تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

ومؤاساة ، والمؤاساة في مرتبة التحسيني ، فلا تبلغ مبلغ الوجوب ، ولأنها مال بذل في غير عوض ، فيرجع إلى التبرعات ، والتبرعات مندوبة لا واجبة ، وقرينة ذلك قوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) فإن فيه إيماء إلى أن ذلك من الإحسان لا من الحقوق ، على أنه قد نفى الله الجناح عن المطلق ثم أثبت المتعة ، فلو كانت المتعة واجبة لانتقض نفي الجناح ، إلا أن يقال : إن الجناح نفي لأن المهر شيء معين ، قد يجحف بالمطلق بخلاف المتعة ، فإنها على حسب وسعه ولذلك نفى مالك ندب المتعة للتي طلقت قبل البناء وقد سمّى لها مهرا ، قال : فحسبها ما فرض لها أي لأن الله قصرها على ذلك ، رفقا بالمطلق ، أي فلا تندب لها ندب خاصا ، بأمر القرآن. وقد قال مالك : بأن المطلقة المدخول بها يستحب تمتيعها ، أي بقاعدة الإحسان الأعم ولما مضى من عمل السلف.

وقوله : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) الموسع من أوسع إذا صار ذا سعة ، والمقتر من أقتر إذا صار ذا قتر وهو ضيق العيش ، والقدر ـ بسكون الدال وبفتحها ـ ما به تعيين ذات الشيء أو حاله ، فيطلق على ما يساوي الشيء من الأجرام ، ويطلق على ما يساويه في القيمة ، والمراد به هنا الحال التي يقدر بها المرء في مراتب الناس في الثروة ، وهو الطبقة من القوم ، والطاقة من المال ، وقرأه الجمهور بسكون الدال ، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر بفتح الدال.

وقوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) مبتدأ محذوف الخبر إيجازا لظهور المعنى ، أي فنصف ما فرضتم لهن بدليل قوله : (وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَ) لا يحسن فيها إلا هذا الوجه. والاقتصار على قوله : (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) يدل على أنها حينئذ لا متعة لها.

وقوله : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) استثناء من عموم الأحوال أي إلا في حالة عفوهن أي النساء بأن يسقطن هذا النصف ، وتسمية هذا الإسقاط عفوا ظاهرة ، لأن نصف المهر حق وجب على المطلق للمطلقة قبل البناء بما استخف بها ، أو بما أوحشها ، فهو حق وجب لغرم ضر ، فإسقاطه عفو لا محالة ، أو عند عفو الذي بيده عقدة النكاح.

وأل في النكاح للجنس ، وهو متبادر في عقد نكاح المرأة لا في قبول الزوج ، وإن كان كلاهما سمي عقدا ، فهو غير النساء لا محالة لقوله : (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) فهو ذكر ، وهو غير المطلق أيضا ، لأنه لو كان المطلق ، لقال : أو تعفو بالخطاب ، لأن قبله (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَ) ولا داعي إلى خلاف مقتضى الظاهر.

٤٤١

وقيل : جيء بالموصول تحريضا على عفو المطلق ، لأنه كانت بيده عقدة النكاح فأفاتها بالطلاق ، فكان جديرا بأن يعفو عن إمساك النصف ، ويترك لها جميع صداقها ، وهو مردود بأنه لو أريد هذا المعنى ، لقال أو يعفو الذي كان بيده عقدة النكاح ، فتعين أن يكون أريد به ولي المرأة لأن بيده عقدة نكاحها ؛ إذ لا ينعقد نكاحها إلا به ، فإن كان المراد به الولي المجبر وهو الأب في ابنته البكر ، والسيد في أمته ، فكونه بيده عقدة النكاح ظاهر ، إلا أنه جعل ذلك من صفته باعتبار ما كان ، إذ لا يحتمل غير ذلك ، وإن كان المراد مطلق الولي ، فكونه بيده عقدة النكاح ، من حيث توقف عقد المرأة على حضوره ، وكان شأنهم أن يخطبوا الأولياء في ولاياهم فالعفو في الموضعين حقيقة ، والاتصاف بالصلة مجاز ، وهذا قول مالك ؛ إذ جعل في «الموطأ» : الذي بيده عقدة النكاح هو الأب في ابنته البكر والسيد في أمته ، وهو قول الشافعي في القديم ، فتكون الآية ذكرت عفو الرشيدة والمولّى عليها ، ونسب ما يقرب من هذا القول إلى جماعة من السلف ، منهم ابن عباس وعلقمة والحسن وقتادة ، وقيل : الذي بيده عقدة النكاح هو المطلق لأن بيده عقد نفسه وهو القبول ، ونسب هذا إلى علي وشريح وطاوس ومجاهد ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد ، ومعنى (بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) أن بيده التصرف فيها بالإبقاء ، والفسخ بالطلاق ، ومعنى عفوه : تكميله الصداق ، أي إعطاؤه كاملا.

وهذا قول بعيد من وجهين : أحدهما أن فعل المطلق حينئذ لا يسمى عفوا بل تكميلا وسماحة ؛ لأن معناه أن يدفع الصداق كاملا ، قال في «الكشاف» : «وتسمية الزيادة على الحق عفوا فيه نظر» إلا أن يقال : كان الغالب عليهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج ، فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف الصداق ، فإذا ترك ذلك فقد عفا ، أو سماه عفوا على طريق المشاكلة.

الثاني أن دفع المطلق المهر كاملا للمطلقة إحسان لا يحتاج إلى تشريع مخصوص ، بخلاف عفو المرأة أو وليها ، فقد يظن أحد أن المهر لما كان ركنا من العقد لا يصح إسقاط شيء منه.

وقوله : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) تذييل أي العفو من حيث هو ، ولذلك حذف المفعول ، والخطاب لجميع الأمة ، وجيء بجمع المذكر للتغليب ، وليس خطابا للمطلقين ، وإلا لما شمل عفو النساء مع أنه كله مرغوب فيه ، ومن الناس من استظهر بهذه الآية على أن المراد بالذي بيده عقدة النكاح المطلق ، لأنه عبر عنه بعد بقوله : (وَأَنْ تَعْفُوا) وهو

٤٤٢

ظاهر في المذكر ، وقد غفل عن مواقع التذييل في آي القرآن كقوله : (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء : ١٢٨].

ومعنى كون العفو أقرب للتقوى : أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق ؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته ، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته ، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد ، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع ، والوازع شرعي وطبيعي ، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة ، فتكون التقوى أقرب إليه ، لكثرة أسبابها فيه.

