تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

وقوله : (مِنَ الْفَجْرِ) من ابتدائية أي الشعاع الناشئ عن الفجر ، وقيل بيانية وقيل تبعيضية وكذلك قول أبي دؤاد «من الصبح» لأن الخيط شائع في السلك الذي يخاط به فهو قرينة إحدى المعنيين للمشترك ، وجعله في «الكشاف» تشبيها بليغا ، فلعله لم يثبت عنده اشتهار إطلاقه على هذا المعنى في غير بعض الكلام ، كالآية وبيت أبي دؤاد ، وعندي أن القرآن ما أطلقه إلّا لكونه كالنص في المعنى المراد في اللغة الفصحى دون إرادة التشبيه لأنه ليس بتشبيه واضح.

وقد جيء في الغاية بحتى وبالتّبيّن للدلالة على أن الإمساك يكون عند اتضاح الفجر للناظر وهو الفجر الصادق ، ثم قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) تحديد لنهاية وقت الإفطار بصريح المنطوق ؛ وقد علم منه لا محالة أنه ابتداء زمن الصوم ، إذ ليس في زمان رمضان إلّا صوم وفطر وانتهاء أحدهما مبدأ الآخر فكان قوله : (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) بيانا لنهاية وقت الصيام ولذلك قال تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا) ولم يقل ثم صوموا لأنهم صائمون من قبل.

و (إِلَى اللَّيْلِ) غاية اختير لها (إلى) للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن إلى لا تمتد معها الغاية بخلاف حتى ، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل.

واعلم أن ثم في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهتمام بتعيين وقت الإفطار ، لأن ذلك كالبشارة لهم ، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة تأخير النية عن الفجر احتجاجا لمذهب أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الصحوة الكبرى. بناء على أن ثم للتراخي وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه ، فكأنه قال ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة غفلة عن معنى التراخي في عطف (ثم) للجمل.

هذا ، وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة ، فروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال : «لما نزلت (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت انظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرت له ذلك فقال رسول الله : إن وسادك لعريض ، وفي رواية : إنك لعريض القفا ، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار».

١٨١

ورويا عن سهل بن سعد قال نزلت : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد (مِنَ الْفَجْرِ) ، فيظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي بن حاتم قد كان عمله غيره من قبله بمدة طويلة ، فإن عديا أسلم سنة تسع أو سنة عشر ، وصيام رمضان فرض سنة اثنتين ولا يعقل أن يبقى المسلمون سبع أو ثماني سنين في مثل هذا الخطأ ، فمحل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مدة شرع الصيام ، ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عديا وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه من تقدموه ، فإن الذي عند مسلم عن عبد الله بن إدريس عن حصين عن الشعبي عن عدي أنه قال لما نزلت : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) إلخ فهو قد ذكر الآية مستكملة ، فيتعين أن يكون محمل حديث سهل بن سعد على أن ذلك قد عمله بعض الناس في الصوم المفروض قبل فرض رمضان أي صوم عاشوراء أو صوم النّذر وفي صوم التّطوع ، فلما نزلت آية فرض رمضان وفيها (مِنَ الْفَجْرِ) علموا أن ما كانوا يعملونه خطأ ، ثم حدث مثل ذلك لعدي بن حاتم.

وحديث سهل لا شبهة في صحة سنده إلّا أنه يحتمل أن يكون قوله فيه ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) وقوله فأنزل الله بعد ذلك (مِنَ الْفَجْرِ) مرويا بالمعنى فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة ، لأنه لم يقع في «الصحيحين» إلّا من رواية سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد فقال الراوي : «فأنزل بعد ـ أو بعد ذلك ـ من الفجر» وكان الأوضح أن يقول فأنزل الله بعد : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) ـ إلى قوله ـ (مِنَ الْفَجْرِ).

وأيّا ما كان فليس في هذا شيء من تأخير البيان ، لأن معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب ، فالتعبير به من قبيل الظاهر لا من قبيل المجمل ، وعدم فهم بعضهم المراد منه لا يقدح في ظهور الظاهر ، فالذين اشتبه عليهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فهموا أشهر معاني الخيط وظنوا أن قوله : (مِنَ الْفَجْرِ) متعلق بفعل (يَتَبَيَّنَ) على أن تكون (من) تعليلية أي يكون تبينه بسبب ضوء الفجر ، فصنعوا ما صنعوا ولذلك قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لعدي بن حاتم «إنّ وسادك لعريض ـ أو إنك لعريض القفا» كناية عن قلة الفطنة وهي كناية موجهة من جوامع كلمه عليه‌السلام.

١٨٢

وقوله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ) عطف على قوله : (بَاشِرُوهُنَ) لقصد أن يكون المعتكف صالحا. وأجمعوا على أنه لا يكون إلّا في المسجد لهاته الآية ، واختلفوا في صفة المسجد فقيل لا بد من المسجد الجامع وقيل مطلق مسجد وهو التحقيق وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم‌الله ، وأحكامه في كتب الفقه وليست من غرض هذا المفسر.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

تذييل بالتحذير من مخالفة ما شرع إليه من أحكام الصيام. فالإشارة إلى ما تقدم ، والإخبار عنها بالحدود عيّن أن المشار إليه هو التحديدات المشتمل عليها الكلام السابق وهي قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ) وقوله : (إِلَى اللَّيْلِ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ) من كل ما فيه تحديد يفضي تجاوزه إلى معصية ، فلا يخطر بالبال دخول أحكام الإباحة في الإشارة مثل : (أُحِلَّ لَكُمْ) ومثل (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ).

والحدود الحواجز ونهايات الأشياء التي إذا تجاوزها المرء دخل في شيء آخر ، وشبهت الأحكام بالحدود لأن تجاوزها يخرج من حل إلى منع وفي الحديث «وحدّ حدودا فلا تعتدوها» ، وستأتي زيادة بيان له في قوله تعالى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها).

وقوله : (فَلا تَقْرَبُوها) نهى عن مقاربتها الموقعة في الخروج منها على طريق الكناية لأن القرب من الحد يستلزم قصد الخروج غالبا كما قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام : ١٥٢] ، ولهذا قال تعالى في آيات أخرى : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩]. كما سيأتي هنالك وفي معنى الآية حديث «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه».

