تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٣

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٥

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٣٧ ـ سورة الصافات

اسمها المشهور المتفق عليه «الصافات». وبذلك سميت في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف كلها ، ولم يثبت شيء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تسميتها ، وقال في «الإتقان» : رأيت في كلام الجعبري أن سورة «الصافات» تسمى «سورة الذبيح» وذلك يحتاج إلى مستند من الأثر.

ووجه تسميتها باسم «الصافات» وقوع هذا اللفظ فيها بالمعنى الذي أريد به أنه وصف الملائكة وإن كان قد وقع في سورة «الملك» لكن بمعنى آخر إذ أريد هنالك صفة الطير ، على أن الأشهر أن «سورة الملك» نزلت بعد «سورة الصافات».

وهي مكية بالاتفاق وهي السادسة والخمسون في تعداد نزول السور ، نزلت بعد سورة الأنعام وقبل سورة لقمان.

وعدت آيها مائة واثنتين وثمانين عند أكثر أهل العدد. وعدّها البصريون مائة وإحدى وثمانين.

أغراضها

إثبات وحدانية الله تعالى ، وسوق دلائل كثيرة على ذلك دلت على انفراده بصنع المخلوقات العظيمة التي لا قبل لغيره بصنعها وهي العوالم السماوية بأجزائها وسكّانها ولا قبل لمن على الأرض أن يتطرق في ذلك. وإثبات أن البعث يعقبه الحشر والجزاء. ووصف حال المشركين يوم الجزاء ووقوع بعضهم في بعض. ووصف حسن أحوال المؤمنين ونعيمهم. ومذاكرتهم فيما كان يجري بينهم وبين بعض المشركين من أصحابهم في الجاهلية ومحاولتهم صرفهم عن الإسلام. ثم انتقل إلى تنظير دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه

٥

بدعوة الرسل من قبله ، وكيف نصر الله رسله ورفع شأنهم وبارك عليهم. وأدمج في خلال ذلك شيء من مناقبهم وفضائلهم وقوتهم في دين الله وما نجاهم الله من الكروب التي حفّت بهم. وخاصة منقبة الذبيح ، والإشارة إلى أنه إسماعيل. ووصف ما حلّ بالأمم الذين كذبوهم. ثم الإنحاء على المشركين فساد معتقداتهم في الله ونسبتهم إليه الشركاء. وقولهم : الملائكة بنات الله ، وتكذيب الملائكة إياهم على رءوس الأشهاد. وقولهم في النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، وكيف كانوا يودّون أن يكون لهم كتاب. ثم وعد الله رسوله بالنصر كدأب المرسلين ودأب المؤمنين السابقين ، وأن عذاب الله نازل بالمشركين ، وتخلص العاقبة الحسنى للمؤمنين.

وكانت فاتحتها مناسبة لأغراضها بأن القسم بالملائكة مناسب لإثبات الوحدانية لأن الأصنام لم يدّعوا لها ملائكة ، والذي تخدمه الملائكة هو الإله الحق ولأن الملائكة من جملة المخلوقات الدالّ خلقها على عظم الخالق ، ويؤذن القسم بأنها أشرف المخلوقات العلوية.

ثم إن الصفات التي لوحظت في القسم بها مناسبة للأغراض المذكورة بعدها ، ف (الصَّافَّاتِ) يناسب عظمة ربها ، و (فَالزَّاجِراتِ) يناسب قذف الشياطين عن السماوات ، ويناسب تسيير الكواكب وحفظها من أن يدرك بعضها بعضا ، ويناسب زجرها الناس في المحشر. و (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) يناسب أحوال الرسول والرسل عليهم الصلاة والسلام وما أرسلوا به إلى أقوامهم.

هذا وفي الافتتاح بالقسم تشويق إلى معرفة المقسم عليه ليقبل عليه السامع بشراشره.

فقد استكملت فاتحة السورة أحسن وجوه البيان وأكملها.

[١ ـ ٤] (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤))

القسم لتأكيد الخبر مزيد تأكيد لأنه مقتضى إنكارهم الوحدانية ، وهو قسم واحد والمقسم به نوع واحد مختلف الأصناف ، وهو طوائف من الملائكة كما يقتضيه قوله : (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً).

وعطف «الصّفات» بالفاء يقتضي أن تلك الصفات ثابتة لموصوف واحد باعتبار جهة ترجع إليها وحدته ، وهذا الموصوف هو هذه الطوائف من الملائكة فإن الشأن في عطف

٦

الأوصاف أن تكون جارية على موصوف واحد لأن الأصل في العطف بالفاء اتصال المتعاطفات بها لما في الفاء من معنى التعقيب ولذلك يعطفون بها أسماء الأماكن المتصل بعضها ببعض كقول امرئ القيس :

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

فتوضح فالمقرة ... البيت

وكقول لبيد :

بمشارق الجبلين أو بمحجر

فتضمنتها فرده فرخامها

فصدائق إن أيمنت فمظنة

 ............ البيت

ويعطفون بها صفات موصوف واحد كقول ابن زيّابة :

يا لهف زيّابة للحارث ال

صابح فالغانم فالآئب

يريد صفات للحارث ، ووصفه بها تهكما به.

