تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

الخطاب فقد قال : ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل فكيف نعطي الدّنية في ديننا رواه أهل «الصحيح» فتكون مدة ما بين نزول المسلمين بالحديبية وتردد الرسل بينهم وبين قريش وما بين وقوع الصلح هي مدة نزول الآيات من قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) [البقرة : ١٩٠] إلى هنا.

واعلم أنه إذا كان الضمير في قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ) [البقرة : ٢١٠] راجعا إلى (مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ) [البقرة : ٢٠٤] أو (مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) [البقرة : ٢٠٧] كما سيأتي يكون قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) اعتراضا بين الجملة ذات المعاد والجملة ذات الضمير. فأما إذا فسر السلم بالإسلام أي دين الإسلام فإن الخطاب بيا أيها الذين آمنوا وأمر المؤمنين بالدخول في الإسلام يؤوّل بأنه أمر بزيادة التمكن منه والتغلغل فيه لأنه يقال دخل الإيمان في قلبه إذا استقر وتمكن ، قال تعالى: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤]. وقال النابغة :

أبى غفلتي أني إذا ما ذكرته

تحرّك داء في فؤادي داخل

وهذا هو الظاهر ، فيراد بالأمر في (ادخلوا) الدوام على ذلك وقيل أريد بالذين آمنوا الذين أظهروا الإيمان فتكون خطابا للمنافقين. فيؤوّل قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) بمعنى أظهروا الإيمان فيكون تهكما بهم على حد قوله : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] فيكون خطابا للمنافقين وهذا تأويل بعيد لأن الذين آمنوا صار كاللقب لمن اتبع الدين اتباعا حقا ، ولأن الظاهر على هذا أن يثبت للمنافقين وصف الإسلام ويطلب منهم الإيمان دون العكس ، بدليل قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤].

وقيل المراد بالذين آمنوا : الذين آمنوا من اليهود كعبد الله بن سلام فيؤوّل (ادْخُلُوا) بمعنى شدة التلبس أي بترك ما لم يجيء به الدين ، لأنهم استمروا على تحريم السبت وترك شرب ألبان الإبل وبعض ما اعتادوه من أحوالهم أيام تهودهم إذا صح ما رواه أهل «أسباب النزول» أن طائفة من مؤمني اليهود فعلوا ذلك.

ويجوز أن يكون المراد من السلم هنا المعنى الحقيقي ويراد السلم بين المسلمين يأمرهم الله تعالى بعد أن اتصفوا بالإيمان بألا يكون بعضهم حربا لبعض كما كانوا عليه في الجاهلية ، وبتناسي ما كان بين قبائلهم من العداوات ، ومناسبة ذكر هذا عقب ما تقدم أنهم لما أمروا بذكر الله كذكرهم آباءهم وكانوا يذكرون في موسم الحج تراتهم ويفخرون

٢٦١

فخرا قد يفضي إلى الحمية ، أمروا عقب ذلك بالدخول في السّلم ولذلك قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة حجة الوداع «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض» فتكون الآية تكملة للأحكام المتعلقة بإصلاح أحوال العرب التي كانوا عليها في الجاهلية ، وبها تكون الآية أصلا في كون السلم أصلا للإسلام وهو رفع التهارج كما قال الشاطبي أي التقاتل وما يفضي إليه ، وإما أن يكون المراد من السّلم هنا السلم مع الله تعالى مع معنى المجاز ، أي ادخلوا في مسالمة الله تعالى باتباع أوامره واجتناب منهياته كما أطلق الحرب على المعصية مجازا في قوله تعالى : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة : ٢٧٩] وفي الحديث القدسي الذي رواه الترمذي «من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب».

و (كافة) اسم يفيد الإحاطة بأجزاء ما وصف به ، وهو في صورة صوغه كصوغ اسم الفاعلة من كفّ ولكن ذلك مصادفة في صيغة الوضع ، وليس فيها معنى الكف ولا حاجة إلى تكلف بيان المناسبة بين صورة لفظها وبني معناها المقصود في الكلام لقلة جدوى ذلك ، وتفيد مفاد ألفاظ التوكيد الدالة على الشمول والإحاطة.

والتاء المقترنة بها ملازمة لها في جميع الأحوال كيفما كان المؤكد بها مؤنثا كان أو مذكرا مفردا أو جمعا ، نحو (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ، وأكثر ما يستعمل (افة) في الكلام أنه حال من اسم قبله كما هنا فقوله : «كافة» حال من ضمير (ادْخُلُوا) أي حالة كونكم جميعا لا يستثنى منكم أحد ، وقال ابن هشام في «مغني اللبيب» عند الكلام على الجهة الخامسة من الباب الخامس في ذكر الحال من الفاعل ومن المفعول أن (كافة) إذا استعملت في معنى الجملة والإحاطة لا تكون إلّا حالا مما جرت عليه ، ولا تكون إلّا نكرة ولا يكون موصوفها إلّا مما يعقل ، ولكن الزجاج والزمخشري جوّزا جعل كافة حالا من السلم والسلم مؤنث ، وفي «الحواشي الهندية على المغني للدماميني» أنه وقع كافة اسما لغير العاقل وغير حال بل مضافا في كتاب عمر بن الخطاب لآل كاكلة «قد جعلت لآل كاكلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهبا إبريزا في كل عام».

واعلم أن تحجير ما لم يستعمله العرب إذا سوغته القواعد تضييق في اللغة وإنما يكون اتباع العرب في استعمالهم أدخل في الفصاحة لا موجبا للوقوف عنده دون تعدية فإذا ورد في القرآن فقد نهض.

وقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) ، تحذير مما يصدهم عن الدخول في السلم

٢٦٢

المأمور به بطريق النهي ، عن خلاف المأمور به ، وفائدته التنبيه على أن ما يصدر عن الدخول في السلم هو من مسالك الشيطان المعروف بأنه لا يشير بالخير ، فهذا النهي إما أخص من المأمور به مع بيان علة الأمر إن كان المراد بالسلم غير شعب الإسلام مثل أن يكون إشارة إلى ما خامر نفوس جمهورهم من كراهية إعطاء الدنية للمشركين بصلح الحديبية كما قال عمر «ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فلم نعطي الدّنيّة في ديننا» وكما قال سهل بن حنيف يوم صفين «أيها الناس اتّهموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله فعله لفعلنا والله ورسوله أعلم» بإعلامهم أن ما فعله رسول الله لا يكون إلّا خيرا ، كما قال أبو بكر لعمر إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا تنبيها لهم على أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو من وساوس الشيطان ، وإما لمجرد بيان علة الأمر بالدخول في السّلم إن كان المراد بالسلم شعب الإسلام ، والكلام على معنى لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ، وما فيه من الاستعارة تقدم عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) [البقرة : ١٦٨] الآية.

وقوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) تفريع على النهي أي فإن اتبعتم خطوات الشيطان فزللتم أو فإن زللتم فاتبعتم خطوات الشيطان وأراد بالزلل المخالفة للنهي.

وأصل الزلل الزلق أي اضطراب القدم وتحركها في الموضع المقصود إثباتها به ، واستعمل الزلل هنا مجازا في الضّر الناشئ عن اتباع الشيطان من بناء التمثيل على التمثيل ؛ لأنه لما شبهت هيئة من يعمل بوسوسة الشيطان بهيئة الماشي على أثر غيره شبه ما يعتريه من الضر في ذلك المشي بزلل الرجل في المشي في الطريق المزلقة ، وقد استفيد من ذلك أن ما يأمر به الشيطان هو أيضا بمنزلة الطريق المزلقة على طريق المكنية وقوله : (زَلَلْتُمْ) تخييل وهو تمثيلية فهو من التخييل الذي كان مجازا والمجاز هنا في مركبه.

والبينات : الأدلة والمعجزات ومجيئها ظهورها وبيانها ، لأن المجيء ظهور شخص الجائي بعد غيبته.

وجيء في الشرط بإن لندرة حصول هذا الزلل من الذين آمنوا أو لعدم رغبة المتكلم في حصوله إن كان الخطاب لمن آمن بظاهره دون قلبه. وفيه إشارة إلى أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو زلة عظيمة. وقوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) جواب الشرط ، و (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، مفعول (فَاعْلَمُوا) ، والمقصود علم لازمه وهو العقاب.

٢٦٣

والعزيز فعيل من عز إذا قوي ولم يغلب ، وأصله من العزة وقد مر الكلام عليه عند قوله (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) [البقرة : ٢٠٦] وهو ضد ، فكان العلم بأنه تعالى عزيز مستلزما تحققهم أنه معاقبهم لا يفلتهم ، لأن العزيز لا ينجو من يناوئه.

والحكيم يجوز أن يكون اسم فاعل من حكم أي قوي الحكم ، ويحتمل أنه المحكم للأمور فهو من مجيء فعيل بمعنى مفعل ، ومناسبته هنا أن المتقن للأمور لا يفلت مستحق العقوبة ، فالكلام وعيد وإلّا فإن الناس كلهم يعلمون أن الله عزيز حكيم.

ولك أن تجعل قوله : (فَاعْلَمُوا) تنزيلا لعلمهم منزلة العدم لعدم جريهم على ما يقتضيه من المبادرة إلى الدخول في الدين أو لمخالفة أحكام الدين أو من الامتعاض بالصلح الذي عقده الرسول.

وإنما قال تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) إعذار لهم ، وفيه إشارة إلى أنهم يجب عليهم تفويض العلم إلى الله الذي أوحى إلى رسوله بإبرام الصلح مع المشركين ، لأنه ما أوحاه الله إلّا لمصلحة وليس ذلك بوهن للمسلمين ، لأن الله عزيز لا يهن لأحد ، ولأنه حكيم يضع الأمور في مواضعها ، ويختار للمسلمين ما فيه نصر دينه وقد رأيتم البينات الدالة على عناية الله برسوله وأنه لا يخزيه ولا يضيع أمره ومن تلك البينات ما شاهدوه من النصر يوم بدر.

وإن كان المراد الدخول في الإسلام أو الدوام عليه فالمعنيّ : ب (فإن زللتم) : الاتصاف بما ينافي الأمر بالدخول في السّلم ، والمراد بالبينات المعجزات الدالة على صدق الرسول ، نقل الفخر عن «تفسير القاضي عبد الجبار» دلت الآية على أن المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلّا بعد البيان وأن المؤاخذة تكون بعد حصول البينات لا بعد حصول اليقين من المكلف ، لأنه غير معذور في عدم حصول اليقين إن كانت الأدلة كافية.

وفي «الكشاف» روي أن قارئا قرأ هذه الآية فإن الله غفور رحيم فسمعه أعرابي فأنكره وقال لا يقول الحكيم كذا لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه ا ه وفي القرطبي عن «تفسير النقاش» نسبة مثل هذه القصة إلى كعب الأحبار ، وذكر الطيبي عن الأصمعي قال كنت أقرأ : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم ، ويجنبي أعرابي فقال كلام من هذا؟ قلت كلام الله ، قال : ليس هذا كلام الله فانتبهت فقرأت (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [المائدة : ٣٨] فقال أصبت هذا كلام الله فقلت

٢٦٤

أتقرأ القرآن؟ قال لا قلت من أين علمت؟ قال يا هذا عزّ فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠))

إن كان الإضمار جاريا على مقتضى الظاهر فضمير (يَنْظُرُونَ) راجع إلى معاد مذكور قبله ، وهو إما (مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [البقرة : ٢٠٤] ، وإما إلى (مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة : ٢٠٧] ، أو إلى كليهما لأن الفريقين ينتظرون يوم الجزاء ، فأحد الفريقين ينتظره شكا في الوعيد بالعذاب ، والفريق الآخر ينتظره انتظار الراجي للثواب. ونظيره قوله : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [يونس : ١٠٢] فانتظارهم أيام الذين خلوا انتظار توقع سوء انتظار النبي معهم انتظار تصديق وعيده.