وقوله : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) تذييل ثان ، معطوف على التذييل الذي قبله ، لزيادة الترغيب في العفو بما فيه من التفضل الدنيوي ، وفي الطباع السليمة حب الفضل. فأمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل ولا ينسوه ؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه ، فيضمحل منهم ، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى ، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب ، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة.

والنسيان هنا مستعار للإهمال وقلة الاعتناء كما في قوله تعالى : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) [السجدة : ١٤] وهو كثير في القرآن ، وفي كلمة (بَيْنَكُمْ) ، إشارة إلى هذا العفو ، إذا لم ينس تعامل الناس به بعضهم مع بعض.

وقوله : (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تعليل للترغيب في عدم إهمال الفضل وتعريض بأن في العفو مرضاة الله تعالى ، فهو يرى ذلك منا فيجازي عليه ، ونظيره قوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [السطور : ٤٨].

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨))

الانتقال من غرض إلى غرض في آي القرآن لا تلزم له قوة ارتباط ، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض ، ولكنه كتاب تذكير وموعظة فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدى الأمة وتشريعها وموعظتها وتعليمها ، فقد يجمع به الشيء للشيء من غير لزوم ارتباط وتفرع مناسبة ، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني عقب الغرض الأول ، أو تكون الآية مأمورا بإلحاقها بموضع معين من

٤٤٣

إحدى سور القرآن كما تقدم في المقدمة الثامنة ، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني ، أو في انسجام نظم الكلام ، فلعل آية (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) نزلت عقب آيات تشريع العدة والطلاق لسبب اقتضى ذلك من غفلة عن الصلاة الوسطى ، أو استشعار مشقة في المحافظة عليها ، فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد.

وإذا أبيت ألّا تطلب الارتباط فالظاهر أنه لما طال تبيان أحكام كثيرة متوالية : ابتداء من قوله : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٢١٥] ، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذيلت به الآية السابقة وهو قوله : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) [البقرة : ٢٣٧] فإن الله دعانا إلى خلق حميد ، وهو العفو عن الحقوق ، ولما كان ذلك الخلق قد يعسر على النفس ، لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم ، من مال وغيره كالانتقام من الظالم ، وكان في طباع الأنفس الشح ، علمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين ، أحدهما دنيوي عقلي ، وهو قوله : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) ، المذكر بأن العفو يقرب إليك البعيد ، ويصير العدو صديقا وأنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنبا فيعفى عنك ، إذا تعارف الناس الفضل بينهم ، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق.

الدواء الثاني أخروي روحاني : وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فلما كانت معينة على التقوى ومكارم الأخلاق ، حث الله على المحافظة عليها.

ولك أن تقول : لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين ، عقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية ، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر ، قال البيضاوي : «أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج ، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها».

وقال بعضهم : «لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله» وهو في الجملة مع الإشارة إلى أن في العناية بالصلوات أداء حق الشكر لله تعالى على ما وجه إلينا من عنايته بأمورنا التي بها قوام نظامنا وقد أومأ إلى ذلك قوله في آخر الآية (كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٣٩] أي من قوانين المعاملات النظامية.

وعلى هذين الوجهين الآخرين تكون جملة (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) معترضة وموقعها ومعناها مثل موقع قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) [البقرة : ٤٥] بين جملة (يا

٤٤٤

بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) [البقرة : ٤٠]. وبين جملة (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٢٢] وكموقع جملة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ١٥٣] بين جملة (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) [البقرة : ١٥٠] الآية وبين جملة: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) [البقرة : ١٥٤] الآية.

و (حافِظُوا) صيغة مفاعلة استعملت هنا للمبالغة على غير حقيقتها ، والمحافظة عليها هي المحافظة على أوقاتها من أن تؤخر عنها والمحافظة تؤذن بأن المتعلق بها حق عظيم يخشى التفريط فيه. والمراد : الصلوات المفروضة. «وأل» في الصلوات للعهد ، وهي الصلوات الخمس المتكررة ؛ لأنها التي تطلب المحافظة عليها.

(وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) لا شك أنها صلاة من جملة الصلوات المفروضة لأن الأمر بالمحافظة عليها يدل على أنها من الفرائض ، وقد ذكرها الله تعالى في هذه الآية معرفة بلام التعريف وموصوفة بأنها وسطى ، فسمعها المسلمون وقرءوها ، فإما عرفوا المقصود منها في حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم طرأ عليهم الاحتمال بعده فاختلفوا ، وإما شغلتهم العناية بالسؤال عن مهمات الدين في حياة الرسول عن السؤال عن تعيينها لأنهم كانوا عازمين على المحافظة على الجميع ، فلما تذاكروها بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلفوا في ذلك فنبع من ذلك خلاف شديد أنهيت الأقوال فيه إلى نيف وعشرين قولا ، بالتفريق والجمع ، وقد سلكوا للكشف عنها مسالك ؛ مرجعها إلى أخذ ذلك من الوصف بالوسطى ، أو من الوصاية بالمحافظة عليها.

فأما الذين تعلقوا بالاستدلال بوصف الوسطى : فمنهم من حاول جعل الوصف من الوسط بمعنى الخيار والفضل ، فرجع إلى تتبع ما ورد في تفضيل بعض الصلوات على بعض ، مثل قوله تعالى : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨] وحديث عائشة : «أفضل الصلوات عند الله صلاة المغرب».

ومنهم من حاول جعل الوصف من الوسط : وهو الواقع بين جانبين متساويين من العدد فذهب يتطلب الصلاة التي هي بين صلاتين من كل جانب ، ولما كانت كل واحدة من الصلوات الخمس صالحة لأن تعتبر واقعة بين صلاتين ، لأن ابتداء الأوقات اعتباري ، ذهبوا يعينون المبدأ فمنهم من جعل المبدأ ابتداء النهار ، فجعل مبدأ الصلوات الخمس صلاة الصبح فقضى بأن الوسطى العصر ، ومنهم من جعل المبدأ الظهر ، لأنها أول صلاة

٤٤٥

فرضت ؛ كما في حديث جبريل في «الموطأ» ، فجعل الوسطى : المغرب.

وأما الذين تعلقوا بدليل الوصاية على المحافظة ، فذهبوا يتطلبون أشق صلاة على الناس تكثر المثبطات عنها ، فقال قوم : هي الظهر لأنها أشق صلاة عليهم بالمدينة ، كانوا أهل شغل ، وكانت تأتيهم الظهر وهم قد أتعبتهم أعمالهم ، وربما كانوا في إكمال أعمالهم ، وقال قوم : هي العشاء ؛ لما ورد أنها أثقل صلاة على المنافقين ، وقال بعضهم : هي العصر لأنها وقت شغل وعمل ؛ وقال قوم : هي الصبح لأنها وقت نوم في الصيف ، ووقت تطلب الدفء في الشتاء.

