تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٨

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٥٦

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٢٣ ـ سورة المؤمنين

ويقال «سورة المؤمنون».

فالأول على اعتبار إضافة السورة إلى المؤمنين لافتتاحها بالإخبار عنهم بأنهم أفلحوا. ووردت تسميتها بمثل هذا فيما رواه النسائي : «عن عبد الله بن السائب قال : حضرت رسول الله يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة فخلع نعليه فوضعهما عن يساره فافتتح سورة المؤمنين فلما جاء ذكر موسى أو عيسى أخذته سعلة فركع».

والثاني على حكاية لفظ (الْمُؤْمِنُونَ) الواقع أولها في قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١] فجعل ذلك اللفظ تعريفا للسورة.

وقد وردت تسمية هذه السورة «سورة المؤمنين» في السّنّة ، روى أبو داود : «عن عبد الله بن السائب قال : صلّى بنا رسول الله الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر موسى وعيسى أخذت النبي سعلة فحذف فركع».

ومما جرى على الألسنة أن يسموها سورة «قد أفلح» ، ووقع ذلك في كتاب الجامع من «العتبية» في سماع ابن القاسم ، قال ابن القاسم : أخرج لنا مالك مصحفا لجده فتحدثنا أنه كتبه على عهد عثمان بن عفان وغاشيته من كسوة الكعبة فوجدنا ..» إلى أن قال : «وفي قد أفلح كلها الثلاث لله» أي خلافا لقراءة : سيقولون الله [المؤمنون : ٨٥]. ويسمونها أيضا سورة الفلاح.

وهي مكية بالاتفاق. ولا اعتداد بتوقف من توقف في ذلك بأن الآية التي ذكرت فيها الزكاة وهي قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) [المؤمنون : ٤] تعيّن أنها مدنية لأن الزكاة فرضت في المدينة. فالزكاة المذكورة فيها هي الصّدقة لا زكاة النصب المعيّنة في

٥

الأموال. وإطلاق الزكاة على الصدقة مشهور في القرآن ، قال تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ، ٧] وهي من سورة مكيّة بالاتفاق ، وقال : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) [مريم : ٥٤ ، ٥٥] ولم تكن زكاة النصب مشروعة في زمن إسماعيل.

وهي السورة السادسة والسبعون في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الطور وقبل سورة (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ).

وآياتها مائة وسبع عشرة في عدّ الجمهور. وعدها أهل الكوفة مائة وثمان عشرة ، فالجمهور عدّوا (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [المؤمنون : ١٠ ، ١١] آية ، وأهل الكوفة عدّوا (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ) آية وما بعدها آية أخرى ، كما يؤخذ من كلام أبي بكر ابن العربي في «العارضة» في الحديث الذي سنذكره عقب تفسير قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

أغراض السورة

هذه السورة تدور آيها حول محور تحقيق الوحدانية وإبطال الشرك ونقض قواعده ، والتنويه بالإيمان وشرائعه.

فكان افتتاحها بالبشارة للمؤمنين بالفلاح العظيم على ما تحلّوا به من أصول الفضائل الروحية والعلمية التي بها تزكية النفس واستقامة السلوك.

وأعقب ذلك بوصف خلق الإنسان أصله ونسله الدال على تفرد الله تعالى بالإلهية لتفرده بخلق الإنسان ونشأته ليبتدئ الناظر بالاعتبار في تكوين ذاته ثم بعدمه بعد الحياة. ودلالة ذلك الخلق على إثبات البعث بعد الممات وأن الله لم يخلق الخلق سدى ولعبا.

وانتقل إلى الاعتبار بخلق السماوات ودلالته على حكمة الله تعالى. وإلى الاعتبار والامتنان بمصنوعات الله تعالى التي أصلها الماء الذي به حياة ما في هذا العالم من الحيوان والنبات وما في ذلك من دقائق الصنع ، وما في الأنعام من المنافع ومنها الحمل.

ومن تسخير المنافع للناس وما أوتيه الإنسان من آلات الفكر والنظر. وورد ذكر الحمل على الفلك فكان منه تخلص إلى بعثة نوح وحدث الطوفان.

٦

وانتقل إلى التذكير ببعثة الرسل للهدى والإرشاد إلى التوحيد والعمل الصالح ، وما تلقاها به أقوامهم من الإعراض والطعن والتفرق ، وما كان من عقاب المكذبين ، وتلك أمثال لموعظة المعرضين عن دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعقب ذلك بالثناء على الذين آمنوا واتقوا.

وبتنبيه المشركين على أن حالهم مماثل لأحوال الأمم الغابرة وكلمتهم واحدة فهم عرضة لأن يحل بهم ما حلّ بالأمم الماضية المكذبة. وقد أراهم الله مخائل العذاب لعلهم يقلعون عن العناد فأصروا على إشراكهم بما ألقى الشيطان في عقولهم.