فعن جماعة من السلف : أن هذه الصفات للملائكة. وعن قتادة أن «التاليات ذكرا» الجماعة الذين يتلون كتاب الله من المسلمين. وقسم الله بمخلوقاته يومئ إلى التنويه بشأن المقسم به من حيث هو دالّ على عظيم قدرة الخالق أو كونه مشرّفا عند الله تعالى.

وتأنيث هذه الصفات باعتبار إجرائها على معنى الطائفة والجماعة ليدل على أن المراد أصناف من الملائكة لا آحاد منهم.

و (الصَّافَّاتِ) جمع : صافة ، وهي الطائفة المصطفّ بعضها مع بعض. يقال : صف الأمير الجيش ، متعديا إذا جعله صفا واحدا أو صفوفا ، فاصطفوا. ويقال : فصفّوا ، أي صاروا مصطفّين ، فهو قاصر. وهذا من المطاوع الذي جاء على وزن فعله مثل قول العجاج :

قد جبر الدين الإله فجبر

وتقدم قوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) في سورة الحج [٣٦] ، وقوله : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) [النور : ٤١].

ووصف الملائكة بهذا الوصف يجوز أن يكون على حقيقته فتكون الملائكة في العالم العلوي مصطفّة صفوفا ، وهي صفوف متقدم بعضها على بعض باعتبار مراتب الملائكة في الفضل والقرب. ويجوز أن يكون كناية عن الاستعداد لامتثال ما يلقى إليهم

٧

من أمر الله تعالى قال تعالى ، حكاية عنهم في هذه السورة (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ* وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) [الصافات : ١٦٥ ، ١٦٦].

والزجر : الحث في نهي أو أمر بحيث لا يترك للمأمور تباطؤ في الإتيان بالمطلوب ، والمراد به : تسخير الملائكة المخلوقات التي أمرهم الله بتسخيرها خلقا أو فعلا ، كتكوين العناصر ، وتصريف الرياح ، وإزجاء السحاب إلى الآفاق.

و «التاليات ذكرا» المترددون لكلام الله تعالى الذي يتلقونه من جانب القدس لتبليغ بعضهم بعضا أو لتبليغه إلى الرسل كما أشار إليه قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ : ٢٣]. وبيّنه قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنّه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم؟ قالوا : الذي قال الحق». والمراد ب «التاليات» ما يتلونه من تسبيح وتقديس لله تعالى لأن ذلك التسبيح لما كان ملقنا من لدن الله تعالى كان كلامهم بها تلاوة. والتلاوة : القراءة ، وتقدمت في قوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) في البقرة [١٠٢] ، وقوله : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) في [الأنفال : ٢].

والذكر ما يتذكر به من القرآن ونحوه ، وتقدم في قوله : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) في سورة الحجر [٦].

وما تفيده الفاء من ترتيب معطوفها يجوز أن يكون ترتيبا في الفضل بأن يراد أن الزجر وتلاوة الذكر أفضل من الصّف لأن الاصطفاف مقدمة لها ووسيلة والوسيلة دون المتوسّل إليه ، وأن تلاوة الذكر أفضل من الزجر باعتبار ما فيها من إصلاح المخلوقات المزجورة بتبليغ الشرائع إن كانت التلاوة تلاوة الوحي الموحى به للرسل ، أو بما تشتمل عليه التلاوة من تمجيد الله تعالى فإن الأعمال تتفاضل تارة بتفاضل متعلقاتها.

وقد جعل الله الملائكة قسما وسطا من أقسام الموجودات الثلاثة باعتبار التأثير والتأثر. فأعظم الأقسام المؤثر الذي لا يتأثر وهو واجب الوجود سبحانه ، وأدناها المتأثر الذي لا يؤثر وهو سائر الأجسام ، والمتوسط الذي يؤثر ويتأثر وهذا هو قسم المجرّدات من الملائكة والأرواح فهي قابلة للأثر عن عالم الكبرياء الإلهية وهي تباشر التأثير في عالم الأجسام. وجهة قابليتها الأثر من عالم الكبرياء مغايرة لجهة تأثيرها في عالم الأجسام وتصرفها فيها ، فقوله : (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) إشارة إلى تأثيرها ، وقوله : (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً)

٨

إشارة إلى تأثرها بما يلقى إليها من أمر الله فتتلوه وتتعبّد بالعمل به.

وجملة (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ) جواب القسم ومناط التأكيد صفة «واحد» لأن المخاطبين كانوا قد علموا أن لهم إلها ولكنهم جعلوه عدة آلهة فأبطل اعتقادهم بإثبات أنه واحد غير متعدد ، وهذا إنما يقتضي نفي الإلهية عن المتعددين وأما اقتضاؤه تعيين الإلهية لله تعالى فذلك حاصل بأنهم لا ينكرون أن الله تعالى هو الربّ العظيم ولكنهم جعلوا له شركاء فحصل التعدد في مفهوم الإله فإذا بطل التعدد تعيّن انحصار الإلهية في ربّ واحد هو الله تعالى.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥))

أتبع تأكيد الإخبار عن وحدانية الله تعالى بالاستدلال على تحقيق ذلك الإخبار لأن القسم لتأكيده لا يقنع المخاطبين لأنهم مكذّبون من بلّغ إليهم القسم ، فالجملة استئناف بياني لبيان الإله الواحد مع إدماج الاستدلال على تعيينه بذكر ما هو من خصائصه المقتضي تفرده بالإلهية.

فقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خبر لمبتدإ محذوف. والتقدير : هو ربّ السماوات ، أي إلهكم الواحد هو الذي تعرفونه بأنه ربّ السماوات والأرض إلى آخره.

فقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خبر لمبتدإ محذوف جرى حذفه على طريقة الاستعمال في حذف المسند إليه من الكلام الوارد بعد تقدم حديث عنه كما نبّه عليه صاحب «المفتاح».

فإن المشركين مع غلوّهم في الشرك لم يتجرّءوا على ادعاء الخالقية لأصنامهم ولا التصرف في العوالم العلوية ، وكيف يبلغون إليها وهم لقى على وجه الأرض فكان تفرد الله بالخالقية أفحم حجة عليهم في بطلان إلهية الأصنام. وشمل (السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) جميع العوالم المشهودة للناس بأجرامها وسكّانها والموجودات فيها.

وتخصيص (الْمَشارِقِ) بالذكر من بين ما بين السماوات والأرض لأنها أحوال مشهودة كل يوم.

وجمع (الْمَشارِقِ) باعتبار اختلاف مطلع الشمس في أيام نصف سنة دورتها وهي السنة الشمسية وهي مائة وثمانون شرقا باعتبار أطول نهار في السنة الشمسية وأقصره

٩

مكررة مرتين في السنة ابتداء من الرجوع الشّتوي إلى الرجوع الخريفي ، وهي مطالع متقاربة ليست متّحدة ، فإن المشرق اسم لمكان شروق الشمس وهو ظهورها فإذا راعوا الجهة دون الفصل قالوا : المشرق ، بالإفراد ، وإذا روعي الفصلان الشتاء والصيف قيل : رب المشرقين ، على أن جمع المشارق قد يكون بمراعاة اختلاف المطالع في مبادئ الفصول الأربعة. والآية صالحة للاعتبارين ليعتبر كل فريق من الناس بها على حسب مبالغ علمهم.

[٦ ـ ٧] (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧))

هذه الجملة تتنزل من جملة (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما)[الصافات : ٥] منزلة الدليل على أنه رب السماوات. واقتصر على ربوبية السماوات لأن ثبوتها يقتضي ربوبية الأرض بطريق الأولى. وأدمج فيها منة على الناس بأن جعل لهم في السماء زينة الكواكب تروق أنظارهم فإن محاسن المناظر لذّة للناظرين قال تعالى : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [النحل : ٦] ، ومنة على المسلمين بأن جعل في تلك الكواكب حفظا من تلقّي الشياطين للسمع فيما قضى الله أمره في العالم العلوي لقطع سبيل اطلاع الكهان على بعض ما سيحدث في الأرض فلا يفتنوا الناس في الإسلام كما فتنوهم في الجاهلية ، وليكون ذلك تشريفا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن قطعت الكهانة عند إرساله وللإشارة إلى أن فيها منفعة عظيمة دينية وهي قطع دابر الشك في الوحي ، كما أن فيها منفعة دنيوية وهي للزينة والاهتداء بها في ظلمات البر والبحر.

و (الْكَواكِبِ) : الكريات السماوية التي تلمع في الليل عدا الشمس والقمر. وتسمى النجوم ، وهي أقسام : منها العظيم ، ومنها دونه ، فمنها الكواكب السيارة ، ومنها الثوابت ، ومنها قطع تدور حول الشمس. وفي الكواكب حكم منها أن تكون زينة للسماء في الليل فالكواكب هي التي بها زينت السماء. فإضافة (بِزِينَةٍ) إلى (الْكَواكِبِ) إن جعلت زينة مصدرا بوزن فعلة مثل نسبة كانت من إضافة المصدر إلى فاعله ، أي زانتها الكواكب أو إلى المفعول ، أي بزينة الله الكواكب ، أي جعلها زينا. وإن جعلت زينة اسما لما يتزين به مثل قولنا : ليقة لما تلاق به الدّواة ، فالإضافة حقيقية على معنى «من» الابتدائية ، أي زينة حاصلة من الكواكب. وأيّا ما كان فإقحام لفظ زينة تأكيد ، والباء للسببية ، أي زيّنا السماء بسبب زينة الكواكب فكأنه قيل : إنا زينا السماء الدنيا بالكواكب تزيينا فكان (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) في قوّة : بالكواكب تزيينا ، فقوله : (بِزِينَةٍ) مصدر مؤكد لفعل (زَيَّنَّا) في المعنى ولكن حوّل التعليق فجعل زينة هو المتعلق ب (زَيَّنَّا) ليفيد معنى التعليل ومعنى

١٠

الإضافة في تركيب واحد على طريقة الإيجاز ، لأنه قد علم أن الكواكب زينة من تعليقه بفعل (زَيَّنَّا) من غير حاجة إلى إعادة زينة لو لا ما قصد من معنى التعليل والتوكيد.

و (الدُّنْيا) : أصله وصف هو مؤنث الأدنى ، أي القربى. والمراد : قربها من الأرض ، أي السماء الأولى من السماوات السبع.

