تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٤٨

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٩ ـ سورة التوبة

سمّيت هذه السورة ، في أكثر المصاحف ، وفي كلام السلف : سورة براءة ، ففي الصحيح عن أبي هريرة ، في قصة حجّ أبي بكر بالناس ، قال أبو هريرة : «فأذّن معنا علي بن أبي طالب في أهل منى ببراءة». وفي «صحيح البخاري» ، وعن زيد بن ثابت قال : «آخر سورة نزلت سورة براءة» ، وبذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من «صحيحه». وهي تسمية لها بأول كلمة منها.

وتسمّى «سورة التوبة» في كلام بعض السلف في مصاحف كثيرة ، فعن ابن عبّاس «سورة التوبة هي الفاضحة» ، وترجم لها الترمذي في «جامعه» باسم التوبة. ووجه التسمية : أنّها وردت فيها توبة الله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك ، وهو حدث عظيم.

ووقع هذان الاسمان معا في حديث زيد بن ثابت ، في «صحيح البخاري» ، في باب جمع القرآن ، قال زيد «فتتبعت القرآن حتّى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) ، حتى خاتمة سورة البراءة [١٢٨].

وهذان الاسمان هما الموجودان في المصاحف التي رأيناها.

ولهذه السورة أسماء أخر ، وقعت في كلام السلف ، من الصحابة والتابعين ، فروي عن ابن عمر ، عن ابن عبّاس : كنّا ندعوها (أي سورة براءة) «المقشقشة» (بصيغة اسم الفاعل وتاء التأنيث من قشقشه إذا أبرأه من المرض) ، كان هذا لقبا لها ولسورة «الكافرون» لأنهما تخلصان من آمن بما فيهما من النفاق والشرك ، لما فيهما من الدعاء إلى الإخلاص ، ولما فيهما من وصف أحوال المنافقين.

٥

وكان ابن عبّاس يدعوها «الفاضحة» : قال ما زال ينزل فيها «ومنهم ـ ومنهم» حتى ظننّا أنّه لا يبقى أحد إلّا ذكر فيها.

وأحسب أنّ ما تحكيه من أحوال المنافقين يعرف به المتّصفون بها أنّهم المراد فعرف المؤمنون كثيرا من أولئك مثل قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) [التوبة : ٤٩] فقد قالها بعضهم وسمعت منهم ، وقوله : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ) النبي (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) [التوبة : ٦١] فهؤلاء نقلت مقالتهم بين المسلمين. وقوله : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) [التوبة : ٤٢].

وعن حذيفة : أنّه سمّاها «سورة العذاب» لأنّها نزلت بعذاب الكفّار ، أي عذاب القتل ، والأخذ حين يثقفون.

وعن عبيد بن عمير أنّه سمّاها «المنقّرة» (بكسر القاف مشدّدة) لأنّها نقرت عمّا في قلوب المشركين (لعلّه يعني من نوايا الغدر بالمسلمين والتمالي على نقص العهد ، وهو من نقر الطائر إذا أنفى بمنقاره موضعا من الحصى ونحوه ليبيض فيه).

وعن المقداد بن الأسود ، وأبي أيّوب الأنصاري : تسميتها «البحوث» ـ بباء موحّدة مفتوحة في أوّله وبمثلّثة في آخره بوزن فعول ـ بمعنى الباحثة ، وهو مثل تسميتها «المنقّرة».

وعن الحسن البصري أنّه دعاها «الحافرة» كأنّها حفرت عمّا في قلوب المنافقين من النفاق ، فأظهرته للمسلمين.

وعن قتادة : أنّها تسمّى «المثيرة» لأنّها أثارت عورات المنافقين وأظهرتها. وعن ابن عباس أنّه سمّاها «المبعثرة» لأنّها بعثرت عن أسرار المنافقين ، أي أخرجتها من مكانها.

وفي «الإتقان» : أنّها تسمّى «المخزية» ـ بالخاء والزاي المعجمة وتحتية بعد الزاي ـ وأحسب أن ذلك لقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) [التوبة : ٢].

وفي «الإتقان» أنّها تسمّى «المنكّلة» ، أي بتشديد الكاف. وفيه أنها تسمّى «المشدّدة».

وعن سفيان أنّها تسمّى «المدمدمة» ـ بصيغة اسم الفاعل من دمدم إذا أهلك ، لأنّها كانت سبب هلاك المشركين. فهذه أربعة عشر اسما.

وهي مدنية بالاتّفاق. قال في «الإتقان» : واستثنى بعضهم قوله : ما كان للنبي

٦

(وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) [التوبة : ١١٣] الآية ففي «صحيح البخاري» أنّ أبا طالب لمّا حضرته الوفاة دخل عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا عمّ قل لا إله إلا الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية «يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب». فكان آخر قول أبي طالب : أنّه على ملّة عبد المطلب ، فقال النبي : «لأستغفرنّ لك ما لم أُنه عنك». وتوفّي أبو طالب فنزلت ما كان للنبي (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣].

وشذّ ما روي عن مقاتل : أنّ آيتين من آخرها مكّيتان ، وهما (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] إلى آخر السورة. وسيأتي ما روي أنّ قوله تعالى : (أجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) [التوبة : ١٩] الآية. نزل في العباس إذ أسر يوم بدر فعيّره علي بن أبي طالب بالكفر وقطيعة الرحم ، فقال : نحن نحجب الكعبة إلخ.

