تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢٠

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٢١٤

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٢٨ ـ سورة القصص

سميت سورة القصص ولا يعرف لها اسم آخر. ووجه التسمية بذلك وقوع لفظ (الْقَصَصَ) فيها عند قوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) [القصص : ٢٥]. فالقصص الذي أضيفت إليه السورة هو قصص موسى الذي قصه على شعيب عليهما‌السلام فيما لقيه في مصر قبل خروجه منها. فلما حكي في السورة ما قصه موسى كانت هاته السورة ذات قصص لحكاية قصص ، فكان القصص متوغلا فيها. وجاء لفظ (الْقَصَصِ) في سورة [٣] يوسف ولكن سورة يوسف نزلت بعد هذه السورة.

وهي مكية في قول جمهور التابعين. وفيها آية (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥]. قيل نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجحفة في طريقه إلى المدينة للهجرة تسلية له على مفارقة بلده. وهذا لا يناكد أنها مكية لأن المراد بالمكي ما نزل قبل حلول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة كما أن المراد بالمدني ما نزل بعد ذلك ولو كان نزوله بمكة.

وعن مقاتل وابن عباس أن قوله تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) إلى قوله (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٢ ـ ٥٥] نزل بالمدينة.

وهي السورة التاسعة والأربعون في عداد نزول سور القرآن ، نزلت بعد سورة النمل وقبل سورة الإسراء ، فكانت هذه الطواسين الثلاث متتابعة في النزول كما هو ترتيبها في المصحف ، وهي متماثلة في افتتاح ثلاثتها بذكر موسى عليه‌السلام. ولعل ذلك الذي حمل كتّاب المصحف على جعلها متلاحقة.

وهي ثمان وثمانون آية باتفاق العادّين.

٥

أغراضها

اشتملت هذه السورة على التنويه بشأن القرآن والتعريض بأن بلغاء المشركين عاجزون عن الإتيان بسورة مثله. وعلى تفصيل ما أجمل في سورة الشعراء [١٨ ، ١٩] من قول فرعون لموسى (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) إلى قوله (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) ففصّلت سورة القصص كيف كانت تربية موسى في آل فرعون.

وبين فيها سبب زوال ملك فرعون.

وفيها تفصيل ما أجمل في سورة النمل [٧] من قوله (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) ففصلت سورة القصص كيف سار موسى وأهله وأين آنس النار ووصف المكان الذي نودي فيه بالوحي إلى أن ذكرت دعوة موسى فرعون فكانت هذه السورة أوعب لأحوال نشأة موسى إلى وقت إبلاغه الدعوة ثم أجملت ما بعد ذلك لأن تفصيله في سورة الأعراف وفي سورة الشعراء. والمقصود من التفصيل ما يتضمنه من زيادة المواعظ والعبر.

وإذ قد كان سوق تلك القصة إنما هو للعبرة والموعظة ليعلم المشركون سنة الله في بعثة الرسل ومعاملته الأمم المكذبة لرسلها.

وتحدى المشركين بعلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب ولا خالط أهل الكتاب ، ذيل الله ذلك بتنبيه المشركين إليه وتحذيرهم من سوء عاقبة الشرك وأنذرهم إنذارا بليغا.

وفنّد قولهم (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [القصص : ٤٨] من الخوارق كقلب العصا حية ثم انتقاضهم في قولهم إذ كذبوا موسى أيضا.

وتحداهم بإعجاز القرآن وهديه مع هدي التوراة.

وأبطل معاذيرهم ثم أنذرهم بما حل بالأمم المكذبة رسل الله.

وساق لهم أدلة على وحدانية الله تعالى وفيها كلها نعم عليهم وذكرهم بما سيحل بهم يوم الجزاء.

وأنحى عليهم في اعتزازهم على المسلمين بقوتهم ونعمتهم ومالهم بأن ذلك متاع الدنيا وأن ما ادخر للمسلمين عند الله خير وأبقى.

وأعقبه بضرب المثل لهم بحال قارون في قوم موسى. وتخلص من ذلك إلى التذكير

٦

بأن أمثال أولئك لا يحظون بنعيم الآخرة وأن العاقبة للمتقين.

وتخلل ذلك إيماء إلى اقتراب مهاجرة المسلمين إلى المدينة ، وإيماء إلى أن الله مظهرهم على المشركين بقوله (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٥] الآية.

وختم الكلام بتسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته ووعده بأنه يجعل بلده في قبضته ويمكنه من نواصي الضالين.

ويقرب عندي أن يكون المسلمون ودوا أن تفصل لهم قصة رسالة موسى عليه‌السلام فكان المقصود انتفاعهم بما في تفاصيلها من معرفة نافعة لهم تنظيرا لحالهم وحال أعدائهم. فالمقصود ابتداء هم المسلمون ولذلك قال تعالى في أولها (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [القصص : ٣] أي للمؤمنين.

(طسم (١))

تقدم القول في نظيره في فاتحة سورة الشعراء.