وأصح ما في هذا الخلاف : ما جاء من جهة الأثر وذلك قولان :

أحدهما أنها الصبح ، هذا قول جمهور فقهاء المدينة وهو قول عمر وابنه عبد الله وعلي وابن عباس وعائشة وحفصة وجابر بن عبد الله ، وبه قال مالك ، وهو عن الشافعي أيضا ، لأن الشائع عندهم أنها الصبح ، وهم أعلم الناس بما يروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قول أو فعل أو قرينة حال.

القول الثاني : أنها العصر ، وهذا قول جمهور من أهل الحديث ، وهو قول عبد الله بن مسعود ، وروي عن علي أيضا ، وهو الأصح عن ابن عباس أيضا وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، ونسب إلى عائشة وحفصة والحسن ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في رواية ، ومال إليه ابن حبيب من المالكية ، وحجتهم ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم الخندق حين نسي أن يصلي العصر من شدة الشغل في حفر الخندق ، حتى غربت الشمس فقال : «شغلونا ـ أي المشركون ـ عن الصلاة الوسطى ، أضرم الله قبورهم نارا».

والأصح من هذين القولين أولهما لما في «الموطأ» و «الصحيحين» أن عائشة وحفصة أمرتا كاتبي مصحفيهما أن يكتبا قوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين وأسندت عائشة ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم تسنده حفصة ، فإذا بطل أن تكون الوسطى هي العصر ، بحكم عطفها على الوسطى تعين كونها الصبح ، هذا من جهة الأثر.

وأما من جهة مسالك الأدلة المتقدمة ، فأفضلية الصبح ثابتة بالقرآن ، قال تعالى مخصصا لها بالذكر (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨] وفي الصحيح أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون عند صلاة الصبح ، وتوسطها بالمعنى الحقيقي

٤٤٦

ظاهر ، لأن وقتها بين الليل والنهار ، فالظهر والعصر نهاريتان ، والمغرب والعشاء ليليتان ، والصبح وقت متردد بين الوقتين ، حتى إن الشرع عامل نافلته معاملة نوافل النهار فشرع فيها الإسرار ، وفريضته معاملة فرائض الليل فشرع فيها الجهر.

ومن جهة الوصاية بالمحافظة عليها ، هي أجدر الصلوات بذلك لأنها الصلاة التي تكثر المثبطات عنها ، باختلاف الأقاليم والعصور والأمم ، بخلاف غيرها فقد تشق إحدى الصلوات الأخرى على طائفة دون أخرى ، بحسب الأحوال والأقاليم والفصول.

ومن الناس من ذهب إلى أن الصلاة الوسطى قصد إخفاؤها ليحافظ الناس على جميع الصلوات ، وهذا قول باطل ؛ لأن الله تعالى عرّفها باللام ووصفها فكيف يكون مجموع هذين المعرفين غير مفهوم وأما قياس ذلك على ساعة الجمعة وليلة القدر ففاسد ، لأن كليهما قد ذكر بطريق الإبهام وصحت الآثار بأنها غير معينة. هذا خلاصة ما يعرض هنا في تفسير الآية.

وقوله تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أمر بالقيام في الصلاة بخضوع ، فالقيام الوقوف ، وهو ركن في الصلاة فلا يترك إلا لعذر ، وأما القنوت : فهو الخضوع والخشوع قال تعالى : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [التحريم : ١٢] وقال : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٠] وسمي به الدعاء المخصوص الذي يدعى به في صلاة الصبح أو في صلاة المغرب ، على خلاف بينهم ، وهو هنا محمول على الخضوع والخشوع ، وفي الصحيح عن ابن مسعود «كنا نسلم على رسول الله وهو يصلي فيرد علينا فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا وقال : إن في الصلاة لشغلا» وعن زيد بن أرقم : كان الرجل يكلم الرجل إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت. فليس (قانِتِينَ) هنا بمعنى قارئين دعاء القنوت ، لأن ذلك الدعاء إنما سمي قنوتا استرواحا من هذه الآية عند الذين فسروا الوسطى بصلاة الصبح كما في حديث أنس «دعا النبي على رعل وذكوان في صلاة الغداة شهرا وذلك بدء القنوت وما كنا نقنت».

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩))

تفريع على قوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [البقرة : ٢٣٨] للتنبيه على أن حالة الخوف لا تكون عذرا في ترك المحافظة على الصلوات ، ولكنها عذر في ترك القيام لله قانتين ، فأفاد

٤٤٧

هذا التفريع غرضين : أحدهما بصريح لفظه ، والآخر بلازم معناه.

والخوف هنا خوف العدو ، وبذلك سميت صلاة الخوف ، والعرب تسمي الحرب بأسماء الخوف فيقولون الرّوع ويقولون الفزع ، قال عمرو بن كلثوم :

وتحملنا غداة الروع جرد

البيت. وقال سبرة بن عمر الفقعسي :

ونسوتكم في الروع باد وجوهها

يخلن إماء والإماء حرائر

وفي الحديث : «إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع» ولا يعرف إطلاق الخوف على الحرب قبل القرآن قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ) [البقرة: ١٥٥]. والمعنى : فإن حاربتم أو كنتم في حرب ، ومنه سمى الفقهاء صلاة الخوف الصلاة التي يؤديها المسلمون وهم يصافون العدو في ساحة الحرب وإيثار كلمة الخوف في هذه الآية لتشمل خوف العدو وخوف السباع وقطاع الطريق ، وغيرها.

و (فَرِجالاً) جمع راجل كالصحاب و (رُكْباناً) جمع راكب وهما حالان من محذوف أي فصلوا رجالا أو ركبانا وهذا في معنى الاستثناء من قوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) [البقرة : ٢٣٨] لأن هاته الحالة تخالف القنوت في حالة الترجل ، وتخالفهما معا في حالة الركوب. والآية إشارة إلى أن صلاة الخوف لا يشترط فيها الخشوع ، لأنها تكون مع الاشتغال بالقتال ولا يشترط فيها القيام.

وهذا الخوف يسقط ما ذكر من شروط الصلاة ، وهو هنا صلاة الناس فرادى ، وذلك عند مالك إذا اشتد الخوف وأظلهم العدو ولم يكن حصن بحيث تتعذر الصلاة جماعة مع الإمام ، وليست هذه الآية لبيان صلاة الجيش في الحرب جماعة المذكورة في سورة النساء ، والظاهر أن الله شرع للناس في أول الأمر صلاة الخوف فرادى على الحال التي يتمكنون معها من مواجهة العدو ، ثم شرع لهم صلاة الخوف جماعة في سورة النساء ، وأيضا شملت هذه الآية كل خوف من سباع أو قطاع طريق أو من سيل الماء ، قال مالك : وتستحب إعادة الصلاة ، وقال أبو حنيفة : يصلون كما وصف الله ويعيدون ، لأن القتال في الصلاة مفسد عنده.

