تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

القاف ، فقال الأعمش لحمزة أرأيت قراءتك هذه كيف يكون الرجل قاتلا بعد أن صار مقتولا؟ فقال حمزة : إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا ا ه يريد أن الكلام على حذف مضاف من المفعول كقوله :

غضبت تميم أن تقتّل عامر

يوم النسار فأعتبوا بالصّيلم

والمعنى ولا تقتلوا أحدا منهم حتى يقتلوا بعضكم فإن قتلوا بعضكم فاقتلوا من تقدرون عليه منهم وكذلك إسناد (قتلوا) إلى ضمير جماعة المشركين فهو بمعنى قتل بعضهم بعض المسلمين لأن العرب تسند فعل بعض القبيلة أو الملة أو الفرقة لما يدل على جميعها من ضمير كما هنا أو اسم ظاهر نحو قتلتنا بنو أسد. وهذه القراءة تقتضي أن المنهي عنه القتل فيشمل القتل باشتباك حرب والقتل بدون ملحمة.

وقد دلت الآية بالنص على إباحة قتل المحارب إذا حارب في الحرم أو استولى عليه لأن الاستيلاء مقاتلة ؛ فالإجماع على أنه لو استولى على مكة عدو وقال : لا أقاتلكم وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال ؛ نقله القرطبي عن ابن خويزمنداد من مالكية العراق. قال ابن خويزمنداد : وأما قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) فيجوز أن يكون منسوخا بقوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [البقرة : ١٩٣].

واختلفوا في دلالتها على جواز قتل الكافر المحارب إذا لجأ إلى الحرم بدون أن يكون قتال وكذا الجاني إذا لجأ إلى الحرم فارا من القصاص والعقوبة فقال مالك : بجواز ذلك واحتج على ذلك بأن قوله تعالى : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) [التوبة : ٥] الآية قد نسخ هاته الآية وهو قول قتادة ومقاتل بناء على تأخر نزولها عن وقت العمل بهذه الآية والعام المتأخر عن العمل ينسخ الخاص اتفاقا.

وبالحديث الذي رواه في «الموطأ» عن أنس بن مالك «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء أبو برزة فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اقتلوه» وابن خطل هذا هو عبد العزى بن خطل التيمي كان ممن أسلم ثم كفر بعد إسلامه وجعل دأبه سب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإسلام فأهدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح دمه فلما علم ذلك عاذ بأستار الكعبة فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتله حينئذ ، فكان قتل ابن خطل قتل حد لا قتل حرب ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وضع المغفر عن رأسه وقد انقضت الساعة التي أحل الله له فيها مكة.

٢٠١

وبالقياس وهو أن حرمة المسجد الحرام متقررة في الشريعة فلما أذن الله بقتل من قاتل في المسجد الحرام علمنا أن العلة هي أن القتال فيه تعريض بحرمته للاستخفاف ، فكذلك عياذ الجاني به ، وبمثل قوله قال الشافعي ، لكن قال الشافعي إذا التجأ المجرم المسلم إلى المسجد الحرام يضيق عليه حتى يخرج فإن لم يخرج جاز قتله ، وقال أبو حنيفة : لا يقتل الكافر إذا التجأ إلى الحرم إلّا إذا قاتل فيه لنص هاته الآية وهي محكمة عنده غير منسوخة وهو قول طاوس ومجاهد.

قال ابن العربي في «الأحكام» : حضرت في بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة فبينا نحن كذلك إذ دخل رجل عليه أطمار فسلم سلام العلماء وتصدر في المجلس ، فقال القاضي الزنجاني : من السيد؟ فقال : رجل من طلبة العلم بصاغان سلبه الشطار أمس ، ومقصدي هذا الحرم المقدس فقال القاضي الزنجاني : سلوه عن العادة في مبادرة العلماء بمبادرة أسئلتهم ، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا؟ فأجاب بأنه لا يقتل ، فسئل عن الدليل فقال : قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) فإن قرئ (ولا تقتلوهم) فالآية نص وإن قرئ (ولا تقاتلوهم) فهي تنبيه ، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلا بينا على النهي عن القتل فاعترض عليه الزنجاني منتصرا لمالك والشافعي وإن لم ير مذهبهما على العادة ، فقال هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] فقال الصاغاني هذا لا يليق بمنصب القاضي ، فإن الآية التي اعترضت بها عامة في الأماكن والتي احتججت بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول : إن العام ينسخ الخاص فأبهت القاضي الزنجاني ، وهذا من بديع الكلام ا ه.

وجواب هذا أن العام المتأخر عن العمل بالخاص ناسخ وحديث ابن خطل دل على أن الآية التي في براءة ناسخة لآية البقرة. وأما قول الحنفية وبعض المالكية : إن قتل ابن خطل كان في اليوم الذي أحل الله له فيه مكة فيدفعه أن تلك الساعة انتهت بالفتح وقد ثبت في ذلك الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نزع حينئذ المغفر وذلك أمارة انتهاء ساعة الحرب.

وقال ابن العربي في «الأحكام» : الكافر إذا لم يقاتل ولم يجن جناية ولجأ إلى الحرم فإنه لا يقتل ، يريد أنه لا يقتل القتل الذي اقتضته آية (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)

٢٠٢

وهو مما شمله قوله تعالى : (لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).

وقوله : (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) ، الإشارة إلى القتل المأخوذ من قوله : (فَاقْتُلُوهُمْ) أي كذلك القتل جزاؤهم على حد ما تقدم في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ونكتة الإشارة تهويله أي لا يقل جزاء المشركين عن القتل ولا مصلحة في الإبقاء عليهم ؛ وهذا تهديد لهم ، فقوله (كَذلِكَ) خبر مقدم للاهتمام وليست الإشارة إلى (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ١٩٠] لأن المقاتلة ليست جزاء ؛ إذ لا انتقام فيها بل القتال سجال يوما بيوم.

وقوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فإن انتهوا عن قتالكم فلا تقتلوهم ؛ لأن الله غفور رحيم ، فينبغي أن يكون الغفران سنة المؤمنين ، فقوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) جواب الشرط وهو إيجاز بديع ؛ إذ كل سامع يعلم أن وصف الله بالمغفرة والرحمة لا يترتب على الانتهاء فيعلم أنه تنبيه لوجوب المغفرة لهم إن انتهوا بموعظة وتأييد للمحذوف ، وهذا من إيجاز الحذف.