[٢ ، ٣] (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣))

الإشارة في قوله (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) على نحو الإشارة في نظيره في سورة الشعراء [٢]. فالمشار إليه ما هو مقروء يوم نزول هذه الآية من القرآن تنويها بشأن القرآن وأنه شأن عظيم.

وجملة (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى) مستأنفة استئنافا ابتدائيا.

ومهد لنبأ موسى وفرعون بقوله (نَتْلُوا عَلَيْكَ) للتشويق لهذا النبأ لما فيه من شتى العبر بعظيم تصرف الله في خلقه.

والتلاوة : القراءة لكلام مكتوب أو محفوظ كما قال تعالى (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) [النمل : ٩٢] ، وهو يتعدى إلى من تبلغ إليه التلاوة بحرف (على) وتقدمت عند قوله (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) في البقرة [١٠٢] ، وقوله (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ) في سورة الأنفال [٢].

وإسناد التلاوة إلى الله إسناد مجازي لأنه الذي يأمر بتلاوة ما يوحى إليه من الكلام

٧

والذي يتلو حقيقة هو جبريل بأمر من الله ، وهذا كقوله تعالى (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) في سورة البقرة [٢٥٢].

وجعلت التلاوة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه الذي يتلقى ذلك المتلو. وعبر عن هذا الخبر بالنبإ لإفادة أنه خبر ذو شأن وأهمية.

واللام في (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لام التعليل ، أي نتلو عليك لأجل قوم يؤمنون فكانت الغاية من تلاوة النبأ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي أن ينتفع بذلك قوم يؤمنون فالنبي يبلغ ذلك للمؤمنين ؛ فإن كان فريق من المؤمنين سألوا أو تشوّفوا إلى تفصيل ما جاء من قصة موسى وفرعون في سورة الشعراء وسورة النمل وهو الظاهر ، فتخصيصهم بالتعليل واضح وانتفاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك معهم أجدر وأقوى ، فلذلك لم يتعرض له بالذكر اجتزاء بدلالة الفحوى لأن المقام لإفادة من سأل وغيرهم غير ملتفت إليه في هذا المقام.

وإن لم يكن نزول هذه القصة عن تشوف من المسلمين فتخصيص المؤمنين بالتلاوة لأجلهم تنويه بأنهم الذين ينتفعون بالعبر والمواعظ لأنهم بإيمانهم أصبحوا متطلّبين للعلم والحكمة متشوفين لأمثال هذه القصص النافعة ليزدادوا بذلك يقينا.

وحصول ازدياد العلم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك معلوم من كونه هو المتلقي والمبلغ ليتذكر من ذلك ما علمه من قبل ويزداد علما بما عسى أن لا يكون قد علمه ، وفي ذلك تثبيت فؤاده كما قال تعالى (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود : ١٢٠].

فالمراد بقوم يؤمنون قوم الإيمان شأنهم وسجيتهم. وللإشارة إلى معنى تمكن الإيمان من نفوسهم أجري وصف الإيمان على كلمة (قوم) ليفيد أن كونهم مؤمنين هو من مقومات قوميتهم كما قدمناه غير مرة. فالمراد : المتلبسون بالإيمان. وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أن إيمانهم موجود في الحال ومستمر متجدد.

وفي هذا إعراض عن العبء بالمشركين في سوق هذه القصة بما يقصد فيها من العبرة والموعظة فإنهم لم ينتفعوا بذلك وإنما انتفع بها من آمن ومن سيؤمن بعد سماعها.

والباء في قوله (بِالْحَقِ) للملابسة ، وهو حال من ضمير (نَتْلُوا) ، أو صفة للتلاوة المستفادة من (نَتْلُوا).

والحق : الصدق لأن الصدق حق إذ الحق هو ما يحق له أن يثبت عند أهل العقول

٨

السليمة والأديان القويمة.

ومفعول (نَتْلُوا) محذوف دل عليه صفته وهي (مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) فالتقدير : نتلو عليك كلاما من نبأ موسى وفرعون.

و (مِنْ) تبعيضية فإن المتلو في هذه السورة بعض قصة موسى وفرعون في الواقع ألا ترى أنه قد ذكرت في القرآن أشياء من قصة موسى لم تذكر هنا مثل ذكر آية الطوفان والجراد.

وجعل الزمخشري (مِنْ) اسما بمعنى (بعض) فجعلها مفعول (نَتْلُوا). وجعل الأخفش (مِنْ) زائدة لأنه يرى أن (مِنْ) تزاد في الإثبات ، فجعل (نَبَإِ مُوسى) هو المفعول جرّ بحرف الجر الزائدة.

والنبأ : الخبر المهم العظيم.

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤))

وهذه الجملة وما عطف عليها بيان لجملة (نَتْلُوا) [القصص : ٣] أو بيان ل (نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) [القصص : ٣] فقدم له الإجمال للدلالة على أنه نبأ له شأن عظيم وخطر بما فيه من شتى العبر. وافتتاحها بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر.