ووصفها بالدنيا : إمّا لأنها أدنى إلى الأرض من بقية السماوات ، والسماء الدنيا على هذا هي الكرة التي تحيط بكرة الهواء الأرضية وهي ذات أبعاد عظيمة. ومعنى تزيينها بالكواكب والشهب على هذا أن الله جعل الكواكب والشهب سابحة في مقعّر تلك الكرة على أبعاد مختلفة ووراء تلك الكرة السماوات السبع محيط بعضها ببعض في أبعاد لا يعلم مقدار سعتها إلا الله تعالى. ونظام الكواكب المعبر عنه بالنظام الشمسي على هذا من أحوال السماء الدنيا ، ولا مانع من هذا لأن هذه اصطلاحات ، والقرآن صالح لها ، ولم يأت لتدقيقها ولكنه لا ينافيها. والسماء الدنيا على هذا هي التي وصفت في حديث الإسراء بالأولى. وإمّا لأن المراد بالسماء الدنيا الكرة الهوائية المحيطة بالأرض وليس فيها شيء من الكواكب ولا من الشهب وأن الكواكب والشهب في أفلاكها وهي السماوات الست والعرش ، فعلى هذا يكون النظام الشمسي كله ليس من أحوال السماء الدنيا. ومعنى تزيين السماء الدنيا بالكواكب والشهب على هذا الاحتمال أن الله تعالى جعل أديم السماء الدنيا قابلا لاختراق أنوار الكواكب في نصف الكرة السماوية الذي يغشاه الظلام من تباعد نور الشمس عنه فتلوح أنوار الكواكب متلألئة في الليل فتكون تلك الأضواء زينة للسماء الدنيا تزدان بها.

والآية صالحة للاحتمالين لأنها لم يثبت فيها إلا أن السماء الدنيا تزدان بزينة الكواكب ، وذلك لا يقتضي كون الكواكب سابحة في السماء الدنيا. فالزينة متعلقة بالناس ، والأشياء التي يزدان بها الناس مغايرة لهم منفصلة عنهم ومثله قولنا : ازدان البحر بأضواء القمر.

وقرأ الجمهور (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) بإضافة زينة إلى (الْكَواكِبِ). وقرأ حمزة (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) بتنوين زينة وجر (الْكَواكِبِ) على أن (الْكَواكِبِ) بدل من زينة. وقرأه أبو بكر عن عاصم بتنوين زينة ونصب (الْكَواكِبِ) على الاختصاص بتقدير : أعني.

وقد تقدم الكلام على زينة السماء بالكواكب وكونها حفظا من الشياطين عند قوله

١١

تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) في سورة الحجر [١٦ ، ١٧]. وتقدم ذكر الكواكب في قوله : (رَأى كَوْكَباً) في سورة الأنعام [٧٦].

وانتصب (حِفْظاً) بالعطف على (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) عطفا على المعنى كما ذهب إليه في «الكشاف» وبيّنه ما بيّناه آنفا من أن قوله : (بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) في قوة أن يقال : بالكواكب زينة ، وعامله (زَيَّنَّا).

والحفظ من الشياطين حكمة من حكم خلق الكواكب في علم الله تعالى لأن الكواكب خلقت قبل استحقاق الشياطين الرجم فإن ذلك لم يحصل إلا بعد أن أطرد إبليس من عالم الملائكة فلم يحصل شرط اتحاد المفعول لأجله مع عامله في الوقت ، وأبو علي الفارسي لا يرى اشتراط ذلك. ولعل الزمخشري يتابعه على ذلك حيث جعله مفعولا لأجله وهو الحق لأنه قد يكون على اعتباره علّة مقدرة كما جوز في الحال أن تكون مقدرة. ولك أن تجعل (حِفْظاً) منصوبا على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله فيكون في تقدير : وحفظنا ، عطفا على (زَيَّنَّا) ، أي حفظنا بالكواكب من كل شيطان مارد. وهذا قول المبرد. والمحفوظ هو السماء ، أي وحفظناها بالكواكب من كل شيطان.

وليس الذي به الحفظ هو جميع الذي به التزيين بل العلة موزعة فالذي هو زينة مشاهد بالأبصار ، والذي هو حفظ هو المبين بقوله : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات : ١٠].

ومعنى كون الكواكب حفظا من الشياطين أن من جملة الكواكب الشهب التي ترجم بها الشياطين عند محاولتها استراق السمع فتفرّ الشياطين خشية أن تصيبها لأنها إذا أصابت أشكالها اخترقتها فتفككت فلعلها تزول أشكالها بذلك التفكك فتنعدم بذلك قوام ماهيتها أو تتفرق لحظة لم تلتئم بعد فتتألّم من ذلك الخرق والالتئام فإن تلك الشهب التي تلوح للناظر قطعا لامعة مثل النجوم جارية في السماء إنما هي أجسام معدنية تدور حول الشمس وعند ما تقرب إلى الأرض تتغلب عليها جاذبية الأرض فتنزعها من جاذبية الشمس فتنقضّ بسرعة نحو مركز الأرض ولشدة سرعة انقضاضها تولد في الجو الكروي حرارة كافية لإحراق الصغار منها وتحمى الكبار منها إلى درجة من الحرارة توجب لمعانها وتسقط حتى تقع على الأرض في البحر غالبا وربما وقعت على البر ، وقد يعثر عليها بعض الناس إذ يجدونها واقعة على الأرض قطعا معدنية متفاوتة وربما أحرقت ما تصيبه من شجر أو منازل. وقد أرخ نزول بعضها سنة (٦١٦) قبل ميلاد المسيح ببلاد الصين فكسر عدة