وذكروا بأنهم يقرون إذا سئلوا بأن الله مفرد بالربوبية ولا يجرون على مقتضى إقرارهم وأنهم سيندمون على الكفر عند ما يحضرهم الموت وفي يوم القيامة.

وبأنهم عرفوا الرسول وخبروا صدقه وأمانته ونصحه المجرد عن طلب المنفعة لنفسه إلّا ثواب الله فلا عذر لهم بحال في إشراكهم وتكذيبهم الرسالة ، ولكنهم متبعون أهواءهم معرضون عن الحق. وما تخلل ذلك من جوامع الكلم.

وختمت بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يغضّ عن سوء معاملتهم ويدفعها بالتي هي أحسن ، ويسأل المغفرة للمؤمنين ، وذلك هو الفلاح الذي ابتدئت به السورة.

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١))

افتتاح بديع لأنه من جوامع الكلم فإن الفلاح غاية كل ساع إلى عمله ، فالإخبار بفلاح المؤمنين دون ذكر متعلّق بفعل الفلاح يقتضي في المقام الخطابي تعميم ما به الفلاح المطلوب ، فكأنه قيل : قد أفلح المؤمنون في كل ما رغبوا فيه.

ولما كانت همة المؤمنين منصرفة إلى تمكن الإيمان والعمل الصالح من نفوسهم كان ذلك إعلاما بأنهم نجحوا فيما تعلقت به هممهم من خير الآخرة وللحق من خير الدنيا ، ويتضمن بشارة برضى الله عنهم ووعدا بأن الله مكمل لهم ما يتطلبونه من خير.

وأكد هذا الخبر بحرف (قد) الذي إذا دخل على الفعل الماضي أفاد التحقيق أي التوكيد ، فحرف (قد) في الجملة الفعلية يفيد مفاد (إنّ واللام) في الجملة الاسميّة ، أي يفيد توكيدا قويّا.

ووجه التوكيد هنا أن المؤمنين كانوا مؤملين مثل هذه البشارة فيما سبق لهم من رجاء

٧

فلاحهم كالذي في قوله : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج : ٧٧] ، فكانوا لا يعرفون تحقق أنهم أتوا بما أرضى ربهم ويخافون أن يكونوا فرطوا في أسبابه وما علق عليه وعده إياهم ، بله أن يعرفوا اقتراب ذلك ؛ فلما أخبروا بأن ما ترجّوه قد حصل حقق لهم بحرف التحقيق وبفعل المضي المستعمل في معنى التحقق. فالإتيان بحرف التحقيق لتنزيل ترقبهم إياه لفرط الرغبة والانتظار منزلة الشك في حصوله ، ولعل منه : قد قامت الصلاة ، إشارة إلى رغبة المصلين في حلول وقت الصلاة ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرحنا بها يا بلال» وشأن المؤمنين التشوق إلى عبادتهم كما يشاهد في تشوق كثير إلى قيام رمضان.

وحذف المتعلق للإشارة إلى أنهم أفلحوا فلاحا كاملا.

والفلاح : الظفر بالمطلوب من عمل العامل ، وقد تقدم في أول البقرة. ونيط الفلاح بوصف الإيمان للإشارة إلى أنه السبب الأعظم في الفلاح فإن الإيمان وصف جامع للكمال لتفرع جميع الكمالات عليه.

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢))

إجراء الصفات على (الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١] بالتعريف بطريق الموصول وبتكريره للإيماء إلى وجه فلاحهم وعلته ، أي أن كل خصلة من هاته الخصال هي من أسباب فلاحهم. وهذا يقتضي أن كل خصلة من هذه الخصال سبب للفلاح لأنه لم يقصد أن سبب فلاحهم مجموع الخصال المعدودة هنا فإن الفلاح لا يتم إلّا بخصال أخرى مما هو مرجع التقوى ، ولكن لما كانت كل خصلة من هذه الخصال تنبئ عن رسوخ الإيمان من صاحبها اعتبرت لذلك سببا للفلاح ، كما كانت أضدادها كذلك في قوله تعالى (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المدثر : ٤٢ ـ ٤٦] على أن ذكر عدة أشياء لا يقتضي الاقتصار عليها في الغرض المذكور.

والخشوع تقدم في قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) في سورة البقرة [٤٥] وفي قوله : (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) في سورة الأنبياء [٩٠]. وهو خوف يوجب تعظيم المخوف منه ، ولا شك أن الخشوع ، أي الخشوع لله ، يقتضي التقوى فهو سبب فلاح.