وابتدئت القصة بذكر أسبابها لتكون عبرة للمؤمنين يتخذون منها سننا يعلمون بها علل الأشياء ومعلولاتها ، ويسيرون في شئونهم على طرائقها ، فلو لا تجبر فرعون وهو من قبيح الخلال من حلّ به وبقومه الاستئصال ، ولما خرج بنو إسرائيل من ذل العبودية. وهذا مصداق المثل : مصائب قوم عند قوم فوائد ، وقوله تعالى (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦].

وصورت عظمة فرعون في الدنيا بقوله (عَلا فِي الْأَرْضِ) لتكون العبرة بهلاكه بعد ذلك العلو أكبر العبر.

ومعنى العلوّ هنا الكبر ، وهو المذموم من العلو المعنوي كالذي في قوله تعالى (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٨٣]. ومعناه : أن يستشعر نفسه عاليا على موضع غيره ليس يساويه أحد ، فالعلو مستعار لمعنى التفوّق على غيره ، غير محقوق

٩

لحق من دين أو شريعة أو رعي حقوق المخلوقات معه فإذا استشعر ذلك لم يعبأ في تصرفاته برعي صلاح وتجنب فساد وضر وإنما يتبع ما تحدوه إليه شهوته وإرضاء هواه ، وحسبك أن فرعون كان يجعل نفسه إلها وأنه ابن الشمس.

فليس من العلو المذموم رجحان أحد في أمر من الأمور لأنه جدير بالرجحان فيه جريا على سبب رجحان عقلي كرجحان العالم على الجاهل والصالح على الطالح والذكي على الغبي ، أو سبب رجحان عادي ويشمل القانوني وهو كل رجحان لا يستقيم نظام الجماعات إلا بمراعاته كرجحان أمير الجيش على جنوده ورجحان القاضي على المتخاصمين.

وأعدل الرجحان ما كان من قبل الدين والشريعة كرجحان المؤمن على الكافر ، والتقي على الفاسق ، قال تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الحديد : ١٠] ويترجح في كل عمل أهل الخبرة به والإجادة فيه وفيما وراء ذلك فالأصل المساواة.

وفرعون هذا هو (رعمسيس) الثاني وهو الملك الثالث من ملوك العائلة التاسعة عشرة في اصطلاح المؤرخين للفراعنة ، وكان فاتحا كبيرا شديد السطوة وهو الذي ولد موسىعليه‌السلام في زمانه على التحقيق.

و (الْأَرْضِ) : هي أرض مصر ، فالتعريف فيها للعهد لأن ذكر فرعون يجعلها معهودة عند السامع لأن فرعون اسم ملك مصر. ويجوز أن تجعل المراد بالأرض جميع الأرض يعني المشهور المعروف منها ، فإطلاق الأرض كإطلاق الاستغراق العرفي فقد كان ملك فرعون (رعمسيس) الثاني ممتدا من بلاد الهند من حدود نهر (الكنك) في الهند إلى نهر (الطونة) في أوروبا ، فالمعنى أرض مملكته ، وكان علوه أقوى من علو ملوك الأرض وسادة الأقوام.

والشيع : جمع شيعة. والشيعة : الجماعة التي تشايع غيرها على ما يريد ، أي تتابعه وتطيعه وتنصره كما قال تعالى (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) [القصص : ١٥] ، وأطلق على الفرقة من الناس على سبيل التوسع بعلاقة الإطلاق عن التقييد قال تعالى (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم : ٣٢].

ومن البلاغة اختياره هنا ليدل على أنه جعل أهل بلاد القبط فرقا ذات نزعات تتشيع

١٠

كل فرقة إليه وتعادي الفرقة الأخرى ليتم لهم ضرب بعضهم ببعض ، وقد أغرى بينهم العداوة ليأمن تألبهم عليه كما يقال «فرّق تحكم» وهي سياسة لا تليق إلا بالمكر بالضد والعدو ولا تليق بسياسة ولي أمر الأمة الواحدة.

وكان (رعمسيس) الثاني قسم بلاد مصر إلى ست وثلاثين إيالة وأقام على كل إيالة أمراء نوابا عنه ليتسنى له ما حكي عنه في هذه الآية بقوله تعالى (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) الواقع موقع الحال من ضمير (جَعَلَ) وأبدلت منها بدل اشتمال جملة (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) لأنه ما فعل ذلك بهم إلا لأنه عدّهم ضعفاء ، أي أذلة فكان يسومهم العذاب ويسخّرهم لضرب اللبن وللأعمال الشاقة. والطائفة المستضعفة هي طائفة بني إسرائيل ، وضمير (مِنْهُمْ) عائد إلى (أَهْلَها) لا إلى (شِيَعاً). وتقدم الكلام على ذبح أبناء بني إسرائيل في سورة البقرة.

وجملة (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) تعليل لجملة (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ). وقد علمت مما مضى عند قوله (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧] أن الخبر بتلك الصيغة أدل على تمكن الوصف مما لو قيل : أن أكون جاهلا ، فكذلك قوله (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) دال على شدة تمكن الإفساد من خلقه ولفعل الكون إفادة تمكن خبر الفعل من اسمه.