وإن كان الإضمار جاريا على خلاف مقتضى الظاهر فهو راجع إلى المخاطبين بقوله (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) [البقرة : ٢٠٨] وما بعده ، أو إلى الذين زلوا المستفاد من قوله : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) [البقرة : ٢٠٩] ، وهو حينئذ التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إما لمجرد تجديد نشاط السامع إن كان راجعا إلى المخاطبين بقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٢٠٨] ، وإما لزيادة نكتة إبعاد المخاطبين بقوله (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) عن عز الحضور ، قال القرطبي (هَلْ يَنْظُرُونَ) يعني التاركين الدخول في السلم ، وقال الفخر الضمير لليهود بناء على أنهم المراد من قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) أي يا أيها الذين آمنوا بالله وبعض رسله وكتبه على أحد الوجوه المتقدمة وعلى أن السلم أريد به الإسلام ، ونكتة الالتفات على هذا القول هي هي.

فإن كان الضمير لمن يعجبك أو له ولمن يشري نفسه ، فالجملة استئناف بياني ، لأن هاتين الحالتين العجيبتين في الخير والشر تثيران سؤال من يسأل عن جزاء كلا الفريقين فيكون قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) جوابا لذلك ، وإن كان الضمير راجعا إلى (الَّذِينَ آمَنُوا) فجملة (هَلْ يَنْظُرُونَ) استئناف للتحريض على الدخول في الإسلام خشية يوم الجزاء أو طمعا في ثوابه وإن كان الضمير للذين زلوا من قوله : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) [البقرة : ٢٠٩] فالجملة بدل اشتمال من مضمون جملة (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٠٩] لأن معناه

٢٦٥

فإن زللتم فالله لا يفلتكم لأنه عزيز حكيم ، وعدم الإفلات يشتمل على إتيان أمر الله والملائكة ، وإن كان الضمير عائدا إلى اليهود فهو توبيخ لهم على مكابرتهم عن الاعتراف بحقية الإسلام. وعلى كل الاحتمالات التي لا تتنافى فقد جاء نظم قوله (هَلْ يَنْظُرُونَ) بضمير الجمع نظما جامعا للمحامل كلها مما هو أثر من آثار إعجاز هذا الكلام المجيد الدال على علم الله تعالى بكل شيء.

وحرف (هل) مفيد الاستفهام ومفيد التحقيق ويظهر أنه موضوع للاستفهام عن أمر يراد تحقيقه ، فلذلك قال أئمة المعاني إن هل لطلب تحصيل نسبة حكمية تحصل في علم المستفهم وقال الزمخشري في «الكشاف» : إن أصل هل أنها مرادفة قد في الاستفهام خاصة ، يعني قد التي للتحقيق وإنما اكتسبت إفادة الاستفهام من تقدير همزة الاستفهام معها كما دل عليه ظهور الهمزة في قول زيد الخيل :

سائل فوارس بربوع بشدّتنا

أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم

وقال في «المفصل» : وعن سيبويه أن هل بمعنى قد إلّا أنهم تركوا الألف قبلها ؛ لأنها لا تقع إلّا في الاستفهام ا ه. يعني أن همزة الاستفهام التزم حذفها للاستغناء عنها بملازمة هل للوقوع في الاستفهام ، إذ لم يقل أحد أن هل ترد بمعنى قد مجردة عن الاستفهام فإن مواردها في كلام العرب وبالقرآن يبطل ذلك ونسب ذلك إلى الكسائي والفراء والمبرد في قوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) [الإنسان : ١] ولعلهم أرادوا تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ولا نعرف في كلام العرب اقتران هل بحرف الاستفهام إلّا في هذا البيت ولا ينهض احتجاجهم به لإمكان تخريجه على أنه جمع بين حرفي استفهام على وجه التأكيد كما يؤكد الحرف في بعض الكلام كقول مسلم بن معبد الوالبيّ :

فلا والله لا يلقى لما بي

ولا للما بهم أبدا دواء

فجمع بين لامي جر ، وأيّا ما كان فإن هل تمحضت لإفادة الاستفهام في جميع مواقعها ، وسيأتي هذا في تفسير قوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) في سورة الإنسان.

والاستفهام إنكاري لا محالة بدليل الاستثناء ، فالكلام خبر في صورة الاستفهام. والنظر : الانتظار والترقب يقال نظره بمعنى ترقبه ، لأن الذي يترقب أحدا يوجه نظره إلى صوبه ليرى شبحه عند ما يبدو ، وليس المراد هنا نفي النظر البصري أي لا ينظرون

٢٦٦

بأبصارهم في الآخرة إلّا إتيان أمر الله والملائكة ، لأن الواقع أن الأبصار تنظر غير ذلك ، إلّا أن يراد أن رؤيتهم غير ذلك كالعدم لشدة هول إتيان أمر الله ، فيكون قصرا ادعائيا ، أو تسلب أبصارهم من النظر لغير ذلك.

وهذا المركب ليس مستعملا فيما وضع له من الإنكار بل مستعملا إما في التهديد والوعيد وهو الظاهر الجاري على غالب الوجوه المتقدمة في الضمير ، وإما في الوعد إن كان الضمير لمن يشري نفسه ، وإما في القدر المشترك وهو العدة بظهور الجزاء إن كان الضمير راجعا للفريقين ، وإما في التهكم إن كان المقصود من الضمير المنافقين اليهود أو المشركين ، فأما اليهود فإنهم كانوا يقولون لموسى (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥]. ويجوز على هذا أن يكون خبرا عن اليهود : أي إنهم لا يؤمنون ويدخلون في السلم حتى يروا الله تعالى في ظلل من الغمام على نحو قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) [البقرة : ١٤٥].

وأما المشركون فإنهم قد حكى الله عنهم : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٠ ، ٩٢] ، وسيجيء القول مشبعا في موقع هذا التركيب ومعناه عند الكلام على قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) في سورة البقرة.

و (الظلل) بضم ففتح اسم جمع ظلة ، والظلة تطلق على معان والذي تلخص لي من حقيقتها في اللغة أنها اسم لشبه صفّة مرتفعة في الهواء تتصل بجدار أو ترتكز على أعمدة يجلس تحتها لتوقي شعاع الشمس ، فهي مشتقة من اسم الظّل جعلت على وزن فعلة بمعنى مفعولة أو مفعول بها مثل القبضة بضم القاف لما يقبض باليد.