والانتهاء : أصله مطاوع نهى يقال : نهاه فانتهى ثم توسع فيه فأطلق على الكف عن عمل أو عن عزم ؛ لأن النهي هو طلب ترك فعل سواء كان الطلب بعد تلبس المطلوب بالفعل أو قبل تلبسه به قال النابغة :

لقد نهيت بني ذبيان عن أقر

وعن تربّعهم في كل أصفار

(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣))

عطف على جملة (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف هذه الجملة ؛ لأنها مبينة لما أجمل من غاية الأمر بقتال المشركين ولكنها عطفت لما وقع من الفصل بينها وبين الجملة المبيّنة.

وقد تضمنت الجمل السابقة من قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩١] إلى هنا تفصيلا لجملة (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ؛ لأن عموم (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) تنشأ عنه احتمالات في الأحوال والأزمنة والبقاع وقد انقضى بيان أحوال

٢٠٣

البقاع وأفضت التوبة الآن إلى بيان تحديد الأحوال بغاية ألا تكون فتنة. فإذا انتهت الفتنة فتلك غاية القتال ، أي إن خاسوا بالعهد وخفروا الذمة في المدة التي بينكم على ترك القتال فقد أصبحتم في حل من عهدهم فلكم أن تقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أخرى من بعد يفتنونكم بها وحتى يدخلوا في الإسلام ، فهذا كله معلق بالشرط المتقدم في قوله : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] ، فإعادة فعل (وَقاتِلُوهُمْ) لتبنى عليه الغاية بقوله : (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) وبتلك الغاية حصلت المغايرة بينه وبين (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وهي التي باعتبارها ساغ عطفه على مثله. ف (حتى) في قوله : (حَتَّى لا تَكُونَ) إما أن تجعل للغاية مرادفة إلى ، وإما أن تجعل بمعنى كي التعليلية وهما متلازمان ؛ لأن القتال لما غيي بذلك تعين أن الغاية هي المقصد ، ومتى كانت الغاية غير حسية نشأ عن (حتى) معنى التعليل ، فإن العلة غاية اعتبارية كقوله تعالى : (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ) [البقرة : ٢١٧]. وأيّا ما كان فالمضارع منصوب بعد (حتى) بأن مضمرة للدلالة على ترتب الغاية.

والفتنة تقدمت قريبا. والمراد بها هنا كالمراد بها هنالك ، ولما وقعت هنا في سياق النفي عمت جميع الفتن فلذلك ساوت المذكورة هنا المذكورة في قوله تعالى : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة : ١٩١] فإعادة الفتنة منكرة هنا لا يدل على المغايرة كما هو الشائع بين المعربين في أن المعرفة إذا أعيدت نكرة فهي غير الأولى ؛ لأن وقوعها في سياق النفي أفاد العموم فشمل جميع أفراد الفتنة مساويا للفتنة المعرفة بلام الاستغراق إلّا أنه استغراق عرفي بقرينة السياق فتقيد بثلاثة قيود بالقرينة أي حتى لا تكون فتنة منهم للمسلمين في أمر الدين وإلّا فقد وقعت فتن بين المسلمين أنفسهم كما في حديث : «ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلّا دخلته».

وانتفاء الفتنة يتحقق بأحد أمرين : إما بأن يدخل المشركون في الإسلام فتنزل فتنتهم فيه ، وإما بأن يقتلوا جميعا فتزول الفتنة بفناء الفاتنين. وقد يفرض انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم ومصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين ، بحيث يخشون بأسهم ، إلّا أن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم وشركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم ، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة في مثل قصة الشاة المسمومة ، وقتلهم عبد الله بن سهل الحارثي في خيبر ، ولذلك فليس المقصود هنا إلّا أحد أمرين : إما دخولهم في الإسلام وإما إفناؤهم بالقتل ،

٢٠٤

وقد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا ، وفريق قتلوا يوم بدر وغيره من الغزوات ، ومن ثم قال علماؤنا : لا تقبل من مشركين العرب الجزية ، ومن ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيرا باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ.

وقوله : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) عطف على (لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فهو معمول لأن المضمرة بعد (حتى) أي وحتى يكون الدين لله ، أي حتى لا يكون دين هنالك إلّا لله أي وحده.

فالتعريف في الدين تعريف الجنس ، لأن الدين من أسماء المواهي التي لا أفراد لها في الخارج فلا يحتمل تعريفه معنى الاستغراق.

واللام الداخلة على اسم الجلالة لام الاختصاص أي حتى يكون جنس الدين مختصا بالله تعالى على نحو ما قرر في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] ، وذلك يئول إلى معنى الاستغراق ولكنه ليس عينه ، إذ لا نظر في مثل هذا للأفراد ، والمعنى : ويكون دين الذين تقاتلونهم خالصا لله لا حظ للإشراك فيه.

والمقصود من هذا تخليص بلاد العرب من دين الشرك وعموم الإسلام لها ؛ لأن الله اختارها لأن تكون قلب الإسلام ومنبع معينه فلا يكون القلب صالحا إذا كان مخلوط العناصر.

وقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أثرا جيدا قال : جاء رجلان إلى ابن عمرأيام فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر وصاحب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي ، فقالا : ألم يقل الله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) فقال ابن عمر : قاتلنا مع رسول الله حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله ، قال ابن عمر : كان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة. وسيأتي بيان آخر في نظير هذه الآية من سورة الأنفال.

وقوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) ، أي فإن انتهوا عن نقض الصلح أو فإن انتهوا عن الشرك بأن آمنوا فلا عدوان عليهم ، وهذا تصريح بمفهوم قوله : (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] واحتيج إليه لبعد الصفة بطول الكلام ولاقتضاء المقام التصريح بأهم الغايتين من القتال ؛ لئلا يتوهم أن آخر الكلام نسخ أوله وأوجب قتال المشركين في كل حال.

٢٠٥

وقوله : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) قائم مقام جواب الشرط لأنه علة الجواب المحذوف ، والمعنى فإن انتهوا عن قتالكم ولم يقدموا عليه فلا تأخذوهم بالظنة ولا تبدءوهم بالقتال ، لأنهم غير ظالمين ؛ وإذ لا عدوان إلّا على الظالمين ، وهو مجاز بديع.

والعدوان هنا إما مصدر عدا بمعنى وثب وقاتل أي فلا هجوم عليهم ، وإما مصدر عدا بمعنى ظلم كاعتدى فتكون تسميته عدوانا مشاكلة لقوله : (عَلَى الظَّالِمِينَ) كما سمي جزاء السيئة بالسوء سيئة. وهذه المشاكلة تقديرية.

