تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١٩

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٦

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٢٥ ـ سورة الفرقان

سمّيت هذه السورة «سورة الفرقان» في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبمسمع منه. ففي «صحيح البخاري» عن عمر بن الخطاب أنه قال : «سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله فكدت أساوره في الصلاة فتصبّرت حتى سلّم فلبّبته برادئه فانطلقت به أقوده إلى رسول الله فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها ..» الحديث.

ولا يعرف لهذه السورة اسم غير هذا. والمؤدبون من أهل تونس يسمونها «تبارك الفرقان» كما يسمون «سورة الملك» تبارك ، وتبارك الملك.

ووجه تسميتها «سورة الفرقان» لوقوع لفظ الفرقان فيها. ثلاث مرات في أولها ووسطها وآخرها.

وهي مكية عند الجمهور. وروي عن ابن عباس أنه استثنى منها ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) إلى قوله : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٦٨ ـ ٧٠]. والصحيح عنه أن هذه الآيات الثلاث مكية كما في «صحيح البخاري» في تفسير سورة الفرقان : «عن القاسم بن أبي بزّة أنه سأل سعيد بن جبير : هل لمن قتل مؤمنا متعمدا من توبة؟ فقرأت عليه : (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) [الفرقان : ٦٨]. فقال سعيد : قرأتها على ابن عباس كما قرأتها عليّ؟ فقال : هذه مكيّة نسختها آية» مدنية التي في سورة النساء. يريد قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) [النساء : ٩٣] الآية. وعن الضحّاك : أنها مدنية إلا الآيات الثلاث من أولها إلى قوله : (وَلا نُشُوراً) [الفرقان : ٣]. وأسلوب السورة وأغراضها شاهدة بأنها مكية.

٥

وهي السورة الثانية والأربعون في ترتيب النزول ، نزلت بعد سورة يس وقبل سورة فاطر ، وعدد آيها سبع وسبعون باتفاق أهل العدد.

أغراض هذه السورة

واشتملت هذه السورة على الابتداء بتمجيد الله تعالى وإنشاء الثناء عليه ، ووصفه بصفات الإلهية والوحدانية فيها.

وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن ، وجلال منزله ، وما فيه من الهدى ، وتعريض بالامتنان على الناس بهديه وإرشاده إلى اتقاء المهالك ، والتنويه بشأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأقيمت هذه السورة على ثلاث دعائم :

الأولى : إثبات أن القرآن منزل من عند الله ، والتنويه بالرسول المنزل عليهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودلائل صدقه ، ورفعة شأنه عن أن تكون له حظوظ الدنيا ، وأنه على طريقة غيره من الرسل ، ومن ذلك تلقى قومه دعوته بالتكذيب.

الدعامة الثانية : إثبات البعث والجزاء ، والإنذار بالجزاء في الآخرة ، والتبشير بالثواب فيها للصالحين ، وإنذار المشركين بسوء حظهم يومئذ ، وتكون لهم الندامة على تكذيبهم الرسول وعلى إشراكهم واتباع أئمة كفرهم.

الدعامة الثالثة : الاستدلال على وحدانية الله ، وتفرده بالخلق ، وتنزيهه عن أن يكون له ولد أو شريك ، وإبطال إلهية الأصنام ، وإبطال ما زعموه من بنوة الملائكة لله تعالى.

وافتتحت في آيات كل دعامة من هذه الثلاث بجملة «تبارك الذي» إلخ.

قال الطيبي : مدار هذه السورة على كونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١].

وذكر بدائع من صنعه تعالى جمعا بين الاستدلال والتذكير.

وأعقب ذلك بتثبيت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على دعوته ومقاومته الكافرين.

وضرب الأمثال للحالين ببعثة الرسل السابقين وما لقوا من أقوامهم مثل قوم موسى وقوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وقوم لوط.

٦

والتوكل على الله ، والثناء على المؤمنين به ، ومدح خصالهم ومزايا أخلاقهم ، والإشارة إلى عذاب قريب يحل بالمكذبين.

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١))

افتتاح بديع لندرة أمثاله في كلام بلغاء العرب لأن غالب فواتحهم أن تكون بالأسماء مجردة أو مقترنة بحرف غير منفصل ، مثل قول طرفة :

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

أو بأفعال المضارعة ونحوها كقول امرئ القيس :

قفا نبك البيت

أو بحروف التأكيد أو الاستفهام أو التنبيه مثل (إن) و (قد) والهمزة و (هل).