والغرفة بضم الغين لما يغترف باليد كقوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) [البقرة : ٢٤٩] في قراءة بعض العشرة بضم الغين.

وهي هنا مستعارة أو مشبه بها تشبيها بليغا : السحابات العظيمة التي تشبه كل سحابة منها ظلة القصر.

و (مِنَ الْغَمامِ) بيان للمشبه وهو قرينة الاستعارة ونظيره قوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦].

والإتيان حضور الذات في موضع من موضع آخر سبق حصولها فيه وأسند الإتيان

٢٦٧

إلى الله تعالى في هذه الآية على وجه الإثبات فاقتضى ظاهره اتصاف الله تعالى به ، ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالا في مكان بعد أن لم يكن به حتى يصح الإتيان وكان ذلك يستلزم التنقل الجسم والله منزه عنه ، تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي ، فإن كان الكلام خبرا أو تهكما فلا حاجة للتأويل ، لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلة وإن كان الكلام وعيدا من الله لزم التأويل ، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت ، فلا بد من تأويل هذا عندنا على أصل الأشعري في تأويل المتشابه ، وهذا التأويل إما في معنى الإتيان أو في إسناده إلى الله أو بتقدير محذوف من مضاف أو مفعول ، وإلى هذه الاحتمالات ترجع الوجوه التي ذكرها المفسرون :

الوجه الأول ذهب سلف الأمة قبل حدوث تشكيكات الملاحدة إلى إقرار الصفات المتشابهة دون تأويل فالإتيان ثابت لله تعالى ، لكن بلا كيف فهو من المتشابه كالاستواء والنزول والرؤية أي هو إتيان لا كإتيان الحوادث. فأما على طريقة الخلف من أئمة الأشعرية لدفع مطاعن الملاحدة فتجيء وجوه منها :

الوجه الثاني : أقول يجوز تأويل إتيان الله بأنه مجاز في التجلي والاعتناء إذا كان الضمير راجعا لمن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، أو بأنه مجاز في تعلق القدرة التنجيزي بإظهار الجزاء إن كان الضمير راجعا للفريقين ، أو هو مجاز في الاستئصال يقال أتاهم الملك إذا عاقبهم قاله القرطبي ، قلت وذلك في كل إتيان مضاف إلى منتقم أو عدو أو فاتح كما تقول : أتاهم السبع بمعنى أهلكهم وأتاهم الوباء ولذلك يقولون أتى عليه بمعنى أهلكه واستأصله ، فلما شاع ذلك شاع إطلاق الإتيان على لازمه وهو الإهلاك والاستئصال قال تعالى : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) [الحشر : ٢] وقال (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) [النحل : ٢٦] وليس قوله : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) بمناف لهذا المعنى ، لأن ظهور أمر الله وحدوث تعلق قدرته يكون محفوفا بذلك لتشعر به الملائكة وسيأتي بيان (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) قريبا.

الوجه الثالث : إسناد الإتيان إلى الله تعالى إسناد مجازي وإنما يأتيهم عذاب الله يوم القيامة أو في الدنيا وكونه (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) زيادة تنويه بذلك المظهر ووقعه لدى الناظرين.

الوجه الرابع : يأتيهم كلام الله الدالّ على الأمر ويكون ذلك الكلام مسموعا من قبل

٢٦٨

ظلل من الغمام تحفه الملائكة.

الوجه الخامس : أن هنالك مضافا مقدرا أي يأتيهم أمر الله أي قضاؤه بين الخلق أو يأتيهم بأس الله بدليل نظائره في القرآن أو يأتي أمر ربك وقوله : (فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً) [الأعراف : ٤] ولا يخفى أن الإتيان في هذا يتعين أن يكون مجازا في ظهور الأمر.

الوجه السادس : حذف مضاف تقديره ، آيات الله أو بيناته أي دلائل قدرته أو دلائل صدق رسله ويبعّده قوله : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) إلّا أن يرجع إلى الوجه الخامس أو إلى الوجه الثالث.

الوجه السابع : أن هنالك معمولا محذوفا دل عليه قوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٠٩] والتقدير أن يأتيهم الله بالعذاب أو ببأسه. والأحسن تقدير أمر عام يشمل الخير والشر لتكون الجملة وعدا ووعيدا.

وقد ذكرت في تفسير قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) في [سورة آل عمران : ٦] ما يتحصل منه أن ما يجري على اسمه تعالى من الصفات والأحكام وما يسند إليه من الأفعال في الكتاب والسنة أربعة أقسام : قسم اتصف الله به على الحقيقة كالوجود والحياة لكن بما يخالف المتعارف فينا ، وقسم اتصف الله بلازم مدلوله وشاع ذلك حتى صار المتبادر من المعنى المناسب دون الملزومات مثل الرحمة والغضب والرضا والمحبة ، وقسم هو متشابه وتأويله ظاهر ، وقسم متشابه شديد التشابه.

وقوله تعالى : (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) أشد إشكالا من إسناد الإتيان إلى الله تعالى لاقتضائه الظرفية ، وهي مستحيلة على الله تعالى ، وتأويله إما بأن (في) بمعنى الباء أي (يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) وهي ظلل تحمل العذاب من الصواعق أو الريح العاصفة أو نحو ذلك إن كان العذاب دنيويا ، أو في ظلل من الغمام تشتمل على ما يدل على أمر الله تعالى أو عذابه (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) [الطور : ٤٤] وكان رسول الله إذا رأى السحاب رئي في وجهه الخوف من أن يكون فيه عذاب ، أو على كلامه تعالى ، أو الحاجبة لأنوار يجعلها الله علامة للناس يوم القيامة على ابتداء فصل الحساب يدرك دلالتها أهل الموقف وبالانكشاف الوجداني ، وفي «تفسير القرطبي والفخر» قيل : إن في الآية تقديما وتأخيرا ، وأصل الكلام أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام ، فالغمام ظرف لإتيان الملائكة ، وروي أن ابن مسعود قرأها كذلك ، وهذه الوجوه كلها مبنية

٢٦٩

على أن هذا إخبار بأمر مستقبل ، فأما على جعل ضمير (يَنْظُرُونَ) مقصودا به المنافقون من المشركين أو اليهود بأن يكون الكلام تهكما أي ما ذا ينتظرون في التباطؤ عن الدخول في الإسلام ، ما ينتظرون إلّا أن يأتيهم الله في أحوال اعتقدوها فيكلمهم ليدخلوا في الدين ، فإنهم قالوا لموسى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] واعتقدوا أن الله في الغمام ، أو يكون المراد تعريضا بالمشركين ، وبعض التأويلات تقدمت مع تأويل الإتيان.

