تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

ما شرعت إلّا لأجل الإشهاد والتوثّق.

وقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا) أمر : قيل هو للوجوب ، وهذا قول أبي موسى الأشعري ، وابن عمر ، وأبي سعيد الخدري ، وسعيد بن المسيّب ، ومجاهد ، والضحّاك ، وعطاء ، وابن جريج ، والنخعي ، وجابر بن زيد ، وداود الظاهري ، والطبري. وقد أشهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على بيع عبد باعه للعداء بن خالد بن هوذة ، وكتب في ذلك «باسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما اشترى العدّاء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله اشترى منه عبدا لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم للمسلم» وقيل : هو للندب وذهب إليه من السلف الحسن ، والشعبي ، وهو قول مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وتمسّكوا بالسنّة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باع ولم يشهد ، قاله ابن العربي ، وجوابه : أنّ ذلك في مواضع الائتمان ، وسيجيء قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [البقرة : ٢٨٣] الآية وقد تقدم ما لابن عطية في توجيه عدم الوجوب وردّنا له عند قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ).

(وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ).

نهي عن المضارّة وهي تحتمل أن يكون الكاتب والشهيد مصدرا للإضرار ، أو أن يكون المكتوب له والمشهود له مصدرا للإضرار : لأن يضارّ يحتمل البناء للمعلوم وللمجهول ، ولعلّ اختيار هذه المادة هنا مقصود ، لاحتمالها حكمين ، ليكون الكلام موجّها فيحمل على كلا معنييه لعدم تنافيهما ، وهذا من وجه الإعجاز.

والمضارّة : إدخال الضرّ بأن يوقع المتعاقدان الشاهدين والكاتب في الحرج والخسارة ، أو ما يجر إلى العقوبة ، وأن يوقع الشاهدان أحد المتعاقدين في إضاعة حق أو تعب في الإجابة إلى الشهادة. وقد أخذ فقهاؤنا من هاته الآية أحكاما كثيرة تتفرّع عن الإضرار : منها ركوب الشاهد من المسافة البعيدة ، ومنها ترك استفساره بعد المدة الطويلة التي هي مظنّة النسيان ، ومنها استفساره استفسارا يوقعه في الاضطراب ، ويؤخذ منها أنّه ينبغي لولاة الأمور جعل جانب من مال بيت المال لدفع مصاريف انتقال الشهود وإقامتهم في غير بلدهم وتعويض ما سينالهم من ذلك الانتقال من الخسائر المالية في إضاعة عائلاتهم ، إعانة على إقامة العدل بقدر الطاقة والسعة.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) حذف مفعول تفعلوا وهو معلوم ، لأنّه الإضرار المستفاد من لا يضارّ مثل «اعدلوا هو أقرب» والفسوق : الإثم العظيم ، قال تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [الحجرات : ١١].

٥٨١

(وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

أمر بالتّقوى لأنّها ملاك الخير ، وبها يكون ترك الفسوق. وقوله : (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) تذكير بنعمة الإسلام ، الذي أخرجهم من الجهالة إلى العلم بالشريعة ، ونظام العالم ، وهو أكبر العلوم وأنفعها ، ووعد بدوام ذلك لأنّه جيء فيه بالمضارع ، وفي عطفه على الأمر بالتقوى إيماء إلى أنّ التقوى سبب إفاضة العلوم ، حتى قيل : إنّ الواو فيه للتعليل أي ليعلّمكم. وجعله بعضهم من معاني الواو ، وليس بصحيح.

وإظهار اسم الجلالة في الجمل الثلاث : لقصد التنويه بكلّ جملة منها حتى تكون مستقلّة الدلالة ، غير محتاجة إلى غيرها المشتمل على معاد ضميرها ، حتى إذا سمع السامع كلّ واحدة منها حصل له علم مستقلّ ، وقد لا يسمع إحداها فلا يضرّه ذلك في فهم أخراها ، ونظير هذا الإظهار قول الحماسي (١) :

اللّؤم أكرم من وبر ووالده

واللؤم أكرم من وبر وما ولدا

واللؤم داء لوبر يقتلون به

لا يقتلون بداء غيره أبدا

فإنّه لما قصد التشنيع بالقبيلة ومن ولدها ، وما ولدته ، أظهر اللّؤم في الجمل الثلاث ولما كانت الجملة الرابعة كالتأكيد للثالثة لم يظهر اسم اللؤم بها. هذا ، ولإظهار اسم الجلالة نكتة أخرى وهي التهويل. وللتكرير مواقع يحسن فيها ، ومواقع لا يحسن فيها ، قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» (٢) ، في الخاتمة التي ذكر فيها أنّ الذوق قد يدرك أشياء لا يهتدى لأسبابها ، وأنّ ببعض الأئمة قد يعرض له الخطأ في التأويل : «ومن ذلك ما حكي عن الصاحب أنّه قال : كان الأستاذ ابن العميد يختار من شعر ابن الرومي وينقط على ما يختاره ، قال الصاحب فدفع إليّ القصيدة التي أولها :

أتحت ضلوعي جمرة تتوقّد

على ما مضى أم حسرة تتجدّد

وقال لي : تأمّلها ، فتأمّلتها فوجدته قد ترك خير بيت فيها لم ينقّط عليه وهو قوله :

بجهل كجهل السيف والسيف منتضى

وحلم كحلم السيف والسيف مغمد

__________________

(١) وهو الحكم ابن مقداد ويدعى ابن زهرة وزهرة أمه ويعرف بالحكم الأصم الفزاري ، وتنسب الأبيات إلى عويف القوافي أيضا واسمه عوف بن حصن الفزاري.

(٢) ص ٤٠٠ مطبعة الموسوعات بمصر.

٥٨٢

فقلت : لم ترك الأستاذ هذا البيت؟ فقال : لعلّ القلم تجاوزه ، ثم رآني من بعد فاعتذر بعذر كان شرّا من تركه ؛ فقال : إنّما تركته لأنّه أعاد السيف أربع مرات ، قال الصاحب : لو لم يعده لفسد البيت ، قال الشيخ عبد القاهر : والأمر كما قال الصاحب ـ ثم قال ـ قاله أبو يعقوب : إنّ الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإفصاح والتكشيف لأجل ذلك كان لإعادة اللفظ في قوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) [الإسراء : ١٠٥] وقوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ) [الصمد : ١ ، ٢] عمل لولاه لم يكن.