وتقييده هنا بكونه في الصلاة لقصد الجمع بين وصفهم بأداء الصلاة وبالخشوع

٨

وخاصة إذا كان في حال الصلاة لأنّ الخشوع لله يكون في حالة الصلاة وفي غيرها ، إذ الخشوع محلّه القلب فليس من أفعال الصلاة ولكنه يتلبس به المصلي في حالة صلاته. وذكر مع الصلاة لأن الصلاة أولى الحالات بإثارة الخشوع وقوّته ولذلك قدمت ، ولأنه بالصلاة أعلق فإن الصلاة خشوع لله تعالى وخضوع له ، ولأن الخشوع لما كان لله تعالى كان أولى الأحوال به حال الصلاة لأن المصلي يناجي ربه فيشعر نفسه أنه بين يدي ربه فيخشع له. وهذا من آداب المعاملة مع الخالق تعالى وهي رأس الآداب الشرعية ومصدر الخيرات كلها.

ولهذا الاعتبار قدم هذا الوصف على بقية أوصاف المؤمنين وجعل مواليا للإيمان فقد حصل الثناء عليهم بوصفين.

وتقديم (فِي صَلاتِهِمْ) على (خاشِعُونَ) للاهتمام بالصلاة للإيذان بأن لهم تعلقا شديدا بالصلاة لأن شأن الإضافة أن تفيد شدة الاتصال بين المضاف والمضاف إليه لأنها على معنى لام الاختصاص. فلو قيل : الذين إذا صلوا خشعوا ، فات هذا المعنى ، وأيضا لم يتأت وصفهم بكونهم خاشعين إلّا بواسطة كلمة أخرى نحو : كانوا خاشعين. وإلّا يفت ما تدل عليه الجملة الاسميّة من ثبات الخشوع لهم ودوامه ، أي كون الخشوع خلقا لهم بخلاف نحو : الذين خشعوا ، فحصل الإيجاز ، ولم يفت الإعجاز.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣))

العطف من عطف الصفات لموصوف واحد كقول بعض الشعراء وهو من شواهد النحو :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وتكرير الصفات تقوية للثناء عليهم.

والقول في تركيب جملة (هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) كالقول في (هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون : ٢] ، وكذلك تقديم (عَنِ اللَّغْوِ) على متعلقه.

وإعادة اسم الموصول دون اكتفاء بعطف صلة على صلة للإشارة إلى أن كل صفة من الصفات موجبة للفلاح فلا يتوهم أنهم لا يفلحون حتى يجمعوا بين مضامين الصلاة كلها ، ولما في الإظهار في مقام الإضمار من زيادة تقرير للخبر في ذهن السامع.

٩

واللغو : الكلام الباطل. وتقدم في قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) في البقرة [٢٢٥] ، وقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) في سورة مريم [٦٢].

والإعراض : الصد أي عدم الإقبال على الشيء ، من العرض ـ بضم العين ـ وهو الجانب ، لأن من يترك الشيء يوليه جانبه ولا يقبل عليه فيشمل الإعراض إعراض السمع عن اللغو ، وتقدم عند قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ) في سورة النساء [٦٣] ، وقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) في سورة الأنعام [٦٨] ، وأهمه الإعراض عن لغو المشركين عند سماع القرآن (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت : ٢٦] وقال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢]. ويشمل الإعراض عن اللغو بالألسنة ، أي أن يلغوا في كلامهم.

وعقب ذكر الخشوع بذكر الإعراض عن اللغو لأن الصلاة في الأصل الدعاء ، وهو من الأقوال الصالحة ، فكان اللغو مما يخطر بالبال عند ذكر الصلاة بجامع الضدية ، فكان الإعراض عن اللغو بمعنيي الإعراض مما تقتضيه الصلاة والخشوع لأن من اعتاد القول الصالح تجنب القول الباطل ومن اعتاد الخشوع لله تجنب قول الزور ، وفي الحديث «إنّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم».

والإعراض عن جنس اللغو من خلق الجدّ ومن تخلق بالجد في شئونه كملت نفسه ولم يصدر منه إلّا الأعمال النافعة ، فالجد في الأمور من خلق الإسلام كما أفصح عن ذلك قول أبي خراش الهذلي بذكر الإسلام :

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل

سوى العدل شيئا فاستراح العواذل

والإعراض عنه يقتضي بالأولى اجتناب قول اللغو ويقتضي تجنب مجالس أهله.