وهذه السورة آخر السور نزولا عند الجميع ، نزلت بعد سورة الفتح ، في قول جابر بن زيد ، فهي السورة الرابعة عشرة بعد المائة في عداد نزول سور القرآن. وروي : أنّها نزلت في أوّل شوال سنة تسع ، وقيل آخر ذي القعدة سنة تسع ، بعد خروج أبي بكر الصديق من المدينة للحجّة التي أمّره عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : قبيل خروجه.

والجمهور على أنّها نزلت دفعة واحدة ، فتكون مثل سورة الأنعام بين السور الطوال.

وفسّر كثير من المفسّرين بعض آيات هذه السورة بما يقتضي أنّها نزلت أوزاعا في أوقات متباعدة ، كما سيأتي ، ولعلّ مراد من قال إنّها نزلت غير متفرقة : أنّه يعني إنها لم يتخلّلها ابتداء نزول سورة أخرى.

والذي يغلب على الظنّ أنّ ثلاث عشرة آية من أولها إلى قوله تعالى : (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [التوبة : ١٣] نزلت متتابعة ، كما سيأتي في خبر بعث علي بن أبي طالب ليؤذّن بها في الموسم. وهذا ما اتّفقت عليه الروايات. وقد قيل : إنّ ثلاثين آية منها ، من أولها إلى قوله تعالى : (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة : ٣٠] أذّن بها يوم الموسم ، وقيل : أربعين آية : من أولها إلى قوله : (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٤٠] أذّن به في الموسم ، كما سيأتي أيضا في مختلف الروايات ، فالجمع بينها يغلّب الظنّ بأن أربعين آية نزلت متتابعة ، على أنّ نزول جميع السورة دفعة واحدة ليس ببعيد عن الصحة.

وعدد آيها ، في عدّ أهل المدينة ومكّة والشام والبصرة : مائة وثلاثون آية ، وفي عدّ

٧

أهل الكوفة مائة وتسع وعشرون آية.

اتّفقت الروايات على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا قفل من غزوة تبوك ، في رمضان سنة تسع ، عقد العزم على أن يحجّ في شهر ذي الحجّة من عامه ولكنّه كره (عن اجتهاد أو بوحي من الله مخالطة المشركين في الحجّ معه ، وسماع تلبيتهم التي تتضمّن الإشراك ، أي قولهم في التلبية «لبيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك تملكه وما ملك». ـ وطوافهم عراة ، وكان بينه وبين المشركين عهد لم يزل عاملا لم ينقض ـ والمعنى أنّ مقام الرسالة يربأ عن أن يسمع منكرا من الكفر ولا يغيّره بيده ، لأنّ ذلك أقوى الإيمان ـ فأمسك عن الحجّ تلك السنّة ، وأمّر أبا بكر الصديق على أن يحجّ بالمسلمين ، وأمره أن يخبر المشركين بأن لا يحجّ بعد عامه ذلك مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ، وأكثر الأقوال على أنّ براءة نزلت قبل خروج أبي بكر من المدينة ، فكان ما صدر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادرا عن وحي لقوله تعالى في هذه السورة (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) ـ إلى قوله ـ (أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة : ١٧ ، ١٨] ـ وقوله ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا) [التوبة : ٢٨] الآية. وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صالح قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة بسبب دم كان لبني بكر عند خزاعة قبل البعثة بمدّة. واقتتلوا فكان ذلك نقضا للصلح. واستصرخت خزاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوعدهم بالنصر وتجهّز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفتح مكّة ثم حنين ثم الطائف ، وحجّ بالمسلمين تلك السنة سنة ثمان عتّاب بن أسيد ، ثم كانت غزوة تبوك في رجب سنة تسع فلمّا انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك أمّر أبا بكر الصديق على الحجّ وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأها على النّاس (١). ثم أردفه بعلي بن أبي طالب ليقرأ على الناس ذلك.

وقد يقع خلط في الأخبار بين قضية بعث أبي بكر الصديق ليحجّ بالمسلمين عوضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قضية بعث علي بن أبي طالب ليؤذّن في الناس بسورة براءة في تلك الحجّة اشتبه به الغرضان على من أراد أن يتلبّس وعلى بمن لبس عليه الأمر فأردنا إيقاظ البصائر لذلك. فهذا سبب نزولها ، وذكره أول أغراضها.

__________________

(١) من أول السورة حتى قوله : وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة : ٤٠].

٨

فافتتحت السورة بتحديد مدّة العهود التي بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين وما يتبع ذلك من حالة حرب وأمن وفي خلال مدة الحرب مدة تمكينهم من تلقّي دعوة الدين وسماع القرآن.

وأتبع بأحكام الوفاء والنكث وموالاتهم.

ومنع المشركين من دخول المسجد الحرام وحضور مناسك الحجّ.

وإبطال مناصب الجاهلية التي كانوا يعتزّون بأنّهم أهلها.

وإعلان حالة الحرب بين المسلمين وبينهم.