فحصل تأكيد لمعنى تمكن الإفساد من فرعون ، ذلك أن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة.

المفسدة الأولى : التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد جمة من احتقار الناس والاستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم وبث عداوته فيهم ، وسوء ظنه بهم وأن لا يرقب فيهم موجبات فضل سوى ما يرضي شهوته وغضبه ، فإذا انضم إلى ذلك أنه ولي أمرهم وراعيهم كانت صفة الكبر مقتضية سوء رعايته لهم والاجتراء على دحض حقوقهم ، وأن يرمقهم بعين الاحتقار فلا يعبأ بجلب الصالح لهم ودفع الضر عنهم ، وأن يبتز منافعهم لنفسه ويسخر من استطاع منهم لخدمة أغراضه وأن لا يلين لهم في سياسة فيعاملهم بالغلظة وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته ، فهذه الصفة هي أمّ المفاسد وجماعها ولذلك قدمت على ما يذكر بعدها ثم أعقبت بأنه (كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

المفسدة الثانية : أنه جعل أهل المملكة شيعا وفرّقهم أقساما وجعل منهم شيعا مقربين منه ويفهم منه أنه جعل بعضهم بضد ذلك وذلك فساد في الأمة لأنه يثير بينها التحاسد

١١

والتباغض ، ويجعل بعضها يتربص الدوائر ببعض ، فتكون الفرق المحظوظة عنده متطاولة على الفرق الأخرى ، وتكدح الفرق الأخرى لتزحزح المحظوظين عن حظوتهم بإلقاء النميمة والوشايات الكاذبة فيحلوا محل الآخرين. وهكذا يذهب الزمان في مكائد بعضهم لبعض فيكون بعضهم لبعض فتنة ، وشأن الملك الصالح أن يجعل الرعية منه كلها بمنزلة واحدة بمنزلة الأبناء من الأب يحب لهم الخير ويقومهم بالعدل واللين ، لا ميزة لفرقة على فرقة ، ويكون اقتراب أفراد الأمة منه بمقدار المزايا النفسية والعقلية.

المفسدة الثالثة : أنه يستضعف طائفة من أهل مملكته فيجعلها محقرة مهضومة الجانب لا مساواة بينها وبين فرق أخرى ولا عدل في معاملتها بما يعامل به الفرق الأخرى ، في حين أن لها من الحق في الأرض ما لغيرها لأن الأرض لأهلها وسكانها الذين استوطنوها ونشئوا فيها.

والمراد بالطائفة : بنو إسرائيل وقد كانوا قطنوا في أرض مصر برضى ملكها في زمن يوسف وأعطوا أرض (جاسان) وعمروها وتكاثروا فيها ومضى عليهم فيها أربعمائة سنة ، فكان لهم من الحق في أرض المملكة ما لسائر سكانها فلم يكن من العدل جعلهم بمنزلة دون منازل غيرهم ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى (طائِفَةً مِنْهُمْ) إذ جعلها من أهل الأرض الذين جعلهم فرعون شيعا.

وأشار بقوله (طائِفَةً) إلى أنه استضعف فريقا كاملا ، فأفاد ذلك أن الاستضعاف ليس جاريا على أشخاص معيّنين لأسباب تقتضي استضعافهم ككونهم ساعين بالفساد أو ليسوا أهلا للاعتداد بهم لانحطاط في أخلاقهم وأعمالهم بل جرى استضعافه على اعتبار العنصرية والقبلية وذلك فساد لأنه يقرن الفاضل بالمفضول.

من أجل ذلك الاستضعاف المنوط بالعنصرية أجرى شدته على أفراد تلك الطائفة دون تمييز بين مستحق وغيره ولم يراع غير النوعية من ذكورة وأنوثة وهي :

المفسدة الرابعة : أنه (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) أي يأمر بذبحهم ، فإسناد الذبح إليه مجاز عقلي. والمراد بالأبناء : الذكور من الأطفال. وقد تقدم ذكر ذلك في سورة البقرة. وقصده من ذلك أن لا تكون لبني إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم حتى يكون النفوذ في الأرض لقومه خاصة.

المفسدة الخامسة : أنه يستحيي النساء ، أي يستبقي حياة الإناث من الأطفال ، فأطلق

١٢

عليهم اسم النساء باعتبار المآل إيماء إلى أنه يستحييهن ليصرن نساء فتصلحن لما تصلح له النساء وهو أن يصرن بغايا إذ ليس لهن أزواج. وإذ كان احتقارهن بصد قومه عن التزوج بهن فلم يبق لهن حظ من رجال القوم إلا قضاء الشهوة ، وباعتبار هذا المقصد انقلب الاستحياء مفسدة بمنزلة تذبيح الأبناء إذ كل ذلك اعتداء على الحق. وقد تقدم آنفا موقع جملة (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

[٥ ـ ٦] (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦))

عطفت جملة (وَنُرِيدُ) على جملة (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤] لمناسبة ما في تلك الجملة من نبأ تذبيح الأبناء واستحياء النساء ، فذلك من علو فرعون في الأرض وهو بيان لنبإ موسى وفرعون فإن إرادة الله الخير بالذين استضعفهم فرعون من تمام نبإ موسى وفرعون ، وهو موقع عبرة عظيمة من عبر هذه القصة.