وقوله : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) أراد الصلاة أي ارجعوا إلى الذكر المعروف. وجاء في الأمن بإذا وفي الخوف بإن بشارة للمسلمين بأنهم سيكون لهم النصر والأمن.

٤٤٨

وقوله : (كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) الكاف للتشبيه أي اذكروه ذكرا يشابه ما من به عليكم من علم الشريعة في تفاصيل هذه الآيات المتقدمة ، والمقصود من المشابهة المشابهة في التقدير الاعتباري ، أي أن يكون الذكر بنية الشكر على تلك النعمة والجزاء ، فإن الشيء المجازى به شيء آخر يعتبر كالمشابه له ، ولذلك يطلق عليه اسم المقدار ، وقد يسمون هذه الكاف كاف التعليل ، والتعليل مستفاد من التشبيه ، لأن العلة على قدر المعلول.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠))

موقع هذه الآية هنا بعد قوله : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ) [البقرة : ٢٤٣] إلى آخرها في غاية الإشكال فإن حكمها يخالف في الظاهر حكم نظيرتها التي تقدمت ، وعلى قول الجمهور هاته الآية سابقة في النزول على آية (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ) يزداد موقعها غرابة إذ هي سابقة في النزول متأخرة في الوضع.

والجمهور على أن هذه الآية شرعت حكم تربص المتوفى عنها حولا في بيت زوجها وذلك في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بعدة الوفاة وبالميراث ، روي هذا عن ابن عباس ، وقتادة والربيع وجابر بن زيد. وفي البخاري في كتاب التفسير عن عبد الله بن الزبير قال : «قلت لعثمان هذه الآية ، (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها ، قال : لا أغير شيئا منه عن مكانه بابن أخي» فاقتضى أن هذا هو موضع هذه الآية ، وأن الآية التي قبلها ناسخة لها ، وعليه فيكون وضعها هنا بتوقيف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقول عثمان «لا أغير شيئا منه عن مكانه» ويحتمل أن ابن الزبير أراد بالآية الأخرى آية سورة النساء في الميراث.

وفي البخاري قال مجاهد «شرع الله العدة أربعة أشهر وعشرا تعتد عند أهل زوجها واجبا ، ثم نزلت (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) فجعل الله لها تمام السنة وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، ولم يكن لها يومئذ ميراث معين ، فكان ذلك حقها في تركة زوجها ، ثم نسخ ذلك بالميراث» فلا تعرض في هذه الآية للعدة ولكنها في بيان حكم آخر وهو إيجاب الوصية لها بالسكنى حولا : إن شاءت أن تحتبس عن التزوج حولا مراعاة

٤٤٩

لما كانوا عليه ، ويكون الحول تكميلا لمدة السكنى لا للعدة ، وهذا الذي قاله مجاهد أصرح ما في هذا الباب ، وهو المقبول.

واعلموا أن العرب في الجاهلية كان من عادتهم المتبعة أن المرأة إذا توفي عنها زوجها تمكث في شر بيت لها حولا ، محدة لابسة شر ثيابها متجنبة الزينة والطيب ، كما تقدم في حاشية تفسير قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ٢٣٤] عن «الموطأ» ، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك الغلو في سوء الحالة ، وشرع عدة الوفاة والإحداد ، فلما ثقل ذلك على الناس ، في مبدأ أمر تغيير العادة ، أمر الأزواج بالوصية لأزواجهم بسكنى الحول بمنزل الزوج والإنفاق عليها من ماله ، إن شاءت السكنى بمنزل الزوج ، فإن خرجت وأبت السكنى هنالك لم ينفق عليها ، فصار الخيار للمرأة في ذلك بعد أن كان حقا عليها لا تستطيع تركه ، ثم نسخ الإنفاق والوصية بالميراث ، فالله لما أراد نسخ عدة الجاهلية ، وراعى لطفه بالناس في قطعهم عن معتادهم ، أقر الاعتداد بالحول ، وأقر ما معه من المكث في البيت مدة العدة ، لكنه أوقفه على وصية الزوج عند وفاته لزوجه بالسكنى ، وعلى قبول الزوجة ذلك ، فإن لم يوص لها أو لم تقبل ، فليس عليها السكنى ، ولها الخروج ، وتعتد حيث شاءت ، ونسخ (وَصِيَّةً) السكنى حولا بالمواريث ، وبقي لها السكنى في محل زوجها مدة العدة مشروعا بحديث الفريعة.

وقوله : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) قرأه نافع وابن كثير والكسائي وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ويعقوب وخلف : برفع (وصية) على الابتداء ، محولا عن المفعول المطلق ، وأصله وصية بالنصب بدلا من فعله ، فحول إلى الرفع لقصد الدوام كقولهم : حمد وشكر ، و (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨] كما تقدم في تفسير (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ١٨] وقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٩] ولما كان المصدر في المفعول المطلق ، في مثل هذا ، دالا على النوعية ، جاز عند وقوعه مبتدأ أن يبقى منكرا ، إذ ليس المقصود فردا غير معين حتى ينافي الابتداء ، بل المقصود النوع ، وعليه فقوله : (لِأَزْواجِهِمْ) خبر ، وقرأه أبو عمرو ، وابن عامر ، وحمزة ، وحفص عن عاصم : (وَصِيَّةً) بالنصب فيكون قوله : (لِأَزْواجِهِمْ) متعلقا به على أصل المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله لإفادة الأمر.

وظاهر الآية أن الوصية وصية المتوفين ، فتكون من الوصية التي أمر بها من تحضره الوفاة مثل الوصية التي في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ١٨٠] فعلى هذا الاعتبار إذا لم يوص المتوفّى

٤٥٠

لزوجه بالسكنى فلا سكنى لها وقد تقدم أن الزوجة مع الوصية مخيرة بين أن تقبل الوصية ، وبين أن تخرج. وقال ابن عطية : قالت فرقة منهم ابن عباس والضحاك وعطاء والربيع : أن قوله (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) هي وصية من الله تعالى للأزواج بلزوم البيوت حولا ، وعلى هذا القول فهو كقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [النساء : ١١] وقوله : (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) [النساء : ١٢] فذلك لا يتوقف على إيصاء المتوفين ولا على قبول الزوجات ، بل هو حكم من الله يجب تنفيذه ، وعليه يتعين أن يكون (لِأَزْواجِهِمْ) متعلقا بوصية ، وتعلقه به هو الذي سوغ الابتداء به ، والخبر محذوف دل عليه المقام لعدم تأتي ما قرر في الوجه الأول.