ومن قبيل هذا الافتتاح قول الحارث بن حلّزة :

آذنتنا ببينها أسماء

وقول النّابغة :

كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا

وهمّين همّا مستكنّا وظاهرا

وبهذه الندرة يكون في طالع هذه السورة براعة المطلع لأن الندرة من العزة ، والعزّة من محاسن الألفاظ وضدها الابتذال.

وتبارك : تعاظم خيره وتوفر ، والمراد بخيره كمالاته وتنزهاته. وتقدم في قوله تعالى : (بارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) في سورة الأعراف [٥٤].

والبركة : الخير ، وتقدم عند قوله تعالى : (اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) في سورة هود [٤٨] وعند قوله : (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) في سورة النور [٦١].

وظاهر قوله : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) أنه إخبار عن عظمة الله وتوفر كمالاته فيكون المقصود به التعليم والإيقاظ ، ويجوز مع ذلك أن يكون كناية عن إنشاء ثناء على الله تعالى أنشأ الله به ثناء على نفسه كقوله : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) [الإسراء : ١] على طريقة الكلام العربي في إنشاء التعجب من صفات المتكلم في مقام الفخر والعظمة ، أو إظهار غرايب صدرت ، كقول امرئ القيس :

ويوم عقرت للعذارى مطيتي

فيا عجبا من كورها المتحمّل

٧

وإنما يتعجب من إقدامه على أن جعل كور المطية يحمله هو بعد عقرها. ومنه قول الفند الزّمّاني :

أيا طعنة ما شيخ

كبير يفن بالي

يريد طعنة طعنها قرنه.

والذي نزل الفرقان هو الله تعالى. وإذ قد كانت الصلة من خصائص الله تعالى كان الفعل كالمسند إلى ضمير المتكلم فكأنه قيل : تباركت.

والموصول يومئ إلى علة ما قبله فهو كناية عن تعظيم شأن الفرقان وبركته على الناس من قوله : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً). فتلك منة عظيمة توجب الثناء على الله. وهو أيضا كناية عن تعظيم شأن الرسول عليه الصلاة السلام.

والتعريف بالموصول هنا لكون الصلة من صفات الله في نفس الأمر وعند المؤمنين وإن كان الكفار ينكرونها لكنهم يعرفون أن الرسول أعلنها فالله معروف بذلك عندهم معرفة بالوجه لا بالكنه الذي ينكرونه.

والفرقان : القرآن وهو في الأصل مصدر فرق ، كما في قوله : (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) [الأنفال : ٤١] وقوله : (يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) [الأنفال : ٢٩]. وجعل علما بالغلبة على القرآن لأنه فرّق بين الحق والباطل لما بيّن من دلائل الحق ودحض الباطل. وقد تقدم في قوله تعالى : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) في سورة آل عمران [٤].

وإيثار اسم الفرقان بالذكر هنا للإيماء إلى أن ما سيذكر من الدلائل على الوحدانيّة وإنزال القرآن دلائل قيمة تفرّق بين الحق والباطل.

ووصف النبي ب (عَبْدِهِ) تقريب له وتمهيد لإبطال طلبهم منه في قوله : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان : ٧] الآية.

والمراد ب (لِلْعالَمِينَ) جميع الأمم من البشر لأن العالم يطلق على الجنس وعلى النوع وعلى الصنف بحسب ما يسمح به المقام ، والنذارة لا تكون إلا للعقلاء ممن قصدوا بالتكليف. وقد مضى الكلام على لفظ (الْعالَمِينَ) في سورة الفاتحة [٢].

والنذير : المخبر بسوء يقع ، وهو فعيل بمعنى مفعل بصيغة اسم الفاعل مثل الحكيم.

والاقتصار في وصف الرسول هنا على النذير دون البشير كما في قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا

٨

كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨] لأن المقام هنا لتهديد المشركين إذ كذبوا بالقرآن وبالرسول عليه الصلاة والسلام. فكان مقتضيا لذكر النذارة دون البشارة ، وفي ذلك اكتفاء لأن البشارة تخطر ببال السامع عند ذكر النذارة. وسيجيء : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) في هذه السورة [٥٦].

وفي هذه الآية جمع بين التنويه بشأن القرآن وأنه منزل من الله وتنويه بشأن النبي عليه الصلاة والسلام ورفعة منزلته عند الله وعموم رسالته.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢))

أجريت على اسم الله تعالى هذه الصفات الأربع بطريق تعريف الموصوليّة لأن بعض الصلات معروف عند المخاطبين اتصاف الله به وهما الصفتان الأولى والرابعة ؛ وإذ قد كانتا معلومتين كانت الصلتان الأخريان المذكورتان معهما في حكم المعروف لأنهما أجريتا على من عرف بالصلتين الأولى والرابعة فإن المشركين ما كانوا يمترون في أن الله هو مالك السماوات والأرض ولا في أن الله هو خالق كل شيء كما في قوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) الآيات من سورة المؤمنين [٨٦ ، ٨٧] ، ولكنهم يثبتون لله ولدا وشريكا في الملك.