١٢

مركبات وقتل رجالا ، وقد ذكرها العرب في شعرهم قبل الإسلام قال دوس بن حجر يصف ثورا وحشيا :

فانقضّ كالدّريّ يتبعه

نقع يثور تخاله طنبا

وقال بشر بن خازم أبي خازم أنشده الجاحظ في «الحيوان» :

والعير يرهقها الخبار وجحشها

ينقض خلفهما انقضا الكواكب (١)

وفي سنة (٩٤٤) سجل مرور كريات نارية في الجو أحرقت بيوتا عدة. وسقطت بالقطر التونسي مرتين أو ثلاث مرات ، منها قطعة سقطت في أوائل هذا القرن وسط المملكة أحسب أنها بجهات تالة ورأيت شظيّة منها تشبه الحديد ، والعامة يحسبونها صاعقة ويسمّون ذلك حجر الصاعقة ، وتساقطها يقع في الليل والنهار ولكنا لا نشاهد مرورها في النهار لأن شعاع الشمس يحجبها عن الأنظار.

ومما علمت من تدحرج هذه الشهب من فلك الشمس إلى فلك الأرض تبين لك سبب كونها من السماء الدنيا وسبب اتصالها بالأجرام الشيطانية الصاعدة من الأرض تتطلب الاتصال بالسماوات. وقد سميت شهبا على التشبيه بقبس النار وهو الجمر ، وقد تقدم في قوله تعالى : (أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) في سورة النمل [٧].

والمارد : الخارج عن الطاعة الذي لا يلابس الطاعة ساعة قال تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) [التوبة : ١٠١]. وفي وصفه بالمارد إشارة إلى أن ما يصيب إخوانه من الضرّ بالشهب لا يعظه عن تجديد محاولة الاستراق لما جبل عليه طبعه الشيطاني من المداومة على تلك السجايا الخبيثة كما لا ينزجر الفراش عن التهافت حول المصباح بما يصيب أطراف أجنحته من مسّ النار.

[٨ ـ ١٠] (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (١٠)).

اعتراض بين جملة (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) [الصافات : ٦] وجملة (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) [الصافات : ١١] قصد منه وصف قصة طرد الشياطين.

__________________

(١) الخبار بفتح الخاء المعجمة : الأرض الرخوة

١٣

وعلى تقدير قوله : (وَحِفْظاً) [الصافات : ٧] مصدرا نائبا مناب فعله يجوز جعل جملة (لا يَسَّمَّعُونَ) بيانا لكيفية الحفظ فتكون الجملة في موقع عطف البيان من جملة (وَحِفْظاً) على حد قوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ) [طه : ١٢٠] الآية ، أي انتفى بذلك الحفظ سمع الشياطين للملإ الأعلى.

وحرف (إِلَى) يشير إلى تضمين فعل (يَسَّمَّعُونَ) معنى ينتهون فيسمعون ، أي لا يتركهم الرمي بالشهب منتهين إلى الملأ الأعلى انتهاء الطالب المكان المطلوب بل تدحرهم قبل وصولهم فلا يتلقفون من علم ما يجري في الملأ الأعلى الأشياء مخطوفة غير متبينة ، وذلك أبعد لهم من أن يسمعوا لأنهم لا ينتهون فلا يسمعون. وفي «الكشاف» : أن سمعت المعدّى بنفسه يفيد الإدراك ، وسمعت المعدّى ب (إِلَى) يفيد الإصغاء مع الإدراك.

وقرأ الجمهور : لا يسمعون بسكون السين وتخفيف الميم. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف (لا يَسَّمَّعُونَ) بتشديد السين وتشديد الميم مفتوحتين على أن أصله : لا يتسمعون فقلبت التاء سينا توصلا إلى الإدغام ، والتسمع : تطلب السمع وتكلفه ، فالمراد التسمع المباشر ، وهو الذي يتهيأ له إذا بلغ المكان الذي تصل إليه أصوات الملأ الأعلى ، أي أنهم يدحرون قبل وصولهم المكان المطلوب ، والقراءتان في معنى واحد. وما نقل عن أبي عبيد من التفرقة بينهما في المعنى والاستعمال لا يصح.

وحاصل معنى القراءتين أن الشهب تحول بين الشياطين وبين أن يسمعوا شيئا من الملأ الأعلى وقد كانوا قبل البعثة المحمدية ربما اختطفوا الخطفة فألقوها إلى الكهان فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدر زيادة حراسة السماء بإرداف الكواكب بعضها ببعض حتى لا يرجع من خطف الخطفة سالما كما دلّ عليه قوله : (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) ، فالشهب كانت موجودة من قبل وكانت لا تحول بين الشياطين وبين تلقف أخبار مقطعة من الملأ الأعلى فلما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرمت الشياطين من ذلك.