واعلم أن هذا أدب عظيم من آداب المعاملة مع بعض الناس وهم الطبقة غير المحترمة لأن أهل اللغو ليسوا بمرتبة التوقير ، فالإعراض عن لغوهم ربء عن التسفل معهم.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤))

أصل الزكاة أنها اسم مصدر (زكّى) المشدّد ، إذا طهّر النفس من المذمات. ثم

١٠

أطلقت على إنفاق المال لوجه الله مجازا لأن القصد من ذلك المال تزكية النفس أو لأن ذلك يزيد في مال المعطي. فأطلق اسم المسبّب على السبب. وأصله قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) [التوبة : ١٠٣] ، وأطلقت على نفس المال المنفق من إطلاق اسم المصدر على المفعول لأنه حاصل به وهو المتعين هنا بقرينة تعليقه ب (فاعِلُونَ) المقتضي أن الزكاة مفعول. وأما المصدر فلا يكون مفعولا به لفعل من مادة (ف. ع. ل) لأن صوغ الفعل من مادة ذلك المصدر يغني عن الإتيان بفعل مبهم ونصب مصدره على المفعوليّة به. فلو قال أحد : فعلت مشيا ، إذا أراد أن يقول : مشيت ، كان خارجا عن تركيب العربية ولو كان مفيدا ، ولو قال أحد : فعلت ممّا تريده ، لصح التركيب قال تعالى : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) [الأنبياء : ٥٩] ، أي هذا المشاهد من الكسر والحطم ، أي هذا الحاصل بالمصدر. وليس المراد المصدر لأنه لا يشار إليه ولا سيما بعد غيبة فاعله.

والمراد بالفعل هنا الفعل المناسب لهذا المفعول وهو الإيتاء ، فهو كقوله (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [المائدة : ٥٥] فلا حاجة إلى تقدير أداء الزكاة.

وإنما أوثر هنا الاسم الأعمّ وهو (فاعِلُونَ) لأن مادة (ف ع ل) مشتهرة في إسداء المعروف ، واشتق منها الفعال بفتح الفاء ، قال محمد بن بشير الخارجي :

إن تنفق المال أو تكلف مساعيه

يشقق عليك وتفعل دون ما فعلا

وعلى هذا الاعتبار جاء ما نسب إلى أمية بن أبي الصلت :

المطعمون الطعام في السّنة الأز

مة والفاعلون للزكوات

أنشده في «الكشاف». وفي نفسي من صحة نسبته تردد لأني أحسب استعمال الزكاة في معنى المال المبذول لوجه الله إلّا من مصطلحات القرآن ، فلعل البيت مما نحل من الشعر على ألسنة الشعراء. قال ابن قتيبة في كتاب «الشعر والشعراء» «وعلماؤنا لا يرون شعر أمية حجة على الكتاب».

واللام على هذا الوجه لام التقوية لضعف العامل بالفرعيّة وبالتأخير عن معموله.

وقال أبو مسلم والراغب : اللام للتعليل وجعلا الزكاة تزكية النفس. ومعنى (فاعِلُونَ) فاعلون الأفعال الصالحات فحذف معمول (فاعِلُونَ) بدلالة علته عليه.

وفي «الكشاف» أن الزكاة هنا مصدر وهو فعل المزكي ، أي إعطاء الزكاة وهو الذي

١١

يحسن أن يتعلق ب (فاعِلُونَ) لأنه ما من مصدر إلّا ويعبر عن معناه بمادة فعل فيقال للضارب : فاعل الضرب ، وللقاتل : فاعل القتل. وإنما حاول بذلك إقامة تفسير الآية فغلّب جانب الصناعة اللفظية على جانب المعنى وجوّز الوجه الآخر على شرط تقدير مضاف ، وكلا الاعتبارين غير ملتزم.

وعقب ذكر الصلاة بذكر الزكاة لكثرة التآخي بينهما في آيات القرآن ، وإنما فصل بينهما هنا بالإعراض عن اللغو للمناسبة التي سمعت آنفا.

وهذا من آداب المعاملة مع طبقة أهل الخصاصة وهي ترجع إلى آداب التصرف في المال. والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما تقدم آنفا.

[٥ ـ ٧] (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧))

الحفظ : الصيانة والإمساك. وحفظ الفرج معلوم ، أي عن الوطء ، والاستثناء في قوله: (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) إلخ استثناء من عموم متعلّقات الحفظ التي دلّ عليها حرف (عَلى) ، أي حافظونها على كل ما يحفظ عليه إلّا المتعلّق الذي هو أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، فضمن (حافِظُونَ) معنى عدم البذل ، يقال : احفظ علي عنان فرسي كما يقال : أمسك عليّ كما في آية (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [الأحزاب : ٣٧]. والمراد حل الصنفين من بين بقية أصناف النساء. وهذا مجمل تبينه تفاصيل الأحكام في عدد الزوجات وما يحل منهن بمفرده أو الجمع بينه. وتفاصيل الأحوال من حال حل الانتفاع أو حال عدة فذلك كله معلوم للمخاطبين ، وكذلك في الإماء.

والتعبير عن الإماء باسم (ما) الموصولة الغالب استعمالها لغير العاقل جرى على خلاف الغالب وهو استعمال كثير لا يحتاج معه إلى تأويل.