ومن بديع النظم أن جعل الوصفان المختلف فيهما معهم متوسطين بين الوصفين اللذين لا مرية فيهما حتى يكون الوصفان المسلمين كالدليل أوّلا والنتيجة آخرا ، فإن الذي له ملك السماوات والأرض لا يليق به أن يتخذ ولدا ولا أن يتخذ شريكا لأن ملكه العظيم يقتضي غناه المطلق فيقتضي أن يكون اتخاذه ولدا وشريكا عبثا إذ لا غاية له ، وإذا كانت أفعال العقلاء تصان عن العبث فكيف بأفعال أحكم الحكماء تعالى وتقدس.

فقوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بدل من (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) [الفرقان : ١].

وإعادة اسم الموصول لاختلاف الغرض من الصلتين لأن الصلة الأولى في غرض الامتنان بتنزيل القرآن للهدى ، والصلة الثانية في غرض اتصاف الله تعالى بالوحدانيّة.

وفي الملك إيماء إلى أن الاشتراك في الملك ينافي حقيقة الملك التامة التي لا يليق به غيرها.

٩

والخلق : الإيجاد ، أي أوجد كل موجود من عظيم الأشياء وحقيرها. وفرع على (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) لأنه دليل على إتقان الخلق إتقانا يدل على أن الخالق متصف بصفات الكمال.

ومعنى (فَقَدَّرَهُ) جعله على مقدار وحدّ معيّن لا مجرد مصادفة ، أي خلقه مقدرا ، أي محكما مضبوطا صالحا لما خلق لأجله لا تفاوت فيه ولا خلل. وهذا يقتضي أنه خلقه بإرادة وعلم على كيفية أرادها وعيّنها كقوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩]. وقد تقدم في قوله تعالى : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) في سورة الرعد [١٧].

وتأكيد الفعل بالمفعول المطلق بقوله : (تَقْدِيراً) للدلالة على أنه تقدير كامل في نوع التقادير.

وما جاء من أول السورة إلى هنا براعة استهلال بأغراضها وهو يتنزل منزلة خطبة الكتاب أو الرسالة.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣))

استطراد لانتهاز الفرصة لوصف ضلال أهل الشرك وسفالة تفكيرهم ، فهو عطف على جملة : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الفرقان : ٢] وما تلاها مما هو استدلال على انفراده تعالى بالإلهية ، وأردفت بقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [الفرقان : ٢] الشامل لكون ما اتخذوه من الآلهة مخلوقات فكان ما تقدم مهيئا للتعجيب من اتخاذ المشركين آلهة دون ذلك الإله المنعوت بصفات الكمال والجلال.

فالخبر غير مقصود به الإفادة بل هو للتعجيب من حالهم كيف قابلوا نعمة إنزال الفرقان بالجحد والطغيان وكيف أشركوا بالذي تلك صفاته آلهة أخرى صفاتهم على الضد من صفات من أشركوهم به ، وإلا فإن اتخاذ المشركين آلهة أمر معلوم لهم وللمؤمنين فلا يقصد إفادتهم لحكم الخبر.

وبين قوله : (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) [الفرقان : ٢] وقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) محسن الطباق.

وضمير : (اتَّخَذُوا) عائد إلى المشركين ولم يسبق لهم ذكر في الكلام وإنما هم

١٠

معروفون في مثل هذا المقام وخاصة من قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) [الفرقان : ٢].

وجملة : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً) مقابلة جملة (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الفرقان : ٢].

وجملة : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) مقابلة جملة : (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) [الفرقان : ٢] لأن ولد الخالق يجب أن يكون متولدا منه فلا يكون مخلوقا.

وجملة : (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) مقابلة جملة : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) [الفرقان : ٢] لأن الشركة في الملك تقتضي الشركة في التصرف.

وضمير : (لِأَنْفُسِهِمْ) يجوز أن يعود إلى (آلِهَةً) أي لا تقدر الأصنام ونحوها على ضر أنفسهم ولا على نفعهم. ويجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير (وَاتَّخَذُوا) أي لا تقدر الأصنام على نفع الذين عبدوهم ولا على ضرهم.