وقال الراغب : قد استكرهوا التكرير في قوله :

فما للنّوى جذّ النّوى قطع النّوى

حتى قيل : لو سلّط بعير على هذا البيت لرعى ما فيه من النّوى ، ثم قال : إنّ التكرير المستحسن هو تكرير يقع على طريق التعظيم ، أو التحقير ، في جمل متواليات كلّ جملة منها مستقلة بنفسها ، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل في معنى ، ولم يكن فيه معنى التعظيم والتحقير ، فالراغب موافق للأستاذ ابن العميد ، وعبد القاهر موافق للصاحب بن عباد ، قال المرزوقي في شرح الحماسة (١) عند قول يحيى بن زياد :

لمّا رأيت الشيب لاح بياضه

بمفرق رأسي قلت للشيب مرحبا

«كان الواجب أن يقول : قلت له مرحبا ، لكنّهم يكرّرون الأعلام وأسماء الأجناس كثيرا والقصد بالتكرير التفخيم».

واعلم أنّه ليس التكرير بمقصور على التعظيم بل مقامه كلّ مقام يراد منه تسجيل انتساب الفعل إلى صاحب الاسم المكرّر ، كما تقدّم في بيتي الحماسة : «اللؤم أكرم من وبر» إلخ.

وقد وقع التكرير متعاقبا في قوله تعالى في سورة آل عمران [٧٨] : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً

__________________

(١) في باب الأدب من ديوان الحماسة.

٥٨٣

فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣))

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ).

هذا معطوف على قوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) [البقرة : ٢٨٢] الآية ، فجميع ما تقدّم حكم في الحضر والمكنة ، فإن كانوا على سفر ولم يتمكّنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شرع لهم حكم آخر وهو الرهن ، وهذا آخر الأقسام المتوقّعة في صور المعاملة ، وهي حالة السفر غالبا ، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة.

والرهان جمع رهن ـ ويجمع أيضا على رهن بضم الراء وضم الهاء ـ وقد قرأه جمهور العشرة : بكسر الراء وفتح الهاء ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو : بضم الراء وضم الهاء ، وجمعه باعتبار تعدّد المخاطبين بهذا الحكم.

والرهن هنا اسم للشيء المرهون تسمية للمفعول بالمصدر كالخلق. ومعنى الرهن أن يجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه. وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحبس قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر : ٣٨] فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفي دينه قال زهير :

وفارقتك برهن لا فكاك له

يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

والرهن شائع عند العرب : فقد كانوا يرهنون في الحمالات والديات إلى أن يقع دفعها ، فربّما رهنوا أبناءهم ، وربّما رهنوا واحدا من صناديدهم ، قال الأعشى يذكر أنّ كسرى رام أخذ رهائن من أبنائهم :

آليت لا أعطيه من أبنائنا

رهنا فنفسدهم كمن قد أفسدا

وقال عبد الله بن همّام السلولي (١) :

فلمّا خشيت أظافيرهم

نجوت وأرهنتهم مالكا

ومن حديث كعب بن الأشرف أنّه قال لعبد الرحمن بن عوف : ارهنوني أبناءكم.

ومعنى فرهان : أي فرهان تعوّض بها الكتابة. ووصفها بمقبوضة إمّا لمجرّد الكشف ،

__________________

(١) في باب الأدب من ديوان الحماسة.

٥٨٤

لأنّ الرهان لا تكون إلّا مقبوضة ، وإمّا للاحتراز عن الرهن للتوثقة في الديون في الحضر فيؤخذ من الإذن في الرهن أنّه مباح فلذلك إذا سأله ربّ الدين أجيب إليه فدلّت الآية على أنّ الرهن توثقة في الدين.

والآية دالة على مشروعية الرهن في السفر بصريحها. وأمّا مشروعية الرهن في الحضر فلأنّ تعليقه هنا على حال السفر ليس تعليقا بمعنى التقييد بل هو تعليق بمعنى الفرض والتقدير ، إذا لم يوجد الشاهد في السفر ، فلا مفهوم للشرط لوروده مورد بيان حالة خاصة لا للاحتراز ، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلّا إذا سيقت مساق الاحتراز ، ولذا لم يعتدّوا بها إذا خرجت مخرج الغالب. ولا مفهوم له في الانتقال عن الشهادة أيضا ؛ إذ قد علم من الآية أنّ الرهن معاملة لهم ، فلذلك أحيلوا عليها عند الضرورة على معنى الإرشاد والتنبيه.

وقد أخذ مجاهد ، والضحّاك ، وداود الظاهري ، بظاهر الآية من تقييد الرهن بحال السفر ، مع أنّ السنّة أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن أصحابه في الحضر.

والآية دليل على أنّ القبض من متمّمات الرّهن شرعا ، ولم يختلف العلماء في ذلك ، وإنّما اختلفوا في الأحكام الناشئة عن ترك القبض ، فقال الشافعي : القبض شرط في صحة الرهن ، لظاهر الآية ، فلو لم يقارن عقدة الرهن قبض فسدت العقدة عنده ، وقال محمد بن الحسن ، صاحب أبي حنيفة : لا يجوز الرهن بدون قبض ، وتردّد المتأخّرون من الحنفية في مفاد هذه العبارة ؛ فقال جماعة : هو عنده شرط في الصحة كقول الشافعي ، وقال جماعة : هو شرط في اللزوم قريبا من قول مالك ، واتفق الجميع على أنّ للراهن أن يرجع بعد عقد الرهن إذا لم يقع الحوز ، وذهب مالك إلى أنّ القبض شرط في اللزوم ، لأنّ الرهن عقد يثبت بالصيغة كالبيع ، والقبض من لوازمه ، فلذلك يجبر الراهن على تحويز المرتهن إلّا أنّه إذا مات الراهن أو أفلس قبل التحويز كان المرتهن أسوة الغرماء ؛ إذ ليس له ما يؤثره على بقية الغرماء ، والآية تشهد لهذا لأنّ الله جعل القبض وصفا للرهن ، فعلم أنّ ماهية الرهن قد تحقّقت بدون القبض. وأهل تونس يكتفون في رهن الرباع والعقار برهن رسوم التملّك ، ويعدّون ذلك في رهن الدين حوزا. وفي الآية دليل واضح على بطلان الانتفاع ؛ لأنّ الله تعالى جعل الرهن عوضا عن الشهادة في التوثّق فلا وجه للانتفاع ، واشتراط الانتفاع بالرهن يخرجه عن كونه توثّقا إلى ماهية البيع.

(فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ).

٥٨٥

متفرّع على جميع ما تقدّم من أحكام الدين : أي إن أمن كلّ من المتداينين الآخر أي وثق بعضكم بأمانة بعض فلم يطالبه بإشهاد ولا رهن ، فالبعض ـ المرفوع ـ هو الدائن ، والبعض ـ المنصوب ـ هو المدين وهو الذي ائتمن.