والملأ : الجماعة أهل الشأن والقدر. والمراد بهم هنا الملائكة. ووصف (الْمَلَإِ) ب (الْأَعْلى) لتشريف الموصوف.

والقذف : الرجم ، والجانب : الجهة ، والدّحور : الطرد. وانتصب على أنه مفعول مطلق ل (يُقْذَفُونَ). وإسناد فعل (يُقْذَفُونَ) للمجهول لأن القاذف معلوم وهم الملائكة الموكّلون بالحفظ المشار إليه في قوله تعالى : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً

١٤

شَدِيداً وَشُهُباً) [الجن : ٨].

والعذاب الواصب : الدائم يقال : وصب يصب وصوبا ، إذا دام. والمعنى : أنهم يطردون في الدنيا ويحقرون ولهم عذاب دائم في الآخرة فإن الشياطين للنار (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) في سورة مريم [٦٨] ، ويجوز أن يكون المراد عذاب القذف وأنه واصب ، أي لا ينفكّ عنهم كلما حاولوا الاستراق لأنهم مجبولون على محاولته.

وجملة (وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ) معترضة بين الجملة المشتملة على المستثنى منه وهي جملة (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) وبين الاستثناء.

و (مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) مستثنى من ضمير (لا يَسَّمَّعُونَ) فهو في محل رفع على البدلية منه.

والخطف : ابتدار تناول شيء بسرعة ، و (الْخَطْفَةَ) المرة منه. فهو مفعول مطلق ل (خَطِفَ) لبيان عدد مرات المصدر ، أي خطفة واحدة ، وهو هنا مستعار للإسراع بسمع ما يستطيعون سمعه من كلام غير تام كقوله تعالى : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) في سورة البقرة [٢٠].

و «أتبعه» بمعنى تبعه فهمزته لا تفيده تعدية ، وهي كهمزة أبان بمعنى بان.

والشهاب : القبس والجمر من النار. والمراد به هنا ما يسمّى بالنيزك في اصطلاح علم الهيئة ، وتقدم في قوله : (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) في سورة الحجر [١٨].

والثاقب : الخارق ، أي الذي يترك ثقبا في الجسم الذي يصيبه ، أي ثاقب له. وعن ابن عباس : الشهاب لا يقتل الشيطان الذي يصيبه ولكنه يحترق ويخبل ، أي يفسد قوامه فتزول خصائصه ، فإن لم يضمحل فإنه يصبح غير قادر على محاولة استراق السمع مرة أخرى ، أي إلا من تمكّن من الدنوّ إلى محل يسمع فيه كلمات من كلمات الملأ الأعلى فيردف بشهاب يثقبه فلا يرجع إلى حيث صدر ، وهذا من خصائص ما بعد البعثة المحمدية.

وقد تقدم الكلام على استراق السمع عند قوله تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ* وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) في سورة الشعراء [٢١٠ ، ٢١١].

١٥

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١))

الفاء تفريع على قوله : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) [الصافات : ٦] باعتبار ما يقتضيه من عظيم القدرة على الإنشاء ، أي فسلهم عن إنكارهم البعث وإحالتهم إعادة خلقهم بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا ، أخلقهم حينئذ أشدّ علينا أم خلق تلك المخلوقات العظيمة؟

وضمير الغيبة في قوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ) عائد إلى غير مذكور للعلم به من دلالة المقام وهم الذين أحالوا إعادة الخلق بعد الممات. وكذلك ضمائر الغيبة الآتية بعده وضمير الخطاب منه موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي فسلهم ، وهو سؤال محاجة وتغليط.

والاستفتاء : طلب الفتوى بفتح الفاء وبالواو ، ويقال : الفتيا بضم الفاء وبالياء. وهي إخبار عن أمر يخفى عن غير الخواصّ في غرض ما. وهي :

إمّا إخبار عن علم مختص به المخبر قال تعالى : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ) [يوسف : ٤٦] الآية ، وقال : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [النساء : ١٧٦] ، وتقدم في قوله : (الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) في سورة يوسف [٤١].

وإمّا إخبار عن رأي يطلب من ذي رأي موثوق به ومنه قوله تعالى : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي) في سورة النمل [٣٢].

والمعنى : فاسألهم عن رأيهم فلما كان المسئول عنه أمرا محتاجا إلى إعمال نظر أطلق على الاستفهام عنه فعل الاستفتاء.

وهمزة : (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) للاستفهام المستعمل للتقرير بضعف خلق البشر بالنسبة للمخلوقات السماوية لأن الاستفهام يؤول إلى الإقرار حيث إنه يلجئ المستفهم إلى الإقرار بالمقصود من طرفي الاستفهام ، فالاستفتاء في معنى الاستفهام فهو يستعمل في كل ما يستعمل فيه الاستفهام. و (أَشَدُّ) بمعنى : أصعب وأعسر.

و (خَلْقاً) تمييز ، أي أخلقهم أشدّ أم خلق من خلقنا الذي سمعتم وصفه.

والمراد ب (مَنْ خَلَقْنا) ما خلقه الله من السماوات والأرض وما بينهما الشامل للملائكة والشياطين والكواكب المذكورة آنفا بقرينة إيراد فاء التعقيب بعد ذكر ذلك ، وهذا كقوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) [النازعات : ٢٧] ونحوه.