وجيء بصيغة المضارع في حكاية إرادة مضت لاستحضار ذلك الوقت كأنه في الحال

لأن المعنى أن فرعون يطغى عليهم والله يريد في ذلك الوقت إبطال عمله وجعلهم أمة عظيمة ، ولذلك جاز أن تكون جملة (وَنُرِيدُ) في موضع الحال من ضمير (يَسْتَضْعِفُ) [القصص : ٤] باعتبار أن تلك الإرادة مقارنة لوقت استضعاف فرعون إياهم. فالمعنى على الاحتمالين : ونحن حينئذ مريدون أن ننعم في زمن مستقبل على الذين استضعفوا.

والمنّ : الإنعام ، وجاء مضارعه مضموم العين على خلاف القياس.

و (الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) هم الطائفة التي استضعفها فرعون. و (الْأَرْضِ) هي الأرض في قوله (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤].

ونكتة إظهار (الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) دون إيراد ضمير الطائفة للتنبيه على ما في الصلة من التعليل فإن الله رحيم لعباده ، وينصر المستضعفين المظلومين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.

وخص بالذكر من المن أربعة أشياء عطفت على فعل (نَمُنَ) عطف الخاص على العام وهي : جعلهم أئمة ، وجعلهم الوارثين ، والتمكين لهم في الأرض ، وأن يكون زوال

١٣

ملك فرعون على أيديهم في نعم أخرى جمة ، ذكر كثير منها في سورة البقرة.

فأما جعلهم أئمة فذلك بأن أخرجهم من ذلّ العبودية وجعلهم أمة حرة مالكة أمر نفسها لها شريعة عادلة وقانون معاملاتها وقوة تدفع بها أعداءها ومملكة خالصة لها وحضارة كاملة تفوق حضارة جيرتها بحيث تصير قدوة للأمم في شئون الكمال وطلب الهناء ، فهذا معنى جعلهم أئمة ، أي يقتدي بهم غيرهم ويدعون الناس إلى الخير وناهيك بما بلغه ملك إسرائيل في عهد سليمان عليه‌السلام.

وأما جعلهم الوارثين فهو أن يعطيهم الله ديار قوم آخرين ويحكّمهم فيهم ، فالإرث مستعمل مجازا في خلافة أمم أخرى.

فالتعريف في (الْوارِثِينَ) تعريف الجنس المفيد أنهم أهل الإرث الخاص وهو إرث السلطة في الأرض بعد من كان قبلهم من أهل السلطان ، فإن الله أورثهم أرض الكنعانيين والحثيين والأموريين والآراميين ، وأحلهم محلهم على ما كانوا عليه من العظمة حتى كانوا يعرفون بالجبابرة قال تعالى (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) [المائدة : ٢٢].

والتمكين لهم في الأرض تثبيت سلطانهم فيما ملكوه منها وهي أرض الشام إن كانت اللام عوضا عن المضاف إليه. ويحتمل أن يكون المعنى تقويتهم بين أمم الأرض إن حمل التعريف على جنس الأرض المنحصر في فرد ، أو على العهد ، أي الأرض المعهودة للناس.

وأصل التمكين : الجعل في المكان ، وقد تقدم في قوله تعالى (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) في سورة الكهف [٨٤] ، وتقدم الكلام على اشتقاق التمكين وتصاريفه عند قوله تعالى (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) في سورة الأنعام [٦].

و (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) هو زوال ملكهم بسبب رجل من بني إسرائيل حسبما أنذره بذلك الكهان.

ومعنى إراءتهم ذلك إراءتهم مقدماته وأسبابه.

وفرعون الذي أري ذلك هو ملك مصر (منفتاح) الثالث وهو الذي حكم مصر بعد (رعمسيس) الثاني الذي كانت ولادة موسى في زمانه وهو الذي كان يحذر ظهور رجل من إسرائيل يكون له شأن. و (هامانَ) قال المفسرون : هو وزير فرعون. وظاهر آيات هذه السورة يقتضي أنه وزير فرعون وأحسب أن هامان ليس باسم علم ولكنه لقب خطة مثل

١٤

فرعون وكسرى وقيصر ونجاشي. فالظاهر أن هامان لقب وزير الملك في مصر في ذلك العصر. وجاء في كتاب «إستير» من كتب اليهود الملحقة بالتوراة تسمية وزير (أحشويروش) ملك الفرس (هامان) فظنوه علما فزعموا أنه لم يكن لفرعون وزير اسمه هامان واتخذوا هذا الظن مطعنا في هذه الآية. وهذا اشتباه منهم فإن الأعلام لا تنحصر وكذلك ألقاب الولايات قد تشترك بين أمم وخاصة الأمم المتجاورة ، فيجوز أن يكون (هامانَ) علما من الأمان فإن الأعلام تتكرر في الأمم والعصور ، ويجوز أن يكون لقب خطة في مصر فنقل اليهود هذا اللقب إلى بلاد الفرس في مدة أسرهم.