والأمانة مصدر آمنه إذا جعله آمنا. والأمن اطمئنان النفس وسلامتها ممّا تخافه ، وأطلقت الأمانة على الشيء المؤمّن عليه ، من إطلاق المصدر على المفعول. وإضافة أمانته تشبه إضافة المصدر إلى مفعوله. وسيجيء ذكر الأمانة بمعنى صفة الأمين عند قوله تعالى : (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ) في سورة الأعراف [٦٨].

وقد أطلق هنا اسم الأمانة على الدّين في الذمّة وعلى الرهن لتعظيم ذلك الحق لأنّ اسم الأمانات له مهابة في النفوس ، فذلك تحذير من عدم الوفاء به ؛ لأنّه لما سمّي أمانة فعدم أدائه ينعكس خيانة ؛ لأنّها ضدّها ، وفي الحديث : «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك».

والأداء : الدفع والتوفية ، وردّ الشيء أو ردّ مثله فيما لا تقصد أعيانه ، ومنه أداء الأمانة وأداء الدّين أي عدم جحده قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) [النساء : ٥٨].

والمعنى : إذا ظننتم أنّكم في غنية عن التوثّق في ديونكم بأنّكم أمناء عند بعضكم ، فأعطوا الأمانة حقّها.

وقد علمت ممّا تقدم عند قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) أنّ آية (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) تعتبر تكميلا لطلب الكتابة والإشهاد طلب ندب واستحباب عند الذين حملوا الأمر في قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) على معنى الندب والاستحباب ، وهم الجمهور. ومعنى كونها تكميلا لذلك الطلب أنّها بيّنت أنّ الكتابة والإشهاد بين المتداينين ، مقصود بهما حسن التعامل بينهما ، فإن بدا لهما أن يأخذا بهما فنعمّا ، وإن اكتفيا بما يعلمانه من أمان بينهما فلهما تركهما.

وأتبع هذا البيان بوصاية كلا المتعاملين بأن يؤدّيا الأمانة ويتّقيا الله.

وتقدم أيضا أنّ الذين قالوا بأنّ الكتابة والإشهاد على الديون كان واجبا ثم نسخ وجوبه ، ادّعوا أنّ ناسخه هو قوله تعالى : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الآية ، وهو قول الشعبي ، وابن جريج ، وجابر بن زيد ، والربيع بن سليمان ، ونسب إلى أبي سعيد

٥٨٦

الخدري.

ومحمل قولهم وقول أبي سعيد ـ إن صحّ ذلك عنه ـ أنّهم عنّوا بالنسخ تخصيص عموم الأحوال والأزمنة. وتسمية مثل ذلك نسخا تسمية قديمة.

أمّا الذين يرون وجوب الكتابة والإشهاد بالديون حكما محكما ، ومنهم الطبري ، فقصروا آية (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الآية على كونها تكملة لصورة الرهن في السفر خاصة ، كما صرّح به الطبري ولم يأت بكلام واضح في ذلك ولكنّه جمجم الكلام وطواه.

ولو أنّهم قالوا : إنّ هذه الآية تعني حالة تعذّر وجود الرهن في حالة السفر ، أي فلم يبق إلّا أن يأمن بعضكم فالتقدير : فإن لم تجدوا رهنا وأمن بعضكم بعضا إلى آخره لكان له وجه ، ويفهم منه أنّه إن لم يأمنه لا يداينه ، ولكن طوى هذا ترغيبا للناس في المواساة والاتّسام بالأمانة. وهؤلاء الفرق الثلاثة كلّهم يجعلون هذه الآية مقصورة على بيان حالة ترك التوثّق في الديون.

وأظهر ممّا قالوه عندي : أنّ هذه الآية تشريع مستقلّ يعم جميع الأحوال المتعلّقة بالديون : من إشهاد ، ورهن ، ووفاء بالدّين ، والمتعلّقة بالتبايع ، ولهذه النكتة أبهم المؤتمنون بكلمة بعض ليشمل الائتمان من كلا الجانبين : الذي من قبل ربّ الدين ، والذي من قبل المدين.

فربّ الدين يأتمن المدين إذا لم ير حاجة إلى الإشهاد عليه ، ولم يطالبه بإعطاء الرهن في السفر ولا في الحضر.

والمدين يأتمن الدائن إذا سلّم له رهنا أغلى ثمنا بكثير من قيمة الدين المرتهن فيه ، والغالب أنّ الرهان تكون أوفر قيمة من الديون التي أرهنت لأجلها ، فأمر كلّ جانب مؤتمن أن يؤدّي أمانته ، فأداء المدين أمانته بدفع الدين ، دون مطل ، ولا جحود ، وأداء الدائن أمانته إذا أعطي رهنا متجاوز القيمة على الدّين أن يردّ الرهن ولا يجحده غير مكترث بالدّين ؛ لأنّ الرهن أوفر منه ، ولا ينقص شيئا من الرهن.

ولفظ الأمانة مستعمل في معنيين : معنى الصفة التي يتّصف بها الأمين ، ومعنى الشيء المؤمّن.

فيؤخذ من هذا التفسير إبطال غلق الرهن : وهو أن يصير الشيء المرهون ملكا لربّ الدّين ، إذا لم يدفع الدين عند الأجل ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يغلق الرهن» وقد كان غلق

٥٨٧

الرهن من أعمال أهل الجاهلية ، قال زهير :

وفارقتك برهن لا فكاك له

عند الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

ومعنى (أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أن يقول كلا المتعاملين للآخر : لا حاجة لنا بالإشهاد ونحن يأمن بعضنا بعضا ، وذلك كيلا ينتقض المقصد الذي أشرنا إليه فيما مضى من دفع مظنّة اتّهام أحد المتداينين الآخر.

وزيد في التحذير بقوله : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) ، وذكر اسم الجلالة فيه مع إمكان الاستغناء بقوله : «وليتّق ربّه» لإدخال الرّوع في ضمير السامع وتربية المهابة.

وقوله : (الَّذِي اؤْتُمِنَ) وقع فيه ياء هي المدة في آخر (الذي) ووقع بعده همزتان أولاهما وصلية وهي همزة الافتعال ، والثانية قطعية أصلية ، فقرأه الجمهور بكسر ذال الذي وبهمزة ساكنة بعد كسرة الذال ؛ لأنّ همزة الوصل سقطت في الدرج فبقيت الهمزة على سكونها ؛ إذ الداعي لقلب الهمزة الثانية مدّا قد زال ، وهو الهمزة الأولى ، ففي هذه القراءة تصحيح للهمزة ؛ إذ لا داعي للإعلال.