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤))

جملة مستأنفة فصلت عن سوابقها لأنه استئناف بياني ؛ فإنه لما بين تعميم الأمكنة وأخرج منها المسجد الحرام في حالة خاصة كان السامع بحيث يتساءل عما يماثل البقاع الحرام وهو الأزمنة الحرام أعني الأشهر الحرم التي يتوقع حظر القتال فيها. فإن كان هذا تشريعا نازلا على غير حادثة فهو استكمال واستفصال لما تدعو الحاجة إلى بيانه في هذا المقام المهم ، وإن كان نازلا على سبب كما قيل : إن المسلمين في عام القضية لما قصدوا مكة في ذي القعدة سنة سبع معتمرين خشوا ألّا يفي لهم المشركون بدخول مكة أو أن يغدروهم ويتعرضوا لهم بالقتال قبل دخول مكة وهم في شهر حرام ، فإن دافعوا عن أنفسهم انتهكوا حرمة الشهر فنزلت هذه الآية ، أو ما روي عن الحسن أن المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اعتمر عمرة القضية : أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام قال : نعم ، فأرادوا قتاله فنزلت هذه الآية أي إن استحلوا قتالكم في الشهر الحرام فقاتلوهم أي أباح الله لهم قتال المدافعة ، فإطلاق الشهر هنا على حذف مضاف واضح التقدير من المقام ومن وصفه بالحرام ، والتقدير حرمة الشهر الحرام ، وتكرير لفظ الشهر على هذا الوجه غير مقصود منه التعدد بل التكرير باعتبار اختلاف جهة إبطال حرمته أي انتهاكهم حرمته تسوغ لكم انتهاك حرمته.

وقيل : معنى قوله : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) ، أن قريشا صدتهم عن البيت عام الحديبية سنة ست ويسر الله لهم الرجوع عام القضية سنة سبع فقال لهم : هذا الشهر الذي دخلتم فيه بدل عن الذي صددتم فيه ، ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي ، يعني أنه من قبيل قولهم : «يوم بيوم والحرب سجال».

٢٠٦

والباء في قوله : (بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) للتعويض كقولهم : صاعا بصاع وليس ثمة شهران بل المراد انتهاك الحرمة منهم ومنكم وهما انتهاكان.

والتعريف في الشهر هنا في الموضعين يجوز أن يكون تعريف الجنس وهو الأظهر ، لأنه يفيد حكما عاما ويشمل كل شهر خاص من الأشهر الحرم على فرض كون المقصود شهر عمرة القضية ، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إن كان المراد شهر عمرة القضية.

والأشهر الحرم أربعة : ثلاثة متتابعة هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وحرمتها لوقوع الحج فيها ذهابا ورجوعا وأداء ، وشهر واحد مفرد وهو رجب وكان في الجاهلية شهر العمرة وقد حرّمته مضر كلها ولذلك يقال له : رجب مضر ، وقد أشير إليها في قوله تعالى : (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) [التوبة : ٣٦].

وقوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) تعميم للحكم ولذلك عطفه ليكون كالحجة لما قبله من قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) [البقرة : ١٩١] وقوله: (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) إلخ ، فالجملة تذييل والواو اعتراضية. ومعنى كونها قصاصا أي مماثلة في المجازاة والانتصاف ، فمن انتهكها بجناية يعاقب فيها جزاء جنايته ، وذلك أن الله جعل الحرمة للأشهر الحرم لقصد الأمن فإذا أراد أحد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى غدر الأمن أو الإضرار به فعلى الآخر الدفاع عن نفسه ، لأن حرمة الناس مقدمة على حرمة الأزمنة ، ويشمل ذلك حرمة المكان كما تقدم في قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) [البقرة : ١٩١] ، والإخبار عن الحرمات بلفظ (قصاص) إخبار بالمصدر للمبالغة.

وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) تفريع عن قوله : (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) ونتيجة له ، وهذا وجه قول «الكشاف» : إنه فذلكة ، وسمي جزاء الاعتداء اعتداء مشاكلة على نحو ما تقدم آنفا في قوله : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٩٣].

وقوله : (بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) يشمل المماثلة في المقدار وفي الأحوال ككونه في الشهر الحرام أو البلد الحرام.

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أمر بالاتقاء في الاعتداء أي بألا يتجاوز الحد ، لأن شأن المنتقم أن يكون عن غضب فهو مظنة الإفراط.

وقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) افتتاح الكلام بكلمة اعلم إيذان بالاهتمام بما

٢٠٧

سيقوله ، فإن قولك في الخطاب : اعلم إنباء بأهمية ما سيلقى للمخاطب وسيأتي بسط الكلام فيه عند قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) في سورة الأنفال [٢٤] ، والمعية هنا مجاز في الإعانة بالنصر والوقاية ، ويجوز أن يكون المعنى : واتقوا الله في حرماته في غير أحوال الاضطرار : واعلموا أن الله مع المتقين فهو يجعلهم بمحل عنايته.

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))

هذه الجملة معطوفة على جملة (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ١٩٠] إلخ فإنهم لما أمروا بقتال عدوهم وكان العدو أوفر منهم عدة حرب أيقظهم إلى الاستعداد بإنفاق الأموال في سبيل الله ، فالمخاطبون بالأمر بالإنفاق جميع المسلمين لا خصوص المقاتلين.

ووجه الحاجة إلى هذا الأمر. مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع ـ تنبيه المسلمين فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي ، لأنهم قد ملئت قلوبهم إيمانا بالله وثقة به ، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر وأخيرا بقوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب ناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنه الله في الأسباب ومسبباتها ، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها كيلا يكونوا كالذين قالوا لموسى (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] فالمسلمون إذا بذلوا وسعهم ، ولم يفرطوا في شيء ثم ارتبكوا في أمر بعد ذلك فالله ناصرهم ، ومؤيدهم فيما لا قبل لهم بتحصيله ولقد نصرهم الله ببدر هم أذلة ، إذ هم يومئذ جملة المسلمين وإذ لم يقصروا في شيء ، فأما أقوام يتلفون أموال المسلمين في شهواتهم ، ويفيتون الفرص وقت الأمن فلا يستعدون لشيء ثم يطلبون بعد ذلك من الله النصر والظفر فأولئك قوم مغرورون ، ولذلك يسلط الله عليهم أعداءهم بتفريطهم ، ولعله يتداركهم في خلال ذلك بلطفه فيما يرجع إلى استبقاء الدين.