وقوله : (مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ) : تقدم معنى المتاع في قوله : (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٦] والمتاع هنا هو السكنى ، وهو منصوب على حذف فعله أي ليمتعوهن متاعا ، وانتصب متاعا على نزع الخافض ، فهو متعلق بوصية والتقدير وصية لأزواجهم بمتاع. و (إلى) مؤذنة بشيء جعلت غايته الحول ، وتقديره متاعا بسكنى إلى الحول ، كما دل عليه قوله : (غَيْرَ إِخْراجٍ).

والتعريف في الحول تعريف العهد ، وهو الحول المعروف عند العرب من عهد الجاهلية الذي تعتد به المرأة المتوفى عنها ، فهو كتعريفه في قول لبيد (١) :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

وقوله : (غَيْرَ إِخْراجٍ) حال من (مَتاعاً) مؤكدة ، أو بدل من (مَتاعاً) بدلا مطابقا ، والعرب تؤكد الشيء بنفي ضده ، ومنه قول أبي العباس الأعمى يمدح بني أمية :

خباء على المنابر فرسا

ن عليها وقالة غير خرس

وقوله : (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) هو على قول فرقة معناه : فإن أبين قبول الوصية فخرجن ، فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من الخروج وغيره من المعروف عدا الخطبة والتزوج ، والتزين في العدة ، فذلك ليس من المعروف. وعلى قول الفرقة

__________________

(١) كانوا في الجاهلية تحد البنت على أبيها حولا كاملا إذا لم تكن ذات زوج ، وقبل هذا البيت :

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر

فإن حان يوما أن يموت أبوكما

فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر

وقولا هو المرء الذي لا حليفه

أضاع ولا خان الصّديق ولا غدر

قالها لبيد لما بلغ مائة وعشرين سنة يوصى ابنتيه بوصايا الإسلام.

٤٥١

الأخرى التي جعلت الوصية من الله ، يجب أن يكون قوله : (فَإِنْ خَرَجْنَ) عطفا على مقدر للإيجاز ، مثل : (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] أي فإن تم الحول فخرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن أي من تزوج وغيره من المعروف عدا المنكر كالزنا وغيره ، والحاصل أن المعروف يفسر بغير ما حرم عليها في الحالة التي وقع فيها الخروج وكل ذلك فعل في نفسها.

قال ابن عرفة في «تفسيره» «وتنكير معروف هنا وتعريفه في الآية المتقدمة ، لأن هذه الآية نزلت قبل الأخرى ، فصار هنالك معهودا». وأحسب هذا غير مستقيم ، وأن التعريف تعريف الجنس ، وهو والنكرة سواء ، وقد تقدم الكلام عن القراءة المنسوبة إلى علي ـ بفتح ياء (يُتَوَفَّوْنَ) ـ وما فيها من نكتة عربية عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) [البقرة : ٢٣٤] الآية.

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١))

عطف على جملة : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) [البقرة : ٢٤٠] جعل استيفاء لأحكام المتعة للمطلقات ، بعد أن تقدم حكم متعة المطلقات قبل المسيس وقبل الفرض ، فعمم بهذه الآية طلب المتعة للمطلقات كلهن ، فاللام في قوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ) لام الاستحقاق.

والتعريف في المطلقات يفيد الاستغراق ، فكانت هذه الآية قد زادت أحكاما على الآية التي سبقتها. وعن جابر بن زيد قال : لما نزل قوله تعالى : (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) إلى قوله : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٦] قال رجل : إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل ، فنزل قوله تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) فجعلها بيانا للآية السابقة ، إذ عوض وصف المحسنين بوصف المتقين.

والوجه أن اختلاف الوصفين في الآيتين لا يقتضي اختلاف جنس الحكم باختلاف أحوال المطلقات ، وأن جميع المتعة من شأن المحسنين والمتقين ، وأن دلالة صيغة الطلب في الآيتين سواء إن كان استحبابا أو كان إيجابا. فالذين حملوا الطلب في الآية السابقة على الاستحباب ، حملوه في هذه الآية على الاستحباب بالأولى ، ومعولهم في محمل الطلب في كلتا الآيتين ليس إلا على استنباط علة مشروعية المتعة وهي جبر خاطر المطلقة استبقاء للمودة ، ولذلك لم يستثن مالك من مشمولات هذه الآية إلا المختلعة ؛ لأنها هي التي دعت إلى الفرقة دون المطلق.

٤٥٢

والذين حملوا الطلب في الآية المتقدمة على الوجوب ، اختلفوا في محمل الطلب في هذه الآية فمنهم من طرد قوله بوجوب المتعة لجميع المطلقات ، ومن هؤلاء عطاء وجابر بن زيد وسعيد ابن جبير وابن شهاب والقاسم بن محمد وأبو ثور ، ومنهم من حمل الطلب في هذه الآية على الاستحباب وهو قول الشافعي ، ومرجعه إلى تأويل ظاهر قوله : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ) بما دل عليه مفهوم قوله في الآية الأخرى (ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [البقرة : ٢٣٦].

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

أي كهذا البيان الواضح يبين الله آياته ، فالآيات هنا دلائل الشريعة. وقد تقدم القول في نظيره في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣].

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤))

استئناف ابتدائي للتحريض على الجهاد والتذكير بأن الحذر لا يؤخر الأجل ، وأن الجبان قد يلقى حتفه في مظنة النجاة. وقد تقدم أن هذه السورة نزلت في مدة صلح الحديبية وأنها تمهيد لفتح مكة ، فالقتال من أهم أغراضها ، والمقصود من هذا الكلام هو قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية. فالكلام رجوع إلى قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] وفصلت بين الكلامين الآيات النازلة خلالهما المفتتحة ب (يَسْئَلُونَكَ) [البقرة : ٢١٧ ، ٢١٩ ، ٢٢٠ ، ٢٢٢].

وموقع (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) قبل قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) موقع ذكر الدليل قبل المقصود ، وهذا طريق من طرق الخطابة أن يقدم الدليل قبل المستدل عليه لمقاصد كقول علي رضي‌الله‌عنه في بعض خطبه لما بلغه استيلاء جند الشام على أكثر البلاد ، إذ افتتح الخطبة فقال : «ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها أنبئت بسرا هو ابن أبي أرطأة من قادة جنود الشام قد اطلع اليمن ، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم» فقوله : «ما هي إلا الكوفة» موقعه موقع الدليل على قوله : «لأظن هؤلاء القوم إلخ» وقال عيسى بن طلحة لما دخل على عروة بن الزبير حين قطعت رجل «ما كنا نعدك للصراع ، والحمد لله الذي أبقى لنا أكثرك :

٤٥٣

أبقى لنا سمعك ، وبصرك ، ولسانك ، وعقلك ، وإحدى رجليك» فقدم قوله : ما كنا نعدك للصراع ، والمقصود من مثل ذلك الاهتمام والعناية بالحجة قبل ذكر الدعوى تشويقا للدعوى ، أو حملا على التعجيل بالامتثال.