ويشبه هذا الطعن طعن بعض المستشرقين من نصارى العصر في قوله تعالى في شأن مريم حين حكى قول أهلها لها (يا أُخْتَ هارُونَ) [مريم : ٢٨] فقالوا : هذا وهم انجرّ من كون أبي مريم اسمه عمران فتوهم أن عمران هو أبو موسى الرسول عليه‌السلام ، وتبع ذلك توهم أن مريم أخت موسى وهارون وهو مجازفة فإن النصارى لا يعرفون اسم أبي مريم وهل يمتنع أن يكون مسمى على اسم أبي موسى وهارون وهل يمتنع أن يكون لمريم أخ اسمه هارون. وقد تكلمنا على ذلك في سورة مريم.

والجنود جمع الجند. ويطلق الجند على الأمة قال تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) [البروج : ١٧ ، ١٨].

وقرأ الجمهور (وَنُرِيَ) بنون العظمة ونصب الفعل ونصب (فِرْعَوْنَ) وما عطف عليه. وقرأه حمزة والكسائي وخلف ويرى بياء الغائب مفتوحة وفتح الراء على أنه مضارع رأى ورفع (فِرْعَوْنَ) وما عطف عليه. ومآل معنى القراءتين واحد.

والجند اسم جمع لا واحد له من لفظه : هو الجماعة من الناس التي تجتمع على أمر تتبعه ، فلذلك يطلق على العسكر لأن عملهم واحد وهو خدمة أميرهم وطاعته.

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧))

عطف على جملة (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) [القصص : ٥] ، إذ الكل من أجزاء النبأ. وتتضمن هذه الجملة تفصيلا لمجمل قوله (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) ، فإن الإرادة لما تعلقت بإنقاذ بني إسرائيل من الذل خلق الله المنقذ لهم.

١٥

والوحي هنا وحي إلهام يوجد عنده من انشراح الصدر ما يحقق عندها أنه خاطر من الواردات الإلهية. فإن الإلهام الصادق يعرض للصالحين فيوقع في نفوسهم يقينا ينبعثون به إلى عمل ما ألهموا إليه. وقد يكون هذا الوحي برؤيا صادقة رأتها. وأم موسى لم يعرف اسمها في كتب اليهود ، وذكر المفسرون لها أسماء لا يوثق بصحتها.

وقوله (أَنْ أَرْضِعِيهِ) تفسير ل (أَوْحَيْنا). والأمر بإرضاعه يؤذن بجمل طويت وهي أن الله لما أراد ذلك قدّر أن يكون مظهر ما أراده هو الجنين الذي في بطن أم موسى ووضعته أمه ، وخافت عليه اعتداء أنصار فرعون على وليدها وتحيرت في أمرها فألهمت أو أريت ما قصه الله هنا وفي مواضع أخرى.

والإرضاع الذي أمرت به يتضمن أن : أخفيه مدة ترضعه فيها فإذا خفت عليه أن يعرف خبره فألقيه في اليمّ.

وإنما أمرها الله بإرضاعه لتقوى بنيته بلبان أمه فإنه أسعد بالطفل في أول عمره من لبان غيرها ، وليكون له من الرضاعة الأخيرة قبل إلقائه في اليمّ قوت يشد بنيته فيما بين قذفه في اليم وبين التقاط آل فرعون إياه وإيصاله إلى بيت فرعون وابتغاء المراضع ودلالة أخته إياهم على أمه إلى أن أحضرت لإرضاعه فأرجع إليها بعد أن فارقها بعض يوم. حكت كتب اليهود أن أم موسى خبأته ثلاثة أشهر ثم خافت أن يفشو أمره فوضعته في سفط مقيّر وقذفته في النهر. وقد بشرها الله بما يزيل همها بأنه راده إليها وزاد على ذلك بما بشرها بما سيكون له من مقام كريم في الدنيا والآخرة بأنه (مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

والظاهر أن هذا الوحي إليها كان عند ولادته وأنها أمرت بأن تلقيه في اليم عند ما ترى دلائل المخافة من جواسيس فرعون وذلك ليكون إلقاؤه في اليم عند الضرورة دفعا للضر المحقق بالضر المشكوك فيه ثم ألقي في يقينها بأنه لا بأس عليه.

و (الْيَمِ) : البحر وهو هنا نهر النيل الذي كان يشق مدينة فرعون حيث منازل بني إسرائيل. واليم في كلام العرب مرادف البحر ، والبحر في كلامهم يطلق على الماء العظيم المستبحر ، فالنهر العظيم يسمى بحرا قال تعالى (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) [فاطر : ١٢] ، فإن اليم من الأنهار.