والإنفاق تقدم في قوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣].

و (سبيل الله) طريقه ، والطريق إذا أضيف إلى شيء فإنما يضاف إلى ما يوصل إليه ،

٢٠٨

ولما علم أن الله لا يصل إليه الناس تعيّن أن يكون المراد من الطريق العمل الموصل إلى مرضاة الله وثوابه ، فهو مجاز في اللفظ ومجاز في الإسناد ، وقد غلب (سبيل الله) في اصطلاح الشرع في الجهاد. أي القتال للذب عن دينه وإعلاء كلمته ، و (في) للظرفية لأن النفقة تكون بإعطاء العتاد ، والخيل ، والزاد ، وكل ذلك مظروف للجهاد على وجه المجاز وليست (في) هنا مستعملة للتعليل.

وقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) عطف غرض على غرض ، عقّب الأمر بالإنفاق في سبيل الله بالنهي عن الأعمال التي لها عواقب ضارة إبلاغا للنصيحة والإرشاد لئلا يدفع بهم يقينهم بتأييد الله إياهم إلى التفريط في وسائل الحذر من غلبة العدو ، فالنهي عن الإلقاء بالنفوس إلى التهلكة يجمع معنى الأمر بالإنفاق وغيره من تصاريف الحرب وحفظ النفوس ، ولذلك فالجملة فيها معنى التذييل وإنما عطفت ولم تفصل باعتبار أنها غرض آخر من أغراض الإرشاد.

والإلقاء رمي الشيء من اليد وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه وإلى المرمى إليه بإلى وإلى المرمى فيه بفي.

والظاهر أن الأيدي هي المفعول إذ لم يذكر غيره ، وأن الباء زائدة لتوكيد اتصال الفعل بالمفعول كما قالوا للمنقاد «أعطى بيده» أي أعطى يده لأن المستسلم في الحرب ونحوه يشد بيده ، فزيادة الباء كزيادتها في (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥] وقول النابغة :

لك الخير إن وارت بك الأرض واحدا

والمعنى ولا تعطوا الهلاك أيديكم فيأخذكم أخذ الموثق ، وجل التهلكة كالآخذ والآسر استعارة بجامع الإحاطة بالملقى ، ويجوز أن تجعل اليد مع هذا مجازا عن الذات بعلاقة البعضية لأن اليد أهم شيء في النفس في هذا المعنى ، وهذا في الأمرين كقول لبيد :

حتّى إذا ألقت يدا في كافر

أي ألقت الشمس نفسها. وقيل الباء سببية والأيدي مستعملة في معنى الذات كناية عن الاختيار والمفعول محذوف أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة باختياركم.

والتهلكة بضم اللام اسم مصدر بمعنى الهلاك ، وإنما كان اسم مصدر لأنه لم يعهد

٢٠٩

في المصادر وزن التّفعلة بضم العين وإنما في المصادر التفعلة بكسر العين لكنّه مصدر مضاعف العين المعتل اللام كزكّى وغطّى ، أو المهموز اللام كجزّأ وهيأ ، وحكى سيبويه له نظيرين في المشتقات التّضرّة والتّسرّة بضم العين من أضر وأسر بمعنى الضّر والسّرور ، وفي الأسماء الجامدة التّنضبة والتّتفلة (الأول اسم شجر ، والثاني ولد الثعلب).

وفي «تاج العروس» أن الخليل قرأها (التهلكة) بكسر اللام ولا أحسب الخليل قرأ كذلك ؛ فإن هذا لم يرو عن أحد من القراء في المشهور ولا الشاذ فإن صح هذا النقل فلعل الخليل نطق به على وجه المثال فلم يضبط من رواه عنه حق الضبط ، فإن الخليل أجل من أن يقرأ القرآن بحرف غير مأثور.

ومعنى النهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة النهي عن التسبب في إتلاف النفس أو القوم عن تحقق الهلاك بدون أن يجتنى منه المقصود.

وعطف على الأمر بالإنفاق للإشارة إلى علة مشروعية الإنفاق وإلى سبب الأمر به فإنّ ترك الإنفاق في سبيل الله والخروج بدون عدة إلقاء باليد للهلاك كما قيل :

كساع إلى الهيجا بغير سلاح

فلذلك وجب الإنفاق ، ولأن اعتقاد كفاية الإيمان بالله ونصر دينه في هزم الأعداء اعتقاد غير صحيح ، لأنه كالذي يلقي بنفسه للهلاك ويقول سينجيني الله تعالى ، فهذا النهي قد أفاد المعنيين جميعا وهذا من أبدع الإيجاز.

وفي البخاري عن ابن عباس وجماعة من التابعين في معنى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) لا تتركوا النفقة في سبيل الله وتخافوا العيلة وإن لم إلّا يكز سهم أو مشقص فأت به.

وقد قيل في تفسير (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أقوال :

الأول أنّ (أَنْفِقُوا) أمر بالنفقة على العيال ، والتهلكة : الإسراف فيها أو البخل الشديد رواه البخاري عن حذيفة ، ويبعده قوله (فِي سَبِيلِ اللهِ) وأن إطلاق التهلكة على السرف بعيد وعلى البخل أبعد.

الثاني أنها النفقة على الفقراء أي الصدقة والتهلكة الإمساك وببعده عدم مناسبة العطف وإطلاق التهلكة على الإمساك.

٢١٠

الثالث الإنفاق في الجهاد ، والإلقاء إلى التهلكة الخروج بغير زاد.

الرابع الإلقاء باليد إلى التهلكة : الاستسلام في الحرب أي لا تستسلموا للأسر.

الخامس أنه الاشتغال عن الجهاد وعن الإنفاق فيه بإصلاح أموالهم.

روى الترمذي عن أسلم أبي عمران قال : كنا بمدينة الروم (القسطنطينية) فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسلمين مثلهم فحمل رجل من المسلمين على صف للروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا : سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة ، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال : يا أيها الناس إنكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل وإنما أنزلت فينا معاشر الأنصار لما أعزّ الله الإسلام وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها فأنزل الله على نبيه يرد علينا ما قلنا : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو ا ه ، والآية تتحمل جميع المعاني المقبولة.