وقرأه ورش عن نافع ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر : الّذيتمن بياء بعد ذال الذي ، ثم فوقية مضمومة : اعتبارا بأنّ الهمزة الأصلية قد انقلبت واوا بعد همزة الافتعال الوصلية ؛ لأنّ الشأن ضم همزة الوصل مجانسة لحركة تاء الافتعال عند البناء للمجهول ، فلمّا حذفت همزة الوصل في الدرج بقيت الهمزة الثانية واوا بعد كسرة ذال (الذي) فقلبت الواو ياء ففي هذه القراءة قلبان.

وقرأه أبو بكر عن عاصم : الذي اوتمن بقلب الهمزة واوا تبعا للضمة مشيرا بها إلى الهمزة.

وهذا الاختلاف راجع إلى وجه الأداء فلا مخالفة فيه لرسم المصحف.

(وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

وصاية ثانية للشهداء تجمع الشهادات في جميع الأحوال ؛ فإنّه أمر أن يكتب الشاهد بالعدل ، ثم نهي عن الامتناع من الكتابة بين المتداينين ، وأعقب ذلك بالنهي عن كتمان الشهادة كلّها. فكان هذا النهي ـ بعمومه ـ بمنزلة التذييل لأحكام الشهادة في الدّين.

واعلم أنّ قوله تعالى : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) نهي ، وأنّ مقتضى النهي إفادة التكرار

٥٨٨

عند جمهور علماء الأصول : أي تكرار الانكفاف عن فعل المنهيّ في أوقات عروض فعله ، ولو لا إفادته التكرار لما تحقّقت معصية ، وأنّ التكرار الذي يقتضيه النهي تكرار يستغرق الأزمنة التي يعرض فيها داع لفعل المنهيّ عنه ، فلذلك كان حقّا على من تحمّل شهادة بحقّ ألّا يكتمه عند عروض إعلانه : بأن يبلغه إلى من ينتفع به ، أو يقضي به ، كلّما ظهر الداعي إلى الاستظهار به ، أو قبل ذلك إذا خشي الشاهد تلاشي ما في علمه : بغيبة أو طروّ نسيان ، أو عروض موت ، بحسب ما يتوقّع الشاهد أنّه حافظ للحقّ الذي في علمه ، على مقدار طاقته واجتهاده.

وإذ قد علمت ـ آنفا ـ أنّ الله أنبأنا بأنّ مراده إقامة الشهادة على وجهها بقوله : (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) [البقرة : ٢٨٢] ، وأنّه حرّض الشاهد على الحضور للإشهاد إذا طلب بقوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) [البقرة : ٢٨٢] فعلم من ذلك كلّه الاهتمام بإظهار الشهادة إظهارا للحق. ويؤيّد هذا المعنى ويزيده بيانا : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» رواه مالك في «الموطّأ» ، ورواه عنه مسلم والأربعة.

فهذا وجه تفسير الآية تظاهر فيه الأثر والنظر. ولكن روى في «الصحيح» عن أبي هريرة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خير أمّتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ـ قالها ثانية وشكّ أبو هريرة في الثالثة ـ ثم يخلف قوم يشهدون قبل أن يستشهدوا» الحديث.

وهو مسوق مساق ذمّ من وصفهم بأنّهم يشهدون قبل أن يستشهدوا ، وأنّ ذمّهم من أجل تلك الصفة. وقد اختلف العلماء في محمله ؛ قال عياض : حمله قوم على ظاهره من ذمّ من يشهد قبل أن تطلب منه الشهادة ، والجمهور على خلافه وأنّ ذلك غير قادح ، وحملوا ما في الحديث على ما إذا شهد كاذبا ، وإلّا فقد جاء في «الصحيح» : «خير الشهود الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها». وأقول : روى مسلم عن عمران بن حصين : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ خيركم قرني ثم الذين يلونهم ـ قالها مرتين أو ثلاثا ـ ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون» الحديث.

والظاهر أنّ ما رواه أبو هريرة وما رواه عمران بن حصين حديث واحد ، سمعه كلاهما ، واختلفت عبارتهما في حكايته فيكون لفظ عمران بن حصين مبيّنا لفظ أبي هريرة أنّ معنى قوله : قبل أن يستشهدوا دون أن يستشهدوا ، أي دون أن يستشهدهم مشهد ، أي أن يحملوا شهادة أي يشهدون بما لا يعلمون ، وهو الذي عناه المازري بقوله : وحملوا ما في الحديث ـ أي حديث أبي هريرة ـ على ما إذا شهد كاذبا. فهذا طريق للجمع بين

٥٨٩

الروايتين ، وهي ترجع إلى حمل المجمل على المبيّن.

وقال النووي : تأوّله بعض العلماء بأنّ ذم الشهادة قبل أن يسألها الشاهد هو في الشهادة بحقوق الناس بخلاف ما فيه حق الله قال النووي : «وهذا الجمع هو مذهب أصحابنا» وهذه طريقة ترجع إلى إعمال كل من الحديثين في باب ، بتأويل كلّ من الحديثين على غير ظاهره ؛ لئلا يلغى أحدهما.

قلت : وبنى عليه الشافعية فرعا بردّ الشهادة التي يؤدّيها الشاهد قبل أن يسألها ، ذكره الغزالي في «الوجيز» ، والذي نقل ابن مرزوق في «شرح مختصر خليل عن الوجيز» «الحرص على الشهادة بالمبادرة قبل الدعوى لا تقبل ، وبعد الدعوى وقبل الاستشهاد وجهان فإن لم تقبل فهل يصير مجروحا وجهان».

فأما المالكية فقد اختلف كلامهم.

فالذي ذهب إليه عياض وابن مرزوق أنّ أداء الشاهد شهادته قبل أن يسألها مقبول

لحديث «الموطأ» «خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» ونقل الباجي عن مالك : «أنّ معنى الحديث أن يكون عند الشاهد شهادة لرجل لا يعلم بها ، فيخبره بها ، ويؤدّيها له عند الحاكم» فإنّ مالكا ذكره في «الموطأ» ولم يذيّله بما يقتضي أنّه لا عمل عليه ـ وتبع الباجي ابن مرزوق في «شرحه لمختصر خليل» ، وادّعى أنّه لا يعرف في المذهب ما يخالفه والذي ذهب إليه ابن الحاجب ، وخليل ، وشارحو مختصريهما : أنّ أداء الشهادة قبل أن يطلب من الشاهد أداؤها مانع من قبولها : قال ابن الحاجب «وفي الأداء يبدأ به دون طلب فيما تمحّض من حق الآدمي قادحة» وقال خليل ـ عاطفا على موانع قبول الشهادة ـ : «أو رفع قبل الطلب في محض حقّ الآدمي». وكذلك ابن راشد القفصي في كتابه «الفائق في الأحكام والوثائق» ونسبه النووي في «شرحه على صحيح مسلم لمالك» ، وحمله على أنّ المستند متّحد وهو إعمال حديث أبي هريرة ولعلّه أخذ نسبة ذلك لمالك من كلام ابن الحاجب المتقدّم.