وقرأه الجمهور «والملائكة» بالرفع عطفا على اسم الجلالة ، وإسناد الإتيان إلى الملائكة لأنهم الذين يأتون بأمر الله أو عذابه وهم الموكل إليهم تنفيذ قضائه ، فإسناد الإتيان إليهم حقيقة فإن كان الإتيان المسند إلى الله تعالى مستعملا في معنى مجازي فهو مستعمل بالنسبة للملائكة في معناه الحقيقي فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وإن كان إسناد الإتيان إلى الله تعالى مجازا في الإسناد فإسناده إلى الملائكة بطريق العطف حقيقة في الإسناد ولا مانع من ذلك ؛ لأن المجاز الإسنادي عبارة عن قصد المتكلم مع القرينة ، قال حميد بن ثور يمدح عبد الملك :

أتاك بي الله الذي نوّر الهدى

ونور وإسلام عليك دليل

فأسند الإتيان به إلى الله وهو إسناد حقيقي ثم أسنده بالعطف للنور والإسلام ، وإسناد الإتيان به إليهما مجازي لأنهما سبب الإتيان به ألا ترى أنه قال «عليك دليل».

وقرأ أبو جعفر «والملائكة» بجر (الملائكة) عطف على (ظلل).

وقوله : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) إما عطف على جملة (هَلْ يَنْظُرُونَ) إن كانت خبرا عن المخبر عنهم والفعل الماضي هنا مراد منه المستقبل ، ولكنه أتى فيه بالماضي تنبيها على تحقيق وقوعه أو قرب وقوعه ، والمعنى ما ينتظرون إلّا أن يأتيهم الله وسوف يقضى الأمر ، وإما عطف على جملة (يَنْظُرُونَ) إن كانت جملة (هَلْ يَنْظُرُونَ) وعيدا أو وعدا والفعل كذلك للاستقبال ، والمعنى ما يترقبون إلّا مجيء أمر الله وقضاء الأمر.

وإما جملة حالية والماضي على أصله وحذفت قد ، سواء كانت جملة (هَلْ يَنْظُرُونَ) خبرا أو وعدا ووعيدا أي وحينئذ قد قضي الأمر ، وإما تنبيه على أنهم إذا كانوا ينتظرون لتصديق محمد أن يأتيهم الله والملائكة فإن ذلك إن وقع يكون قد قضي الأمر أي حق عليهم الهلاك كقوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا

٢٧٠

يُنْظَرُونَ) [الأنعام : ٨].

والقضاء : الفراغ والإتمام.

والتعريف في (الأمر) إما للجنس مرادا منه الاستغراق أي قضيت الأمور كلها ، وإما للعهد أي أمر هؤلاء أي عقابهم أو الأمر المعهود للناس كلهم وهو الجزاء.

وقوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) تذييل جامع لمعنى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) والرجوع في الأصل : المآب إلى الموضع الذي خرج منه الراجع ، ويستعمل مجازا في نهاية الشيء وغايته وظهور أثره ، فمنه (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى : ٥٣].

ويجيء فعل رجع متعديا ، تقول رجعت زيدا إلى بلده ومصدره الرّجع ، ويستعمل رجع قاصرا تقول : رجع زيد إلى بلده ومصدره الرجوع.

وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر ويعقوب (ترجع) بضم التاء وفتح الجيم على أنه مضارع أرجعه أو مضارع رجعه مبنيا للمفعول أي يرجع الأمور راجعها إلى الله ، وحذف الفاعل على هذا العدم تعين فاعل عرفي لهذا الرجع ، أو حذف لدفع ما يبدو من التنافي بين كون اسم الجلالة فاعلا للرجوع ومفعولا له بحرف إلى ، وقرأه باقي العشرة بالبناء للفاعل من رجع الذي مصدره الرجوع فالأمور فاعل ترجع.

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١))

تتنزل هاته الآية من التي قبلها منزلة البرهان على معنى الجملة السابقة ، فإن قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ) [البقرة : ٢١٠] سواء كان خبرا أو وعيدا أو وعدا أم تهكما ، وأيّا ما كان معاد الضمير فيه على الأوجه السابقة قد دل بكل احتمال على تعريض بفرق ذوي غرور وتماد في الكفر وقلة انتفاع بالآيات البينات ، فناسب أن يعقب ذلك بإلفاتهم إلى ما بلغهم من قلة انتفاع بني إسرائيل بما أوتوه من آيات الاهتداء مع قلة غناء الآيات لديهم على كثرتها ، فإنهم عاندوا رسولهم ثم آمنوا به إيمانا ضعيفا ثم بدلوا الدين بعد ذلك تبديلا.

وعلى احتمال أن يكون الضمير في (يَنْظُرُونَ) [البقرة : ٢١٠] لأهل الكتاب : أي بني إسرائيل فالعدول عن الإضمار هنا إلى الإظهار بقوله : (بَنِي إِسْرائِيلَ) لزيادة النداء على فضيحة حالهم ويكون الاستدلال عليهم حينئذ أشد ، أي هم قد رأوا آيات كثيرة فكان

٢٧١

المناسب لهم أن يبادوا بالإيمان بالرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم أعلم الناس بأحوال الرسل ، وعلى كل فهذه الآية وما بعدها معترضات بين أغراض التشريع المتتابعة في هذه السورة.

و (سَلْ) أمر من سأل يسأل أصله اسأل فحذفت الهمزة تخفيفا بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها إلحاقا لها بنقل حركة حرف العلة لشبه الهمزة بحرف العلة فلما تحرك أول المضارع استغنى عن اجتلاب همزة الوصل ، وقيل : سل أمر من سأل الذي جعلت همزته ألفا مثل الأمر من خاف يخاف خف ، والعرب يكثرون من هذا التخفيف في سأل ماضيا وأمرا ؛ إلّا أن الأمر إذا وقع بعد الواو والفاء تركوا هذا التخفيف غالبا.