ووقوع فعل (تُلْقُوا) في سياق النهي يقتضي عموم كل إلقاء باليد للتهلكة أي كل تسبب في الهلاك عن عمد فيكون منهيا عنه محرما ما لم يوجد مقتض لإزالة ذلك التحريم وهو ما يكون حفظه مقدما على حفظ النفس مع تحقق حصول حفظه بسبب الإلقاء بالنفس إلى الهلاك أو حفظ بعضه بسبب ذلك. فالتفريط في الاستعداد للجهاد حرام لا محالة لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة ، وإلقاء بالأمة والدين إليها بإتلاف نفوس المسلمين.

وقد اختلف العلماء في مثل هذا الخبر الذي رواه الترمذي عن أبي أيوب وهو اقتحام الرجل الواحد على صف العدو فقال القاسم بن محمد (من التابعين) وعبد الملك بن الماجشون وابن خويزمنداد (من المالكية) ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة : لا بأس بذلك إذا كان فيه قوة وكان بنية خالصة لله تعالى وطمع في نجاة أو في نكاية العدو أو قصد تجرئة المسلمين عليهم ، وقد وقع ذلك من بعض المسلمين يوم أحد بمرأى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن لم يكن كذلك كان من الإلقاء إلى التهلكة.

وقوله تعالى : (وَأَحْسِنُوا) الإحسان فعل النافع الملائم ، فإذا فعل فعلا نافعا مؤلما لا يكون محسنا فلا تقول إذا ضربت رجلا تأديبا : أحسنت إليه ولا إذا جاريته في ملذات مضرة أحسنت إليه ، وكذا إذا فعل فعلا مضرا ملائما لا يسمى محسنا.

٢١١

وفي حذف متعلق (أَحْسِنُوا) تنبيه على أن الإحسان مطلوب في كل حال ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «إن الله كتب الإحسان على كل شيء».

وفي الأمر بالإحسان بعد ذكر الأمر بالاعتداء على المعتدي والإنفاق في سبيل الله والنهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة إشارة إلى أنّ كلّ هاته الأحوال يلابسها الإحسان ويحفّ بها ، ففي الاعتداء يكون الإحسان بالوقوف عند الحدود والاقتصاد في الاعتداء والاقتناع بما يحصل به الصلاح المطلوب ، وفي الجهاد في سبيل الله يكون الإحسان بالرفق بالأسير والمغلوب وبحفظ أموال المغلوبين وديارهم من التخريب والتحريق ، والعرب تقول : «ملكت فأسجح» ، والحذر من الإلقاء باليد إلى التهلكة إحسان.

وقوله : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) تذييل للترغيب في الإحسان ، لأن محبة الله عبده غاية ما يطلبه الناس إذ محبة الله العبد سبب الصلاح والخير دنيا وآخرة ، واللام للاستغراق العرفي والمراد المحسنون من المؤمنين.

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦))

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

هذا عود إلى الكلام على العمرة فهو عطف على قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) [البقرة : ١٨٩] إلخ وما بينهما استطراد أو اعتراض ، على أن عطف الأحكام بعضها على بعض للمناسبة طريقة قرآنية فلك أن تجعل هذه الجملة عطفا على التي قبلها عطف قصة على قصة.

ولا خلاف في أنّ هذه الآية نزلت في الحديبية سنة ست حين صد المشركون المسلمين عن البيت كما سيأتي في حديث كعب بن عجرة ، وقد كانوا ناوين العمرة وذلك قبل أن يفرض الحج ، فالمقصود من الكلام هو العمرة ؛ وإنما ذكر الحج على وجه الإدماج

٢١٢

تبشيرا بأنهم سيتمكنون من الحج فيما بعد ، وهذا من معجزات القرآن.

والإتمام إكمال الشيء والإتيان على بقايا ما بقي منه حتى يستوعب جميعه.

ومثل هذا الأمر المتعلق بوصف فعل يقع في كلامهم على وجهين : أحدهما وهو الأكثر أن يكون المطلوب تحصيل وصف خاص للفعل المتعلق به الوصف كالإتمام في قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَ) أي كملوه إن شرعتم فيه ، وكذا قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧] على ما اخترناه وقوله تعالى : (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) [التوبة:٤] ومثله أن تقول : أسرع السير للذي يسير سيرا بطيئا ، وثانيهما أن يجيء الأمر بوصف الفعل مرادا به تحصيل الفعل من أول وهلة على تلك الصفة نظير قوله تعالى : (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٥٠] ، وذلك كقولك : أسرع السير فادع لي فلانا تخاطب به مخاطبا لم يشرع في السير بعد ، فأنت تأمره بإحداث سير سريع من أول وهلة ، ونظيره قولهم : «وسّع فم الركية ، وقولهم : وسع كم الجبة وضيق جيبها» أي أوجدها كذلك من أول الأمر ، وهذا ضرب من ضروب التعبير ليس بكناية ولا مجاز ، ولكنه أمر بمجموع شيئين وهو أقل ؛ لأن الشأن أن يكون المطلوب بصيغة الأمر ابتداء هو الحدث الذي منه مادة تلك الصيغة.

والآية تحتمل الاستعمالين ، فإن كان الأول فهي أمر بإكمال الحج والعمرة ، بمعنى ألا يكون حجا وعمرة مشوبين بشغب وفتنة واضطراب أو هي أمر بإكمالهما وعدم الرجوع عنهما بعد الإهلال بهما ولا يصدهم عنهما شنآن العدو ، وإن كان الثاني فهي أمر بالإتيان بهما تامين أي مستكملين ما شرع فيهما.

والمعنى الأول أظهر وأنسب بالآيات التي قبلها ، وكأنّ هذا التحريض مشير إلى أن المقصود الأهم من الحج والعمرة هنا هما الصّرورة في الحج وكذا في العمرة على القول بوجوبها.

واللام في (الحج والعمرة) لتعريف الجنس ، وهما عبادتان مشهورتان عند المخاطبين متميزتان عن بقية الأجناس ، فالحج هو زيارة الكعبة في موسم معين في وقت واحد ، للجماعة وفيه وقوف عرفة ، والعمرة زيارة الكعبة في غير موسم معين وهي لكل فرد بخصوصه.

وأصل الحج في اللغة بفتح الحاء وكسرها تكرر القصد إلى الشيء أو كثرة قاصديه.