وإعلان الحرب على أهل الكتاب من العرب حتّى يعطوا الجزية ، وأنّهم ليسوا بعيدا من أهل الشرك وأن الجميع لا تنفعهم قوتهم ولا أموالهم.

وحرمة الأشهر الحرم.

وضبط السنة الشرعية وإبطال النسيء الذي كان عند الجاهلية.

وتحريض المسلمين على المبادرة بالإجابة إلى النفير للقتال في سبيل الله ، ونصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنّ الله ناصر نبيّه وناصر الذين ينصرونه ، وتذكيرهم بنصر الله رسوله يوم حنين ، وبنصره إذ أنجاه من كيد المشركين بما هيّأ له من الهجرة إلى المدينة.

والإشارة إلى التجهيز بغزوة تبوك.

وذم المنافقين المتثاقلين والمعتذرين والمستأذنين في التخلّف بلا عذر. وصفات أهل النفاق من جبن وبخل وحرص على أخذ الصدقات مع أنّهم ليسوا بمستحقّيها.

وذكر أذاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول. وأيمانهم الكاذبة وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف وكذبهم في عهودهم وسخريتهم بضعفاء المؤمنين.

والأمر بضرب الجزية على أهل الكتاب. ومذمّة ما أدخله الأحبار والرهبان في دينهم من العقائد الباطلة ، ومن التكالب على الأموال.

وأمر الله بجهاد الكفّار والمنافقين.

ونهي المؤمنين عن الاستعانة بهم في جهادهم والاستغفار لهم.

ونهي نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة على موتاهم.

٩

وضرب المثل بالأمم الماضية.

وذكر الذين اتّخذوا مسجد الضرار عن سوء نية ، وفضل مسجد قباء ومسجد الرسول بالمدينة.

وانتقل إلى وصف حالة الأعراب من محسنهم ومسيئهم ومهاجرهم ومتخلّفهم.

وقوبلت صفات أهل الكفر والنفاق بأضدادها صفات المسلمين ، وذكر ما أعدّ لهم من الخير.

وذكر في خلال ذلك فضل أبي بكر. وفضل المهاجرين والأنصار.

والتحريض على الصدقة والتوبة والعمل الصالح.

والجهاد وأنّه فرض على الكفاية. والتّذكير بنصر الله المؤمنين يوم حنين بعد يأسهم.

والتّنويه بغزوة تبوك وجيشها.

والذين تاب الله عليهم من المتخلّفين عنها.

والامتنان على المسلمين بأن أرسل فيهم رسولا منهم جبله على صفات فيها كلّ خير لهم.

وشرع الزكاة ومصارفها والأمر بالفقه في الدين ونشر دعوة الدين. أعلم أنّه قد ترك الصحابة الذين كتبوا المصحف كتابة البسملة قبل سورة براءة ، كما نبّهت عليه عند الكلام على سورة الفاتحة. فجعلوا سورة براءة عقب سورة الأنفال بدون بسملة بينهما ، وتردد العلماء في توجيه ذلك. وأوضح الأقوال ما رواه الترمذي والنسائي ، عن ابن عبّاس ، قال : قلت لعثمان : «ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطربسم الله الرحمن الرحيم. فقال عثمان : إنّ رسول الله كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : ضعوا هذه في السورة التي فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة ، وبراءة من آخر القرآن وكانت قصّتها شبيها بقصّتها وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبيّن لنا أنّها منها ، فظننت أنّها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطربسم الله الرحمن الرحمن الرحيم».

ونشأ من هذا قول آخر : وهو أنّ كتبة المصاحف في زمن عثمان اختلفوا في الأنفال. وبراءة ، هل هما سورة واحدة أو هما سورتان ، فتركوا فرجة فصلا بينهما مراعاة

١٠

لقول من عدّهما سورتين ، ولم يكتبوا البسملة بينهما مراعاة لقول من جعلهما سورة واحدة ، وروى أبو الشيخ ، عن ابن عباس ، عن علي بن أبي طالب : أنّهم إنّما تركوا البسملة في أولها ؛ لأنّ البسملة أمان وبشارة ، وسورة براءة نزلت بنبذ العهود والسيف ، فلذلك لم تبدأ بشعار الأمان ، وهذا إنّما يجري على قول من يجعلون البسملة آية من أول كلّ سورة عدا سورة براءة ، ففي هذا رعي لبلاغة مقام الخطاب كما أنّ الخاطب المغضب يبدأ خطبته «بأمّا بعد» دون استفتاح. وشأن العرب إذا كان بينهم عهد فأرادوا نقضه ، كتبوا إلى القوم الذين ينبذون إليهم بالعهد كتابا ولم يفتتحوه بكلمة «باسمك اللهم» فلمّا نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين بعث عليّا إلى الموسم فقرأ صدر براءة ولم يبسمل جريا على عادتهم في رسائل نقض العهود ، وقال ابن العربي في «الأحكام» : قال مالك فيما روى عنه ابن وهب ، وابن القاسم ، وابن عبد الحكم : إنّه لمّا سقط أوّلها ، أي سورة براءة سقطبسم الله الرحمن الرحيم معه. ويفسّر كلامه ما قاله ابن عطية : روي عن مالك أنّه قال : بلغنا أنّ سورة براءة كانت نحو سورة البقرة ثم نسخ ورفع كثير منها وفيه البسملة فلم يروا بعد أن يضعوه في غير موضعه. وما نسبه ابن عطية إلى مالك عزاه ابن العربي إلى ابن عجلان فلعلّ في «نسخة تفسير ابن عطية» نقصا.