والمأمور بالسؤال هو الرسول ؛ لأنه الذي يترقب أن يجيبه بنو إسرائيل عن سؤاله ؛ إذ لا يعبئون بسؤال غيره ؛ لأن المراد بالسؤال سؤال التقرير للتقريع ، ولفظ السؤال يجيء لما تجيء له أدوات الاستفهام. والمقصود من التقرير إظهار إقرارهم لمخالفتهم لمقتضى الآيات فيجيء من هذا التقرير التقريع فليس المقصود تصريحهم بالإقرار ؛ بل مجرد كونهم لا يسعهم الإنكار.

والمراد ب (بني إسرائيل) الحاضرون من اليهود. والضمير في (آتَيْناهُمْ) لهم ، والمقصود إيتاء سلفهم ؛ لأن الخصال الثابتة لأسلاف القبائل والأمم ، يصح إثباتها للخلف لترتب الآثار للجميع كما هو شائع في مصطلح الأمم الماضية من العرب وغيرهم. ويجوز أن يكون معنى إيتائهم الآيات أنهم لما تناقلوا آيات رسلهم في كتبهم وأيقنوا بها فكأنهم أوتوها مباشرة.

و (كم) اسم للعدد المبهم فيكون للاستفهام ويكون للإخبار ، وإذا كانت للإخبار دلت على عدد كثير مبهم ؛ ولذلك تحتاج إلى مميز في الاستفهام وفي الإخبار ، وهي هنا استفهامية كما يدل عليه وقوعها في حيز السؤال ، فالمسئول عنه هو عدد الآيات.

وحق سأل أن يتعدى إلى مفعولين من باب كسا أي ليس أصل مفعوليه مبتدأ وخبرا ، وجملة (كَمْ آتَيْناهُمْ) لا تكون مفعوله الثاني ؛ إذ ليس الاستفهام مطلوبا بل هو عين الطلب ، ففعل (سَلْ) معلّق عن المفعول الثاني لأجل الاستفهام ، وجملة (كَمْ آتَيْناهُمْ) في موقع المفعول الثاني سادة مسده.

والتعليق يكثر في الكلام في أفعال العلم والظن إذا جاء بعد الأفعال استفهام أو نفي أو لام ابتداء أو لام قسم ، وألحق بأفعال العلم والظن ما قارب معناها من الأفعال ، قال

٢٧٢

في «التسهيل» «ويشاركهن فيه (أي في التعليق) مع الاستفهام ، نظر وتفكّر وأبصر وسأل» ، وذلك كقوله تعالى : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) [الذاريات : ١٢] ولما أخذ سأل هنا مفعوله الأول فقد علق عن المفعول الثاني ، فإن سبب التعليق هو أن مضمون الكلام الواقع بعد الحرف الموجب للتعليق ليس حالة من حالات المفعول الأول فلا يصلح لأن يكون مفعولا ثانيا للفعل الطالب مفعولين ، قال سيبويه «لأنه كلام قد عمل بعضه في بعض فلا يكون إلّا مبتدأ لا يعمل فيه شيء قبله» ا ه وذلك سبب لفظي مانع من تسلط العامل على معموله لفظا ، وإن كان لم يزل عاملا فيه معنى وتقديرا ، فكانت الجملة باقية في محل المعمول ، وأداة الاستفهام من بين بقية موجبات التعليق أقوى في إبعادها معنى ما بعدها عن العامل الذي يطلبه ، لأن الكلام معها استفهام ليس من الخبر في شيء ، إلّا أن ما تحدثه أداة الاستفهام من معنى الاستعلام هو معنى طارئ في الكلام غير مقصود بالذات بل هو قد ضعف بوقوعه بعد عامل خبري فصار الاستفهام صوريا ، فلذلك لم يبطل عمل العامل إلّا لفظا ، فقولك : علمت هل قام زيد قد دل علم على أن ما بعده محقق فصار الاستفهام صوريا وصار التعليق دليلا على ذلك ، ولو كان الاستفهام باقيا على أصله لما صح كون جملته معمولة للعامل المعلّق.

قال الرضي : «إن أداة الاستفهام بعد العلم ليست مفيدة لاستفهام المتكلم بها للزوم التناقض بين علمت وأزيد قائم بل هي لمجرد الاستفهام والمعنى علمت الذي يستفهم الناس عنه» ا ه ، فيجيء من كلامه أن قولك علمت أزيد قائم يقوله : من علم شيئا يجهله الناس أو يعتنون بعلمه ، بخلاف قولك علمت زيدا قائما ، وقد يكون الاستفهام الوارد بعد السؤال حكاية للفظ السؤال فتكون جملة الاستفهام بيانا لجملة السؤال قال صدر الأفاضل في قول الحريري «سألناه أنّى اهتديت إلينا» أي سألناه هذا السؤال ا ه. وهو يتأتى في هذه الآية.

ويجوز أن يضمن سل معنى القول ، أي فيكون مفعوله الثاني كلاما فقد أعطي سل مفعولين : أحدهما مناسب لمعنى لفظه والآخر مناسب لمعنى المضمّن.

وجوّز التفتازاني في «شرح الكشاف» أن جملة (كَمْ آتَيْناهُمْ) بيان للمقصود من السؤال ، أي سلهم جواب هذا السؤال ، قال السلكوتي في «حاشية المطول» : فتكون الجملة واقعة موقع المفعول ، أي ولا تعليق في الفعل.

وجوز صاحب «الكشاف» أن تكون (كم) خبرية ، أي فتكون ابتداء كلام وقد قطع

٢٧٣

فعل السؤال عن متعلّقه اختصارا لما دل عليه ما بعده ، أي سلهم عن حالهم في شكر نعمة الله ، فبذلك حصل التقريع. ويكون (كَمْ آتَيْناهُمْ) تدرجا في التقريع بقرينة (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) ، ولبعد كونها خبرية أنكره أبو حيان على صاحب «الكشاف» وقال إنه يفضي إلى اقتطاع الجملة التي فيها (كَمْ) عن جملة السؤال مع أن المقصود السؤال عن النعم.