٢١٣

وعن ابن السكيت : الحج كثرة الاختلاف والتردد يقال حج بنو فلان فلانا أطالوا الاختلاف إليه وفي «الأساس» : فلان تحجه الرفاق أي تقصده ا ه. فجعله مفيدا بقصد من جماعة كقول المخبل السعدي واسمه الربيع :

وأشهد من عوف حلولا كثيرة

يحجّون سبّ الزّبرقان المزعفرا

والحج من أشهر العبادات عند العرب وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه‌السلام كما حكى الله ذلك بقوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) [الحج : ٢٧] الآية حتى قيل : إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج ، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعي لله تعالى قال النابغة يصف الحجيج ورواحلهم :

عليهنّ شعث عامدون لربّهم

فهن كأطراف الحنيّ خواشع

وكانوا يتجردون عند الإحرام من مخيط الثياب ولا يمسون الطيب ولا يقربون النساء ولا يصطادون ، وكان الحج طوافا بالبيت وسعيا بين الصفا والمروة ووقوفا بعرفة ونحرا بمنى. وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطا ولا سمنا ـ أي لأنه أكل المترفهين ـ ولا يستظل بسقف ، ومنهم من يحج متجردا من الثياب ، ومنهم من لا يستظل من الشمس ، ومنهم من يحج صامتا لا يتكلم ، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج ، ولهم في الحج مناسك وأحكام ذكرناها في «تاريخ العرب».

وكان للأمم المعاصرة للعرب حجوج كثيرة ، وأشهر الأمم في ذلك اليهود فقد كانوا يحجون إلى الموضع الذي فيه تابوت العهد أي إلى هيكل (أورشليم) وهو المسجد الأقصى ثلاث مرات في السنة ليذبحوا هناك فإن القرابين لا تصح إلّا هناك ومن هذه المرات مرة في عيد الفصح.

واتخذت النصارى زيارات كثيرة ، حجا ، أشهرها زياراتهم لمنازل ولادة عيسى عليه‌السلام وزيارة (أورشليم) ، وكذا زيارة قبر (ماربولس) وقبر (ماربطرس) برومة ، ومن حج النصارى الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو أقدم حجهم أنهم كانوا قبل الإسلام يحجون إلى مدينة (عسقلان) من بلاد السواحل الشامية ، والمظنون أن الذين ابتدعوا حجها هم نصارى الشام من الغساسنة لقصد صرف الناس عن زيارة الكعبة وقد ذكره سحيم عبد بني الحسحاس وهو من المخضرمين في قوله يصف وحوشا جرفها السيل :

كأنّ الوحوش به عسقلا

ن صادفن في قرن حجّ ديافا

٢١٤

أي أصابهن سم فقتلهن وقد ذكر ذلك أئمة اللغة.

وقد كان للمصريين والكلدان حج إلى البلدان المقدسة عندهم ، ولليونان زيارات كثيرة لمواقع مقدسة مثل أولمبيا وهيكل (زفس) وللهنود حجوج كثيرة.

والمقصود من هذه الآية إتمام العمرة التي خرجوا لقضائها ، وذكر الحج معها إدماج (١) ، لأن الحج لم يكن قد وجب يومئذ ، إذ كان الحج بيد المشركين ففي ذكره بشارة بأنه يوشك أن يصير في قبضة المسلمين.

وأما العمرة فهي مشتقة من التعمير وهو شغل المكان ضد الإخلاء ولكنها بهذا الوزن لا تطلق إلّا على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج ، وهي معروفة عند العرب وكانوا يجعلون ميقاتها ما عدا أشهر ذي الحجة والمحرم وصفر ، فكانوا يقولون «إذا برئ الدبر ، وعفا الأثر ، وخرج صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر» ولعلهم جعلوا ذلك لتكون العمرة بعد الرجوع من الحج وإراحة الرواحل.

واصطلح المضريّون على جعل رجب هو شهر العمرة ولذلك حرمته مضر فلقب برجب مضر ، وتبعهم بقية العرب ، ليكون المسافر للعمرة آمنا من عدوه ؛ ولذلك لقبوا رجبا (منصل الأسنة) ويرون العمرة في أشهر الحج فجورا.

وقوله (لِلَّهِ) أي لأجل الله وعبادته والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلّا لله ولا العمرة إلّا له ، لأن الكعبة بيت الله وحرمه ، فالتقييد هنا بقوله (لِلَّهِ) تلويح إلى أن الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين وإن كان لهم فيهما منفعة وكانوا هم سدنة الحرم ، وهم الذين منعوا المسلمين منه ، كيلا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين ، فقيل لهم إن ذلك لا يصد عن الرغبة في الحج والعمرة لأنكم إنما تحجون لله لا لأجل المشركين ولأن الشيء الصالح المرغوب فيه إذا حف به ما يكدره لا ينبغي أن يكون ذلك صارفا عنه ، بل يجب إزالة ذلك العارض عنه ، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة.

__________________

(١) في «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي ، مادة إدماج ، ج (١ / ٤٦٤) : الإدماج في اصطلاح أهل البديع : أن يضمن كلام سيق لمعني» ، معنى آخر ، وهذا المعنى الآخر يجب أن لا يكون مصرحا به ولا يكون في الكلام إشعار بأنه مسوق لأجله.

٢١٥

ويجوز أن يكون التقييد بقوله : (لِلَّهِ) لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام ، فإن المشركين لما وضعوا هبلا على الكعبة ووضعوا إسافا ونائلة على الصفا والمروة قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى. وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين.

وليس في الآية حجة عند مالك وأبي حنيفة رحمهما‌الله على وجوب الحج ولا العمرة ولكن دليل حكم الحج والعمرة عندهما غير هذه الآية ، وعليه فمجمل الآية عندهما على وجوب هاتين العبادتين لمن أحرم لهما ، فأما مالك فقد عدهما من العبادات التي تجب بالشروع فيها وهي سبع عبادات عندنا هي الصلاة ، والصيام ، والاعتكاف ، والحج ، والعمرة ، والطواف ، والائتمام ، وأما أبو حنيفة فقد أوجب النوافل كلها بالشروع.

ومن لم ير وجوب النوافل بالشروع ولم ير العمرة واجبة يجعل حكم إتمامها كحكم أصل الشروع فيها ويكون الأمر بالإتمام في الآية مستعملا في القدر المشترك من الطلب اعتمادا على القرائن ، ومن هؤلاء من قرأ ، (والعمرة) بالرفع حتى لا تكون فيما شمله الأمر بالإتمام بناء على أن الأمر للوجوب فيختص بالحج.