والذي وقفنا عليه من كلام مالك في ترك البسملة من سورة الأنفال وسورة براءة : هو ما في سماع ابن القاسم في أوائل كتاب الجامع الأول من «العتبية» «قال مالك في أوّل براءة إنّما ترك من مضى أن يكتبوا في أوّل براءةبسم الله الرحمن الرحيم ، كأنّه رآه من وجه الاتّباع في ذلك ، كانت في آخر ما نزل من القرآن. وساق حديث ابن شهاب في سبب كتابة المصحف في زمن أبي بكر وكيف أخذ عثمان الصحف من حفصة أم المؤمنين وأرجعها إليها. قال ابن رشد في «البيان والتحصيل» «ما تأوّله مالك من أنّه إنّما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءةبسم الله الرحمن الرحيم من وجه الاتّباع ، والمعنى فيه والله أعلم أنّه إنّما ترك عثمان بن عفّان ومن كان بحضرته من الصحابة المجتمعين على جمع القرآن البسملة بين سورة الأنفال وبراءة ، وإن كانتا سورتين بدليل أنّ براءة كانت آخر ما أنزل الله من القرآن ، وأنّ الأنفال أنزلت في بدر سنة أربع ، اتّباعا لما وجدوه في الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر وكانت عند حفصة». ولم يذكر ابن رشد عن مالك قولا غير هذا.

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١))

١١

افتتحت السورة كما تفتتح العهود وصكوك العقود بأدلّ كلمة على الغرض الذي يراد منها كما في قولهم : هذا ما عهد به فلان ، وهذا ما اصطلح عليه فلان وفلان ، وقول الموثّقين : باع أو وكّل أو تزوّج ، وذلك هو مقتضى الحال في إنشاء الرسائل والمواثيق ونحوها.

وتنكير (بَراءَةٌ) تنكير التنويع ، وموقع (بَراءَةٌ) مبتدأ ، وسوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التنويع للإشارة إلى أنّ هذا النوع كاف في فهم المقصود كما تقدّم في قوله تعالى : (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١ ، ٢].

والمجروران في قوله : (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) في موضع الخبر ، لأنّه المقصود من الفائدة أي : البراءة صدرت من الله ورسوله.

و (مِنَ) ابتدائية ، و (إِلَى) للانتهاء لما أفاده حرف (مِنَ) من معنى الابتداء.

والمعنى أنّ هذه براءة أصدرها الله بواسطة رسوله إبلاغا إلى الذين عاهدتم من المشركين.

والبراءة الخروج والتفصّي مما يتعب ورفع التبعة. ولما كان العهد يوجب على المتعاهدين العمل بما تعاهدوا عليه ويعد الإخلاف بشيء منه غدرا على المخلف ، كان الإعلان بفسخ العهد براءة من التبعات التي كانت بحيث تنشأ عن إخلاف العهد ، فلذلك كان لفظ (بَراءَةٌ) هنا مفيدا معنى فسخ العهد ونبذه ليأخذ المعاهدون حذرهم. وقد كان العرب ينبذون العهد ويردّون الجوار إذا شاءوا تنهية الالتزام بهما ، كما فعل ابن الدّغنّة في ردّ جوار أبي بكر عن قريش ، وما فعل عثمان بن مظعون في ردّ جوار الوليد بن المغيرة إيّاه قائلا : «رضيت بجوار ربّي ولا أريد أن أستجير غيره». وقال تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) [الأنفال : ٥٨] أي : ولا تخنهم لظنّك أنّهم يخونونك فإذا ظننته فافسخ عهدك معهم.

ولمّا كان الجانب ، الذي ابتدأ بإبطال العهد وتنهيته ، هو جانب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإذن من الله ، جعلت هذه البراءة صادرة من الله ، لأنّه الآذن بها ، ومن رسوله ، لأنّه المباشر لها. وجعل ذلك منهّى إلى المعاهدين من المشركين ، لأنّ المقصود إبلاغ ذلك الفسخ إليهم وإيصاله ليكونوا على بصيرة فلا يكون ذلك الفسخ غدرا.

والخطاب في قوله : (عاهَدْتُمْ) للمؤمنين. فهذه البراءة مأمورون بإنفاذها.

واعلم أنّ العهد بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين المشركين كان قد انعقد على صور مختلفة ،

١٢

فكان بينه وبين أهل مكة ومن ظاهرهم عهد الحديبية : أن لا يصدّ أحد عن البيت إذا جاء ، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام ، وقد كان معظم قبائل العرب داخلا في عقد قريش الواقع في الحديبية ؛ لأنّ قريشا كانوا يومئذ زعماء جميع العرب ، ولذلك كان من شروط الصلح يومئذ : أنّ من أحبّ أن يدخل في عهد محمد دخل فيه ، ومن أحبّ أن يدخل في عهد قريش دخل فيه ، وكان من شروط الصلح وضع الحرب عن الناس سنين يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض ، فالذين عاهدوا المسلمين من المشركين معروفون عند الناس يوم نزول الآية. وهذا العهد ، وإن كان لفائدة المسلمين على المشركين ، فقد كان عديله لازما لفائدة المشركين على المسلمين ، حين صار البيت بيد المسلمين بعد فتح مكّة ، فزال ما زال منه بعد فتح مكّة وإسلام قريش وبعض أحلافهم.