١٦

وجيء باسم العاقل وهو (مَنْ) الموصولة تغليبا للعاقلين من المخلوقات.

وجملة (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) في موضع العلة لما يتولد من معنى الاستفهام في قوله : (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) من الإقرار بأنهم أضعف خلقا من خلق السماوات وعوالمها احتجاجا عليهم بأن تأتّي خلقهم بعد الفناء أهون من تأتي المخلوقات العظيمة المذكورة آنفا ولم تكن مخلوقة قبل فإنهم خلقوا من طين لأن أصلهم وهو آدم خلق من طين كما هو مقرر لدى جميع البشر فكيف يحيلون البعث بمقالاتهم التي منها قولهم : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الصافات : ١٦].

والطين : التراب المخلوط بالماء.

واللازب : اللاصق بغيره ومنه أطلق على الأمر الواجب «لازب» في قول النابغة :

ولا يحسبون الشر ضربة لازب

وقد قيل : إن باء لازب بدل من ميم لازم ، والمعنى : أنه طين عتيق صار حمأة. وضمير (إِنَّا خَلَقْناهُمْ) عائد إلى المشركين وهو على حذف مضاف ، أي خلقنا أصلهم وهو آدم فإنه الذي خلق من طين لازب ، فإذا كان أصلهم قد أنشئ من تراب فكيف ينكرون إمكان إعادة كل آدمي من تراب.

[١٢ ـ ١٤] (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤))

(بَلْ) للإضراب الانتقالي من التقرير التوبيخي إلى أن حالهم عجب.

وقرأ الجمهور (بَلْ عَجِبْتَ) بفتح التاء للخطاب. والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المخاطب بقوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ) [الصافات : ١١]. وفعل المضيّ مستعمل في معنى الأمر وهو من استعمال الخبر في معنى الطلب للمبالغة كما يستعمل الخبر في إنشاء صيغ العقود نحو : بعت. والمعنى : اعجب لهم. ويجوز أن يكون العجب قد حصل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى إعراضهم وقلة إنصافهم فيكون الخبر مستعملا في حقيقته. ويجوز أن يكون الكلام على تقدير همزة الاستفهام ، أي بل أعجبت.

والمعنى على الجميع : أن حالهم حرية بالتعجب كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) في سورة الرعد [٥].

١٧

وقرأ حمزة والكسائي وخلف (بَلْ عَجِبْتَ) بضم التاء للمتكلم فيجوز أن يكون المراد : أن الله أسند العجب إلى نفسه. ويعرف أنه ليس المراد حقيقة العجب المستلزمة الروعة والمفاجأة بأمر غير مترقب بل المراد التعجيب أو الكناية عن لازمه ، وهو استعظام الأمر المتعجب منه. وليس لهذا الاستعمال نظير في القرآن ولكنه تكرر في كلام النبوءة منه قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليعجب من رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد» رواه النسائي بهذا اللفظ. يعني ثم يسلم القاتل الذي كان كافرا فيقاتل فيستشهد في سبيل الله.

وقوله في حديث الأنصاري وزوجه إذ أضافا رجلا فأطعماه عشاءهما وتركا صبيانهما «عجب الله من فعالكما».

ونزل فيه (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ)(١) [الحشر : ٩]. وقوله : «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل» (٢). وإنما عدل عن الصريح وهو الاستعظام لأن الكناية أبلغ من التصريح ، والصارف عن معنى اللفظ الصريح في قوله : (عَجِبْتَ) ما هو معلوم من مخالفته تعالى للحوادث. ويجوز أن يكون أطلق (عَجِبْتَ) على معنى المجازاة على عجبهم لأن قوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) [الصافات : ١١] دلّ على أنهم عجبوا من إعادة الخلق فتوعدهم الله بعقاب على عجبهم. وأطلق على ذلك العقاب فعل (عَجِبْتَ) كما أطلق على عقاب مكرهم المكر في قوله : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤].

والواو في (وَيَسْخَرُونَ) واو الحال ، والجملة في موضع الحال من ضمير (عَجِبْتَ) أي كان أمرهم عجبا في حال استسخارهم بك في استفتائهم. وجيء بالمضارع في (يَسْخَرُونَ) لإفادة تجدد السخرية ، وأنهم لا يرعوون عنها.

والسخرية : الاستهزاء ، وتقدمت في قوله تعالى : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ) في سورة الأنعام [١٠].

والتذكير بأن يذكروا ما يغفلون عنه من قدرة الله تعالى عليهم ، ومن تنظير حالهم بحال الأمم التي استأصلها الله تعالى فلا يتعظوا بذلك عنادا فأطلق (لا يَذْكُرُونَ) على أثر

__________________

(١) رواه البخاري في «مناقب الأنصار» وفيه قصة.

(٢) رواه البخاري في الجهاد.

١٨

الفعل ، أي لا يحصل فيهم أثر تذكّر ما يذكّرون به وإن كانوا قد ذكروا ذلك. ويجوز أن يراد لا يذكرون ما ذكروا به ، أي لشدة إعراضهم عن التأمل فيما ذكّروا به لاستقرار ما ذكّروا به في عقولهم فلا يذكرون ما هم غافلون عنه ، على حد قوله تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) [الفرقان : ٤٤].

