إلا ـ

١٣

عن هذا باستقبال العين وباستقبال السمت وهذا قول ابن القصار واختاره أحد أشياخ أبي الطيب عبد المنعم الكندي ونقله المالكية عن الشافعي ، ومن العلماء من قال يتوخى المصلى أن يستقبل جهة أقرب ما بينه وبين الكعبة بحيث لو مشى باستقامة لوصل حول الكعبة ويعبر عن هذا باستقبال الجهة أي جهة الكعبة وهذا قول أكثر المالكية واختاره الأبهري والباجي وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وهو من التيسير ورفع الحرج ، ومن كان بالمدينة يستدل بموضع صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجده لأن الله أذن لرسوله بالصلاة فيه ، وروى ابن القاسم عن مالك أن جبريل هو الذي أقام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبلة مسجده.

وبين المازري معنى المسامتة بأن يكون جزء من سطح وجه المصلي وجزء من سمت الكعبة طرفي خط مستقيم وذلك ممكن بكون صف المصلين كالخط المستقيم الواصل بين طرفي خطين متباعدين خرجا من المركز إلى المحيط في جهته لأن كل نقطة منه ممر لخارج من المركز إلى المحيط ا ه ، واستبعد عز الدين بن عبد السلام هذا الكلام بأن تكليف البعيد استقبال عين البيت لا يطاق ، وبإجماعهم على صحة ذوي صفّ مائة ذراع وعرض البيت خمسة أذرع فبعض هذا الصف خارج عن سمت البيت قطعا ووافقه القرافي ثم أجاب بأن البيت لمستقبليه كمركز دائرة لمحيطها والخطوط الخارجة من مركز لمحيطه كلما قربت منه اتسعت ولا سيما في البعد. فإذا طالت الصفوف فلا حرج عليهم لأنهم إنما يجب عليهم أن يكونوا متوجهين نحو الجهة التي يعبرون عنها بأنها قبلة الصلاة.

ومن أخطأ القبلة أو نسي الاستقبال حتى فرغ من صلاته لا يجب عليه إعادة صلاته عند مالك وأبي حنيفة وأحمد إلّا أن مالكا استحب له أن يعيدها ما لم يخرج الوقت ولم ير ذلك أبو حنيفة وأحمد وهذا بناء على أن فرض المكلف هو الاجتهاد في استقبال الجهة وأما الشافعي فأوجب عليه الإعادة أبدا بناء على أنه يرى أن فرض المكلف هو إصابة سمت الكعبة.

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ

__________________

ـ بتقريب وتسامح بطريق الهندسة واستعمال الأرصاد في ذلك ... ونحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسية المبنى على الارصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضخا انظر هذه المسألة أيضا في الإحياء للغزالي (٢ / ٢٦٥) ، دار المعرفة ، كتاب آداب السفر. ما يتجدد من الوظيفة بسبب السفر.

١٤

عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلنَا القِبلَةَ الَّتي كُنتَ عَلَيها إِلّا لِنَعلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلىٰ عَقِبَيهِ وَإِن كانَت لَكَبيرَةً إِلّا عَلَى الَّذينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضيعَ إيمانَكُم إِنَّ اللَّهَ بِالنّاسِ لَرَءوفٌ رَحيمٌ (١٤٣)).

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)

هذه الجملة معترضة بين جملة : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) [البقرة : ١٤٢] إلخ وجملة: (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) إلخ ، والواو اعتراضية وهي من قبيل الواو الاستئنافية ، فالآية السابقة لما أشارت إلى أن الذين هدوا إلى صراط مستقيم هم المسلمون وأن ذلك فضل لهم ناسب أن يستطرد لذكر فضيلة أخرى لهم هي خير مما تقدم وهي فضيلة كون المسلمين عدولا خيارا ليشهدوا على الأمم لأن الآيات الواقعة بعدها هي في ذكر أمر القبلة وهذه الآية لا تتعلق بأمر القبلة.