وقد كانت هذه الآية مثالا من أمثلة دقائق الإعجاز القرآني فذكر عياض في «الشفاء» والقرطبي في «التفسير» يزيد أحدهما على الآخر عن الأصمعي : أنه سمع جارية أعرابية

١٦

تنشد :

أستغفر الله لأمري كله

قتلت إنسانا بغير حله

مثل غزال ناعما في دله

انتصف الليل ولم أصلّه

وهي تريد التورية بالقرآن. فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك يريد ما أبلغك (وكانوا يسمون البلاغة فصاحة) فقالت له : أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فجمع في آية واحدة خبرين ، وأمرين ، ونهيين ، وبشارتين.

فالخبران هما (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) وقوله (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) لأنه يشعر بأنها ستخاف عليه.

والأمران هما : (أَرْضِعِيهِ) و (ألقيه).

والنهيان : (وَلا تَخافِي) و (لا تَحْزَنِي).

والبشارتان : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

والخوف : توقع أمر مكروه ، والحزن : حالة نفسية تنشأ من حادث مكروه للنفس كفوات أمر محبوب ، أو فقد حبيب ، أو بعده ، أو نحو ذلك.

والمعنى : لا تخافي عليه الهلاك من الإلقاء في اليم ، ولا تحزني على فراقه.

والنهي عن الخوف وعن الحزن نهي عن سببيهما وهما توقع المكروه والتفكر في وحشة الفراق.

وجملة (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) في موقع العلة للنهيين لأن ضمان رده إليها يقتضي أنه لا يهلك وأنها لا تشتاق إليه بطول المغيب. وأما قوله (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فإدخال للمسرة عليها.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨))

الالتقاط افتعال من اللقط ، وهو تناول الشيء الملقى في الأرض ونحوها بقصد أو ذهول. أسند الالتقاط إلى آل فرعون لأن استخراج تابوت موسى من النهر كان من إحدى

١٧

النساء الحافات بابنة فرعون حين كانت مع أترابها وداياتها على ساحل النيل كما جاء في الإصحاح الثاني من سفر الخروج.

واللام في (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) لام التعليل وهي المعروفة عند النحاة بلام كي وهي لام جارة مثل كي ، وهي هنا متعلقة ب (التقطه). وحق لام كي أن تكون جارة لمصدر منسبك من (أن) المقدرة بعد اللام ومن الفعل المنصوب بها فذلك المصدر هو العلة الباعثة على صدور ذلك الفعل من فاعله. وقد استعملت في الآية استعمالا واردا على طريقة الاستعارة دون الحقيقة لظهور أنهم لم يكن داعيهم إلى التقاطه أن يكون لهم عدوّا وحزنا ولكنهم التقطوه رأفة به وحبا له لما ألقي في نفوسهم من شفقة عليه ولكن لما كانت عاقبة التقاطهم إياه أن كان لهم عدوّا في الله وموجب حزن لهم ، شبهت العاقبة بالعلة في كونها نتيجة للفعل كشأن العلة غالبا فاستعير لترتب العاقبة المشبهة الحرف الذي يدل على ترتيب العلة تبعا لاستعارة معنى الحرف إلى معنى آخر استعارة تبعية ، أي استعير الحرف تبعا لاستعارة معناه لأن الحروف بمعزل عن الاستعارة لأن الحرف لا يقع موصوفا ، فالاستعارة تكون في معناه ثم تسري من المعنى إلى الحرف فلذلك سميت استعارة تبعية عند جمهور علماء المعاني خلافا للسكاكي.

وضمير (لَهُمْ) يعود إلى آل فرعون باعتبار الوصف العنواني لأن موسى كان عدوا لفرعون آخر بعد هذا ، أي ليكون لدولتهم وأمتهم عدوا وحزنا فقد كانت بعثة موسى في مدة ابن فرعون هذا.

ووصفه بالحزن وهو مصدر على تقدير متعلق محذوف ، أي حزنا لهم لدلالة قوله لهم السابق. وليس هذا من الوصف بالمصدر للمبالغة مثل قولك : فلان عدل ، لأن ذلك إذا كان المصدر واقعا موقع اسم الفاعل فكان معنى المصدر قائما بالموصوف. والمعنى هنا : ليكون لهم حزنا. والإسناد مجاز عقلي لأنه سبب الحزن وليس هو حزنا.

وقرأ الجمهور (وَحَزَناً) بفتح الحاء والزاي. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بضم الحاء وسكون الزاي وهما لغتان كالعدم والعدم.

وجملة (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ) إلى آخرها في موضع العلة لجملة (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) أي قدّر الله نجاة موسى ليكون لهم عدوّا وحزنا ، لأنهم كانوا مجرمين فجعل الله ذلك عقابا لهم على ظلمهم بني إسرائيل وعلى عبادة الأصنام.

١٨

والخاطئ : اسم فاعل من خطئ كفرح إذا فعل الخطيئة وهي الإثم والذنب ، قال تعالى (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) [العلق : ١٦]. ومصدره الخطء بكسر الخاء وسكون الطاء. وتقدم في قوله تعالى (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) في الإسراء [٣١]. وأما الخطأ وهو ضد العمد ففعله أخطأ فهو مخطئ ، قال تعالى (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) [الأحزاب : ٥] ، فعلى هذا يتعين أن الفصحاء فرقوا الاستعمال بين مرتكب الخطيئة ومرتكب الخطأ ، وعلى التفرقة بين أخطأ وخطئ درج نفطويه وتبعه الجوهري والحريري.