والقول في : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ) تقدم نظيره في قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] أي كما بين الله أحكام الصيام يبين آياته للناس أي جميع آياته لجميع الناس ، والمقصد أن هذا شأن الله في إيضاح أحكامه لئلا يلتبس شيء منها على الناس ، وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ، أي إرادة لاتقائهم الوقوع في المخالفة ، لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الامتثال ، أو لعلهم يلتبسون بغاية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية ، إذ لو لم يبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها ؛ وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير

١٨٣

مؤاخذيم بإثم التقصير إلّا أنهم لا يبلغون صفة التقوى أي كمال مصادفة مراد الله تعالى ، فلعل يتقون على هذا منزل منزلة اللازم لا يقدّر له مفعول مثل (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] ، وهو على الوجه الأول محذوف المفعول للقرينة.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨))

عطف جملة على جملة ، والمناسبة أن قوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها) [البقرة: ١٨٧] تحذير من الجرأة على مخالفة حكم الصيام بالإفطار غير المأذون فيه وهو ضرب من الأكل الحرام فعطف عليه أكل آخر محرم وهو أكل المال بالباطل ، والمشاكلة زادت المناسبة قوة ، وهذا من جملة عداد الأحكام المشروعة لإصلاح ما اختل من أحوالهم في الجاهلية ، ولذلك عطف على نظائره وهو مع ذلك أصل تشريع عظيم للأموال في الإسلام.

كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية بل كان أكثر أحوالهم المالية فإن اكتسابهم كان من الإغارة ومن الميسر ، ومن غصب القوي مال الضعيف ، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى ، ومن الغرر والمقامرة ، ومن المراباة ونحو ذلك ، وكل ذلك من الباطل الذي ليس عن طيب نفس.

والأكل حقيقته إدخال الطعام إلى المعدة من الفم وهو هنا استعارة للأخذ بقصد الانتفاع دون إرجاع ؛ لأن ذلك الأخذ يشبه الأكل من جميع جهاته ، ولذلك لا يطلق على إحراق مال الغير اسم الأكل ولا يطلق على القرض والوديعة اسم الأكل ، وليس الأكل هنا استعارة تمثيلية ؛ إذ لا مناسبة بين هيئة آخذ مال غيره لنفسه بقصد عدم إرجاعه وهيئة الأكل كما لا يخفى.

والأموال جمع مال ونعرّفه بأنه «ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيّات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلا بكدح» ، فلا يعد الهواء مالا ، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالا ، ولا التراب مالا ، ولا كهوف الجبال وظلال الأشجار مالا ، ويعد الماء المحتفر بالآبار مالا ، وتراب المقاطع مالا ، والحشيش والحطب مالا ، وما ينحته المرء لنفسه في جبل مالا.

والمال ثلاثة أنواع : النوع الأول ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء وهو الأطعمة كالحبوب ، والثمار ، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده

١٨٤

ولركوبه قال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) [النحل : ٨٠] وقال : (لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ) [غافر : ٧٩] وقد سمت العرب الإبل مالا قال زهير :

صحيحات مال طالعات بمخرم

وقال عمر : «لو لا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا» ، وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها ، لأن المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على اصطلاحات المنظمين ، فصاحبه ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفي وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه ، وفي الحديث «يقول ابن آدم مالي مالي وإنما مالك ما أكلت فأمريت أو أعطيت فأغنيت» فالحصر هنا للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي.

النوع الثاني : ما تحصل تلك الإقامة به وبما يكمله مما يتوقف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها ، والنار للطبخ والإذابة ، والماء لسقي الأشجار ، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك ، وهذا النوع دون النوع الثاني لتوقفه على أشياء ربما كانت في أيدي الناس فضنت بها وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق.

النوع الثالث : ما تحصل الإقامة بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضا لما يراد تحصيله من الأشياء ، وهذا هو المعبّر عنه بالنّقد أو بالعملة ، وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة وما اصطلح عليه بعض البشر من التعامل بالنحاس والودع والخرزات وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالحديد الأبيض وبالأوراق المالية وهي أوراق المصارف المالية المعروفة وهي حجج التزام من المصرف بدفع مقدار ما بالورقة الصادرة منه ، وهذا لا يتم اعتباره إلّا في أزمنة السلم والأمن وهو مع ذلك متقارب الأفراد ، والأوراق التي تروجها الحكومات بمقادير مالية يتعامل بها رعايا تلك الحكومات.

وقولي في التعريف : حاصلا بكدح ، أردت به أن شأنه أن يكون حاصلا بسعي فيه كلفة ولذلك عبرت عنه بالكدح وذلك للإشارة إلى أن المال يشترط فيه أن يكون مكتسبا والاكتساب له ثلاثة طرق :

١٨٥

الطريق الأول : طريق التناول من الأرض قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] وقال : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الملك : ١٥] وهذا كالحطب والحشيش والصيد البري والبحري وثمر شجر البادية والعسل ، وهذا قد يكون بلا مزاحمة وقد يكون بمزاحمة فيكون تحصيله بالسبق كسكنى الجبال والتقاط الكمأة.

الطريق الثاني : الاستنتاج وذلك بالولادة والزرع والغرس والحلب ، وبالصنعة كصنع الحديد والأواني واللباس والسلاح.

الطريق الثالث : التناول من يد الغير فيما لا حاجة له به إما بتعامل بأن يعطي المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيره ويأخذ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو ، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ما قدّر بمقداره كدينار

ودرهم في شيء مقوّم بهما ، وإما بقوة وغلبة كالقتال على الأراضي وعلى المياه.

والباطل اسم فاعل من بطل إذا ذهب ضياعا وخسرا أي بدون وجه ، ولا شك أن الوجه هو ما يرضي صاحب المال أعني العوض في البيوعات وحب المحمدة في التبرعات.

والضمائر في مثل : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) إلى آخر الآية عامة لجميع المسلمين ، وفعل : (وَلا تَأْكُلُوا) وقع في حيز النهي فهو عام ، فأفاد ذلك نهيا لجميع المسلمين عن كل أكل وفي جميع الأموال ، قلنا هنا جمعان جمع الآكلين وجمع الأموال المأكولة ، وإذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فرد من أفراد الجمع بكل فرد من أفراد الجمع الآخر على التوزيع نحو ركب القوم دوابهم وقوله تعالى : (وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء : ١٠٢] ـ (قُوا أَنْفُسَكُمْ) [التحريم : ٦] ، واحتمل أن يكون كذلك لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] وقوله (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] ، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) [غافر : ٩] ، والتعويل في ذلك على القرائن.

وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني أي لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل ؛ بقرينة قوله : (بَيْنَكُمْ) ؛ لأن بين تقتضي توسطا خلال طرفين ، فعلم أن الطرفين آكل ومأكول منه والمال بينهما ، فلزم أن يكون الآكل غير المأكول وإلّا لما كانت فائدة

١٨٦

لقوله : (بَيْنَكُمْ).

ومعنى أكلها بالباطل أكلها بدون وجه ، وهذا الأكل مراتب :

المرتبة الأولى : ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلا كالغصب والسرقة والحيلة.

المرتبة الثانية : ما ألحقه الشرع بالباطل فبيّن أنه من الباطل وقد كان خفيا عنهم وهذا مثل الربا ؛ فإنهم قالوا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] ، ومثل رشوة الحكام ، ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ؛ ففي الحديث : «أرأيت إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه» ، والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي : هي خمسون حديثا.

المرتبة الثالثة : ما استنبطه العلماء من ذلك ، فما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل ، والعلماء فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب من المالكية وتفصيله في الفقه.

وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في قضية عبدان الحضرمي وامرئ القيس فالكندي اختصما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أرض فنزلت هذه الآية والقصة مذكورة في «صحيح مسلم» ولم يذكر فيها أن هذه الآية نزلت فيهما وإنما ذكر ذلك ابن أبي حاتم.

وقوله تعالى : (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) عطف على (تَأْكُلُوا) أي لا تدلوا بها إلى الحكام لتتوسلوا بذلك إلى أكل المال بالباطل. وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أكل الأموال بالباطل ؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة ، وللدلالة على أن معطي الرشوة آثم مع أنه لم يأكل مالا بل آكل غيره ، وجوز أن تكون الواو للمعية و (تُدْلُوا) منصوبا بأن مضمرة بعدها في جواب النهي فيكون النهي عن مجموع الأمرين أي لا تأكلوها بينكم مدلين بها إلى الحكام لتأكلوا وهو يفضي إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الرشوة خاصة فيكون المراد الاعتناء بالنهي عن هذا النوع من أكل الأموال بالباطل.

والإدلاء في الأصل إرسال الدلو في البئر وهو هنا مجاز في التوسل والدفع.

فالمعنى على الاحتمال الأول ، لا تدفعوا أموالكم للحكام لتأكلوا بها فريقا من أموال الناس بالإثم ؛ فالإدلاء بها هو دفعها لإرشاء الحكام ليقضوا للدافع بمال غيره فهي تحريم للرشوة وللقضاء بغير الحق ، ولأكل المقضي له مالا بالباطل بسبب القضاء بالباطل.

١٨٧

والمعنى على الاحتمال الثاني لا تأكلوا أموالكم بالباطل في حال انتشاب الخصومات بالأموال لدى الحكام لتتوسلوا بقضاء الحكام ، إلى أكل الأموال بالباطل حين لا تستطيعون أكلها بالغلب ، وكأنّ الذي دعاهم إلى فرض هذا الاحتمال هو مراعاة القصة التي ذكرت في سبب النزول ، ولا يخفى أن التقيد بتلك القصة لا وجه له في تفسير الآية ، لأنه لو صح سندها لكان حمل الآية على تحريم الرشوة لأجل أكل المال دليلا على تحريم أكل المال بدون رشوة بدلالة تنقيح المناط.

وعلى ما اخترناه فالآية دلت على تحريم أكل الأموال بالباطل ، وعلى تحريم إرشاء الحكام لأكل الأموال بالباطل ، وعلى أن قضاء القاضي لا يغير صفة أكل المال بالباطل ، وعلى تحريم الجور في الحكم بالباطل ولو بدون إرشاء ، لأن تحريم الرشوة إنما كان لما فيه من تغيير الحق ، ولا جرم أن هاته الأشياء من أهم ما تصدّى الإسلام لتأسيسه تغييرا لما كانوا عليه في الجاهلية فإنهم كانوا يستحلون أموال الذين لم يستطيعوا منع أموالهم من الأكل فكانوا يأكلون أموال الضعفاء قال صنّان اليشكري :

لو كان حوض حمار ما شربت به

إلّا بإذن حمار آخر الأبد

لكنّه حوض من أودى بإخوته

ريب المنون فأمسى بيضة البلد

وأما إرشاء الحكام فقد كان أهل الجاهلية يبذلون الرّشا للحكام ، ولمّا تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة إلى هرم بن قطبة الفزاري بذل كل واحد منهما مائة من الإبل إن حكم له بالتفضيل على الآخر فلم يقض لواحد منهما بل قضى بينهما بأنهما كركبتي البعير الأدرم الفحل تستويان في الوقوع على الأرض فقال الأعشى في ذلك من أبيات :

حكّمتموه فقضى بينكم

أزهر مثل القمر الباهر

لا يقبل الرّشوة في حكمه

ولا يبالي غبن الخاسر

ويقال إن أول من ارتشى من حكام الجاهلية هو ضمرة بن ضمرة النهشلي بمائة من الإبل دفعها إليه عباد بن أنف الكلب في منافرة بينه وبين معبد بن نضلة الفقعسي لينفّره عليه ففعل ، ويقال إن أول من ارتشى في الإسلام يرفأ غلام عمر بن الخطاب رشاه المغيرة بن شعبة ليقدمه في الإذن بالدخول إلى عمر ؛ لأن يرفأ لما كان هو الواسطة في الإذن للناس وكان الحق في التقديم في الإذن للأسبق ، إذ لم يكن مضطرا غيره إلى التقديم كان تقديم غير الأسبق اعتداء على حق الأسبق فكان جورا وكان بذل المال لأجل تحصيله إرشاء ولا أحسب هذا إلّا من أكاذيب أصحاب الأهواء للغض من عدالة بعض الصحابة

١٨٨

فإن صح ولا إخاله : فالمغيرة لم ير في ذلك بأسا ؛ لأن الضر اللاحق بالغير غير معتد به ، أو لعله رآه إحسانا ولم يقصد التقديم ففعله يرفأ إكراما له لأجل نواله ، أمّا يرفأ فلعله لم يهتد إلى دقيق هذا الحكم.