وكان بين المسلمين وبعض قبائل المشركين عهود ؛ كما أشارت إليه سورة النساء [٩٠] في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) الآية ، وكما أشارت إليه هذه السورة [٤] في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) الآية.

وبعض هذه العهود كان لغير أجل معيّن ، وبعضها كان لأجل قد انقضى ، وبعضها لم ينقض أجله. فقد كان صلح الحديبية مؤجّلا إلى عشر سنين في بعض الأقوال وقيل : إلى أربع سنين ، وقيل : إلى سنتين. وقد كان عهد الحديبية في ذي القعدة سنة ستّ ، فيكون قد انقضت مدّته على بعض الأقوال ، ولم تنقض على بعضها ، حين نزول هذه الآية. وكانوا يحسبون أنّه على حكم الاستمرار ، وكان بعض تلك العهود مؤجلا إلى أجل لم يتمّ ، ولكن المشركين خفروا بالعهد في ممالاة بعض المشركين غير المعاهدين ، وفي إلحاق الأذى بالمسلمين ، فقد ذكر أنّه لمّا وقعت غزوة تبوك أرجف المنافقون أنّ المسلمين غلبوا فنقض كثير من المشركين العهد ، وممّن نقض العهد بعض خزاعة ، وبنو مدلج ، وبنو خزيمة أو جذيمة ، كما دلّ عليه قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) [التوبة : ٤] فأعلن الله لهؤلاء هذه البراءة ليأخذوا حذرهم ، وفي ذلك تضييق عليهم إن داموا على الشرك ، لأنّ الأرض صارت لأهل الإسلام كما دلّ عليه قوله تعالى بعد : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) [التوبة : ٣].

وإنّما جعلت البراءة شأنا من شئون الله ورسوله ، وأسند العهد إلى ضمير المسلمين : للإشارة إلى أنّ العهود التي عقدها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لازمة للمسلمين وهي بمنزلة ما عقدوه

١٣

بأنفسهم ، لأنّ عهود النبي عليه الصلاة والسلام إنّما كانت لمصلحة المسلمين ، في وقت عدم استجماع قوتهم ، وأزمان كانت بقية قوة للمشركين ، وإلّا فإنّ أهل الشرك ما كانوا يستحقّون من الله ورسوله توسعة ولا عهدا لأنّ مصلحة الدين تكون أقوم إذا شدّد المسلمون على أعدائه ، فالآن لمّا كانت مصلحة الدين متمحّضة في نبذ العهد الذي عاهده المسلمون المشركين أذن الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبراءة من ذلك العهد ، فلا تبعة على المسلمين في نبذه ، وإن كان العهد قد عقده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعلموا أنّ ذلك توسعة على المسلمين ، على نحو ما جزى من المحاورة بين عمر بن الخطاب وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم صلح الحديبية ، وعلى نحو ما قال الله تعالى في ثبات الواحد من المسلمين لاثنين من المشركين ، على أنّ في الكلام احتباكا ، لما هو معروف من أنّ المسلمين لا يعملون عملا إلّا عن أمر من الله ورسوله ، فصار الكلام في قوّة براءة من الله ورسوله ومنكم ، إلى الذين عاهد الله ورسوله وعاهدتم. فالقبائل التي كان لها عهد مع المسلمين حين نزول هذه السورة قد جمعها كلّها الموصول في قوله : (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ). فالتعريف بالموصولية هنا ، لأنّها أخصر طريق للتعبير عن المقصود ، مع الإشارة إلى أنّ هذه البراءة براءة من العهد ، ثم بيّن بعضها بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) [التوبة : ٤] الآية.

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢))

(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ).

الفاء للتفريع على معنى البراءة ، لأنّها لمّا أمر الله بالأذان بها كانت إعلاما للمشركين ، الذين هم المقصود من نقض العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين ، فضمير الخطاب في فعل الأمر معلوم منه أنّهم الموجه إليهم الكلام وذلك التفات. فالتقدير : فليسيحوا في الأرض ونكتة هذا الالتفات إبلاغ الإنذار إليهم مباشرة.

ويجوز تقدير قول محذوف مفرّع على البراءة من عهودهم ، أي فقل لهم : سيحوا في الأرض أربعة أشهر.

والسياحة حقيقتها السير في الأرض. ولمّا كان الأمر بهذا السير مفرّعا على البراءة من العهد ، ومقرّرا لحرمة الأشهر الحرام ، علم أنّ المراد السير بأمن دون خوف في أي مكان من الأرض ، وليس هو سيرهم في أرض قومهم ، دلّ على ذلك إطلاق السياحة

١٤

وإطلاق الأرض ، فكان المعنى : فسيحوا آمنين حيثما شئتم من الأرض.