و (مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) تمييز (كم) دخلت عليه من التي ينتصب تمييز كم الاستفهاميّة على معناها والتي يجر تمييز كم الخبرية بتقديرها ظهرت في بعض المواضع تصريحا بالمقدّر ، لأن كل حرف ينصب مضمرا يجوز ظهوره إلّا في مواضع مثل إضمار أن بعد حتى ، قال الرضي : إذا فصل بين كم الخبرية والاستفهامية وبين مميزهما بفعل متعد وجب جر التمييز بمن (أي ظاهرة) لئلا يلتبس التمييز بالمفعول نحو قوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الدخان : ٢٥] و (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) [القصص : ٥٨] ا ه أي لئلا يلتبس بمفعول ذلك الفعل الفاصل ، أو هو للتنبيه من أول الأمر على أنه تمييز لا مفعول إغاثة لفهم السامع وذلك من بلاغة العرب ، وعندي أن موجب ظهور من في حالة الفصل هو بعد المميّز عن المميّز لا غير ، وقيل : ظهور (من) واجب مع الفصل بالفعل المتعدي ، وجائز مع الفصل بغيره ، كما تقل عبد الحكيم عن اليمني والتفتازانيّ في «شرحي الكشاف».

وفي «الكافية» أن ظهور (من) في مميز (كم) الخبرية والاستفهامية جائز هكذا أطلقه ابن الحاجب ، لكن الرضي قال إنه لم يعثر على شاهد عليه في (كم) الاستفهامية إلّا مع الفصل بالفعل وأما في كم الخبرية فظهور (من) موجود بكثرة بدون الفصل ، والظاهر أن ابن الحاجب لم يعبأ بخصوص الأمثلة التي ذكرها الرضي ، وإنما اعتد بظهور (من) في المميز وهو الظاهر.

و (الآية) هنا المعجزة ودليل صدق الرسل ، أو الكلمات الدالة على مجيء محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنها آية لموسى ؛ إذ أخبر بها قبل قرون ، وآية لمحمد عليه الصلاة والسلام ، إذ كان التبشير به قبل وجوده بقرون ، ووصفها بالبينة على الاحتمالين مبالغة في الصفة من فعل بان أي ظهر ، فيكون الظهور ظهور العيان على الوجه الأول ، وظهور الدلالة على الوجه الثاني ، وفي هذا السؤال وصيغته حذف دل عليه قوله : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) تقديره فبدّلوها ولم يعملوا بها.

وقوله : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) تذييل لجملة (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ) إلخ ، أفاد أأن المقصود أولا من هذا الوعيد هم بنو إسرائيل المتحدث عنهم بقوله : (سَلْ بَنِي

٢٧٤

إِسْرائِيلَ) ، وأفاد أن بني إسرائيل قد بدّلوا نعمة الله تعالى فدل ذلك على أن الآيات التي أوتيها بنو إسرائيل هي نعم عليهم وإلّا لما كان لتذييل خبرهم بحكم من يبدّل نعم الله مناسبة وهذا مما يقصده البلغاء ، فيغني مثله في الكلام عن ذكر جمل كثيرة إيجازا بديعا من إيجاز الحذف وإيجاز القصر معا ؛ لأنه يفيد مفاد أن يقال كم آتيناهم من آية بينة هي نعمة عليهم فلم يقدروها حق قدرها ، فبدلوا نعمة الله بضدها بعد ظهورها فاستحقوا العقاب ، لأن من يبدّل نعمة الله فالله معاقبه ، ولأنه يفيد بهذا العموم حكما جامعا يشمل المقصودين وغيرهم ممن يشبههم ولذلك يكون ذكر مثل هذا الكلام الجامع بعد حكم جزئي تقدمه في الأصل تعريضا يشبه التصريح ، ونظيره أن يحدثك أحد بحديث فتقول فعل الله بالكاذبين كذا وكذا تريد أنه قد كذب فيما حدثك وإلّا لما كان لذلك الدعاء عند سماع ذلك الحديث موقع.

وإنما أثبت للآيات أنها نعم لأنها إن كانت دلائل صدق الرسول فكونها نعما لأن دلائل الصدق هي التي تهدي الناس إلى قبول دعوة الرسول عن بصيرة لمن لم يكن اتبعه ، وتزيد اللذين اتبعوه رسوخ إيمان قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [التوبة : ١٢٤] وبذلك التصديق يحصل تلقى الشرع الذي فيه صلاح الدنيا والآخرة وتلك نعمة عاجلة وآجلة ، وإن كانت الآيات الكلام الدال على البشارة بالرسول فهي نعمة عليهم ، لأنها قصد بها تنوير سبيل الهداية لهم عند بعثة الرسول لئلا يترددوا في صدقه بعد انطباق العلامات التي ائتمنوا على حفظها.

والتبديل على الوجه الأول تبديل الوصف بأن أعرضوا عن تلك الآيات فتبدل المقصود منها ، إذ صارت بالإعراض سبب شقاوتهم في الدنيا والآخرة ، لأنها لو لم تؤت لهم لكان خيرا لهم في الدنيا ؛ إذ يكونون على سذاجة هم بها أقرب إلى فعل الخير منهم بعد قصد المكابرة والإعراض ؛ لأنهما يزيدانهم تعمدا لارتكاب الشرور ، وفي الآخرة أيضا لأن العقاب على الكفر يتوقف على الدعوة وظهور المعجزة ، وقد أشبههم في هذا التبديل المشركون بإعراضهم عن القرآن والتدبر في هديه أو التبديل بأن استعملوا تلك الآيات في غير المراد منها بأن جعلوها أسباب غرور فإن الله ما آتى رسولهم تلك الآيات إلّا لتفضيل أمته فتوكئوا على ذلك وتهاونوا على الدين فقالوا (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠].