وجعلها الشافعية دليلا على وجوب العمرة كالحج ، ووجه الاستدلال له أن الله أمر بإتمامها فإما أن يكون الأمر بالإتمام مرادا به الإتيان بهما تامين أي مستجمعي الشرائط والأركان ، فالمراد بالإتمام المعنى الشرعي على أحد الاستعمالين السابقين ، قالوا : إذ ليس هنا كلام على الشروع حتى يؤمر بالإتمام ، ولأنه معضود بقراءة «وأقيموا الحج» وإما أن يكون المراد بالإتمام هنا الإتيان على آخر العبادة فهو يستلزم الأمر بالشروع ، لأن الإتمام يتوقف على الشروع ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فيكون الأمر بالإتمام كناية عن الأمر بالفعل.

والحق أن حمل الأمر في ذلك بأصل الماهية لا بصفتها استعمال قليل كما عرفت ، وقراءة : «وأقيموا» لشذوذها لا تكون داعيا للتأويل ، ولا تتنزل منزلة خبر الآحاد ، إذا لم يصح سندها إلى من نسبت إليه وأما على الاحتمال الأول فلأن التكني بالإتمام عن إيجاب الفعل مصير إلى خلال الظاهر مع أن اللفظ صالح للحمل على الظاهر ؛ بأن يدل على معنى : إذا شرعتم فأتموا الحج والعمرة ، فيكون من دلالة الاقتضاء ويكون حقيقة وإيجازا بديعا ، وهو الذي يؤذن به السياق كما قدمنا ، لأنهم كانوا نووا العمرة ، على أن شأن إيجاب الوسيلة بإيجاب المتوسل إليه أن يكون المنصوص على وجوبه هو المقصد فكيف

٢١٦

يدعي الشافعية أن (أَتِمُّوا) هنا مراد منه إيجاب الشروع ، لأن ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب كما أشار له العصام.

فالحق أن الآية ليست دليلا لحكم العمرة. وقد اختلف العلماء في حكمها : فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها سنة قال مالك : لا أعلم أحدا رخص في تركها وهذا هو مذهب جابر ابن عبد الله وابن مسعود من الصحابة والنخعي من التابعين.

وذهب الشافعي وأحمد وابن الجهم من المالكية إلى وجوبهما ، وبه قال عمرو ابن عمر وابن عباس من الصحابة وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي وسعيد بن جبير ، وأبو بردة ، ومسروق ، وإسحاق بن راهويه.

ودليلنا حديث جابر بن عبد الله ، «قيل : يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج فقال: لا ، وأن تعتمروا فهو أفضل» أخرجه الترمذي ، لأن عبادة مثل هذه لو كانت واجبة لأمر بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يثبت وجوبها بتلفيقات ضعيفة ، وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يقول : لو لا التحرج وأني لم أسمع من رسول الله في ذلك شيئا لقلت : العمرة واجبة ا ه محل الاحتجاج قوله : لم أسمع إلخ ، ولأن الله تعالى قال : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] ولم يذكر العمرة ، ولأنه لا يكون عبادتان واجبتان هما من نوع واحد. ولأن شأن العبادة الواجبة أن تكون مؤقتة.

واحتج أصحابنا أيضا بحديث : «بني الإسلام على خمس» وحديث جبريل في الإيمان والإسلام ولم يذكر فيهما العمرة ، وحديث الأعرابي الذي قال : «لا أزيد ولا أنقص : فقال : أفلح إن صدق» ولم يذكر العمرة ولم يحتج الشافعية بأكثر من هذه الآية ، إذ قرنت فيها مع الحج ، وبقول بعض الصحابة وبالاحتياط.

واحتج عمر بن الخطاب بهذه الآية على منع التمتع وهو الإحرام بعمرة ثم الحل منها في مدة الحج ثم الحج في عامه ذلك قبل الرجوع إلى بلده ، ففي البخاري أخرج حديث أبي موسى الأشعري قال : «بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قوم باليمن فجئت وهو بالبطحاء (عام حجة الوداع) فقال : بم أهللت؟ فقلت : أهللت كإهلال النبي قال : أحسنت هل معك من هدى! قلت : لا ، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني أو غسلت رأسي ، ثم أهللت بالحج فكنت أفتي الناس به حتى خلافة عمر فذكرته له فقال : أن نأخذ بكتاب الله ، فإنه يأمرنا بالتمام ، قال تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) وأن نأخذ بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه لم يحل حتى بلغ الهدي

٢١٧

محله ، يريد عمر ـ والله أعلم ـ أن أبا موسى أهل بإهلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والنبي كان مهلا بحجة وعمرة معا فهو قارن والقارن متلبس بحج ، فلا يجوز أن يحل في أثناء حجه وتمسك بفعل الرسول عليه‌السلام أنه كان قارنا ولمن يحل ، وهذا مبني على عدم تخصيص المتواتر بالآحاد كما هو قوله في حديث فاطمة ابنة قيس في النفقة.

وقوله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) عطف على (أَتِمُّوا) ، والفاء للتفريع الذكري فإنه لما أمر بإتمام الحج والعمرة ذكر حكم ما يمنع من ذلك الإتمام.

ولا سيما الحج ؛ لأن وقته يفوت غالبا بعد ارتفاع المانع ، بخلاف العمرة. والإحصار في كلام العرب منع الذات من فعل ما ، يقال : أحصره منعه مانع قال تعالى : (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٧٣] أي منعهم الفقر من السفر للجهاد وقال ابن ميادة :

وما هجر ليلى أن تكون تباعدت

عليك ولا أن أحصرتك شغول

وهو فعل مهموز لم تكسبه همزته تعدية ، لأنه مرادف حصره ونظيرهما صده وأصده. هذا قول المحققين من أئمة اللغة ، ولكن كثر استعمال أحصر المهموز في المنع الحاصل من غير العدو ، وكثر استعمال حصر المجرد في المنع من العدو ، قال : (وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ) [التوبة : ٥] فهو حقيقة في المعنيين ولكن الاستعمال غلب أحدهما في أحدهما كما قال الزمخشري في «الكشاف» ، ومن اللغويين من قال : أحصر حقيقة في منع غير العدو وحصر حقيقة في منع العدو وهو قول الكسائي وأبي عبيدة والزجاج ، ومن اللغويين من عكس وهو ابن فارس لكنه شاذ جدا.

وجاء الشرط بحرف (إن) لأن مضمون الشرط كريه لهم فألقى إليهم الكلام إلقاء الخبر الذي يشك في وقوعه ، والمقصود إشعارهم بأن المشركين سيمنعونهم من العمرة.