وادّعى ابن مرزوق أنّ ابن الحاجب تبع ابن شاس إذ قال : «فإن بادر بها من غير طلب لم يقبل» وأنّ ابن شاس أخذه من كلام الغزالي قال : «والذي تقتضيه نصوص المذهب أنّه إنّ رفعها قبل الطلب لم يقدح ذلك فيها بل إن لم يكن فعله مندوبا فلا أقلّ من أن لا تردّ» واعتضد بكلام الباجي في شرح حديث : خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها.

٥٩٠

وقد سلكوا في تعليل المسألة مسلكين : مسلك يرجع إلى الجمع بين الحديثين ، وهو مسلك الشافعية ، ومسلك إعمال قاعدة ردّ الشهادة بتهمة الحرص على العمل بشهادته وأنّه ريبة.

وقوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) زيادة في التحذير. والإثم : الذنب والفجور.

والقلب اسم للإدراك والانفعالات النفسية والنوايا. وأسد الإثم إلى القلب وإنّما الآثم الكاتم لأنّ القلب ـ أي حركات العقل ـ يسبّب ارتكاب الإثم : فإنّ كتمان الشهادة إصرار قلبي على معصية ، ومثله قوله تعالى : [الأعراف : ١١٦] وإنّما سحروا الناس بواسطة مرئيات وتخيّلات وقول الأعشى :

كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا

وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق

لأن الفرق ينشأ عن رؤية الأهوال.

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) تهديد ، كناية عن المجازاة بمثل الصنيع ؛ لأنّ القادر لا يحول بينه وبين المؤاخذة إلّا الجهل فإذا كان عليما أقام قسطاس الجزاء.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

(لِلَّهِ).

تعليل واستدلال على مضمون جملة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وعلى ما تقدم آنفا من نحو : (اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [آل عمران : ١٧٦] (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الممتحنة : ٣٠] (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [البقرة : ٢٣٤] فإذا كان ذلك تعريضا بالوعد والوعيد ، فقد جاء هذا الكلام تصريحا واستدلالا عليه ، فجملة (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) إلى آخرها هي محطّ التصريح ، وهي المقصود بالكلام ، وهي معطوفة على جملة (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) ـ إلى ـ (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٨٣] وجملة (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هي موقع الاستدلال ، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين ، أو علة لجملة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) باعتبار إرادة الوعيد والوعد ، فالمعنى : إنّكم عبيده فلا يفوته عملكم والجزاء عليه. وعلى هذا الوجه تكون جملة «وإن تبدوا ما في أنفسكم» معطوفة على جملة (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) عطف

٥٩١

جملة على جملة ، والمعنى : إنكم عبيده ، وهو محاسبكم ، ونظيرها في المعنى قوله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٣ ، ١٤] ولا يخالف بينهما إلّا أسلوب نظم الكلام.

ومعنى الاستدلال هنا : إنّ الناس قد علموا أنّ الله ربّ السموات والأرض ، وخالق الخلق ، فإذا كان في السموات والأرض لله ، مخلوقا له ، لزم أن يكون جميع ذلك معلوما له لأنّه مكوّن ضمائرهم وخواطرهم ، وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية ؛ لأنّه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلا عن خالقه. ومالكية الله تعالى أتمّ أنواع الملك على الحقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى ، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه وجوب الوجود من صفات الكمال. فقوله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تمهيد لقوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) الآية.

وعطف قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) بالواو دون الفاء للدلالة على أنّ الحكم الذي تضمّنه مقصود بالذات ، وأنّ ما قبله كالتمهيد له. ويجوز أن يكون قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا) عطفا على قوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٨٣] ويكون قوله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) اعتراضا بينهما.

وإبداء ما في النفس : إظهاره ، وهو إعلانه بالقول ، فيما سبيله القول ، وبالعمل فيما يترتّب عليه عمل ؛ وإخفاؤه بخلاف ذلك ، وعطف (أَوْ تُخْفُوهُ) للترقّي في الحساب عليه ، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف ، وفي الغرض المسوق له الكلام في سياق الإثبات. وما في النفي يعمّ الخير والشر.

والمحاسبة مشتقّة من الحسبان وهو العدّ ، فمعنى يحاسبكم في أصل اللغة : يعدّه عليكم ، إلّا أنّه شاع إطلاقه على لازم المعنى وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى : الشعراء : ١١٣] وشاع هذا في اصطلاح الشرع ، ويوضّحه هنا قوله : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ).

وقد أجمل الله تعالى هنا الأحوال المغفورة وغير المغفورة : ليكون المؤمنون بين الخوف والرجاء ، فلا يقصّروا في اتّباع الخيرات النفيسة والعملية ، إلّا أنّه أثبت غفرانا وتعذيبا بوجه الإجمال على كلّ ممّا نبديه وما نخفيه. وللعلماء في معنى هذه الآية ، والجمع بينها وبين قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة». وقوله : «إن الله

٥٩٢

تجاوز لأمّتي عمّا حدثتها به أنفسها» وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض ، في شرحيهما «لصحيح مسلم» : وهو ـ مع زيادة بيان ـ أنّ ما يخطر في النفس إن كان مجرّد خاطر وتردّد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به ، إذ لا طاقة للمكلّف بصرفه عنه ، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عمّا حدّثت به أنفسها ، وإن كان قد جاش في النفس عزم ، فإما أن يكون من الخواطر التي تترتّب عليها أفعال بدنية أو لا ، فإن كان من الخواطر التي لا تترتّب عليها أفعال : مثل الإيمان ، والكفر ، والحسد ، فلا خلاف في المؤاخذة به ؛ لأنّ مما يدخل في طوق المكلّف أن يصرفه عن نفسه ، وإن كان من الخواطر التي تترتّب عليها آثار في الخارج ، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال كمن يعزم على السرقة فيسرق ، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختيارا لغير مانع منعه ، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث «من همّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة» وإن رجع لمانع قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان. أي إنّ قوله تعالى : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) محمول على معنى يجازيكم وأنّه مجمل تبيّنه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة ، وإنّ من سمّى ذلك نسخا من السلف فإنّما جرى على تسمية سبقت ضبط المصطلحات الأصولية فأطلق النّسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدّمين وهذه الأحاديث ، وما دلّت عليه دلائل قواعد الشريعة ، هي البيان لمن يشاء في قوله تعالى : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ).

وفي «صحيح البخاري» عن ابن عباس «أنّ هذه الآية نسخت بالتي بعدها» أي بقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] كما سيأتي هنالك.