وقوله : (وَكَذلِكَ) مركب من كاف التشبيه واسم الإشارة فيتعيّن تعرّف المشار إليه وما هو المشبه به قال صاحب «الكشاف» : «أي مثل ذلك الجعل العجيب جعلناكم أمة وسطا» فاختلف شارحوه في تقرير كلامه وتبين مراده ، فقال البيضاوي : «الإشارة إلى المفهوم أي ما فهم من قوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة : ١٤٢] أي كما جعلناكم أمة وسطا أو كما جعلنا قبلتكم أفضل قبلة جعلناكم أمة وسطا» ا ه. أي إن قوله : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يومئ إلى أن المهدي هم المسلمون وإلى أن المهدي إليه هو استقبال الكعبة وقت قول السفهاء (ما وَلَّاهُمْ) [البقرة : ١٤٢] على ما قدمناه وهذا يجعل الكاف باقية على معنى التشبيه ولم يعرّج على وصف «الكشاف» الجعل بالعجيب كأنه رأى أن اسم الإشارة لا يتعين للحمل على أكثر من الإشارة وإن كان إشارة البعيد فهو يستعمل غالبا من دون إرادة بعد وفيه نظر ، والمشار إليه على هذا الوجه معنى تقدم في الكلام السّابق فالإشارة حينئذ إلى مذكور متقرر في العلم فهي جارية على سنن الإشارات.

وحمل شراح «الكشاف» الكاف على غير ظاهر التشبيه ، فأما الطيبي والقطب فقالا الكاف فيه اسم بمعنى مثل منتصب على المفعولية المطلقة لجعلناكم أي مثل الجعل العجيب جعلناكم فليس تشبيها ولكنه تمثيل لحالة والمشار إليه ما يفهم من مضمون قوله : (يَهْدِي) وهو الأمر العجيب الشأن أي الهدى التام ، ووجه الإتيان بإشارة البعيد التنبيه على تعظيم المشار إليه وهو الذي عناه في «الكشاف» بالجعل العجيب ، فالتعظيم هنا

١٥

لبداعة الأمر وعجابته ، ثم إن القطب ساق كلاما نقض به صدر كلامه.

وأما القزويني صاحب «الكشف» والتفتازانيّ فبيناه بأن الكاف مقحمة كالزائدة لا تدل على تمثيل ولا تشبيه فيصير اسم الإشارة على هذا نائبا مناب مفعول مطلق لجعلناكم كأنه قيل ذلك الجعل جعلناكم أي فعدل عن المصدر إلى اسم إشارته النائب عنه لإفادة عجابة هذا الجعل بما مع اسم الإشارة من علامة البعد المتعين فيها لبعد المرتبة. والتشبيه على هذا الوجه مقصود منه المبالغة بإيهام أنه لو أراد المشبّه أن يشبه هذا في غرابته لما وجد له إلّا أن يشبهه بنفسه وهذا قريب من قوله النابغة : «والسفاهة كاسمها» فليست الكاف بزائدة ولا هي للتشبيه ولكنها قريبة من الزائدة ، والإشارة حينئذ إلى ما سيذكر بعد اسم الإشارة.

وكلام «الكشاف» أظهر في هذا المحمل فيدل على ذلك تصريحه في نظائره إذ قال في قوله تعالى : (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٩] الكاف منصوبة على معنى مثل أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم وأورثناها. واعلم أن الذي حدا صاحب «الكشاف» إلى هذا المحمل أن استعمال اسم الإشارة في هذا وأمثاله لا يطرد فيه اعتبار مشار إليه مما سبق من الكلام ألا ترى أنه لا يتجه اعتبار مشار إليه في هذه الآية وفي آية سورة الشعراء ولكن صاحب «الكشاف» قد خالف ذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام [١١٢] (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) فقال : «كما خلّينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم» ا ه وما قاله في هذه الآية منزع حسن ؛ لكنه لم يضرب الناظرون فيه بعطن.