فالرشوة حرمها الله تعالى بنص هاته الآية ؛ لأنها إن كانت للقضاء بالجور فهي لأكل مال بالباطل وليست هي أكل مال بالباطل فلذلك عطف على النهي الأول ؛ لأن الحاكم موكّل المال لا آكل ، وإن كانت للقضاء بالحق فهي أكل مال بالباطل ؛ لأن القضاء بالحق واجب ، ومثلها كل مال يأخذه الحاكم على القضاء من الخصوم إلّا إذا لم يجعل له شيء من بيت المال ولم يكن له مال فقد أباحوا له أخذ شيء معيّن على القضاء سواء فيه كلا الخصمين.

ودلالة هذه الآية على أن قضاء القاضي لا يؤثر في تغيير حرمة أكل المال من قوله : (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) فجعل المال الذي يأكله أحد بواسطة الحكم إثما وهو صريح في أن القضاء لا يحل حراما ولا ينفذ إلّا ظاهرا (١) ، وهذا مما لا شبهة فيه لو لا خلاف وقع في المسألة ، فإن أبا حنيفة خالف جمهور الفقهاء فقال بأن قضاء القاضي يحل الحرام وينفذ باطنا وظاهرا إذا كان بحل أو حرمة وادّعاه المحكوم له بسبب معين أي كان القضاء بعقد أو فسخ وكان مستندا لشهادة شهود وكان المقضي به مما يصح أن يبتدأ ، هذا الذي حكاه عنه غالب فقهاء مذهبه وبعضهم يخصه بالنكاح.

واحتج على ذلك بما روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت إجابته فادعى عليها ، عند عليّ أنه تزوجها وأقام شاهدين زورا فقضى عليّ بشهادتهما فقالت المرأة لما قضى عليها ، إن كان ولا بد فزوجني منه فقال لها عليّ شاهداك زوجاك ، وهذا الدليل بعد تسليم صحة سنده لا يزيد على كونه مذهب صحابي وهو لا يعارض الأحوال الشرعية ولا الأحاديث المروية نحو حديث «فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار» ، على أن تأويله ظاهر وهو أن عليا اتهمها بأنها تريد بإحداث العقد بعد الحكم إظهار الوهن في الحكم والإعلان بتكذيب المحكوم له ولعلها إذا طلب منها العقد أن تمتنع فيصبح الحكم معلقا.

__________________

(١) انظر هذه المسألة في «تفسير القرطبي» (٤ / ١٢٠) ، المسألة الثانية من [آل عمران : ٧٧).

١٨٩

والظاهر أن مراد أبي حنيفة أن القضاء فيما يقع صحيحا وفاسدا شرعا من كل ما ليس فيه حق العبد أن قضاء القاضي بصحته يتنزل منزلة استكمال شروطه توسعة على الناس ، فلا يخفى ضعف هذا ولذلك لم يتابعه عليه أحد من أصحابه.

وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) حال مؤكدة لأن المدلي بالأموال للحكام ليأكل أموال الناس عالم لا محالة بصنعه ، فالمراد من هذه الحال تشنيع الأمر وتفظيعه إعلانا بأن أكل المال بهذه الكيفية هو من الذين أكلوا أموال الناس عن علم وعمد فجرمه أشد.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ).

اعتراض بين شرائع الأحكام الراجعة إلى إصلاح النظام ، دعا إليه ما حدث من السؤال ، فقد روى الواحدي أنها نزلت بسبب أن أحد اليهود سأل أنصاريا عن الأهلة وأحوالها في الدقة إلى أن تصير بدرا ثم تتناقص حتى تختفي فسأل الأنصاري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية ، ويظهر أن نزولها متأخر عن نزول آيات فرض الصيام ببضع سنين ؛ لأن آية : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) متصلة بها. وسيأتي أن تلك الآية نزلت في عام الحديبية أو عام عمرة القضية. فمناسبة وضعها في هذا الموضع هي توقيت الصيام بحلول شهر رمضان ، فكان من المناسبة ذكر المواقيت لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أكمل وجه ، ومن كمال النظام ضبط الأوقات ، ويظهر أن هذه الآية أيضا نزلت بعد أن شرع الحج أي بعد فتح مكة ، لقوله تعالى : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ).

وابتدئت الآية ب (يَسْئَلُونَكَ) لأن هنالك سؤالا واقعا عن أمر الأهلة. وجميع الآيات التي افتتحت ب (يَسْئَلُونَكَ) هي متضمنة لأحكام وقع السؤال عنها فيكون موقعها في القرآن مع آيات تناسبها نزلت في وقتها أو قرنت بها. وروي أن الذي سأله عن ذلك معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة الأنصاري فقالا : ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يمتلئ ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ، قال العراقي لم أقف لهذا السبب على إسناد.

وجمع الضمير في قوله : (يَسْئَلُونَكَ) مع أن المروي أن الذي سأله رجلان ـ نظرا

١٩٠

لأن المسئول عنه يهم جميع السامعين أثناء تشريع الأحكام ؛ ولأن من تمام ضبط النظام أن يكون المسئول عنه قد شاع بين الناس واستشرف كثير منهم لمعرفته سواء في ذلك من سأل بالقول ومن سأل في نفسه.

وذكر فوائد خلق الأهلة في هذا المقام للإيماء إلى أن الله جعل للحج وقتا من الأشهر لا يقبل التبديل وذلك تمهيدا لإبطال ما كان في الجاهلية من النسيء في أشهر الحج في بعض السنين.

والسؤال : طلب أحد من آخر بذل شيء أو إخبارا بخبر ، فإذا كان طلب بذل عدّي فعل السؤال بنفسه وإذا كان طلب إخبار عدي الفعل بحرف «عن» أو ما ينوب منابه.

وقد تكررت في هذه السورة آيات مفتتحة ب (يَسْئَلُونَكَ) وهي سبع آيات غير بعيد بعضها عن بعض ، جاء بعضها غير معطوف بحرف العطف وهي أربع وبعضها معطوفا به وهي الثلاث الأواخر منها ، وأما غير المفتتحة بحرف العطف فلا حاجة إلى تبيين تجردها عن العاطف ؛ لأنها في استئناف أحكام لا مقارنة بينها وبين مضمون الجمل التي قبلها فكانت جديرة بالفصل دون عطف ، ولا يتطلب لها سوى المناسبة لمواقعها. وأما الجمل الثلاث الأواخر المفتتحة بالعاطف فكل واحدة منها مشتملة على أحكام لها مزيد اتصال بمضمون ما قبلها فكان السؤال المحكي فيها مما شأنه أن ينشأ عن التي قبلها فكانت حقيقة بالوصل بحرف العطف كما سيتضح في مواقعها.