وقد تبيّن بهذا أنّ المشيئة هنا مترتّبة على أحوال المبدى والمخفى ، كما هو بيّن.

وقرأ الجمهور : فيغفر ويعذّب بالجزم ، عطفا على يحاسبكم ، وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب : بالرفع على الاستئناف بتقدير فهو يغفر ، وهم وجهان فصيحان ، ويجوز النصب ولم يقرأ به إلا في الشاذ.

وقوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل لما دلّ على عموم العلم ، بما يدلّ على عموم القدرة.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ

٥٩٣

الْمَصِيرُ (٢٨٥))

قال الزجاج : «لما ذكر الله في هذه السورة أحكاما كثيرة ، وقصصا ، ختمها بقوله : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) تعظيما لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه ، وتأكيدا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل». يعني : أنّ هذا انتقال من المواعظ ، والإرشاد ، والتشريع ، وما تخلّل ذلك : ممّا هو عون على تلك المقاصد ، إلى الثناء على رسوله والمؤمنين في إيمانهم بجميع ذلك إيمانا خالصا يتفرّع عليه العمل ؛ لأنّ الإيمان بالرسول والكتاب ، يقتضي الامتثال لما جاء به من عمل. فالجملة استئناف ابتدائي وضعت في هذا الموقع لمناسبة ما تقدم ، وهو انتقال مؤذن بانتهاء السورة لأنّه لما انتقل من أغراض متناسبة إلى غرض آخر : هو كالحاصل والفذلكة ، فقد أشعر بأنّه استوفى تلك الأغراض. وورد في أسباب النزول أنّ قوله : (آمَنَ الرَّسُولُ) يرتبط بقوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) [البقرة : ٢٨٤] كما تقدم آنفا.

وأل في الرسول للعد. وهو علم بالغلبة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وقت النزول قال تعالى : (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) [التوبة : ١٣]. و (الْمُؤْمِنُونَ) معطوف على (الرَّسُولُ) ، والوقف عليه.

والمؤمنون ـ هنا ـ لقب للذين استجابوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلذلك كان في جعله فاعلا لقوله : (آمَنَ) فائدة ، مع أنّه لا فائدة في قولك : قام القائمون.

وقوله : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ) جمع بعد التفصيل ، وكذلك شأن (كلّ) إذا جاءت بعد ذكر متعدّد في حكم ، ثم إرادة جمعه في ذلك ، كقول الفضل بن عباس اللهبي ، بعد أبيات:

كلّ له نيّة في بغض صاحبه

بنعمة الله نقليكم وتقلونا

وإذ كانت (كلّ) من الأسماء الملازمة الإضافة فإذا حذف المضاف إليه نوّنت تنوين عوض عن مفرد كما نبّه عليه ابن مالك في «التسهيل». ولا يعكر عليه أنّ (كل) اسم معرب لأنّ التنوين قد يفيد الغرضين فهو من استعمال الشيء في معنييه. فمن جوّز أن يكون عطف (الْمُؤْمِنُونَ) عطف جملة وجعل (الْمُؤْمِنُونَ) مبتدأ وجعل (كُلٌ) مبتدأ ثانيا و (آمَنَ) خبره ، فقد شذّ عن الذوق العربي.

وقرأ الجمهور (وَكُتُبِهِ) بصيغة جمع كتاب ، وقرأه حمزة ، والكسائي : وكتابه ، بصيغة المفرد على أنّ المراد القرآن أو جنس الكتاب. فيكون مساويا لقوله : (وَكُتُبِهِ) ، إذ المراد

٥٩٤

الجنس ، والحقّ أنّ المفرد والجمع سواء في إرادة الجنس ، ألا تراهم يقولون : إنّ الجمع في مدخول أل الجنسية صوري ، ولذلك يقال : إذا دخلت أل الجنسية على جمع أبطلت منه معنى الجمعية ، فكذلك كل ما أريد به الجنس كالمضاف في هاتين القراءتين ، والإضافة تأتي لما تأتي له اللام ، وعن ابن عباس أنّه قال ، لما سئل عن هذه القراءة : «كتابه أكثر من كتبه ـ أو ـ الكتاب أكثر من الكتب» فقيل أراد أنّ تناول المفرد المراد به الجنس أكثر من تناول الجمع حين يراد به الجنس ، لاحتمال إرادة جنس الجموع ، فلا يسري الحكم لما دون عدد الجمع من أفراد الجنس ، ولهذا قال صاحب «المفتاح» «استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع». والحقّ أنّ هذا لا يقصده العرب في نفي الجنس ولا في استغراقه في الإثبات. وأنّ كلام ابن عباس ـ إن صح نقله عنه ـ فتأويله أنّه أكثر لمساواته له معنى ، مع كونه أخصر لفظا ، فلعلّه أراد بالأكثر معنى الأرجح والأقوى.

وقوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) قرأه الجمهور بنون المتكلم المشارك ، وهو يحتمل الالتفات : بأن يكون من مقول قول محذوف دل عليه السياق وعطف (وَقالُوا) عليه. أو النون فيه للجلالة أي آمنوا في حال أنّنا أمرناهم بذلك ، لأنّنا لا نفرّق فالجملة معترضة. وقيل : هو مقول لقول محذوف دل عليه آمن ؛ لأنّ الإيمان اعتقاد وقول. وقرأه يعقوب بالياء : على أنّ الضمير عائد على (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ).

والتفريق هنا أريد به التفريق في الإيمان به والتصديق : بأن يؤمن ببعض ويكفر ببعض.

وقوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) تقدم الكلام على نظيره عند قوله تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٦].

(وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) عطف على (آمَنَ الرَّسُولُ) والسمع هنا كناية عن الرضا ، والقبول ، والامتثال ، وعكسه لا يسمعون أي لا يطيعون وقال النابغة :

تناذرها الرّاقون من سوء سمعها

أي عدم امتثالها للرّقيا. والمعنى : إنّهم آمنوا ، واطمأنّوا وامتثلوا ، وإنّما جيء بلفظ الماضي ، دون المضارع ، ليدلوا على رسوخ ذلك ؛ لأنّهم أرادوا إنشاء القبول والرضا ، وصيغ العقود ونحوها تقع بلفظ الماضي نحو بعت.

وغفرانك نصب على المفعول المطلق : أي اغفر غفرانك ، فهو بدل من فعله.