وقوله : (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) تصريح بزائد على حكم مفهوم الاستثناء ، لأن الاستثناء لم يدل على أكثر من كون عدم الحفظ على الأزواج والمملوكات لا يمنع الفلاح فأريد زيادة بيان أنه أيضا لا يوجب اللوم الشرعي ، فيدل هذا بالمفهوم على أن عدم الحفظ

على من سواهن يوجب اللوم الشرعي ليحذره المؤمنون.

والفاء في قوله : (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) تفريع للتصريح على مفهوم الاستثناء الذي هو

١٢

في قوة الشرط فأشبه التفريع عليه جواب الشرط فقرئ بالفاء تحقيقا للاشتراط.

وزيد ذلك التحذير تقريرا بأن فرع عليه (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) لأن داعية غلبة شهوة الفرج على حفظ صاحبه إياه غريزة طبيعيّة يخشى أن تتغلّب على حافظها ، فالإشارة بذلك إلى المذكور في قوله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) أي وراء الأزواج والمملوكات ، أي غير ذينك الصّنفين.

وذكر حفظ الفرج هنا عطفا على الإعراض عن اللغو لأن من الإعراض عن اللغو ترك اللغو بالأحرى كما تقدم آنفا ؛ لأن زلة الصالح قد تأتيه من انفلات أحد هذين العضوين من جهة ما أودع في الجبلة من شهوة استعمالهما فلذلك ضبطت الشريعة استعمالهما بأن يكون في الأمور الصالحة التي أرشدت إليها الديانة. وفي الحديث : «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنّة».

واللوم : الإنكار على الغير ما صدر منه من فعل أو قول لا يليق عند الملائم ، وهو مرادف العذل وأضعف من التعنيف.

و (وَراءَ) منصوب على المفعول به. وأصل الوراء اسم المكان الذي في جهة الظهر ، ويطلق على الشيء الخارج عن الحد المحدود تشبيها للمتجاوز الشيء بشيء موضوع خلف ظهر ذلك الشيء لأن ما كان من أعلاق الشخص يجعل بين يديه وبمرأى منه وما كان غير ذلك ينبذ وراء الظهر ، وهذا التخيل شاع عنه هذا الإطلاق بحيث يقال : هو وراء الحد ، ولو كان مستقبله. ثم توسع فيه فصار بمعنى (غير) أو (ما عدا) كما هنا ، أي فمن ابتغوا بفروجهم شيئا غير الأزواج وما ملكت أيمانهم.

وأتي لهم باسم الإشارة في قوله : (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) لزيادة تمييزهم بهذه الخصلة الذميمة ليكون وصفهم بالعدوان مشهورا مقررا كقوله تعالى : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) في سورة البقرة [١٧٧] ، والعادي هو المعتدي ، أي الظالم لأنه عدا على الأمر.

وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الحكم ، أي هم البالغون غاية العدوان على الحدود الشرعية.

والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول كما مرّ.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨))

١٣

هذه صفة أخرى من جلائل صفات المؤمنين تنحل إلى فضيلتين هما فضيلة أداء الأمانة التي يؤتمنون عليها وفضيلة الوفاء بالعهد.

فالأمانة تكون غالبا من النفائس التي يخشى صاحبها عليها التلف فيجعلها عند من يظن فيه حفظها ، وفي الغالب يكون ذلك على انفراد بين المؤتمن والأمين ، فهي لنفاستها قد تغري الأمين عليها بأن لا يردها وبأن يجحدها ربها ، ولكون دفعها في الغالب عريّا عن الإشهاد تبعث محبتها الأمين على التمسك بها وعدم ردها ، فلذلك جعل الله ردّها من شعب الإيمان.

وقد جاء في الحديث عن حذيفة بن اليمان قال «حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة»، وحدثنا عن رفعها قال : «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظلّ أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، فيقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ، ويقال للرجل : ما أعقله وما أظرفه وما أجلده وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان» ا ه.

الوكت : سواد يكون في قشر التمر. والمجل : انتفاخ في الجلد الرقيق يكون شبه قشر العنبة ينشأ من مس النار الجلد ومن كثرة العمل باليد وقوله : «مثقال حبة خردل من إيمان» هو مصدر آمنه ، أي وما في قرارة نفسه شيء من إيمان الناس إيّاه فلا يأتمنه إلّا مغرور.

وقد تقدم الكلام على الأمانة في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) في سورة النساء [٥٨]. وجمع (الْأَماناتِ) باعتبار تعدد أنواعها وتعدد القائمين بالحفظ تنصيصا على العموم.

وقرأ الجمهور : (لِأَماناتِهِمْ) بصيغة الجمع ، وقرأه ابن كثير لأمانتهم بالإفراد باعتبار المصدر مثل (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون : ٢].