واعلم أن (ضَرًّا وَلا نَفْعاً) هنا جرى مجرى المثل لقصد الإحاطة بالأحوال ، فكأنه قيل : لا يملكون التصرف بحال من الأحوال. وهذا نظير أن يقال : شرقا وغربا ، وليلا ونهارا. وبذلك يندفع ما يشكل في بادئ الرأي من وجه نفي قدرتهم على إضرار أنفسهم بأنه لا تتعلق إرادة أحد بضر نفسه ، وبذلك أيضا لا يتطلب وجه لتقديم الضر على النفع ، لأن المقام يقتضي التسوية في تقديم أحد الأمرين ، فالمتكلم مخير في ذلك والمخالفة بين الآيات في تقديم أحد الأمرين مجرد تفنّن.

والمجرور في (لِأَنْفُسِهِمْ) متعلق ب (يَمْلِكُونَ).

والضّر ـ بفتح الضاد ـ مصدر ضرّه ، إذا أصابه بمكروه. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ) في سورة يونس [٤٩].

وجملة : (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) مقابلة جملة (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢] لأن أعظم مظاهر تقدير الخلق هو مظهر الحياة والموت ، وذلك من المشاهدات. وأما قوله : (وَلا نُشُوراً) فهو تكميل لقرع المشركين نفاة البعث لأن نفي أن يكون الآلهة يملكون نشورا يقتضي إثبات حقيقة النشور في نفس الأمر إذ الأكثر في كلام العرب أن نفي الشيء يقتضي تحقق ماهيته. وأما نحو قول امرئ القيس :

على لاحب لا يهتدي بمناره

١١

يريد لا منار فيه. وقول ابن أحمر :

لا تفزع الأرنب أهوالها

ولا ترى الضبّ بها ينجحر

أراد : أنها لا أرنب فيها ولا ضب. فهو من قبيل التلميح.

ذكر في هذه الآية من أقوالهم المقابلة للجمل الموصوف بها الله تعالى اهتماما بإبطال كفرهم المتعلق بصفات الله لأن ذلك أصل الكفر ومادته.

واعلم أن معنى : (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) وهم يصنعون ، أي يصنعهم الصانعون لأن أصنامهم كلها حجارة منحوتة فقد قومتها الصنعة ، فأطلق الخلق على التشكيل والنحت من فعل الناس ، وإن كان الخلق شاع في الإيجاد بعد العدم ؛ إما اعتبارا بأصل مادة الخلق وهو تقدير مقدار الجلد قبل فريه كما قال زهير :

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض الناس يخلق ثم لا يفري

فأطلق الخلق على النحت ؛ إما على سبيل المجاز المرسل ، وإما مشاكلة لقوله : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً).

والملك في قوله : (لا يَمْلِكُونَ) مستعمل في معنى القدرة والاستطاعة كما تقدم في قوله تعالى : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) في سورة العقود [١٧] ، وقوله فيها : (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) [المائدة : ٧٦] ، أي من لا يقدر على ضركم ولا نفعكم. فقوله هنا : (لِأَنْفُسِهِمْ) متعلق ب (يَمْلِكُونَ) ، واللام فيه لام التعليل ، أي لا يملكون لأجل أنفسهم ، أي لفائدتها.

ثم إن المراد بأنفسهم يجوز أن يكون الجمع فيه باعتبار التوزيع على الآحاد المفادة بضمير (يَمْلِكُونَ) ، أي لا يملك كل واحد لنفسه ضرا ولا نفعا ، ويكون المراد بالضر دفعه على تقدير مضاف دل عليه المقام لأن الشخص لا يتعلق غرضه بضر نفسه حتى يقرع بأنه عاجز عن ضر نفسه.

وتنكير (مَوْتاً) ـ و ـ (حَياةً) في سياق النفي للعموم ، أي موت أحد من الناس ولا حياته.

والنشور : الإحياء بعد الموت. وأصله نشر الشيء المطوي.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ

١٢

ظُلْماً وَزُوراً (٤))

انتقال من ذكر كفرهم في أفعالهم إلى ذكر كفرهم بأقوالهم الباطلة.

والإظهار هنا لإفادة أن مضمون الصلة هو علة قولهم هذا ، أي ما جرأهم على هذا البهتان إلا إشراكهم وتصلبهم فيه ، وليس ذلك لشبهة تبعثهم على هذه المقالة لانتفاء شبهة ذلك ، بخلاف ما حكي آنفا من كفرهم بالله فإنهم تلقوه من آبائهم ، فالوصف الذي أجري عليهم هنا مناسب لمقالتهم لأنها أصل كفرهم.