واعلم أن تركيب (ألم تر إلى كذا) إذا جاء فعل الرؤية فيه متعديا إلى ما ليس من شأن السامع أن يكون رآه ، كان كلاما مقصودا منه التحريض على علم ما عدي إليه فعل الرؤية ، وهذا مما اتفق عليه المفسرون ولذلك تكون همزة الاستفهام مستعملة في غير معنى الاستفهام بل في معنى مجازي أو كنائي ، من معاني الاستفهام غير الحقيقي ، وكان الخطاب به غالبا موجها إلى غير معين ، وربما كان المخاطب مفروضا متخيلا.

ولنا في بيان وجه إفادة هذا التحريض من ذلك التركيب وجوه ثلاثة :

الوجه الأول : أن يكون الاستفهام مستعملا في التعجب أو التعجيب ، من عدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية ، ويكون فعل الرؤية علميا من أخوات ظن ، على مذهب الفراء وهو صواب ؛ لأن إلى ولام الجر يتعاقبان في الكلام كثيرا ، ومنه قوله تعالى : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ) [النمل : ٣٣] أي لك وقالوا : أحمد الله إليك كما يقال : أحمد لك الله والمجرور بإلى في محل المفعول الأول ، لأن حرف الجر الزائد لا يطلب متعلقا ، وجملة (وَهُمْ أُلُوفٌ) في موضع الحال ، سادة مسد المفعول الثاني ، لأن أصل المفعول الثاني لأفعال القلوب أنه حال (١) ، على تقدير : ما كان من حقهم الخروج ، وتفرع على قوله : (وَهُمْ أُلُوفٌ) قوله : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا) فهو من تمام معنى المفعول الثاني أو تجعل (إلى) تجريدا لاستعارة فعل الرؤية لمعنى العلم ، أو قرينة عليها ، أو لتضمين فعل الرؤية معنى النظر ، ليحصل الادعاء أن هذا الأمر المدرك بالعقل كأنه مدرك بالنظر ، لكونه بين الصدق لمن علمه ، فيكون قولهم : ا لم تر إلى كذا في قوله : جملتين : ألم تعلم كذا وتنظر إليه.

الوجه الثاني : أن يكون الاستفهام تقريريا فإنه كثر مجيء الاستفهام التقريري في الأفعال المنفية ، مثل : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح : ١] (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِ

__________________

(١) عندي أن أصل استعمال فعل الرؤية في معنى العلم وعده من أخوات ظن أنه استعارة الفعل الموضوع لإدراك المبصرات إلى معنى المدرك بالعقل المجرد لمشابهته للمدرك بالبصر في الوضوح واليقين ولذلك قد يصلونه بالحرف الذي أصله لتعدية فعل النظر.

٤٥٤

شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٠٦]. والقول (١) في فعل الرؤية وفي تعدية حرف (إلى) نظير القول فيه في الوجه الأول.

الوجه الثالث : أن تجعل الاستفهام إنكاريا ، إنكارا لعدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية والرؤية علمية ، والقول في حرف (إلى) نظير القول فيه على الوجه الأول ، أو أن تكون الرؤية بصرية ضمن الفعل معنى تنظر على أن أصله أن يخاطب به من غفل عن النظر إلى شيء مبصر ويكون الاستفهام إنكاريا : حقيقة أو تنزيلا ، ثم نقل المركب إلى استعماله في غير الأمور المبصرة فصار كالمثل ، وقريب منه قول الأعشى :

ترى الجود يجري ظاهرا فوق وجهه

واستفادة التحريض ، على الوجوه الثلاثة إنما هي من طريق الكناية بلازم معنى الاستفهام لأن شأن الأمر المتعجب منه أو المقرر به أو المنكور علمه ، أن يكون شأنه أن تتوافر الدواعي على علمه ، وذلك مما يحرض على علمه.

واعلم أن هذا التركيب جرى مجرى المثل في ملازمته لهذا الأسلوب ، سوى أنهم غيروه باختلاف أدوات الخطاب التي يشتمل عليها من تذكير وضده ، وإفراد وضده ، نحو ألم ترى في خطاب المرأة وأ لم تريا وأ لم تروا وأ لم ترين ، في التثنية والجمع هذا إذا خوطب بهذا المركب في أمر ليس من شأنه أن يكون مبصرا للمخاطب أو مطلقا.

وقد اختلف في المراد من هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ، والأظهر أنهم قوم خرجوا خائفين من أعدائهم فتركوا ديارهم جبنا ، وقرينة ذلك عندي قوله تعالى : (وَهُمْ أُلُوفٌ) فإنه جملة حال وهي محل التعجيب ، وإنما تكون كثرة العدد محلا للتعجيب إذا كان المقصود الخوف من العدو ، فإن شأن القوم الكثيرين ألا يتركوا ديارهم خوفا وهلعا والعرب تقول للجيش إذا بلغ الألوف لا يغلب من قلة. فقيل هم من نبي إسرائيل خالفوا على نبي لهم في دعوته إياهم للجهاد ، ففارقوا وطنهم فرارا من الجهاد ، وهذا الأظهر ، فتكون القصة تمثيلا لحال أهل الجبن في القتال ، بحال الذين خرجوا من ديارهم ، بجامع الجبن وكانت الحالة الشبه بها أظهر في صفة الجبن وأفظع ، مثل تمثيل

__________________

(١) إنما كثر الاستفهام التقريري في الأفعال المنفية لقصد تحقيق صدق المقر بعد إقراره لأن مقرره أورد له الفعل الذي يطلب منه الإقرار به مورد المنفي كأنه يقول أفسح لك المجال للإنكار إن شئت أن تقول لم أفعل فإذا أقر بالفعل بعد ذلك لم يبق له عذر بادعاء أنه مكره فيما أقر به.

٤٥٥

حال المتردد في شيء بحال من يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، فلا يقال إن ذلك يرجع إلى تشبيه الشيء بمثله ، وهذا أرجح الوجوه لأن أكثر أمثال القرآن أن تكون بأحوال الأمم الشهيرة وبخاصة بني إسرائيل.