وهذا تأجيل خاصّ بعد البراءة كان ابتداؤه من شوال وقت نزول براءة ، ونهايته نهاية محرّم في آخر الأشهر الحرم المتوالية ، وهي : ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم. وهذا قول الجمهور قال ابن إسحاق : وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذّن فيهم ليرجع كلّ قوم إلى مأمنهم وقال بعضهم : هي أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجّة وتنتهي في عاشر ربيع الآخر ، فيكون قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) [التوبة : ٥] (أي من ذلك العام) تنهية لذلك الأجل روعي فيها المدّة الكافية لرجوع الناس إلى بلادهم ، وذلك نهاية المحرّم.

وقيل : الأشهر الأربعة هي المعروفة عندهم في جميع قبائل العرب وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب ، أي فلم يبق للمشركين أمن إلّا في الأشهر الحرم وعلى هذا فليس في الآية تأجيل خاصّ لتأمينهم ، ولكنّه التأمين المقرّر للأشهر الحرم فيكون المعنى : البراءة من العهد الذي بينهم فيما زاد على الأمن المقرّر للأشهر الحرم. وحكى السهيلي في «الروض الأنف» أنّه قيل إنّه أراد بانسلاخ الأشهر الحرم ذا الحجّة والمحرم من ذلك العام ، وأنّه جعل ذلك أجلا لمن لا عهد له من المشركين ومن كان له عهد جعل له عهد جعل له أربعة أشهر أولها يوم النحر من ذلك العام.

وفي هذا الأمر إيذان بفرض القتال في غير الأشهر الحرم ، وبأنّ ما دون تلك الأشهر حرب بين المسلمين والمشركين ، وسيقع التصريح بذلك.

(وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ).

عطف على (فَسِيحُوا) داخل في حكم التفريع ، لأنّه لمّا أنبأهم بالأمان في أربعة الأشهر عقبه بالتخويف من بأس الله احتراسا من تطرّق الغرور ، وتهديدا بأنّ لا يطمئنوا من أن يسلّط الله المسلمين عليهم في غير الأشهر الحرم ، وإن قبعوا في ديارهم.

وافتتاح الكلام ب (وَاعْلَمُوا) للتنبيه على أنّه ممّا يحقّ وعيه ، والتدبر فيه ، كقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) في سورة الأنفال [٢٤] ، وقد تقدّم التنبيه عليه.

والمعجز اسم فاعل ، من أعجز فلانا إذا جعله عاجزا عن عمل ما ، فلذلك كان بمعنى الغالب والفائت ، الخارج عن قدرة أحد ، فالمعنى : أنّكم غير خارجين عن قدرة الله ، ولكنّه أمّنكم وإذا شاء أوقعكم في الخوف والبأس.

وعطف قوله : (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) على قوله : (أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ)

١٥

فهو داخل في عمل (وَاعْلَمُوا) فمقصود منه وعيه والعلم به كما تقدم آنفا.

وكان ذكر (الْكافِرِينَ) إخراجا على خلاف مقتضى الظاهر : لأنّ مقتضى الظاهر أن يقول : وإنّ الله مخزيكم ، ووجه تخريجه على الإظهار الدلالة على سببية الكفر في الخزي.

والإخزاء : الإذلال. والخزي ـ بكسر الخاء ـ الذلّ والهوان ، أي مقدّر للكافرين الإذلال : بالقتل ، والأسر ، وعذاب الآخرة ، ما داموا متلبّسين بوصف الكفر.

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣))

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ).

عطف على جملة (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ١] وموقع لفظ (أَذانٌ) كموقع لفظ (بَراءَةٌ) [التوبة : ١] في التقدير ، وهذا إعلام للمشركين الذين لهم عهد بأنّ عهدهم انتقض.

والأذان اسم مصدر آذنه ، إذا أعلمه بإعلان ، مثل العطاء بمعنى الإعطاء ، والأمان بمعنى الإيمان ، فهو بمعنى الإيذان.

وإضافة الأذان إلى الله ورسوله دون المسلمين ، لأنّه تشريع وحكم في مصالح الأمّة ، فلا يكون إلّا من الله على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا أمر للمسلمين بأن يأذنوا المشركين بهذه البراءة ، لئلا يكونوا غادرين ، كما قال تعالى : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) [الأنفال : ٥٨]. والمراد بالناس جميع الناس من مؤمنين ومشركين لأن العلم بهذا النداء يهمّ الناس كلّهم.

ويوم الحجّ الأكبر : قيل هو يوم عرفة ، لأنّه يوم مجتمع الناس في صعيد واحد ، وهذا يروى عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس ، وطاوس ، ومجاهد ، وابن سيرين. وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وفي الحديث : «الحج عرفة».

وقيل : هو يوم النحر ، لأنّ الناس كانوا في يوم موقف عرفة مفترقين إذ كانت الحمس يقفون بالمزدلفة ، ويقف بقية الناس بعرفة ، وكانوا جميعا يحضرون منى يوم النحر ، فكان ذلك الاجتماع الأكبر ، ونسب ابن عطية هذا التعليل إلى منذر بن سعيد ، وهذا قول علي ، وابن عمر ، وابن مسعود ، والمغيرة بن شعبة ، وابن عباس أيضا ، وابن أبي أوفى ،

١٦

والزهري ، ورواه ابن وهب عن مالك ، قال مالك : لا نشك أن يوم الحج الأكبر يوم النحر لأنّه اليوم الذي ترمى فيه الجمرة ، وينحر فيه الهدي ، وينقضي فيه الحج ، من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل الفجر أدرك الحج.