والتحقيق عندي أن أصل : (كَذلِكَ) أن يدل على تشبيه شيء بشيء والمشبه به ظاهر مشار إليه أو كالظاهر ادعاء ، فقد يكون المشبه به المشار إليه مذكورا مثل قوله تعالى: (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) [هود : ١٠٢] إشارة إلى قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [هود : ١٠١] الآية. وكقول النابغة :

فألفيت الأمانة لم تخنها

كذلك كان نوح لا يخون

وقد يكون المشبه به المشار إليه مفهوما من السياق فيحتمل اعتبار التشبيه ويحتمل اعتبار المفعوليّة المطلقة كقول أبي تمّام :

كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر

فليس لعين لم يفض دمعها عذر

١٦

قال التبريزي في «شرحه» (١) الإشارة للتعظيم والتهويل وهو في صدر القصيدة لم يسبق له ما يشبه به فقطع النظر فيه عن التشبيه واستعمل في لازم معنى التشبيه ا ه ، يعني أن الشاعر أشار إلى الحادث العظيم وهو موت محمد بن حميد الطوسي ، ومثله قول الأسدي من شعراء «الحماسة» يرثى أخاه (٢) :

فهكذا يذهب الزمان ويف

نى العلم فيه ويدرس الأثر

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) على ما فسر به البيضاوي من هذا القبيل.

وقد يكون مرادا منه التنويه بالخبر فيجعل كأنه مما يروم المتكلم تشبيهه ثم لا يجد إلّا أن يشبهه بنفسه وفي هذا قطع للنظر عن التشبيه في الواقع ومثله قول أحد شعراء فزارة في الأدب من «الحماسة» :

كذلك أدّبت حتى صار من خلقي

أني رأيت ملاك الشّيمة الأدبا

أي أدبت هذا الأدب الكامن العجيب ، ومنه قول زهير :

كذلك خيمهم ولكلّ قوم

إذا مسّتهم الضّراء خيم

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) من هذا القبيل عند شراح «الكشاف» وهو الحق ، وأوضح منه في هذا المعنى قوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [الأنعام : ٥٣] فإنه لم يسبق ذكر شيء غير الذي سماه الله تعالى فتنة أخذا من فعل (فَتَنَّا). والإشارة على هذا المحمل المشار إليه مأخوذ من كلام متأخر عن اسم الإشارة كما علمت آنفا لأنه الجعل المأخوذ من (جَعَلْناكُمْ) ، وتأخير المشار إليه عن الإشارة استعمال بليغ في مقام التشويق كقوله تعالى : (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨] أو من كلام متقدم عن اسم الإشارة كما للبيضاوي إذ جعل المشار إليه هو الهدى المأخوذة من قوله تعالى : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٤٢] ولعله رأى لزوم تقدم المشار إليه.

__________________

(٢) من كتب التبريزي : شرح ديوان الحماسة لأبي تمام ، ٢ شرح المشكل من ديوان أي تمام. والتبريزي : ويحيى بن علي محمد الشيباني التبريزي ، أبو زكريا ، من أئمة اللغة والأدب. توفى سنة ٥٠٢ هـ. الأعلام (٨ / ١٥٧).

(٢) وقيل البيت لابن كناسة في رثاه حماد الراوية ، وقال الجاحظ هو لبعض الشعراء فر رثاء بعض العلماء.

١٧

والوسط اسم للمكان الواقع بين أمكنة تحيط به أو للشيء الواقع بين أشياء محيطة به ليس هو إلى بعضها أقرب منه إلى بعض عرفا ولما كان الوصول إليه لا يقع إلّا بعد اختراق ما يحيط به أخذ فيه معنى الصيانة والعزة طبعا كوسط الوادي لا تصل إليه الرعاة والدواب إلّا بعد أكل ما في الجوانب فيبقى كثير العشب والكلأ ، ووضعا كوسط المملكة يجعل محل قاعدتها ووسط المدينة يجعل موضع قصبتها لأن المكان الوسط لا يصل إليه العدو بسهولة ، وكواسطة العقد لأنفس لؤلؤة فيه ، فمن أجل ذلك صار معنى النفاسة والعزة والخيار من لوازم معنى الوسط عرفا فأطلقوه على الخيار النفيس كناية قال زهير :

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا نزلت إحدى الليالي بمعضل

وقال تعالى : (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) [القلم : ٢٨]. ويقال أوسط القبيلة لصميمها.