وقيل هم من قوم من بني إسرائيل من أهل داوردان قرب واسط (١) وقع طاعون ببلدهم فخرجوا إلى واد أفيح فرماهم الله بداء موت ثمانية أيام ، حتى انتفخوا ونتنت أجسامهم ثم أحياها. وقيل هم من أهل أذرعات ، بجهات الشام. واتفقت الروايات كلها على أن الله أحياهم بدعوة النبي حزقيال بن بوزي (٢) فتكون القصة استعارة شبه الذين يجبنون عن القتال بالذين يجبنون من الطاعون ، بجامع خوف الموت ، والمشبهون يحتمل أنهم قوم من المسلمين خامرهم الجبن لما دعوا إلى الجهاد في بعض الغزوات ، ويحتمل أنهم فريق مفروض وقوعه قبل أن يقع ، لقطع الخواطر التي قد تخطر في قلوبهم.

وفي «تفسير ابن كثير» عن ابن جريج عن عطاء أن هذا مثل لا قصة واقعة ، وهذا بعيد يبعده التعبير عنهم بالموصول وقوله : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ). وانتصب (حَذَرَ الْمَوْتِ) على المفعول لأجله ، وعامله (خَرَجُوا).

والأظهر أنهم قوم فروا من عدوهم ، مع كثرتهم ، وأخلوا له الديار ، فوقعت لهم في طريقهم مصائب أشرفوا بها على الهلاك ، ثم نجوا ، أو أوبئة وأمراض ، كانت أعراضها تشبه أعراض الموت ، مثل داء السكت ثم برءوا منها فهم في حالهم تلك مثل قول الراجز :

وخارج أخرجه حب الطمع

فرّ من الموت وفي الموت وقع

ويؤيد أنها إشارة إلى حادثة وليست مثلا قوله : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) الآية ويؤيد أن المتحدث عنهم ليسوا من بني إسرائيل قوله تعالى بعد هذه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ

__________________

(١) داوردان بفتح الدال بعدها ألف ثم واو مفتوحة ثم راء ساكنة كذا ضبطها ياقوت وهي شرقي واسط من جزيرة العراق قرب دجلة.

(٢) حزقيال بن بوزي هو ثالث أنبياء بني إسرائيل كان معاصرا لأرمياء ودانيال من القرنين السابع والسادس قبل المسيح وكان من جملة الذين أسرهم الأشوريون مع الملك يوياقيم ملك إسرائيل وهو يومئذ صغير فتنبأ في جهات الخابور في أرض الكلدانيين حيث القرى التي كانت على نهر الخابور شرقي دجلة ورأى مرائي أفردت بسفر من أسفار كتب اليهود وفيها إنذارات بما يحل ببني إسرائيل من المصائب وتوفي في الأسر.

٤٥٦

بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) [البقرة : ٢٤٦] والآية تشير إلى معنى قوله تعالى : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨] ـ وقوله ـ (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [آل عمران : ١٥٤].

فأما الذين قالوا إنهم قوم من بني إسرائيل أحياهم الله بدعوة حزقيال ، والذين قالوا إنما هذا مثل لا قصة واقعة ، فالظاهر أنهم أرادوا الرؤيا التي ذكرت في كتاب حزقيال في الإصحاح ٣٧ منه إذ قال : «أخرجني روح الرب وأنزلني في وسط بقعة ملآنة عظاما ومرّ بي من حولها وإذا هي كثيرة ويابسة فقال لي يا ابن آدم أتحيا هذه العظام؟ فقلت يا سيدي أنت تعلم ، فقال لي تنبأ على هذه العظام وقل لها أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب ، فتقاربت العظام ، وإذا بالعصب واللحم كساها وبسط الجلد عليها من فوق وليس فيها روح فقال لي تنبأ للروح وقل قال الرب هلم يا روح من الرياح الأربع وهبّ على هؤلاء القتلى فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا جدا» وهذا مثل ضربه النبي لاستماتة قومه ، واستسلامهم لأعدائهم ، لأنه قال بعده «هذه العظام وهي كل بيوت إسرائيل هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا قد انقطعنا فتنبأ وقل لهم قال السيد الرب ها أنا ذا أفتح قبوركم وأصعدكم منها يا شعبي وآتي بكم إلى أرض إسرائيل وأجعل روحي فيكم فتحيون» فلعل هذا المثل مع الموضع الذي كانت فيه مرائي هذا النبي ، وهو الخابور ، وهو قرب واسط ، هو الذي حدا بعض أهل القصص إلى دعوى أن هؤلاء القوم من أهل داوردان : إذ لعل داوردان كانت بجهات الخابور الذي رأى عنده النبي حزقيال ما رأى.

وقوله تعالى : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) القول فيه إما مجاز في التكوين والموت حقيقة أي جعل فيهم حالة الموت ، وهي وقوف القلب وذهاب الإدراك والإحساس ، استعيرت حالة تلقي المكوّن لأثر الإرادة بتلقي المأمور للأمر ، فأطلق على الحالة المشبهة المركب الدال على الحالة المشبّه بها على طريقة التمثيل ، ثم أحياهم بزوال ذلك العارض فعلموا أنهم أصيبوا بما لو دام لكان موتا مستمرا ، وقد يكون هذا من الأدواء النادرة المشبهة داء السكت وإما أن يكون القول مجازا عن الإنذار بالموت ، والموت حقيقة ، أي أراهم الله مهالك شموا منها رائحة الموت ، ثم فرج الله عنهم فأحياهم. وإما أن يكون كلاما حقيقيا بوحي الله ، لبعض الأنبياء ، والموت موت مجازي ، وهو أمر للتحقير شتما لهم ، ورماهم بالذل والصغار ، ثم أحياهم ، وثبت فيهم روح الشجاعة.

٤٥٧

والمقصود من هذا موعظة المسلمين بترك الجبن ، وأن الخوف من الموت لا يدفع الموت ، فهؤلاء الذين ضرب بهم هذا المثل خرجوا من ديارهم خائفين من الموت ، فلم يغن خوفهم عنهم شيئا ، وأراهم الله الموت ثم أحياهم ، ليصير خلق الشجاعة لهم حاصلا بإدراك الحس. ومحل العبرة من القصة هو أنهم ذاقوا الموت الذي فروا منه ، ليعلموا أن الفرار لا يغني عنهم شيئا ، وأنهم ذاقوا الحياة بعد الموت ، ليعلموا أن الموت والحياة بيد الله ، كما قال تعالى : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) [الأحزاب : ١٦].

وجملة : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية هي المقصود الأول ، فإن ما قبلها تمهيد لها كما علمت ، وقد جعلت في النظم معطوفة على جملة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) عطفا على الاستئناف ، فيكون لها حكم جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، ولو لا طول الفصل بينها وبين جملة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] ، لقلنا : إنها معطوفة عليها على أن اتصال الغرضين يلحقها بها بدون عطف.