وأقول : إن يوم عرفة يوم شغل بعبادة من وقوف بالموقف ومن سماع الخطبة. فأما يوم منى فيوم عيدهم.

و (الْأَكْبَرِ) بالجرّ نعت للحجّ ، باعتبار تجزئته إلى أعمال ، فوصف الأعظم من تلك الأعمال بالأكبر ، ويظهر من اختلافهم في المراد من الحجّ الأكبر أنّ هذا اللفظ لم يكن معروفا قبل نزول هذه الآية فمن ثم اختلف السلف في المراد منه.

وهذا الكلام إنشاء لهذا الأذان ، موقّتا بيوم الحجّ الأكبر ، فيؤوّل إلى معنى الأمر ، إذ المعنى آذنوا الناس يوم الحجّ الأكبر بأنّ الله ورسوله بريئان من المشركين.

والمراد ب (النَّاسِ) جميع الناس الذين ضمّهم الموسم ، ومن يبلغه ذلك منهم : مؤمنهم ومشركهم ، لأنّ هذا الأذان ممّا يجب أن يعلمه المسلم والمشرك ، إذ كان حكمه يلزم الفريقين.

وقوله : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يتعلّق ب (أَذانٌ) بحذف حرف الجرّ ـ وهو باء التعدية ـ أي إعلام بهذه البراءة المتقدّمة في قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ١] فإعادتها هنا لأنّ هذا الإعلام للمشركين المعاهدين وغيرهم ، تقريرا لعدم غدر المسلمين ، والآية المتقدّمة إعلام للمسلمين.

وجاء التصريح بفعل البراءة مرّة ثانية دون إضمار ولا اختصار بأن يقال : وأذان إلى الناس بذلك ، أو بها ، أو بالبراءة ، لأنّ المقام مقام بيان وإطناب لأجل اختلاف أفهام السامعين فيما يسمعونه ، ففيهم الذّكي والغبي ، ففي الإطناب والإيضاح قطع لمعاذيرهم واستقصاء في الإبلاغ لهم.

وعطف (وَرَسُولِهِ) بالرفع ، عند القرّاء كلّهم : لأنّه من عطف الجملة ، لأنّ السامع يعلم من الرفع أنّ تقديره : ورسوله بريء من المشركين ، ففي هذا الرفع معنى بليغ من الإيضاح للمعنى مع الإيجاز في اللفظ ، وهذه نكتة قرآنيّة بليغة ، وقد اهتدى بها ضابئ بن الحارث في قوله :

ومن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب

١٧

برفع (قيار) لأنّه أراد أن يجعل غربة جمله المسمّى «قيارا» غربة أخرى غير تابعة لغربته.

وممّا يجب التنبيه له : ما في بعض التفاسير أنّه روى عن الحسن قراءة (وَرَسُولِهِ) ـ بالجرّ ـ ولم يصحّ نسبتها إلى الحسن ، وكيف يتصور جرّ (وَرَسُولِهِ) ولا عامل بمقتضي جرّه ، ولكنّها ذات قصة طريفة : أنّ أعرابيا سمع رجلا قرأ (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) ـ بجرّ ورسوله ـ فقال الأعرابي : إن كان الله بريئا من رسوله فأنا منه بريء. وإنّما أراد التورّك على القارئ ، فلبّبه الرجل إلى عمر ، فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعلّم العربية ، وروي ـ أيضا ـ أنّ أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر إلى علي. فكان ذلك سبب وضع النحو ، وقد ذكرت هذه القصة في بعض كتب النحو في ذكر سبب وضع علم النحو.

وهذا الأذان قد وقع في الحجّة التي حجّها أبو بكر بالناس ، إذ ألحق رسول الله عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر ، موافيا الموسم ليؤذّن ببراءة ، فأذن بها علي يوم النحر بمنى ، من أولها إلى ثلاثين أو أربعين آية (١) منها ، كذا ثبت في الصحيح والسنن بطرق مختلفة يزيد بعضها على بعض. ولعلّ قوله : «أو أربعين آية» شكّ من الراوي ، فما

ورد في رواية النسائي ، أي عن جابر : أنّ عليا قرأ على الناس براءة حتّى ختمها ، فلعلّ معناه حتّى ختم ما نزل منها ممّا يتعلّق بالبراءة من المشركين ، لأنّ سورة براءة لم يتم نزولها يومئذ ، فقد ثبت أنّ آخر آية نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي آخر آية من سورة براءة.

وإنّما ألحق النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر الصديق ، لأنّه قيل لرسول الله إنّ العرب لا يرون أن ينقض أحد عهده مع من عاهده إلّا بنسفه أو برسول من ذي قرابة نسبه ، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يترك للمشركين عذرا في علمهم بنبذ العهد الذي بينه وبينهم.

وروي : أنّ عليا بعث أبا هريرة يطوف في منازل قبائل العرب من منى ، يصيح بآيات براءة حتى صحل صوته. وكان المشركون إذا سمعوا ذلك يقولون لعلي «سترون بعد الأربعة الأشهر فإنّه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلّا الطعن والضرب».