٥٩٥

والمصير يحتمل أن يكون حقيقة فيكون اعترافا بالبعث ، وجعل منتهيا إلى الله لأنّه منته إلى يوم ، أو عالم ، تظهر فيه قدرة الله بالضرورة. ويحتمل أنّه مجاز عن تمام الامتثال والإيمان. أنّهم كانوا قبل الإسلام آبقين ، ثم صاروا إلى الله ، وهذا كقوله تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) [الذاريات : ٥٠]. وجعل المصير إلى الله تمثيلا للمصير إلى أمره ونهيه : كقوله : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) [النور : ٣٩] وتقديم المجرور لإفادة الحصر : أي المصير إليك لا إلى غيرك ، وهو قصر حقيقي قصدوا به لازم فائدته ، وهو أنّهم عالمون بأنّهم صائرون إليه ، ولا يصيرون إلى غيره ممّن يعبدهم أهل الضّلال.

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

(لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ).

الأظهر أنّه من كلام الله تعالى ، لا من حكاية كلام الرسول والمؤمنين ، فيكون اعتراضا ين الجمل المحكية بالقول ، وفائدته إظهار ثمرة الإيمان ، والتسليم ، والطاعة ، فأعلمهم الله بأنّه لم يجعل عليهم في هذا الدين التكليف بما فيه مشقة ، وهو مع ذلك تبشير باستجابة دعوتهم الملقنة ، أو التي ألهموها : وهي (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا) ـ إلى قوله ـ (ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قبل أن يحكي دعواتهم تلك.

ويجوز أن يكون من كلام الرسول والمؤمنين ، كأنّه تعليل لقولهم سمعنا وأطعنا أي علمنا تأويل قول ربنا : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) [البقرة : ٢٨٤] بأنّه يدخلها المؤاخذة بما في الوسع ، ممّا أبدى وما أخفى ، وهو ما يظهر له أثر في الخارج اختيارا ، أو يعقد عليه القلب ، ويطمئنّ به ، إلّا أنّ قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) إلخ يبعد هذا ؛ إذ لا قبل لهم بإثبات ذلك.

فعلى أنّه من كلام الله فهو نسخ لقوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) وهذا مروي في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة وابن عباس (١) أنّه قال : لما نزلت (وَإِنْ تُبْدُوا ما

__________________

(١) في كتاب الإيمان.

٥٩٦

فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [البقرة : ٢٨٤] اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا : لا نطيقها ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قولوا : «سمعنا وأطعنا وسلمنا» فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدّمين ، والمراد البيان والتخصيص لأنّ الذي تطمئنّ له النفس : أنّ هذه الآيات متتابعة النظم ، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجّمة ، فحدث بين فترة نزولها ما ظنّه بعض المسلمين حرجا.

والوسع في القراءة بضم الواو ، في كلام العرب مثلّث الواو وهو الطاقة والاستطاعة ، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع ، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول. والمستطاع هو ما اعتاد الناس قدرتهم على أن يفعلوه إن توجّهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع.

وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم (نفسا) في سياق النفي ، لأنّ الله تعالى ما شرع التكليف إلّا للعمل واستقامة أحوال الخلق ، فلا يكلّفهم ما لا يطيقون فعله ، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات ، هذا حكم عام في الشرائع كلّها.

وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق ، بشهادة قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة «المشقّة تجلب التيسير». وكانت المشقة مظنّة الرخصة ، وضبط المشاقّ المسقطة للعبادة مذكور في الأصول ، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمّى «مقاصد الشريعة» وما ورد من التكاليف الشاقّة فأمر نادر ، في أوقات الضرورة ، كتكليف الواحد من المسلمين بالثبات للعشرة من المشركين ، في أول الإسلام ، وقلّة المسلمين.

وهذه المسألة هي المعنونة في كتب الأصلين بمسألة التكليف بالمحال ، والتكليف بما لا يطاق ، وهي مسألة أرنّت بها كتب الأشاعرة والمعتزلة ، واختلفوا فيها اختلافا شهيرا ، دعا إليه التزام الفريقين للوازم أصولهم وقواعدهم فقالت الأشاعرة : يجوز على الله تكليف ما لا يطاق بناء على قاعدتهم في نفي وجوب الصلاح على الله ، وأنّ ما يصدر منه تعالى كلّه عدل لأنّه مالك العباد ، وقاعدتهم في أنّه تعالى يخلق ما يشاء ، وعلى قاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف لا تختص بقصد الامتثال بل قد تكون لقصد التعجيز والابتلاء وجعل الامتثال علامة على السعادة ، وانتفائه علامة على الشقاوة ، وترتّب الإثم لأنّ الله تعالى إثابة

٥٩٧

العاصي ، وتعذيب المطيع ، فبالأولى تعذيب من يأمره بفعل مستحيل ، أو متعذّر ، واستدلّوا على ذلك بحديث تكليف المصوّر بنفخ الروح في الصورة وما هو بنافخ ، وتكليف الكاذب في الرؤيا بالعقد بين شعيرتين وما هو بفاعل. ولا دليل فيه لأنّ هذا في أمور الآخرة ، ولأنّهما خبرا آحاد لا تثبت بمثلها أصول الدين. وقالت المعتزلة : يمتنع التكليف بما لا يطاق بناء على قاعدتهم في أنّه يجب الله فعل الصلاح ونفي الظلم عنه ، وقاعدتهم في أنّه تعالى لا يخلق المنكرات من الأفعال ، وقاعدتهم في أنّ ثمرة التكليف هو الامتثال وإلّا لصار عبثا وهو مستحيل على الله ، وأنّ الله يستحيل عليه تعذيب المطيع وإثابة العاصي.

واستدلّوا بهذه الآية ، وبالآيات الدالة على أصولها : مثل (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] إلخ.

والتحقيق أنّ الذي جرّ إلى الخوض في المسألة هو المناظرة في خلق أفعال العباد ؛ فإنّ الأشعري لما نفى قدرة العبد ، وقال بالكسب ، وفسّره بمقارنة قدرة العبد لحصول المقدور دون أن تكون قدرته مؤثّرة فيه ، ألزمهم المعتزلة القول بأنّ الله كلّف العباد بما ليس في مقدورهم ، وذلك تكليف بما لا يطاق ، فالتزم الأشعري ذلك ، وخالف إمام الحرمين والغزالي الأشعريّ في جواز تكليف ما لا يطاق والآية لا تنهض حجة على كلا الفريقين في حكم إمكان ذلك.