وذهب أبو عبيد وابن قتيبة إلى أن اللفظين مترادفان وأنهما لغتان ، وظاهر كلام الزمخشري هنا أنه جار على قول أبي عبيد وابن قتيبة فقد فسر هذه الآية بالمعنيين وقال في «الأساس» : «أخطأ في الرأي وخطئ إذا تعمد الذنب. وقيل : هما واحد».

ويظهر أن أصلهما لغتان في معنى مخالفة الصواب عن غير عمد أو عن عمد ، ثم غلب الاستعمال الفصيح على تخصيص أخطأ بفعل على غير عمد وخطئ بالإجرام والذنب وهذا الذي استقر عليه استعمال اللغة. وإن الفروق بين الألفاظ من أحسن تهذيب اللغة.

فأما محمل الآية هنا فلا يناسبه إلا أن يكون (خاطِئِينَ) من الخطيئة ليكون الكلام تعليلا لتكوين حزنهم منه بالأخرة. وتقدم ذكر هامان آنفا [القصص : ٦].

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩))

يدل الكلام على أن الذين انتشلوه جعلوه بين أيدي فرعون وامرأته فرقت له امرأة فرعون وصرفت فرعون عن قتله بعد أن هم به لأنه علم أن الطفل ليس من أبناء القبط بلون جلوته وملامح وجهه ، وعلم أنه لم يكن حمله النيل من مكان بعيد لظهوره أنه لم يطل مكث تابوته في الماء ولا اضطرابه بكثرة التنقل ، فعلم أن وقعه في التابوت لقصد إنجائه من الذبح. وكان ذلك وقت انتشاله من الماء وإخراجه من التابوت. وكانت امرأة فرعون امرأة ملهمة للخير وقدّر الله نجاة موسى بسببها. وقد قال الله تعالى في شأنها (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم : ١١] ، وهي لم تر عداوة موسى لآل فرعون ولا

١٩

حزنت منه لأنها انقرضت قبل بعثة موسى.

و (امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) سميت آسية كما في الحديث المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم ابنة عمران وآسية امرأة فرعون» ويفيد قولها ذلك أن فرعون حين رآه استحسنه ثم خالجه الخوف من عاقبة أمره فلذلك أنذرته امرأته بقولها (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ).

وارتفع (قُرَّتُ عَيْنٍ) على أنه خبر لمبتدإ محذوف تقديره : هذا الطفل. وحذفه لأنه دل عليه حضوره بين أيديهم وهو على حذف مضاف ، أي هو سبب قرة عين لي ولك.

و (قرة العين) كناية عن السرور وهي كناية ناشئة عن ضدها وهو سخنة العين التي هي أثر البكاء اللازم للأسف والحزن ، فلما كني عن الحزن بسخنة العين في قولهم في الدعاء بالسوء : أسخن الله عينه. وقول الراجز :

أوه أديم عرضه وأسخن

بعينه بعد هجوع الأعين

أتبعوا ذلك بأن كنّوا عن السرور بضد هذه الكناية فقالوا : قرة عين ، وأقر الله عينه ، فحكى القرآن ما في لغة امرأة فرعون من دلالة على معنى المسرّة الحاصلة للنفس ببليغ ما كنّى به العرب عن ذلك وهو (قُرَّتُ عَيْنٍ) ، ومن لطائفه في الآية أن المسرة المعنية هي مسرة حاصلة من مرأى محاسن الطفل كما قال تعالى (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩].

ويجوز أن يكون قوله (قُرَّتُ عَيْنٍ) قسما كما يقال : أيمن الله. فإن العرب يقسمون بذلك ، أي أقسم بما تقرّ به عيني. وفي الحديث الصحيح : أن أبا بكر الصديق استضاف نفرا وتأخر عن وقت عشائهم ثم حضر ، وفيه قصة إلى أن قال الراوي : فجعلوا لا يأكلون لقمة إلا ربت من أسفلها أكثر منها. فقال أبو بكر لامرأته : يا أخت بني فراس ما هذا؟ فقالت : وقرّة عيني إنها الآن أكثر من قبل. فتكون امرأة فرعون أقسمت على فرعون بما فيه قرة عينها ، وقرة عينه أن لا يقتل موسى ، ويكون رفع (قُرَّتُ عَيْنٍ) على الابتداء وخبره محذوفا ، وهو حذف كثير في نص اليمين مثل : لعمرك. وابتدأت بنفسها في (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي) قبل ذكر فرعون إدلالا عليه لمكانتها عنده أرادت أن تبتدره بذلك حتى لا يصدر عنه الأمر بقتل الطفل.

وضمير الجمع في قولها (لا تَقْتُلُوهُ) يجوز أن يراد به فرعون نزّلته منزلة الجماعة

٢٠