والعهد : التزام بين اثنين أو أكثر على شيء يعامل كل واحد من الجانبين الآخر به.

وسمي عهدا لأنهما يتحالفان بعد الله ، أي بأن يكون الله رقيبا عليهما في ذلك لا يفيتهم المؤاخذة على تخلفه ، وتقدم عند قوله تعالى : (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ)

١٤

في سورة البقرة [٢٧].

والوفاء بالعهد من أعظم الخلق الكريم لدلالته على شرف النفس وقوة العزيمة ، فإن المرأين قد يلتزم كل منهما للآخر عملا عظيما فيصادف أن يتوجه الوفاء بذلك الالتزام على أحدهما فيصعب عليه أن يتجشم عملا لنفع غيره بدون مقابل ينتفع به هو فتسول له نفسه الختر بالعهد شحّا أو خورا في العزيمة ، فلذلك كان الوفاء بالعهد علامة على عظم النفس قال تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٤].

والرعي : مراقبة شيء بحفظه من التلاشي وبإصلاح ما يفسد منه ، فمنه رعي الماشية ، ومنه رعي الناس ، ومنه أطلقت المراعاة على ما يستحقه ذو الأخلاق الحميدة من حسن المعاملة. والقائم بالرعي راع.

فرعي الأمانة : حفظها ، ولما كان الحفظ مقصودا لأجل صاحبها كان ردها إليه أولى من حفظها. ورعي العهد مجاز ، أي ملاحظته عند كل مناسبة.

والقول في تقديم (لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ) على (راعُونَ) كالقول في نظائره السابقة ، وكذلك إعادة اسم الموصول.

والجمع بين رعي الأمانات ورعي العهد لأن العهد كالأمانة لأن الذي عاهدك قد ائتمنك على الوفاء بما يقتضيه ذلك العهد.

وذكرهما عقب أداء الزكاة لأن الزكاة أمانة الله عند الذين أنعم عليهم بالمال ، ولذلك سميت : حقّ الله ، وحق المال ، وحق المسكين.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩))

ثناء على المؤمنين بالمحافظة على الصلوات ، أي بعدم إضاعتها أو إضاعة بعضها ، والمحافظة مستعملة في المبالغة في الحفظ إذ ليست المفاعلة هنا حقيقيّة كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) [البقرة : ٢٣٨] وتقدّم معنى الحفظ قريبا.

وجيء بالصلوات بصيغة الجمع للإشارة إلى المحافظة على أعدادها كلها تنصيصا على العموم.

وإنما ذكر هذا مع ما تقدم من قوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون : ٢]

١٥

لأن ذكر الصلاة هنالك جاء تبعا للخشوع فأريد ختم صفات مدحهم بصفة محافظتهم على الصلوات ليكون لهذه الخصلة كمال الاستقرار في الذهن لأنها آخر ما قرع السمع من هذه الصفات.

وقد حصل بذلك تكرير ذكر الصلاة تنويها بها ، وردا للعجز على الصدر تحسينا للكلام الذي ذكرت فيه تلك الصفات لتزداد النفس قبولا لسماعها ووعيها فتتأسى بها.

والقول في إعادة الموصول وتقديم المعمول وإضافة الصلوات إلى ضميرهم مثل القول في نظيره ونظائره.

وقرأ الجمهور (عَلى صَلَواتِهِمْ) بصيغة الجمع ، وقرأه حمزة والكسائي وخلف على صلاتهم بالإفراد.

وقد جمعت هذه الآية أصول التقوى الشرعية لأنها أتت على أعسر ما تراض له النفس من أعمال القلب والجوارح.

فجاءت بوصف الإيمان وهو أساس التقوى لقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧] وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) [النور : ٣٩].

ثم ذكرت الصلاة وهي عماد التقوى والتي تنهى عن الفحشاء والمنكر لما فيها من تكرر استحضار الوقوف بين يدي الله ومناجاته.

وذكرت الخشوع وهو تمام الطاعة لأن المرء قد يعمل الطاعة للخروج من عهدة التكليف غير مستحضر خشوعا لربه الذي كلفه بالأعمال الصالحة ، فإذا تخلق المؤمن بالخشوع اشتدت مراقبته ربّه فامتثل واجتنب. فهذان من أعمال القلب.

وذكرت الإعراض عن اللغو ، واللغو من سوء الخلق المتعلق باللسان الذي يعسر إمساكه فإذا تخلق المؤمن بالإعراض عن اللغو فقد سهل عليه ما هو دون ذلك. وفي الإعراض عن اللغو خلق للسمع أيضا كما علمت.

وذكرت إعطاء الصدقات وفي ذلك مقاومة داء الشح (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [التغابن : ١٦].