والسؤال عن الأهلة لا يتعلق بذواتها إذ الذوات لا يسأل إلا عن أحوالها ، فيعلم هنا تقدير وحذف أي عن أحوال الأهلة ، فعلى تقدير كون السؤال واقعا بها غير مفروض فهو يحتمل السؤال عن الحكمة ويحتمل السؤال عن السبب ، فإن كان عن الحكمة فالجواب بقوله : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) جار على وفق السؤال ، وإلى هذا ذهب صاحب «الكشاف» ، ولعل المقصود من السؤال حينئذ استثبات كون المراد الشرعي منها موافقا لما اصطلحوا عليه ؛ لأن كونها مواقيت ليس مما يخفى حتى يسأل عنه ، فإنه متعارف لهم ، فيتعين كون المراد من سؤالهم إن كان واقعا هو تحقق الموافقة للمقصد الشرعي.

وإن كان السؤال عن السبب فالجواب بقوله : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ) غير مطابق للسؤال ، فيكون إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بصرف السائل إلى غير ما يتطلب ، تنبيها على أن ما صرف إليه هو المهم له ، لأنهم في مبدأ تشريع جديد والمسئول هو الرسول عليه الصلاة والسلام وكان المهم لهم أن يسألوه عما ينفعهم في صلاح دنياهم

١٩١

وأخراهم ، وهو معرفة كون الأهلة ترتبت عليها آجال المعاملات والعبادات كالحج والصيام والعدة ، ولذلك صرفهم عن بيان مسئولهم إلى بيان فائدة أخرى ، لا سيما والرسول لم يجيء مبينا لعلل اختلاف أحوال الأجرام السماوية ، والسائلون ليس لهم من أصول معرفة الهيئة ما يهيئهم إلى فهم ما أرادوا علمه بمجرد البيان اللفظي بل ذلك يستدعى تعليمهم مقدمات لذلك العلم ، على أنه لو تعرض صاحب الشريعة لبيانه لبين أشياء من حقائق العلم لم تكن معروفة عندهم ولا تقبلها عقولهم يومئذ ، ولكان ذلك ذريعة إلى طعن المشركين والمنافقين بتكذيبه ، فإنهم قد أسرعوا إلى التكذيب فيما لم يطلعوا على ظواهره كقولهم : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) [سبأ : ٧ ، ٨] وقولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) [ص : ٧] وعليه فيكون هذا الجواب بقوله : (هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر كقول الشاعر. أنشده في «المفتاح» ولم ينسبه ولم أقف على قائله ولم أره في غيره.

أتت تشتكي منّي مزاولة القرى

وقد رأت الأضياف ينحون منزلي

فقلت لها لمّا سمعت كلامها

هم الضيف جدّي في قراهم وعجّلي

وإلى هذا نحا صاحب «المفتاح» وكأنه بناه على أنهم لا يظن بهم السؤال عن الحكمة في خلق الأهلة لظهورها ، وعلى أن الوارد في قصة معاذ وثعلبة يشعر بأنهما سألا عن السبب إذ قالا : ما بال الهلال يبدو دقيقا إلخ.

والأهلة : جمع هلال وهو القمر في أول استقباله الشمس كل شهر قمري في الليلة الأولى والثانية ، قيل والثالثة ، ومن قال إلى سبع فإنما أراد المجاز ، لأنه يشبه الهلال ، ويطلق الهلال على القمر ليلة ست وعشرين وسبع وعشرين لأنه في قدر الهلال في أول الشهر ، وإنما سمي الهلال هلالا لأن الناس إذا رأوه رفعوا أصواتهم بالإخبار عنه ينادي بعضهم بعضا لذلك ، وإن هلّ وأهلّ بمعنى رفع صوته كما تقدم في قوله تعالى : (وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) [البقرة : ١٧٣].

وقوله : (مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) أي مواقيت لما يوقّت من أعمالهم فاللام للعلة أي لفائدة الناس وهو على تقدير مضاف أي لأعمال الناس ، ولم تذكر الأعمال الموقّتة بالأهلة ليشمل الكلام كل عمل محتاج إلى التوقيت ، وعطف الحج على الناس مع اعتبار المضاف المحذوف من عطف الخاص على العام للاهتمام به واحتياج الحج للتوقيت ضروري ؛ إذ

١٩٢

لو لم يوقّت لجاء الناس للحج متخالفين فلم يحصل المقصود من اجتماعهم ولم يجدوا ما يحتاجون إليه في أسفارهم وحلولهم بمكة وأسواقها ؛ بخلاف الصلاة فليست موقتة بالأهلة ، وبخلاف الصوم فإن توقيته بالهلال تكميلي له ؛ لأنه عبادة مقصورة على الذات فلو جاء بها المنفرد لحصل المقصد الشرعي ولكن شرع فيه توحيد الوقت ليكون أخف على المكلفين ، فإن الصعب يخف بالاجتماع وليكون حالهم في تلك المدة متماثلا فلا يشق أحد على آخر في اختلاف أوقات الأكل والنوم ونحوهما.

والمواقيت جمع ميقات والميقات جاء بوزن اسم الآلة من وقّت وسمى العرب به الوقت ، وكذلك سمي الشهر شهرا مشتقا من الشهرة ، لأن الذي يرى هلال الشهر يشهره لدى الناس. وسمى العرب الوقت المعيّن ميقاتا كأنه مبالغة وإلّا فهو الوقت عينه. وقيل : الميقات أخص من الوقت ، لأنه وقت قدّر فيه عمل من الأعمال ، قلت : فعليه يكون صوغه بصيغة اسم الآلة اعتبارا بأن ذلك العمل المعيّن يكون وسيلة لتحديد الوقت فكأنه آلة للضبط والاقتصار على الحج دون العمرة لأن العمرة لا وقت لها فلا تكون للأهلة فائدة في فعلها.

ومجيء ذكر الحج في هاته الآية ، وهي من أول ما نزل بالمدينة ، ولم يكن المسلمون يستطيعون الحج حينئذ لأن المشركين يمنعونهم ـ إشارة إلى أن وجوب الحج ثابت ولكن المشركين حالوا دون المسلمين ودونه (١). وسيأتي عند قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) في [سورة آل عمران : ٩٧] وعند قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [البقرة : ١٩٧] في هذه السورة.

(وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

معطوفة على (يَسْئَلُونَكَ) وليست معطوفة على جملة (هِيَ مَواقِيتُ) لأنّه لم يكن مما سألوا عنه حتى يكون مقولا للمجيب. ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها أن سبب نزولها كان مواليا أو مقارنا لسبب نزول الآية التي قبلها وأن مضمون كلتا الجملتين كان مثار تردد وإشكال عليهم من شأنه أن يسأل عنه ، فكانوا إذا أحرموا بالحج أو العمرة من بلادهم

__________________

(١) فيه نظر ؛ إذ الأظهر أن هذه الآية نزلت بعد فرض الحج كما قدمنا قريبا.

١٩٣

جعلوا من أحكام الإحرام ألا يدخل المحرم بيته من بابه أو لا يدخل تحت سقف يحول بينه وبين السماء ، وكان المحرمون إذا أرادوا أخذ شيء من بيوتهم تسنّموا على ظهور البيوت أو اتخذوا نقبا في ظهور البيوت إن كانوا من أهل المدر ، وإن كانوا من أهل الخيام دخلوا من خلف الخيمة ، وكان الأنصار يدينون بذلك ، وأما الحمس فلم يكونوا يفعلون هذا ، والحمس جمع أحمس والأحمس المتشدد بأمر الدين لا يخالفه ، وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو نصر ابن معاوية ومدلج وعدوان وعضل وبنو الحارث بن عبد مناة ، وبنو عامر بن صعصعة وكلهم من سكان مكة وحرمها ما عدا بني عامر بن صعصعة فإنهم تحمسوا لأن أمهم قرشية.

ومعنى نفي البر عن هذا نفي أن يكون مشروعا أو من الحنيفية ، وإنما لم يكن مشروعا لأنه غلو في أفعال الحج ، فإن الحج وإن اشتمل على أفعال راجعة إلى ترك الترفه عن البدن كترك المخيط وترك تغطية الرأس إلّا أنه لم يكن المقصد من تشريعه إعنات الناس بل إظهار التجرد وترك الترفه ، ولهذا لم يكن الحمس يفعلون ، ذلك لأنهم أقرب إلى دين إبراهيم ، فالنفي في قوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ) نفي جنس البر عن هذا الفعل بخلاف قوله المتقدم (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) [البقرة : ١٧٧] والقرينة هنا هي قوله : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) ولم يقل هنالك : واستقبلوا أية جهة شئتم ، والمقصود من الآيتين إظهار البر العظيم وهو ما ذكر بعد حرف الاستدراك في الآيتين بقطع النظر عما نفي عنه البر ، وهذا هو مناط الشبه والافتراق بين الآيتين.

روى الواحدي في «أسباب النزول» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهلّ عام الحديبية من المدينة وأنه دخل بيتا وأن أحدا من الأنصار ، قيل : اسمه قطبة بن عامر وقيل : رفاعة بن تابوت. كان دخل ذلك البيت من بابه اقتداء برسول الله فقاله له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم دخلت وأنت قد أحرمت؟ فقال له الأنصاري : دخلت أنت فدخلت بدخولك فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أحمس فقال له الأنصاري : وأنا ديني دينك رضيت بهداك فنزلت الآية ، فظاهر هذه الروايات أن الرسول نهى غير الحمس عن ترك ما كانوا يفعلونه حتى نزلت الآية في إبطاله ، وفي «تفسير ابن جرير وابن عطية» عن السدي ما يخالف ذلك وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل بابا وهو محرم وكان معه رجل من أهل الحجاز فوقف الرجل وقال : إني أحمس فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : وأنا أحمس فنزلت الآية ، فهذه الرواية تقتضي أن النبي أعلن إبطال دخول البيوت من ظهورها.

١٩٤

وأن الحمس هم الذين كانوا يدخلون البيوت من ظهورها ، وأقول : الصحيح من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال : كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل فدخل من بابه فكأنّه عبّر بذلك هذه الآية ، ورواية السدي وهم ، وليس في الصحيح ما يقتضي أن رسول الله أمر بذلك ولا يظن أن يكون ذلك منه ، وسياق الآية ينافيه.

وقوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) القول فيه كالقول في قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : ١٧٧].

و (اتَّقى) فعل منزل منزلة اللازم ؛ لأن المراد به من اتصف بالتقوى الشرعية بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات.

وجرّ (بِأَنْ تَأْتُوا) بالباء الزائدة لتأكيد النفي بليس ، ومقتضى تأكيد النفي أنهم كانوا يظنون أن هذا المنفي من البر ظنا قويا فلذلك كان مقتضى حالهم أن يؤكّد نفي هذا الظن.

وقوله : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) معطوف على جملة (وَلَيْسَ الْبِرُّ) عطف الإنشاء على الخبر الذي هو في معنى الإنشاء ؛ لأن قوله : (لَيْسَ الْبِرُّ) في معنى النهي عن ذلك فكان كعطف أمر على نهي.

وهذه الآية يتعين أن تكون نزلت في سنة خمس حين أزمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخروج إلى العمرة في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة والظاهر أن رسول الله نوى أن يحج بالمسلمين إن لم يصده المشركون ، فيحتمل أنها نزلت في ذي القعدة أو قبله بقليل.

وقرأ الجمهور «البيوت» في الموضعين في الآية بكسر الباء على خلاف صيغة جمع فعل على فعول فهي كسرة لمناسبة وقوع الياء التحتية بعد حركة الضم للتخفيف كما قرءوا (عُيُونٍ) [الحجر : ٤٥]. وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء على أصل صيغة الجمع مع عدم الاعتداد ببعض الثقل ؛ لأنه لا يبلغ مبلغ الثقل الموجب لتغيير الحركة ، قال ابن العربي في «العواصم» : والذي أختاره لنفسي إذا قرأت أكسر الحروف المنسوبة إلى قالون إلّا الهمزة فإني أتركه أصلا إلّا فيما يحيل المعنى أو يلبسه ولا أكسر باء بيوت ولا عين عيون ، وأطال بما في بعضه نظر ، وهذا اختيار لنفسه بترجيح بعض القراءات المشهورة على بعض.

١٩٥

وقد تقدم خلاف القراء في نصب (الْبِرُّ) من قوله : (لَيْسَ الْبِرُّ) [البقرة : ١٧٧] وفي تشديد نون (لكِنَ) من قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ).

وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تظفرون بمطلبكم من البر : فإن البر في اتباع الشرع فلا تفعلوا شيئا إلا إذا كان فيه مرضاة الله ولا تتبعوا خطوات المبتدعين الذين زادوا في الحج ما ليس من شرع إبراهيم.

وقد قيل في تفسير الآية وجوه واحتمالات أخرى كلها بعيدة : فقيل إن قوله (وَلَيْسَ الْبِرُّ) مثل ضربه الله لما كانوا يأتونه من النسيء قاله أبو مسلم وفيه بعد حقيقة ومجازا ومعنى ؛ لأن الآيات خطاب للمسلمين وهم الذين سألوا عن الأهلة ، والنسيء من أحوال أهل الجاهلية ، ولأنه يئول إلى استعارة غير رشيقة ، وقيل : مثل ضرب لسؤالهم عن الأهلة من لا يعلم وأمرهم بتفويض العلم إلى الله وهو بعيد جدا لحصول الجواب من قبل ، وقيل : كانوا ينذرون إذا تعسر عليهم مطلوبهم ألّا يدخلوا بيوتهم من أبوابها فنهوا عن ذلك وهذا بعيد معنى ، لأن الكلام مع المسلمين وهم لا يفعلون ذلك ، وسندا ، إذ لم يرو أحد أن هذا سبب النزول.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠))

جملة (وَقاتِلُوا) معطوفة على جملة (وَلَيْسَ الْبِرُّ) [البقرة : ١٨٩] إلخ ، وهو استطراد دعا إليه استعداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرة القضاء سنة ست وتوقع المسلمين غدر المشركين بالعهد ، وهو قتال متوقع لقصد الدفاع لقوله : (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) ، وهذه الآية أول آية نزلت في القتال وعن أبي بكر الصديق أول آية نزلت في الأمر بالقتال قوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) في [سورة الحج : ٣٩] ورجحه ابن العربي بأنها مكية وآية سورة البقرة مدنية. وقد ثبت في «الصحيح» أن رسول الله أرسل عثمان بن عفان إلى أهل مكة فأرجف بأنهم قتلوه فبايع الناس والرسول على الموت في قتال العدو ثم انكشف الأمر عن سلامة عثمان.

ونزول هذه الآيات عقب الآيات التي أشارت إلى الإحرام بالعمرة والتي نراها نزلت في شأن الخروج إلى الحديبية ينبئ بأن المشركين كانوا قد أضمروا ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ثم أعرضوا عن ذلك لما رأوا تهيؤ المسلمين لقتالهم ، فقوله تعالى : (وَلا

١٩٦

تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩١] إرشاد للمسلمين بما فيه صلاح لهم يومئذ ، ألا ترى أنه لما انقضت الآيات المتكلمة عن القتال عاد الكلام إلى الغرض الذي فارقته وذلك قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [البقرة : ١٩٦] ، الآيات على أنه قد وقع في صلح الحديبية ضرب مدة بين المسلمين والمشركين لا يقاتل فريق منهم الآخر فخاف المسلمون عام عمرة القضاء أن يغدر بهم المشركون إذا حلوا ببلدهم وألّا يفوا لهم فيصدوهم عن العمرة فأمروا بقتالهم إن هم فعلوا ذلك.

وهذا إذن في قتال الدفاع لدفع هجوم العدو ثم نزلت بعدها آية براءة : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ناسخة لمفهوم هذه الآية عند من يرى نسخ المفهوم ولا يرى الزيادة على النص نسخا ، وهي أيضا ناسخة لها عند من يرى الزيادة على النص نسخا ولا يرى نسخ المفهوم ، وهي وإن نزلت لسبب خاص فهي عامة في كل حال يبادئ المشركون فيه المسلمين بالقتال ، لأن السبب لا يخصص.

وعن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن هاته الآية محكمة لم تنسخ ، لأن المراد بالذين يقاتلونكم الذين هم متهيئون لقتالكم أي لا تقاتلوا الشيوخ والنساء والصبيان ، أي القيد لإخراج طائفة من المقاتلين لا لإخراج المحاجزين ، وقيل : المراد الكفار كلهم ، فإنهم بصدد أن يقاتلوا. ذكره في «الكشاف» ، أي ففعل (يُقاتِلُونَكُمْ) مستعمل في مقارنة الفعل والتهيؤ له كما تقدم في قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة : ١٨٠].

والمقاتلة مفاعلة وهي حصول الفعل من جانبين ، ولما كان فعلها وهو القتل لا يمكن حصوله من جانبين ؛ لأن أحد الجانبين إذا قتل لم يستطع أن يقتل كانت المفاعلة في هذه المادة بمعنى مفاعلة أسباب القتل أي المحاربة ، فقوله (وَقاتِلُوا) بمعنى وحاربوا والقتال الحرب بجميع أحوالها من هجوم ومنع سبل وحصار وإغارة واستيلاء على بلاد أو حصون.

وإذا أسندت المفاعلة إلى أحد فاعليها فالمقصود أنه هو المبتدئ بالفعل ، ولهذا قال تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) فجعل فاعل المفاعلة المسلمين ثم قال : (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) فجعل فاعله ضمير عدوهم ، فلزم أن يكون المراد دافعوا الذين يبتدءونكم.

والمراد بالمبادأة دلائل القصد للحرب بحيث يتبين المسلمون أن الأعداء خرجوا لحربهم وليس المراد حتى يضربوا ويهجموا ؛ لأن تلك الحالة يفوت على المسلمين تداركها ، وهذا الحكم عام في الأشخاص لا محالة ، وعموم الأشخاص يستلزم عموم

١٩٧

الأحوال والأمكنة والأزمنة على رأي المحققين ، أو هو مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع ، ولهذا قال تعالى بعد ذلك : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) [البقرة: ١٩١] تخصيصا أو تقييدا ببعض البقاع.

فقوله : (وَلا تَعْتَدُوا) أي لا تبتدءوا بالقتال وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) تحذير من الاعتداء ؛ وذلك مسالمة للعدو واستبقاء لهم وإمهال حتى يجيئوا مؤمنين ، وقيل : أراد ولا تعتدوا في القتال إن قاتلتم ففسر الاعتداء بوجوه كثيرة ترجع إلى تجاوز أحكام الحرب والاعتداء الابتداء بالظلم وتقدم عند قوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) آنفا.