وهذه الجملة مقابلة جملة : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان : ١] فهي المقصود من افتتاح الكلام كما آذنت بذلك فاتحة السورة. وإنما أخرت هذه الجملة التي تقابل الجملة الأولى مع أن مقتضى ظاهر المقابلة أن تذكر هذه الجملة قبل جملة : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) [الفرقان : ٣] اهتماما بإبطال الكفر المتعلق بصفات الله كما تقدم آنفا.

والقصر المشتمل عليه كلامهم المستفاد من (إن) النافية و (إلّا) قصر قلب ؛ زعموا به رد دعوى أن القرآن منزل من عند الله.

وممن قال هذه المقابلة النضر بن الحارث ، وعبد الله بن أمية ، ونوفل بن خويلد. فإسناد هذا القول إلى جميع الكفار لأنه واقع بين ظهرانيهم وكلهم يتناقلونه. وهذه طريقة مألوفة في نسبة أمر إلى القبيلة كما يقال : بنو أسد قتلوا حجرا.

واسم الإشارة إلى القرآن حكاية لقولهم حين يسمعون آيات القرآن.

والضمير المرفوع في (افْتَراهُ) عائد إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعلوم من قوله : (عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان : ١].

والإفك : الكذب. وتقدم عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) في سورة النور [١١]. والافتراء : اختلاق الأخبار ، أي ابتكارها وهو الكذب عن عمد ، وتقدم في قوله : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة العقود [١٠٣].

(وَأَعانَهُ عَلَيْهِ) أي على ما يقوله من القرآن قوم آخرون لقنوه بعض ما يقوله ، وأرادوا بالقوم الآخرين اليهود. روي هذا التفسير عن مجاهد وعن ابن عباس : أشاروا إلى عبيد أربعة كانوا للعرب من الفرس وهم : عدّاس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار أبو

١٣

فكيهة الرومي مولى العلاء بن الحضرمي ، وفي «سيرة ابن هشام» أنه مولى صفوان بن أمية بن محرّث ، وجبر مولى عامر. وكان هؤلاء من موالي قريش بمكة ممن دانوا بالنصرانية وكانوا يعرفون شيئا من التوراة والإنجيل ثم أسلموا ، وقد مر ذلك في سورة النحل ، فزعم المشركون أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتردد إلى هؤلاء ويستمد منهم أخبار ما في التوراة والإنجيل.

والقصر المستفاد من قوله : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) متسلط على كلتا الجملتين ، أي لا يخلو هذا القرآن من مجموع الأمرين ، هما : أن يكون افترى بعضه من نفسه ، وأعانه قوم على بعضه.

وفرع على حكاية قولهم هذا ظهور أنهم ارتكبوا بقولهم ظلما وزورا لأنهم حين قالوا ذلك ظهر أن قولهم زور وظلم لأنه اختلاق واعتداء.

و (جاؤُ) مستعمل في معنى (عملوا) وهو مجاز في العناية بالعمل والقصد إليه لأن من اهتم بتحصيل شيء مشى إليه ، وبهذا الاستعمال صح تعديته إلى مفعول كما في هذه الآية.

والظلم : الاعتداء بغير حق بقول أو فعل قال تعالى : (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) [ص : ٢٤] وتقدم في قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) في سورة البقرة [١١٤]. والظلم الذي أتوه هو نسبتهم الرسول إلى الاختلاق فإنه اعتداء على حقه الذي هو الصدق.

والزور : الكذب ، وأحسن ما قيل في الزور : إنه الكذب المحسّن المموّه بحيث يشتبه بالصدق.

وكون قولهم ذلك كذبا ظاهر لمخالفته الواقع فالقرآن ليس فيه شيء من الإفك ، والذين زعموهم معينين عليه لا يستطيع واحد منهم أن يأتي بكلام عربي بالغ غاية البلاغة والذين زعموهم معينين عليه لا يستطيع واحد منهم أن يأتي بكلام عربي بالغ غاية البلاغة ومرتق إلى حد الإعجاز ، وإذا كان لبعضهم معرفة ببعض أخبار الرسل فما هي إلا معرفة ضئيلة غير محققة كشأن معرفة العامة والدهماء.

(وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥))

الضمير عائد إلى الذين كفروا ، فمدلول الصلة مراعى في هذا الضمير إيماء إلى أن

١٤

هذا القول من آثار كفرهم.