١٦

وذكرت حفظ الفرج ، وفي ذلك خلق مقاومة اطراد الشهوة الغريزية بتعديلها وضبطها والترفع بها عن حضيض مشابهة البهائم فمن تخلق بذلك فقد صار كبح الشهوة ملكة له وخلقا.

وذكرت أداء الأمانة وهو مظهر للإنصاف وإعطاء ذي الحق حقه ومغالبة شهوة النفس لأمتعة الدنيا.

وذكرت الوفاء بالعهد وهو مظهر لخلق العدل في المعاملة والإنصاف من النفس بأن يبذل لأخيه ما يحب لنفسه من الوفاء.

وذكرت المحافظة على الصلوات وهو التخلق بالعناية بالوقوف عند الحدود والمواقيت وذلك يجعل انتظام أمر الحياتين ملكة وخلقا راسخا.

وأنت إذا تأملت هذه الخصال وجدتها ترجع إلى حفظ ما من شأن النفوس إهماله مثل الصلاة والخشوع وترك اللغو وحفظ الفرج وحفظ العهد ، وإلى بذل ما من شأن النفوس إمساكه مثل الصدقة وأداء الأمانة.

فكان في مجموع ذلك أعمال ملكتي الفعل والترك في المهمات ، وهما منبع الأخلاق الفاضلة لمن تتبعها.

روى النسائي : أن عائشة قيل لها : كيف كان خلق رسول الله؟ قالت : كان خلقه القرآن. وقرأت : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١] حتى انتهت إلى قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ). وقد كان خلق أهل الجاهليّة على العكس من هذا ، فيما عدا حفظ العهد غالبا ، قال تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) الأنفال : ٣٥] ، وقال في شأن المؤمنين مع الكافرين (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥] ، وقال : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ، ٧] ، وقد كان البغاء والزنى فاشيين في الجاهليّة.

[١٠ ، ١١] (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))

جيء لهم باسم الإشارة بعد أن أجريت عليهم الصفات المتقدمة ليفيد اسم الإشارة

١٧

أن جدارتهم بما سيذكر بعد اسم الإشارة حصلت من اتصافهم بتلك الصفات على نحو قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] بعد قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) إلى آخره في سورة البقرة [٢]. والمعنى : أولئك هم الأحقاء بأن يكونوا الوارثين بذلك.

وتوسيط ضمير الفصل لتقوية الخبر عنهم بذلك ، وحذف معمول (الْوارِثُونَ) ليحصل إبهام وإجمال فيترقب السامع بيانه فبين بقوله : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) قصدا لتفخيم هذه الوراثة ، والإتيان في البيان باسم الموصول الذي شأنه أن يكون معلوما للسامع بمضمون صلته إشارة إلى أن تعريف (الْوارِثُونَ) تعريف العهد كأنه قيل : هم أصحاب هذا الوصف المعروفون به.

واستعيرت الوراثة للاستحقاق الثابت لأن الإرث أقوى الأسباب لاستحقاق المال ، قال تعالى : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الزخرف : ٧٢].

والفردوس : اسم من أسماء الجنّة في مصطلح القرآن ، أو من أسماء أشرف جهات الجنات ، وأصل الفردوس : البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. وفي الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأم حارثة بن سراقة لمّا أصابه سهم غرب يوم بدر فقتله ، وقالت أمّه : إن كان في الجنّة أصبر وأحتسب فقال لها : «ويحك أهبلت أو جنّة واحدة هي ، إنّها لجنان كثيرة وإنه لفي الفردوس».

وقد ورد في فضل هذه الآيات حديث عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١] حتى ختم عشر آيات. قال ابن العربي في «العارضة» : قوله : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) هي العاشرة ، رواه الترمذي وصححه.

[١٢ ـ ١٤] (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤))

الواو عاطفة غرضا على غرض ويسمى عطف القصّة على القصّة ، فللجملة حكم الاستيناف لأنها عطف على جملة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١] التي هي ابتدائية وهذا شروع في الاستدلال على انفراد الله تعالى بالخلق وبعظيم القدرة التي لا يشاركه فيها غيره ، وعلى أن الإنسان مربوب لله تعالى وحده ، والاعتبار بما في خلق الإنسان وغيره من

١٨

دلائل القدرة ومن عظيم النعمة. فالمقصود منه إبطال الشرك لأن ذلك الأصل الأصيل في ضلال المعرضين عن الدعوة المحمدية ، ويتضمن ذلك امتنانا على الناس بأنه أخرجهم من مهانة العدم إلى شرف الوجود وذلك كله ليظهر الفرق بين فريق المؤمنين الذين جروا في إيمانهم على ما يليق بالاعتراف بذلك وبين فريق المشركين الذين سلكوا طريقا غير بينة فحادوا عن مقتضى الشكر بالشرك.