وأما إطلاق الوسط على الصفة الواقعة عدلا بين خلقين ذميمين فيهما إفراط وتفريط كالشجاعة بين الجبن والتهور ، والكرم بين الشح والسرف والعدالة بين الرحمة والقساوة ، فذلك مجاز بتشبيه الشيء الموهوم بالشيء المحسوس فلذلك روي حديث : «خير الأمور أوساطها» وسنده ضعيف وقد شاع هذان الإطلاقان حتى صارا حقيقتين عرفيتين.

فالوسط في هذه الآية فسر بالخيار لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] وفسر بالعدول والتفسير الثاني رواه الترمذي في «سننه» من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال حسن صحيح ، والجمع في التفسيرين هو الوجه كما قدمناه في المقدمة التاسعة.

ووصفت الأمة بوسط بصيغة المذكر لأنه اسم جامد فهو لجموده يستوي فيه التذكير والتأنيث مثل الوصف بالمصدر في الجمود والإشعار بالوصفية بخلاف نحو رأيت الزيدين هذين فإنه وصف باسم مطابق لعدم دلالته على صفة بل هو إشارة محضة لا تشعر بصفة في الذات.

وضمير المخاطبين هنا مراد به جميع المسلمين لترتبه على الاهتداء لاستقبال الكعبة فيعم كل من صلى لها ، ولأن قوله (لِتَكُونُوا شُهَداءَ) قد فسر في الحديث الصحيح بأنها شهادة الأمة كلها على الأمم فلا يختص الضمير بالموجودين يوم نزول الآية.

والآية ثناء على المسلمين بأن الله قد ادخر لهم الفضل وجعلهم وسطا بما هيأ لهم

١٨

من أسبابه في بيان الشريعة بيانا جعل أذهان أتباعها سالمة من أن تروج عليهم الضلالات التي راجت على الأمم ، قال فخر الدين يجوز أن يكونوا وسطا بمنعي أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا المسيح ابن الله ، ولم يقصروا كما قصرت اليهود فبدلوا الكتب واستخفوا بالرسل.

واستدل أهل أصول الفقه بهذه الآية على أن إجماع علماء الأمة أي المجتهدين حجة شرعية فيما أجمعوا عليه (١) ، وفي بيان هذا الاستدلال طرق :

الأول قال الفخر إن الله أخبر عن عدالة الأمة وخيريتها فلو أقدموا على محظور لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت ذلك وجب كون قولهم حجة اه ، أي لأن مجموع المجتهدين عدول بقطع النظر عن احتمال تخلف وصف العدالة في بعض أفرادهم ، ويبطل هذا أن الخطأ لا ينافي العدالة ولا الخيرية فلا تدل الآية على عصمتهم من الخطأ فيما أجمعوا عليه وهذا ردّ متمكن ، وأجيب عنه بأن العدالة الكاملة التي هي التوسط بين طرفي إفراط وتفريط تستلزم العصمة من وقوع الجميع في الخطأ في الأقوال والأفعال والمعتقدات.

الطريق الثاني قال البيضاوي لو كان فيما اتفقوا عليه باطل لانثلمت عدالتهم ا ه ، يعني أن الآية اقتضت العدالة الكاملة لاجتماع الأمة فلو كان إجماعهم على أمر باطل لانثلمت عدالتهم أي كانت ناقصة وذلك لا يناسب الثناء عليهم بما في هذه الآية ، وهذا يرجع إلى الطريق الأول.

الطريق الثالث قال جماعة الخطاب للصحابة وهم لا يجمعون على خطأ فالآية حجة على الإجماع في الجملة ، ويرد عليه أن عدالة الصحابة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد وقد يكون إجماعهم عن اجتهاد أما إجماعهم على ما هو من طريق النقل فيندرج فيما سنذكره.