ثم اختلف المجوّزون : هل هو واقع ، وقد حكى القرطبي الإجماع على عدم الوقوع وهو الصواب في الحكاية ، وقال إمام الحرمين ـ في «البرهان» ـ : «والتكاليف كلّها عند الأشعري من التكليف بما لا يطاق ، لأنّ المأمورات كلّها متعلّقة بأفعال هي عند الأشعري غير مقدورة للمكلّف ، فهو مأمور بالصلاة وهو لا يقدر عليها ، وإنّما يقدره الله تعالى عند إرادة الفعل مع سلامة الأسباب والآلات» وما ألزمه إمام الحرمين الأشعريّ إلزام باطل ؛ لأنّ المراد بما لا يطاق ما لا تتعلّق به قدرة العبد الظاهرة ، المعبّر عنها بالكسب ، للفرق البيّن بين الأحوال الظاهرة ، وبين الحقائق المستورة في نفس الأمر ، وكذلك لا معنى لإدخال ما علم الله عدم وقوعه ، كأمر أبي جهل بالإيمان مع علم الله بأنّه لا يؤمن ، في مسألة التكليف بما لا يطاق ، أو بالمحال ؛ لأنّ علم الله ذلك لم يطّلع عليه أحد. وأورد عليه أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا أبا لهب إلى الإسلام وقد علم الله أنّه لا يسلم لقوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) إلى قوله (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) [المسد : ١ ، ٣] فقد يقال : إنّه بعد

٥٩٨

نزول هذه الآية لم يخاطب بطلب الإيمان وإنّما خوطب قبل ذلك ، وبذلك نسلم من أن نقول : إنّه خارج عن الدعوة ، ومن أن نقول : إنّه مخاطب بعد نزول الآية.

وهذه الآية تقتضي عدم وقوع التكليف بما لا يطاق في الشريعة ، بحسب المتعارف في إرادة البشر وقدرهم ، دون ما هو بحسب سرّ القدر ، والبحث عن حقيقة القدرة الحادثة ، نعم يؤخذ منها الرد على الجبرية.

وقوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) حال من «نفسا» لبيان كيفية الوسع الذي كلفت به النفس : وهو أنّه إن جاءت بخير كان نفعه لها وإن جاءت بشرّ كان ضرّه عليها. وهذا التقسيم حاصل من التعليق بواسطة «اللّام» مرة وبواسطة (على) أخرى. وأما كسبت واكتسبت فبمعنى واحد في كلام العرب ؛ لأنّ المطاوعة في اكتسب ليست على بابها ، وإنّما عبّر هنا مرة بكسبت وأخرى باكتسبت تفنّنا وكراهية إعادة الكلمة بعينها ، كما فعل ذو الرمة في قوله :

ومطعم الصيد هبّال لبغيته

ألفى أباه بذاك الكسب مكتسبا (١)

وقول النابغة :

فحملت برّة واحتملت فجار

وابتدئ أولا بالمشهور الكثير ، ثم أعيد بمطاوعه ، وقد تكون ، في اختيار الفعل الذي أصله دال على المطاوعة ، إشارة إلى أنّ الشرور يأمر بها الشيطان ، فتأتمر النفس وتطاوعه وذلك تبغيض من الله للناس في الذنوب. واختير الفعل الدال على اختيار النفس للحسنات ، إشارة إلى أنّ الله يسوق إليها الناس بالفطرة ، ووقع في «الكشاف» أن فعل المطاوعة لدلالته على الاعتمال ، وكان الشرّ مشتهى للنفس ، فهي تجدّ تحصيله ، فعبّر عن فعلها ذلك بالاكتساب.

والمراد بما اكتسبت الشرور ، فمن أجل ذلك ظنّ بعض المفسرين أنّ الكسب هو اجتناء الخير ، والاكتساب هو اجتناء الشر ، وهو خلاف التحقيق ؛ ففي القرآن (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام : ١٦٤] ـ ثم قيل للذين ظلموا (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) [يونس : ٥٢] ـ وقد قيل : إنّ اكتسب إذا اجتمع مع كسب خصّ

__________________

(١) الهبال : المحتال. والمقصود أنه حذق بالصيد وارثه عن أبيه.

٥٩٩

بالعمل الذي فيه تكلّف. لكن لم يرد التعبير باكتسبت في جانب فعل الخير.

وفي هذه الآية مأخذ حسن لأبي الحسن الأشعري في تسميته استطاعة العبد كسبا واكتسابا ؛ فإنّ الله وصف نفسه بالقدرة. ولم يصف العباد بالقدرة ، ولا أسند إليهم فعل قدر وإنّما أسند إليهم الكسب ، وهو قول يجمع بين المتعارضات ويفي بتحقيق إضافة الأفعال إلى العباد ، مع الأدب في عدم إثبات صفة القدرة للعباد ، وقد قيل : إنّ أول من استعمل كلمة الكسب هو الحسين بن محمد النجار ، رأس الفرقة النجارية من الجبرية ، كان معاصرا للنظام في القرن الثالث ، ولكن اشتهر بها أبو الحسن الأشعري حتى قال الطلبة في وصف الأمر الخفي : «أدقّ من كسب الأشعريّ».

وتعريف الكسب ، عند الأشعري : هو حالة للعبد يقارنها خلق الله فعلا متعلّقا بها. وعرّفه الإمام الرازي بأنّه صفة تحصل بقدرة العبد لفعله الحاصل بقدرة الله. وللكسب تعاريف أخر.

وحاصل معنى الكسب ، وما دعا إلى إثباته : هو أنّه لما تقرر أنّ الله قادر على جميع الكائنات الخارجة عن اختيار العبد ، وجب أن يقرّر عموم قدرته على كلّ شيء لئلّا تكون قدرة الله غير متسلّطة على بعض الكائنات ، إعمالا للأدلة الدالة على أنّ الله على كلّ شيء قدير ، وأنّه خالق كلّ شيء ، وليس لعموم هذه الأدلة دليل يخصّصه ، فوجب إعمال هذا العموم. ثم إنّه لما لم يجز أن يدّعى كون العبد مجبورا على أفعاله ، للفرق الضروري بين الأفعال الاضطرارية ، كحركة المرتعش ، والأفعال الاختيارية ، كحركة الماشي والقاتل ، ورعيا لحقّية التكاليف الشرعية للعباد لئلّا يكون التكليف عبثا ، ولحقيّة الوعد والوعيد لئلّا يكون باطلا ، تعيّن أن تكون للعبد حالة تمكّنه من فعل ما يريد فعله ، وترك ما يريد تركه ، وهي ميله إلى الفعل أو الترك ، فهذه الحالة سمّاها الأشعري الاستطاعة ، وسمّاها كسبا. وقال : إنّها تتعلّق بالفعل فإذا تعلّقت به خلق الله الفعل الذي مال إليه على الصورة التي استحضرها ومال إليها.

وتقديم المجرورين في الآية : لقصد الاختصاص ، أي لا يلحق غيرها شيء ولا يلحقها شيء من فعل غيرها ، وكأنّ هذا إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية : من اعتقاد شفاعة الآلهة لهم عند الله.

وتمسّك بهذه الآية من رأى أنّ الأعمال لا تقبل النيابة في الثواب والعقاب ، إلّا إذا كان للفاعل أثر في عمل غيره ؛ ففي الحديث : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من

٦٠٠