الأساطير : جمع أسطورة بضم الهمزة كالأحدوثة والأحاديث ، والأغلوطة والأغاليط ، وهي القصة المسطورة. وقد تقدم معناها مفصلا عند قوله : (حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في سورة الأنعام [٢٥]. وقائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث العبدري قال : إن القرآن قصص من قصص الماضين. وكان النضر هذا قد تعلم بالحيرة قصص ملوك الفرس وأحاديث رستم وإسفنديار فكان يقول لقريش : أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثا من محمد فهلمّ أحدثكم ؛ وكان يقول في القرآن : هو أساطير الأولين. قال ابن عباس : كل ما ذكر فيه أساطير الأولين في القرآن فالمقصود منه قول النضر بن الحارث. وقد تقدم هذا في سورة الأنعام وفي أول سورة يوسف.

وجملة : (اكْتَتَبَها) نعت أو حال ل (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

والاكتتاب : افتعال من الكتابة ، وصيغة الافتعال تدل على التكلف لحصول الفعل ، أي حصوله من فاعل الفعل ، فيفيد قوله : (اكْتَتَبَها) أنه تكلف أن يكتبها. ومعنى هذا التكلف أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان أمّيّا كان إسناد الكتابة إليه إسنادا مجازيا فيؤول المعنى : أنه سأل من يكتبها له ، أي ينقلها ، فكان إسناد الاكتتاب إليه إسنادا مجازيا لأنه سببه ، والقرينة ما هو مقرر لدى الجميع من أنه أمي لا يكتب ، ومن قوله : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) لأنه لو كتبها لنفسه لكان يقرؤها بنفسه. فالمعنى : استنسخها. وهذا كله حكاية لكلام النضر بلفظه أو بمعناه ، ومراد النضر بهذا الوصف ترويج بهتانه لأنه علم أن هذا الزور مكشوف قد لا يقبل عند الناس لعلمهم بأن النبي أمي فكيف يستمد قرآنه من كتب الأولين فهيّا لقبول ذلك أنه كتبت له ، فاتخذها عنده فهو يناولها لمن يحسن القراءة فيملي عليه ما يقصه القرآن.

والإملاء : هو الإملال وهو إلقاء الكلام لمن يكتب ألفاظه أو يرويها أو يحفظها. وتفريع الإملاء على الاكتتاب كان بالنظر إلى أن إملاءها عليه ليقرأها أو ليحفظها.

والبكرة : أول النهار. والأصيل : آخر المساء ، وتقدم في قوله : (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) في آخر الأعراف [٢٠٥] ، أي تملى عليه طرفي النهار. وهذا مستعمل كناية عن كثرة الممارسة لتلقي الأساطير.

١٥

(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦))

لقن الله رسوله الجواب لرد بهتان القائلين إن هذا القرآن إلا إفك ، وإنه أساطير الأولين ، بأنه أنزله الله على رسوله.

وعبر عن منزل القرآن بطريق الموصول لما تقتضيه الصلة من استشهاد الرسول الله على ما في سره لأن الله يعلم كل سر في كل مكان.

فجملة الصلة مستعملة في لازم الفائدة وهو كون المتكلم ، أي الرسول ، عالما بذلك. وفي ذلك كناية عن مراقبته الله فيما يبلغه عنه. وفي ذلك إيقاظ لهم بأن يتدبروا في هذا الذي زعموه إفكا أو أساطير الأولين ليظهر لهم اشتماله على الحقائق الناصعة التي لا يحيط بها إلا الله الذي يعلم السر ، فيوقنوا أن القرآن لا يكون إلا من إنزاله ، وليعلموا براءة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم من الاستعانة بمن زعموهم يعينونه.

والتعريف في (السِّرَّ) تعريف الجنس يستغرق كل سر ، ومنه إسرار الطاعنين في القرآن عن مكابرة وبهتان ، أي يعلم أنهم يقولون في القرآن ما لا يعتقدونه ظلما وزورا منهم ، وبهذا يعلم موقع جملة : (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ترغيبا لهم في الإقلاع عن هذه المكابرة وفي اتباع دين الحق ليغفر الله لهم ويرحمهم ، وذلك تعريض بأنهم إن لم يقلعوا ويتوبوا حق عليهم الغضب والنقمة.

[٧ ـ ٩] (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩))

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها).

انتقال من حكاية مطاعنهم في القرآن وبيان إبطالها إلى حكاية مطاعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام.

١٦

والضمير عائد إلى الذين كفروا ، فمدلول الصفة مراعى كما تقدم.

وقد أوردوا طعنهم في نبوءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصيغة الاستفهام عن الحالة المختصة به إذ أوردوا اسم الاستفهام ولام الاختصاص والجملة الحالية التي مضمونها مثار الاستفهام.