والحق عندي أن الآية صريحة في أن الوصف المذكور فيها مدح للأمة كلها لا لخصوص علمائها فلا معنى للاحتجاج بها من هاته الجهة على حجية الإجماع الذي هو من أحوال بعض الأمة لا من أحوال جميعها ، فالوجه أن الآية دالة على حجية إجماع جميع الأمة فيما طريقه النقل للشريعة وهو المعبر عنه بالتواتر وبما علم من الدين بالضرورة وهو اتفاق المسلمين على نسبة قول أو فعل أو صفة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما هو تشريع مؤصل أو بيان مجمل مثل أعداد الصلوات والركعات وصفة الصلاة والحج ومثل نقل القرآن ، وهذا

__________________

(١) ذكر هذا من المفسرين القرطبي في (٢ / ١٥٦) ، الألوسي في (٢ / ٤ ، القاسمي في (٢ / ٢٨٦).

١٩

من أحوال إثبات الشريعة ، به فسرت المجملات وأسست الشريعة ، وهذا هو الذي قالوا بكفر جاحد المجمع عليه منه (١) ، وهو الذي اعتبر فيه أبو بكر الباقلاني وفاق العوام واعتبر فيه غيره عدد التواتر ، وهو الذي يصفه كثير من قدماء الأصوليين بأنه مقدم على الأدلة كلها (٢).

وأما كون الآية دليلا على حجية إجماع المجتهدين عن نظر واجتهاد فلا يؤخذ من الآية إلّا بأن يقال إن الآية يستأنس بها لذلك فإنها لما أخبرت أن الله تعالى جعل هذه الأمة وسطا وعلمنا أن الوسط هو الخيار العدل الخارج من بين طرفي إفراط وتفريط علمنا أن الله تعالى أكمل عقول هذه الأمة بما تنشأ عليه عقولهم من الاعتياد بالعقائد الصحيحة ومجانبة الأوهام السخيفة التي ساخت فيها عقول الأمم ، ومن الاعتياد بتلقي الشريعة من طرق العدول وإثبات أحكامها بالاستدلال استنباطا بالنسبة للعلماء وفهما بالنسبة للعامة ، فإذا كان كذلك لزم من معنى الآية أن عقول أفراد هاته الأمة عقول قيّمة وهو معنى كونها وسطا ، ثم هذه الاستقامة تختلف بما يناسب كل طبقة من الأمة وكلّ فرد ، ولما كان الوصف الذي ذكر أثبت لمجموع الأمة قلنا إن هذا المجموع لا يقع في الضلال لا عمدا ولا خطأ ، أما التعمد فلأنه ينافي العدالة وأما الخطأ فلأنه ينافي الخلقة على استقامة الرأي فإذا جاز الخطأ على آحادهم لا يجوز توارد جميع علمائهم على الخطأ نظرا ، وقد وقع الأمران للأمم الماضية فأجمعوا على الخطأ متابعة لقول واحد منهم لأن شرائعهم لم تحذرهم من ذلك أو لأنهم أساءوا تأويلها ، ثم إن العامة تأخذ نصيبا من هذه العصمة فيما هو من خصائصها وهو الجزء النقلي فقط وبهذا ينتظم الاستدلال.

وقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ) علة لجعلهم وسطا فإن أفعال الله تعالى كلها منوطة بحكم وغايات لعلمه تعالى وحكمته وذلك عن إرادة واختيار لا كصدور المعلول عن العلة كما يقول بعض الفلاسفة ، ولا بوجوب وإلجاء كما توهمه عبارات المعتزلة وإن كان مرادهم

__________________

(١) انظر حاشية العطار على جمع الجوامع (٢ / ٢٣٨) ، دار الكتب العلمية ، وتسر التحرر (٣ / ٢٥٩ «، مصطفى الحلبي.

(٢) قال الغزال جب على المجتهد أن ينظر أول شي في الإجماع ، فأن رجد في المسألة اجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة فإنهما يقبلان النسخ والإجماع لا يقبله فالأجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ إذ لا نجتمع الأمة على الخطاء انظر المستصفى مع مسلم الثبوت (٢ / ٣٩٢) ، دار صادر.

٢٠