__________________

(١) تنتهي الثلاثون آية عند قوله تعالى : قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وتنتهي الأربعون آية عند قوله تعالى : وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة : ٤٠].

١٨

(فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

التفريع على جملة : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، فيتفرّع على ذلك حالتان : حالة التوبة ، وحالة التولي.

والخطاب للمشركين الذين أوذنوا بالبراءة ، والمعنى : فإن آمنتم فالإيمان خير لكم من العهد الذي كنتم عليه ، لأنّ الإيمان فيه النجاة في الدنيا والآخرة ، والعهد فيه نجاة الدنيا لا غير. والمراد بالتولي : الإعراض عن الإيمان. وأريد بفعل (تَوَلَّيْتُمْ) معنى الاستمرار ، أي : إن دمتم على الشرك فاعلموا أنكم غير مفلتين من قدرة الله ، أي اعلموا أنّكم قد وقعتم في مكنة الله ، وأوشكتم على العذاب.

وجملة : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) معطوفة على جملة : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) لما تتضمّنه تلك الجملة من معنى الأمر ، فكأنّه قيل : فآذنوا الناس ببراءة الله ورسوله من المشركين ، وبأنّ من تاب منهم فقد نجا ومن أعرض فقد أوشك على العذاب ، ثم قال : وبشر المعرضين المشركين بعذاب أليم.

و (البشارة) أصلها الإخبار بما فيه مسرّة ، وقد استعيرت هنا للإنذار ، وهو الإخبار بما يسوء ، على طريقة التهكّم ، كما تقدّم في قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) في سورة آل عمران [٢١].

والعذاب الأليم : هو عذاب القتل ، والأسر ، والسبي ، وفيء الأموال ، كما قال تعالى : (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) [التوبة : ٢٦] فإنّ تعذيبهم يوم حنين بعضه بالقتل ، وبعضه بالأسر والسبي وغنم الأموال ، أي : أنذر المشركين بأنّك مقاتلهم وغالبهم بعد انقضاء الأشهر الحرم ، كما يدلّ عليه قوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] الآية.

(إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))

استثناء من المشركين في قوله : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ٣] ، ومن (الَّذِينَ كَفَرُوا) في قوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [التوبة : ٣] لأنّ شأن الاستثناء

١٩

إذا ورد عقب جمل أن يرجع إلى ما تحتويه جميعها ممّا يصلح لذلك الاستثناء ، فهو استثناء لهؤلاء : من حكم نقض العهد ، ومن حكم الإنذار بالقتال ، المترتّب على النقض ، فهذا الفريق من المشركين باقون على حرمة عهدهم وعلى السلم معهم.

والموصول هنا يعمّ كلّ من تحقّقت فيه الصلة ، وقد بين مدلول الاستثناء قوله : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ).

وحرف (ثم) في قوله : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) للتراخي الرتبي ، لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء ممّا عاهدوا عليه أهمّ من الوفاء بالأمور العظيمة ممّا عاهدوا عليه ، لأنّ عدم الإخلال بأقلّ شيء نادر الحصول.

والنقص لشيء إزالة بعضه ، والمراد : أنّهم لم يفرّطوا في شيء ممّا عاهدوا عليه. وفي هذا العطف إيذان بالتنويه بهذا الانتفاء لأنّ (ثمّ) إذا عطفت الجمل أفادت معنى التراخي في الرتبة ، أي بعد مرتبة المعطوف من مرتبة المعطوف عليه ، بعد كمال وارتفاع شأن. فإنّ من كمال العهد الحفاظ على الوفاء به.

وهؤلاء هم الذين احتفظوا بعهدهم مع المسلمين ، ووفّوا به على أتمّ وجه ، فلم يكيدوا المسلمين بكيد ، ولا ظاهروا عليهم عدّوا سرّا ، فهؤلاء أمر المسلمون أن لا ينقضوا عهدهم إلى المدّة التي عوهدوا عليها. ومن هؤلاء : بنو ضمرة ، وحيّان من بني كنانة : هم بنو جذيمة ، وبنو الدّيل. ولا شكّ أنّهم ممّن دخلوا في عهد الحديبية.

وقد علم من هذا : أنّ الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم هم ضدّ أولئك ، وهم قوم نقصوا ممّا عاهدوا عليه ، أي كادوا ، وغدروا سرّا ، أو ظاهروا العدوّ بالمدد والجوسسة.

ومن هؤلاء : قريظة أمدّوا المشركين غير مرّة ، وبنو بكر ، عدوا على خزاعة أحلاف المسلمين كما تقدّم فعبّر عن فعلهم ذلك بالنقص لأنّهم لم ينقضوا العهد علنا ، ولا أبطلوه ، ولكنهم أخلّوا به ، ممّا استطاعوا أن يكيدوا ويمكروا ، ولأنّهم نقضوا بعض ما عاهدوا عليه.

وذكر كلمة (شَيْئاً) للمبالغة في نفي الانتقاص ، لأنّ كلمة «شيء» نكرة عامّة ، فإذا وقعت في سياق النفي أفادت انتفاء كلّ ما يصدق عليه أنّه موجود ، كما تقدّم في قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) في سورة البقرة [١١٣].

والمظاهرة : المعاونة ، يجوز أن يكون فعلها مشتقّا من الاسم الجامد وهو الظهر ،

٢٠