والاستفهام تعجيبي مستعمل في لازمه وهو بطلان كونه رسولا بناء على أن التعجب من الدعوى يقتضي استحالتها أو بطلانها. وتركيب (ما لِهذَا) ونحوه يفيد الاستفهام عن أمر ثابت له ، فاسم الاستفهام مبتدأ و (لِهذَا) خبر عنه فمثار الاستفهام في هذه الآية هو ثبوت حال أكل الطعام والمشي في الأسواق للذي يدعي الرسالة من الله.

فجملة : (يَأْكُلُ الطَّعامَ) جملة حال. وقولهم : (لِهذَا الرَّسُولِ) أجروا عليه وصف الرسالة مجاراة منهم لقوله وهم لا يؤمنون به ولكنهم بنوا عليه ليتأتى لهم التعجب والمراد منه الإحالة والإبطال.

والإشارة إلى حاضر في الذهن ، وقد بين الإشارة ما بعدها من اسم معرّف بلام العهد وهو الرسول.

وكنّوا بأكل الطعام والمشي في الأسواق عن مماثلة أحواله لأحوال الناس تذرعا منهم إلى إبطال كونه رسولا لزعمهم أن الرسول عن الله تكون أحواله غير مماثلة لأحوال الناس ، وخصّوا أكل الطعام والمشي في الأسواق لأنهما من الأحوال المشاهدة المتكررة ، ورد الله عليهم قولهم هذا بقوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠]. ثم انتقلوا إلى اقتراح أشياء تؤيد رسالته فقالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً). وخصوا من أحوال الرسول حال النذارة لأنها التي أنبتت حقدهم عليه.

و (لو لا) حرف تحضيض مستعمل في التعجيز ، أي لو أنزل إليه ملك لا تبعناه.

وانتصب (فيكون) على جواب التحضيض.

و (أو) للتخيير في دلائل الرسالة في وهمهم.

ومعنى (يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) أي ينزل إليه كنز من السماء ، إذ كان الغنى فتنة لقلوبهم. والإلقاء : الرمي ، وهو هنا مستعار للإعطاء من عند الله لأنهم يتخيلون الله تعالى في السماء.

١٧

والكنز تقدم في قوله تعالى : (أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ) في سورة هود [١٢]. وجعلوا إعطاء جنة له علامة على النبوءة لأن وجود الجنة في مكة خارق للعادة.

وقرأ الجمهور : (يَأْكُلُ مِنْها) بياء الغائب ، والضمير المستتر عائد إلى هذا الرسول.

وقرأ حمزة والكسائي وخلف (نَأْكُلَ مِنْها) بنون الجماعة. والمعنى : ليتيقنوا أن ثمرها حقيقة لا سحر.

ذكر أصحاب السير أن هذه المقالة صدرت من كبراء المشركين وفي مجلس لهم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، وأبا البختري ، والأسود بن عبد المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وعبد الله بن أبي أمية ، والعاصي بن وائل ، ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج ، والنضر بن الحارث ، وأن هذه الأشياء التي ذكروها تداولها أهل المجلس إذ لم يعين أهل السير قائلها.

قال ابن عطية : وأشاعوا ذلك في الناس فنزلت هذه الآية في ذلك. وقد تقدم شيء من هذا في سورة الإسراء.

وكتبت لام (ما لِهذَا) منفصلة عن اسم الإشارة الذي بعدها في المصحف الإمام فاتبعته المصاحف لأن رسم المصحف سنة فيه ، كما كتب (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) في سورة الكهف [٤٩] ، وكما كتب : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) في سورة سأل سائل [٣٦] ، وكما كتب : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ) في سورة النساء [٧٨]. ولعل وجه هذا الانفصال أنه طريقة رسم قديم كانت الحروف تكتب منفصلا بعضها عن بعض ولا سيما حروف المعاني فعاملوا ما كان على حرف واحد معاملة ما كان على حرفين فبقيت على يد أحد كتّاب المصحف أثارة من ذلك ، وأصل حروف الهجاء كلها الانفصال ، وكذلك هي في الخطوط القديمة للعرب وغيرهم. وكان وصل حروف الكلمة الواحدة تحسينا للرسم وتسهيلا لتبادر المعنى ، وأما ما كان من كلمتين فوصله اصطلاح. وأكثر ما وصلوا منه هو الكلمة الموضوعة على حرف واحد مثل حروف القسم أو كالواحد مثل (ال).

(وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا

١٨

فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)

الظالمون : هم المشركون ، فغير عنوانهم الأول إلى عنوان الظلم وهم هم تنبيها على أن في هذا القول اعتداء على الرسول بنبزه بما هو بريء منه وهم يعلمون أنه ليس كذلك فظلمهم له أشد ظلم ، وصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ذكر الماوردي : أن قائل : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) هو عبد الله بن الزّبعرى ، أي هو مبتكر هذا البهتان وإنما أسند القول إلى جميع الظالمين لأنهم تلقفوه ولهجوا به.

والمسحور : الذي أصابه السحر ، وهو يورث اختلال العقل عندهم ، أي ما تتبعون إلا رجلا أصابه خلل العقل فهو يقول ما لا يقول مثله العقلاء.

وذكر (رَجُلاً) هنا لتمهيد استحالة كونه رسولا لأنه رجل من الناس. وهذا الخطاب خاطبوا به المسلمين الذين اتبعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومعنى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا) أنهم ضربوا لك الأمثال الباطلة بأن مثلوك برجل مسحور.

وقوله : (انْظُرْ) مستعار لمعنى العلم تشبيها للأمر المعقول بالأمر المرئي لشدة وضوحه.

و (كيف) اسم للكيفية والحالة مجرد هنا عن معنى الاستفهام.

وفرع على هذا التعجيب إخبار عنهم بأنهم ضلوا في تلفيق المطاعن في رسالة الرسول فسلكوا طرائق لا تصل بهم إلى دليل مقنع على مرادهم ، ففعل ضلوا مستعمل في معنييه المجازيين هما : معنى عدم التوفق في الحجة ، ومعنى عدم الوصول للدين الحق ، وهو هنا تعجيب من خطلهم وإعراض عن مجاوبتهم.

(تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠))

ابتدئت السورة بتعظيم الله وثنائه على أن أنزل الفرقان على رسوله ، وأعقب ذلك بما تلقى به المشركون هذه المزية من الجحود والإنكار الناشئ عن تمسكهم بما اتخذوه من آلهة من صفاتهم ما ينافي الإلهية ، ثم طعنوا في القرآن والذي جاء به بما هو كفران للنعمة ومن جاء بها.

١٩

فلما أريد الإعراض عن باطلهم والإقبال على خطاب الرسول بتثبيته وتثبيت المؤمنين أعيد اللفظ الذي ابتدئت به السورة على طريقة وصل الكلام بقوله : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ).

وهذه الجملة استئناف واقع موقع الجواب عن قولهم (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) [الفرقان : ٨] إلخ ، أي إن شاء جعل لك خيرا من الذي اقترحوه ، أي أفضل منه ، أي إن شاء عجله لك في الدنيا ، فالإشارة إلى المذكور من قولهم ، فيجوز أن يكون المراد بالجنات والقصور جنات في الدنيا وقصورا فيها ، أي خيرا من الذي اقترحوه دليلا على صدقك في زعمهم بأن تكون عدة جنات وفيها قصور. وبهذا فسر جمهور المفسرين. وعلى هذا التأويل تكون (إن) الشرطية واقعة موقع (لو) ، أي أنه لم يشأ ولو شاءه لفعله ولكن الحكمة اقتضت عدم البسط للرسول في هذه الدنيا ولكن المشركين لا يدركون المطالب العالية.

وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون المراد بالجنات والقصور ليست التي في الدنيا ، أي هي جنات الخلد وقصور الجنة فيكون وعدا من الله لرسوله.

واقتران هذا الوعد بشرط المشيئة جار على ما تقتضيه العظمة الإلهية وإلا فسياق الوعد يقتضي الجزم بحصوله ، فالله شاء ذلك لا محالة ، بأن يقال : تبارك الذي جعل لك خيرا من ذلك. فموقع (إِنْ شاءَ) اعتراض.

وأصل المعنى : تبارك الذي جعل لك خيرا من ذلك جنات إلى آخره. ويساعد هذا قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم (وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً) برفع (يَجْعَلْ) على الاستئناف دون إعمال حرف الشرط ، وقراءة الأكثر بالجزم عطفا على فعل الشرط وفعل الشرط محقق الحصول بالقرينة ، وهذا المحمل أشد تبكيتا للمشركين وقطعا لمجادلتهم ، وقرينة ذلك قوله بعده : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) [الفرقان : ١١] ، وهو ضد ومقابل لما أعده لرسوله والمؤمنين.

والقصور : المباني العظيمة الواسعة على وجه الأرض وتقدم في قوله : (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً) في سورة الأعراف [٧٤] ، وقوله : (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) في سورة الحج [٤٥].

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١))

(بَلْ) للإضراب ، فيجوز أن يكون إضراب انتقال من ذكر ضلالهم في صفة

٢٠