وجملة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) حث على القتال وتحذير من تركه بتذكيرهم بإحاطة علم الله تعالى بجميع المعلومات : ظاهرها وباطنها. وقدّم وصف سميع ، وهو أخص من عليم ، اهتماما به هنا ؛ لأن معظم أحوال القتال في سبيل الله من الأمور المسموعة ، مثل جلبة الجيش وقعقعة السلاح وصهيل الخيل. ثم ذكر وصف عليم لأنه يعم العلم بجميع المعلومات ، وفيها ما هو من حديث النفس مثل خلق الخوف ، وتسويل النفس القعود عن القتال ، وفي هذا تعريض بالوعد والوعيد. وافتتاح الجملة بقوله : (وَاعْلَمُوا) للتنبيه على ما تحتوي عليه من معنى صريح وتعريض ، وقد تقدم قريبا عند قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) [البقرة : ٢٢٣].

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

اعتراض بين جملة : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣] إلى آخرها ، وجملة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٢٤٦] الآية ، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر ، لمناسبة الحث على القتال ، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العدّة والمئونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلا في سبيل الله بإعطاء العدّة لمن لا عدّة له ، والإنفاق على المعسرين من الجيش ، وفيها تبيين لمضمون

٤٥٨

جملة : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٤٤] فكانت ذات ثلاثة أغراض.

والقرض إسلاف المال ونحوه بنية إرجاع مثله ، ويطلق مجازا على البذل لأجل الجزاء ، فيشمل بهذا المعنى بذل النفس والجسم رجاء الثواب ، ففعل (يقرض) مستعمل في حقيقته ومجازه.

والاستفهام في قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) مستعمل في التحضيض والتهييج على الاتصاف بالخير كأنّ المستفهم لا يدري من هو أهل هذا الخير والجدير به ، قال طرفة :

إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني

عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد

و (ذا) بعد أسماء الاستفهام قد يكون مستعملا في معناه كما تقول وقد رأيت شخصا لا تعرفه : (من ذا) فإذا لم يكن في مقام الكلام شيء يصلح لأن يشار إليه بالاستفهام كان استعمال (ذا) بعد اسم الاستفهام للإشارة المجازية بأن يتصوّر المتكلم في ذهنه شخصا موهوما مجهولا صدر منه فعل فهو يسأل عن تعيينه ، وإنما يكون ذلك للاهتمام بالفعل الواقع وتطلّب معرفة فاعله ولكون هذا الاستعمال يلازم ذكر فعل بعد اسم الإشارة ، قال النّحاة كلهم بصريّهم وكوفيّهم : بأن (ذا) مع الاستفهام تتحوّل إلى اسم موصول مبهم غير معهود ، فعدّوه اسم موصول ، وبوّب سيبويه في «كتابه» فقال : «باب إجرائهم ذا وحده بمنزلة الذي وليس يكون كالذي إلا مع (ما) و (من) في الاستفهام فيكون (ذا) بمنزلة الذي ويكون ما ـ أي أو من ـ حرف الاستفهام وإجراؤهم إياه مع ما ـ أي أو من ـ بمنزلة اسم واحد» ومثّله بقوله تعالى : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل : ٣٠] وبقية أسماء الإشارة مثل اسم (ذا) عند الكوفيين ، وأما البصريون فقصروا هذا الاستعمال على (ذا) وليس مرادهم أن ذا مع الاستفهام يصير اسم موصول فإنه يكثر في الكلام أن يقع بعده اسم موصول ، كما في هذه الآية ، ولا معنى لوقوع اسمى موصول صلتهما واحدة ، ولكنهم أرادوا أنه يفيد مفاد اسم الموصول ، فيكون ما بعده من فعل أو وصف في معنى صلة الموصول ، وإنما دوّنوا ذلك لأنهم تناسوا ما في استعمال ذا في الاستفهام من المجاز ، فكان تدوينها قليل الجدوى.

والوجه أن (ذا) في الاستفهام لا يخرج عن كونه للإشارة وإنما هي إشارة مجازية ، والفعل الذي يجيء بعده يكون في موضع الحال ، فوزان قوله تعالى : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) [النحل : ٢٤] وزان قول يزيد بن ربيعة بن مفرغ يخاطب بغلته :

٤٥٩

نجوت وهذا تحملين طليق

والإقراض : فعل القرض. والقرض : السلف ، وهو بذل شيء ليرد مثله أو مساويه ، واستعمل هنا مجازا في البذل الذي يرجى الجزاء عليه تأكيدا في تحقيق حصول التعويض والجزاء. ووصف القرض بالحسن لأنه لا يرضى الله به إلّا إذا كان مبرّأ عن شوائب الرياء والأذى ، كما قال النابغة :

ليست بذات عقارب

وقيل : القرض هنا على حقيقته وهو السلف ، ولعله علق باسم الجلالة لأن الذي يقرض الناس طمعا في الثواب كأنه أقرض الله تعالى ؛ لأن القرض من الإحسان الذي أمر الله به وفي معنى هذا ما جاء في الحديث القدسي «أن الله عزوجل يقول يوم القيامة : يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني قال يا رب وكيف أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه» الحديث. وقد رووا أن ثواب الصدقة عشر أمثالها وثواب القرض ثمانية عشر من أمثاله.

وقرأ الجمهور «فيضاعفه» بألف بعد الضاد ، وقرأه ابن كثير ، وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بدون ألف بعد الضاد وبتشديد العين. ورفع «فيضاعفه» في قراءة الجمهور ، على العطف على (يُقْرِضُ) ، ليدخل في حيز التحضيض معاقبا للإقراض في الحصول ، وقرأه ابن عامر وعاصم ويعقوب بنصب الفاء على جواب التحضيض ، والمعنى على كلتا القراءتين واحد.

وقوله : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) أصل القبض الشد والتماسك ، وأصل البسط : ضد القبض وهو الإطلاق والإرسال ، وقد تفرعت عن هذا المعنى معان : منها القبض بمعنى الأخذ (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) [البقرة : ٢٨٣] وبمعنى الشح (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] ومنها البسط بمعنى البذل (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) [الرعد : ٢٦] وبمعنى السخاء (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] ومن أسمائه تعالى القابض الباسط بمعنى المانع المعطي.

وقرأ الجمهور : (ويبسط) بالسين ، وقرأه نافع والبزي عن ابن كثير وأبو بكر عن عاصم والكسائي وأبو جعفر وزوج عن يعقوب بالصاد وهو لغة.

يحتمل أن المراد هنا : يقبض العطايا والصدقات ويبسط الجزاء والثواب ، ويحتمل أن المراد يقبض نفوسا عن الخير ويبسط نفوسا للخير ، وفيه تعريض بالوعد بالتوسعة على

٤٦٠