وقد اختلف الفقهاء في المراد من الإحصار في هذه الآية على نحو الاختلاف في الوضع أو في الاستعمال والأظهر عندي أن الإحصار هنا أطلق على ما يعم المنع من عدو أو من غيره بقرينة قوله تعالى عقبه : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) فإنه ظاهر قوي في أن المراد منه الأمن من خوف العدو ، وأن هذا التعميم فيه قضاء حق الإيجاز في جمع أحكام الإحصار ثم تفريقها كما سأبينه عند قوله تعالى : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ، وكأنّ هذا هو الذي يراه مالك رحمه‌الله ، ولذلك لم يحتج في «الموطأ» على حكم الإحصار بغير عدو بهذه الآية ، وإنما

٢١٨

احتج بالسنة. وقال جمهور أصحابه أريد بها المنع الحاصل من مرض ونحوه دون منع العدو ، بناء على أن إطلاق الإحصار على هذا المنع هو الأكثر في اللغة. ولأن هذه الآية جعلت على المحصر هديا ولم ترد السنة بمشروعية الهدي فيمن حصره العدو أي مشروعية الهدي لأجل الإحصار أما من ساق معه الهدي فعليه نسكه لا لأجل الإحصار ، ولذلك قال مالك بوجوب الهدي على من أحصر بمرض أو نفاس أو كسر من كل ما يمنعه أن يقف الموقف مع الناس مع وجوب الطواف والسعي عند زوال المانع ووجوب القضاء من قابل لما في «الموطأ» من حديث معبد بن حزابة المخزومي أنه صرع ببعض طريق مكة وهو محرم فسأل ابن عمر وابن الزبير ومروان بن الحكم فكلهم أمره أن يتداوى ويفتدي ، فإذا أصح اعتمر ، فحل من إحرامه ثم عليه حج قابل ، وأن عمر بن الخطاب أمر بذلك أبا أيوب وهبّار بن الأسود حين فاتهما وقوف عرفة ، بخلاف حصار العدو ، واحتج في «الموطأ» بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يأمر أحدا من أصحابه ولا من كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا لشيء ، ووجّه أصحابنا ذلك بالتفرقة ؛ لأن المانع في المرض ونحوه من ذات الحاج ؛ فلذلك كان مطالبا بالإتمام ، وأما في إحصار العدو فالمانع خارجي ، والأظهر في الاستدلال أن الآية وإن صلحت لكل منع لكنها في منع غير العدو أظهر وقد تأيدت أظهريتها بالسنة.

وقال الشافعي : لا قضاء فيهما وهو ظاهر الآية للاقتصار على الهدي وهو اقتصار على مفهوم الآية ومخالفة ما ثبت بالسنة ، وقال أبو حنيفة : كل منع من عدو أو مرض فيه وجوب القضاء والهدي ولا يجب عليه طواف ولا سعي بعد زوال عذره بل إن نحر هديه حل والقضاء عليه. ولا يلزمه ما يقتضيه حديث الحديبية ؛ لأن الآية إن كانت نزلت بعده فعمومها نسخ خصوص الحديث ، وإن نزلت قبله فهو آحاد لا يخصص القرآن عنده ، على أن حديث الحديبية متواتر ؛ لأن الذين شهدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ يزيدون على عدد التواتر ، ولم ينقل عنهم ذلك مع أنه مما تتوافر الدواعي على نقله.

وقال الشافعي : المراد هنا منع العدو بقرينة قوله (فَإِذا أَمِنْتُمْ) ولأنها نزلت في عام الحديبية وهو إحصار عدوّ ؛ ولذلك أوجب الهدي على المحصر أما محصر العدوّ فبنصّ الآية ، وأما غيره فبالقياس عليه. وعليه : إن زال عذره فعليه الطواف بالبيت والسعي ، ولم يقل بوجوب القضاء عليه ؛ إذ ليس في الآية ولا في الحديث.

وقوله : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) جواب الشرط وهو مشتمل على أحد ركني الإسناد

٢١٩

وهو المسند إليه دون المسند فلا بد من تقدير دل عليه قوله : (مِنَ الْهَدْيِ) وقدره في «الكشاف» فعليكم ، والأظهر أن يقدر فعل أمر أي فاهدوا ما استيسر من الهدي ، وكلا التقديرين دال على وجوب الهدي. ووجوبه في الحج ظاهر وفي العمرة كذلك ؛ بأنها مما يجب إتمامه بعد الإحرام باتفاق الجمهور.

و (استيسر) هنا بمعنى يسر فالسين والتاء للتأكيد كاستعصب عليه بمعنى صعب أي ما أمكن من الهدي بإمكان تحصيله وإمكان توجيهه ، فاستيسر هنا مراد جميع وجوه التيسر.

والهدي اسم الحيوان المتقرب به لله في الحج فهو فعل من أهدى ، وقيل هو جمع هدية كما جمعت جدية السرج على جدي (١) ، فإن كان اسما فمن بيانية ، وإن كان جمعا فمن تبعيضية ، وأقل ما هو معروف عندهم من الهدي الغنم ، ولذلك لم يبينه الله تعالى هنا ، وهذا الهدي إن كان قد ساقه قاصد الحج والعمرة معه ثم أحصر فالبعث به إن أمكن واجب ، وإن لم يكن ساقه معه فعليه توجيهه على الخلاف في حكمه من وجوبه وعدمه ، والمقصود من هذا تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان ، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها.

وقوله : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ) الآية بيان لملازمة حالة الإحرام حتى ينحر الهدي ، وإنما خص النهي عن الحلق دون غيره من منافيات الإحرام كالطيب تمهيدا لقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) ويعلم استمرار حكم الإحرام في البقية بدلالة القياس والسياق وهذا من مستتبعات التراكيب وليس بكناية عن الإحلال لعدم وضوح الملازمة. والمقصود من هذا تحصيل بعض ما أمكن من أحوال المناسك وهو استبقاء الشعث المقصود في المناسك.

والمحل بفتح الميم وكسر الحاء مكان الحلول أو زمانه يقال : حل بالمكان يحل بكسر الحاء وهو مقام الشيء والمراد به هنا مبلغه وهو ذبحه للفقراء ، وقيل محله : هو محل ذبح الهدايا وهو منى والأول قول مالك.

وقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) الآية ، المراد مرض يقتضي الحلق سواء كان المرض بالجسد أم بالرأس ، وقوله : (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) كناية عن

__________________

(١) جدية السرج شيء محشو يجعل تحت دفتي السرج.

٢٢٠