و (وَإِذا رَأَوْا آيَةً) أي خارق عادة أظهره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم دالا على صدقه لأن الله تعالى لا يغير نظام خلقته في هذا العالم إلا إذا أراد تصديق الرسول لأن خرق العادة من خالق العادات وناظم سنن الأكوان قائم مقام قوله : صدق هذا الرسول فيما أخبر به عني. وقد رأوا انشقاق القمر ، فقالوا : هذا سحر ، قال تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) [القمر : ١ ، ٢].

و (يَسْتَسْخِرُونَ) مبالغة في السخرية فالسين والتاء للمبالغة كقوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) [آل عمران : ١٩٥] وقوله : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) [الزخرف:٤٣].

فالسخرية المذكورة في قوله : (وَيَسْخَرُونَ) سخرية من محاجّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياهم بالأدلة. والسخرية المذكورة هنا سخرية من ظهور الآيات المعجزات ، أي يزيدون في السخرية بمن ظنّ منهم أن ظهور المعجزات يحول بهم عن كفرهم ، ألا ترى أنهم قالوا : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) [الفرقان : ٤٢].

[١٥ ـ ١٩] (وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩))

عطف على جملة (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) [الصافات : ١١] الآية. والإشارة في قوله : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) إلى مضمون قوله : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) وهو إعادة الخلق عند البعث ، ويبينه قوله : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) ، أي وقالوا في رد الدليل الذي تضمنه قوله : (أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) [الصافات : ١١] أي أجابوا بأن ادعاء إعادة الحياة بعد البلى كلام سحر مبين ، أي كلام لا يفهم قصد به سحر السامع. هذا وجه تفسير هذه الآية تفسيرا يلتئم به نظمها خلافا لما درج عليه المفسرون.

وقرأ نافع وحده (إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) بهمزة واحدة هي همزة إن باعتبار أنه جواب (إِذا) الواقعة في حيّز الاستفهام فهو من حيز الاستفهام. وقرأ غير نافع (أَإِنَّا) بهمزتين:

١٩

إحداهما همزة الاستفهام مؤكدة للهمزة الداخلة على (إِذا).

وقوله : (أَوَآباؤُنَا) قرأه قالون عن نافع وابن عامر وأبو جعفر بسكون واو (أَوَ) على أن الهمزة مع الواو حرف واحد هو أو العاطفة المفيدة للتقسيم هنا ووجه العطف بأو هو جعلهم الآباء الأولين قسما آخر فكان عطفه ارتقاء في إظهار استحالة إعادة هذا القسم لأن آباءهم طالت عصور فنائهم فكانت إعادة حياتهم أوغل في الاستحالة. وقرأ الباقون بفتح الواو على أن الواو واو العطف والهمزة همزة استفهام فهما حرفان. وقدمت همزة الاستفهام على حرف العطف حسب الاستعمال الكثير. والتقدير : وأ آباؤنا الأولون مثلنا.

وعلى كلتا القراءتين فرفعه بالعطف على محل اسم إن الذي كان مبتدأ قبل دخول إن ، والغالب في العطف على اسم إن يرفع المعطوف اعتبارا بالمحل كما في قوله تعالى : (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) [التوبة : ٣] أو يجعل معطوفا على الضمير المستتر في خبر إن وهو هنا مرفوع بالنيابة عن الفاعل ولا يضر الفصل بين المعطوف عليه الذي هو ضمير متصل وبين حرف العطف ، أو بين المعطوف عليه والمعطوف بالهمزة المفضي إلى إعمال ما قبل الهمزة فيما بعدها وذلك ينافي صدارة الاستفهام لأن صدارة الاستفهام بالنسبة إلى جملته فلا ينافيها عمل عامل من جملة قبله لأن الإعمال اعتبار يعتبره المتكلم ويفهمه السامع فلا ينافي الترتيب اللفظي.

والاستفهام في قوله : (أَإِذا مِتْنا) إنكاري كما تقدم فلذلك كان قوله تعالى : (قُلْ نَعَمْ) جوابا لقولهم (أَإِذا مِتْنا) على طريقة الأسلوب الحكيم بصرف قصدهم من الاستفهام إلى ظاهر الاستفهام فجعلوا كالسائلين : أيبعثون؟ فقيل لهم : نعم ، تقريرا للبعث المستفهم عنه ، أي نعم تبعثون. وجيء ب (قُلْ) غير معطوف لأنه جار على طريقة الاستعمال في حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) في سورة البقرة [٣٠].

و (أَنْتُمْ داخِرُونَ) جملة في موضع الحال. والداخر : الصاغر الذليل ، أي تبعثون بعث إهانة مؤذنة بترقب العقاب لا بعث كرامة.

وفرّع على إثبات البعث الحاصل بقوله : (نَعَمْ) ، أن بعثهم وشيك الحصول لا يقتضي معالجة ولا زمنا إن هي إلا إعادة تنتظر زجرة واحدة.

والزجرة : الصيحة ، وقد تقدم آنفا قوله تعالى : (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) [الصافات :٢].

٢٠