[١٩١ ، ١٩٢] (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢))

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).

هذا أمر بقتل من يعثر عليه منهم وإن لم يكن في ساحة القتال ، فإنّه بعد أن أمرهم بقتال من يقاتلهم عمّم المواقع والبقاع زيادة في أحوال القتل وتصريحا بتعميم الأماكن فإن أهمية هذا الغرض تبعث على عدم الاكتفاء باقتضاء عموم الأشخاص تعميم الأمكنة ليكون المسلمون مأذونين بذلك فكل مكان يحل فيه العدو فهو موضع قتال ، فالمعنى واقتلوهم حيث ثقفتموهم إن قاتلوكم.

وعطفت الجملة على التي قبلها وإن كانت هي مكملة لها باعتبار أن ما تضمنته قتل خاص غير قتال الوغى فحصلت المغايرة المقتضية العطف ، ولذلك قال هنا (وَاقْتُلُوهُمْ) ولم يقل : وقاتلوهم مثل الآية قبلها تنبيها على قتل المحارب ولو كان وقت العثور عليه غير مباشر للقتال وأنه من خرج محاربا فهو قاتل وإن لم يقتل.

و (ثَقِفْتُمُوهُمْ) بمعنى لقيتموهم لقاء حرب وفعله كفرح ، وفسره في «الكشاف» بأنه وجود على حالة قهر وغلبة.

وقوله : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي يحل لكم حينئذ أن تخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها ، وفي هذا تهديد للمشركين ووعد بفتح مكة ، فيكون هذا اللقاء

١٩٨

لهذه البشرى في نفوس المؤمنين ليسعوا إليه حتى يدركوه وقد أدركوه بعد سنتين ، وفيه وعد من الله تعالى لهم بالنصر كما قال تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [الفتح : ٢٧] الآية.

وقوله : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) تذييل وأل فيه للجنس تدل على الاستغراق في المقام الخطابيّ ، وهو حجة للمسلمين ونفي للتبعة عنهم في القتال بمكة إن اضطروا إليه. والفتنة إلقاء الخوف واختلال نظام العيش وقد تقدمت عند قوله تعالى : (حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) [البقرة : ١٠٢] ، إشارة إلى ما لقيه المؤمنون في مكة من الأذى بالشتم والضرب والسخرية إلى أن كان آخره الإخراج من الديار والأموال ، فالمشركون محقوقون من قبل فإذا خفروا العهد استحقوا المؤاخذة بما مضى فيما كان الصلح مانعا من مؤاخذتهم عليه ؛ وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل ، ويراد منها أيضا الفتنة المتوقعة بناء على توقع أن يصدوهم عن البيت أو أن يغدروا بهم إذا حلوا بمكة ، ولهذا اشترط المسلمون في صلح الحديبية أنهم يدخلون العام القابل بالسيوف في قرابها ، والمقصد من هذا إعلان عذر المسلمين في قتالهم المشركين وإلقاء بغض المشركين في قلوبهم حتى يكونوا على أهبة قتالهم والانتقام منهم بصدور حرجة حنقة. وليس المراد من الفتنة خصوص الإخراج من الديار ، لأن التذييل يجب أن يكون أعم من الكلام المذيّل.

(وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٩٢).

الجملة معطوفة على جملة (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حلّوا سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقل أو تطلع أو نحو ذلك لأن أحوال المحارب لا تنضبط وليست في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه ، إذ قد يبادره إلى اغتيال عدوه في حال تردده وتفكره ، فخص المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله : (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) أي إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم ، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله : (مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] ، فاقتضت الآية منع المسلمين من قتال المشركين عند المسجد الحرام ، وتدل على منعهم من أن يقتلوا أحدا من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام

١٩٩

بدلالة لحن الخطاب أو فحوى الخطاب.

وجعلت غاية النهي بقوله : (حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) أي فإن قاتلوكم عند المسجد فاقتلوهم عند المسجد الحرام ، لأنهم خرقوا حرمة المسجد الحرام فلو تركت معاملتهم بالمثل لكان ذلك ذريعة إلى هزيمة المسلمين. فإن قاتلوا المسلمين عند المسجد الحرام عاد أمر المسلمين بمقاتلتهم إلى ما كان قبل هذا النهي فوجب على المسلمين قتالهم عند المسجد الحرام وقتل من ثقفوا منهم كذلك.

وفي قوله تعالى : (فَاقْتُلُوهُمْ) تنبيه على الإذن بقتلهم حينئذ ولو في غير اشتباك معهم بقتال ، لأنهم لا يؤمنون من أن يتخذوا حرمة المسجد الحرام وسيلة لهزم المسلمين.

ولأجل ذلك جاء التعبير بقوله : (فَاقْتُلُوهُمْ) لأنه يشمل القتل بدون قتال والقتل بقتال.

فقوله تعالى : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) أي عند المسجد الحرام فاقتلوهم هنالك ، أي فاقتلوا من ثقفتم منهم حين المحاربة ، ولا يصدكم المسجد الحرام عن تقصي آثارهم لئلا يتخذوا المسجد الحرام ملجأ يلجئون إليه إذا انهزموا.

وقد احتار كثير من المفسرين في انتظام هذه الآيات من قوله : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ١٩٠] إلى قوله هنا ـ (كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) حتى لجأ بعضهم إلى دعوى نسخ بعضها ببعض فزعم أن آيات متقارنة بعضها نسخ بعضا ؛ مع أن الأصل أن الآيات المتقارنة في السورة الواحدة نزلت كذلك ومع ما في هاته الآيات من حروف العطف المانعة من دعوى كون بعضها قد نزل مستقلا عن سابقه وليس هنا ما يلجئ إلى دعوى النسخ ، ومن المفسرين من اقتصر على تفسير المفردات اللغوية والتراكيب البلاغية وأعرض عن بيان المعاني الحاصلة من مجموع هاته الآيات.

وقد أذن الله للمسلمين بالقتال والقتل للمقاتل عند المسجد الحرام ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة ؛ لأن حرمته حرمة نسبته إلى الله تعالى فلما كان قتال الكفار عنده قتالا لمنع الناس منه ومناوأة لدينه فقد صاروا غير محترمين له ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييدا لحرمة المسجد الحرام.

وقرأ الجمهور : (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) ثلاثتها بألف بعد القاف ، وقرأ حمزة والكسائي : (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم) بدون ألف بعد

٢٠٠