وتأكيد الخبر بلام القسم وحرف التحقيق مراعى فيه التعريض بالمشركين المنزّلين منزلة من ينكر هذا الخبر لعدم جريهم على موجب العلم.

والخلق : الإنشاء والصنع ، وقد تقدم في قوله : (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) في آل عمران [٤٧]. والمراد بالإنسان يجوز أن يكون النوع الإنساني ، وفسر به ابن عباس ومجاهد ، فالتعريف للجنس. وضمير (جَعَلْناهُ) عائد إلى الإنسان.

والسّلالة : الشيء المسلول ، أي المنتزع من شيء آخر ، يقال : سللت السيف ، إذا أخرجته من غمده ، فالسلالة خلاصة من شيء ، ووزن فعالة يؤذن بالقلة مثل القلامة والصبابة.

و (مِنْ) ابتدائية ، أي خلقناه منفصلا وآتيا من سلالة ، فتكون السلالة على هذا مجموع ماء الذكر والأنثى المسلول من دمهما.

وهذه السلالة هي ما يفرزه جهاز الهضم من الغذاء حين يصير دما ؛ فدم الذكر حين يمر على غدتي التناسل (الأنثيين) تفرز منه الأنثيان مادة دهنيّة شحميّة تحتفظ بها وهي التي تتحوّل إلى منيّ حين حركة الجماع ، فتلك السلالة مخرجة من الطين لأنها من الأغذية التي أصلها من الأرض. ودم المرأة إذا مر على قناة في الرحم ترك فيها بويضات دقيقة هي بذر الأجنة. ومن اجتماع تلك المادة الدهنية التي في الأنثيين مع البويضة من البويضات التي في قناة الرحم يتكوّن الجنين فلا جرم هو مخلوق من سلالة من طين.

وقوله (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) طور آخر للخلق وهو طور اختلاط السلالتين في الرحم. سميت سلالة الذكر نطفة لأنها تنطف ، أي تقطر في الرحم في قناة معروفة وهو القرار المكين.

ف (نُطْفَةً) منصوب على الحال وقوله : (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) هو المفعول الثاني ل (جَعَلْناهُ). و (ثُمَ) للترتيب الرتبي لأن ذلك الجعل أعظم من خلق السلالة. فضمير

١٩

(جَعَلْناهُ) عائد إلى الإنسان باعتبار أنه من السلالة ، فالمعنى : جعلنا السلالة في قرار مكين ، أي وضعناها فيه حفظا لها ، ولذلك غير في الآية التعبير عن فعل الخلق إلى فعل الجعل المتعدي ب (في) بمعنى الوضع.

والقرار في الأصل : مصدر قرّ إذا ثبت في مكانه ، وقد سمي به هنا المكان نفسه. والمكين : الثابت في المكان بحيث لا يقلع من مكانه ، فمقتضى الظاهر أن يوصف بالمكين الشيء الحالّ في المكان الثابت فيه. وقد وقع هنا وصفا لنفس المكان الذي استقرت فيه النطفة ، على طريقة المجاز العقلي للمبالغة ، وحقيقته مكين حالّه ، وقد تقدم قوله تعالى : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) في سورة الكهف [٣٧] وقوله : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) في سورة الحج [٥].

ويجوز أن يراد بالإنسان في قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) آدم. وقال بذلك قتادة فتكون السّلالة الطينة الخاصة التي كوّن الله منها آدم وهي الصلصال الذي ميزه من الطين في مبدإ الخليقة ، فتلك الطينة مسلولة سلّا خاصّا من الطين ليتكوّن منها حيّ ، وعليه فضمير (جَعَلْناهُ نُطْفَةً) على هذا الوجه عائد إلى الإنسان باعتبار كونه نسلا لآدم فيكون في الضمير استخدام ، ويكون معنى هذه الآية كمعنى قوله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [السجدة : ٧ ، ٨].

وحرف (ثم) في قوله : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) للترتيب الرتبي إذ كان خلق النطفة علقة أعجب من خلق النطفة إذ قد صير الماء السائل دما جامدا فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عوامل أودعها الله في الرحم.

ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن باسم العلقة فإنه وضع بديع لهذا الاسم إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة هو كائن له قوة امتصاص القوة من دم الأم بسبب التصاقه بعروق في الرحم تدفع إليه قوة الدم ، والعلقة : قطعة من دم عاقد.

والمضغة : القطعة الصغيرة من اللحم مقدار اللقمة التي تمضغ. وقد تقدم في أول سورة الحج كيفية تخلق الجنين.

وعطف جعل العلقة مضغة بالفاء لأن الانتقال من العلقة إلى المضغة يشبه تعقيب شيء عن شيء إذ اللحم والدم الجامد متقاربان فتطورهما قريب وإن كان مكث كل طور

٢٠