والتبديل جعل شيء بدلا عن آخر ، أي تعويضه به فيكون تعويض ذات بذات

٢٧٥

وتعويض وصف بوصف كقول أبي الشيص :

بدّلت من برد الشباب ملاءة

خلقا وبئس مثوبة المقتاض

فإنه أراد تبدل حالة الشباب بحالة الشيب ، وكقول النابغة :

عهدت بها حيّا كراما فبدّلت

حناظيل آجال النّعاج الجوافل

وليس قوله : (نِعْمَةَ اللهِ) من قبيل وضع الظاهر موضع الضمير بأن يكون الأصل ومن يبدلها أي الآيات فإن الله شديد العقاب لظهور أن في لفظ (نعمة الله) معنى جامعا للآيات وغيرها من النعم.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) المجيء فيه كناية عن الوضوح والمشاهدة والتمكن ، لأنها من لوازم المجيء عرفا.

وإنما جعل العقاب مترتبا على التبديل الواقع بعد هذا التمكن للدلالة على أنه تبديل عن بصيرة لا عن جهل أو غلط كقوله تعالى فيما تقدم : (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٥]. وحذف ما بدل به النعمة ليشمل جميع أحوال التبديل من كتم بعضها والإعراض عن بعض وسوء التأويل. والعقاب ناشئ عن تبديل تلك النعم في أوصافها أو في ذواتها ، ولا يكون تبديلها إلّا لقصد مخالفتها ، وإلّا لكان غير تبديل بل تأييدا وتأويلا ، بخلاف قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [إبراهيم : ٢٨] لأن تلك الآية لم يتقدم فيها ما يؤذن بأن النعمة ما هي ولا تؤذن بالمستبدل به هنالك فتعين التصريح بالمستبدل به ، والمبدلون في تلك الآية غير المراد من المبدلين في هذه ، لأن تلك في كفار قريش بدليل قوله بعدها : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [إبراهيم : ٣٠].

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) دليل جواب الشرط وهو علته ، لأن جعل هذا الحكم العام جوابا للشرط يعلم منه أن من ثبت له فعل الشرط يدخل في عموم هذا الجواب ، فكون الله شديد العقاب أمر محقق معلوم فذكره لم يقصد منه الفائدة لأنها معلومة بل التهديد ، فعلم أن المقصود تهديد المبدّل فدل على معنى : فالله يعاقبه ، لأن الله شديد العقاب ، ومعنى شدة عقابه : أنه لا يفلت الجاني وذلك لأنه القادر على العقاب ، وقد جوّز أن يكون فإن الله شديد العقاب نفس جواب الشرط بجعل أل في العقاب عوضا عن الضمير المضاف إليه أي شديد معاقبته.

وإظهار اسم الجلالة هنا مع أن مقتضى الظاهر أن يقال : فإنه شديد العقاب ، لإدخال

٢٧٦

الرّوع في ضمير السامع وتربية المهابة ، ولتكون هذه الجملة كالكلام الجامع مستقلا بنفسه ، لأنها بمنزلة المثل أمر قد علمه الناس من قبل ، والعقاب هو الجزاء المؤلم عن جناية وجرم ، سمي عقابا لأنه يعقب الجناية.

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢))

استئناف بالرجوع إلى أحوال كفار العرب المعنيين من الآيات السابقة قصدا وتعريضا من قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠] ، والمحتج عليهم بقوله : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٢١١] استئنافا لبيان خلقهم العجيب المفضي بهم إلى قلة الاكتراث بالإيمان وأهله إلى الاستمرار على الكفر وشعبه التي سبق الحديث عنها ، فعن ابن عباس المراد : رؤساء قريش ، فهذا الاستئناف في معنى التعليل للأحوال الماضية ، ولأجل ذلك قطع عن الجمل السابقة لا سيما وقد حال بينه وبينها الاستطراد بقوله : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٢١١] الآية ، وليس المراد بالذين كفروا أهل الكتاب من معلن ومنافق كما روي عن مقاتل ، لأنه ليس من اصطلاح القرآن التعبير عنهم بالذين كفروا ، ولأنهم لو كانوا هم المراد لقيل زين لهم الحياة الدنيا ، لأنهم من بني إسرائيل ، ولأن قوله : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يناسب حال المشركين لا حال أهل الكتاب كما سيأتي.

والتزيين : جعل الشيء زينا أو الاحتجاج لكونه زينا ، لأن التفعيل يأتي للجعل ويأتي للنسبة كالتعليم وكالتفسيق والتزكية ، والزّين شدة الحسن.

والحياة الدنيا مراد بها ما تشتمل عليه الحياة من اللّذّات والملائمات والذوات الحسنة ، وهذا إطلاق مشهور للحياة وما يرادفها ؛ ففي الحديث : «من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها» أي إلى منافع دنيا ، وهو على حذف مضاف اشتهر حذفه.

ومعنى تزيين الحياة لهم ، إما أن ما خلق زينا في الدنيا قد تمكّن من نفوسهم واشتد توغلهم في استحسانه ، لأن الأشياء الزّينة هي حسنة في أعين جميع الناس فلا يختص الذين كفروا بجعلها لهم زينة كما هو مقتضى قوله : (لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ؛ فإن اللام تشعر بالاختصاص ، وإما ترويج تزيينها في نفوسهم بدعوة شيطانية تحسّن ما ليس بالحسن كالأقيسة الشّعرية والخواطر الشهوية.

٢٧٧

والمزيّن على المعنى الأول هو الله تعالى إلّا أنهم أفرطوا في الإقبال على الزينة ، والمزيّن على المعنى الثاني هو الشيطان ودعاته.

وحذف فاعل التزيين لأن المزيّن لهم أمور كثيرة : منها خلق بعض الأشياء حسنة بديعة كمحاسن الذوات والمناظر ، ومنها إلقاء حسن بعض الأشياء في نفوسهم وهي غير حسنة كقتل النفس ، ومنها إعراضهم عمن يدعوهم إلى الإقبال على الأمور النافعة حتى انحصرت هممهم في التوغل من المحاسن الظاهرة التي تحتها العار لو كان باديا ، ومنها ارتياضهم على الانكباب على اللذات دون الفكر في المصالح ، إلى غير ذلك من أمور يصلح كل منها أن يعدّ فاعلا للتزيين حقيقة أو عرفا ، فلأجل ذلك طوي ذكر هذا الفاعل تجنبا للإطالة.

ويجوز أن يكون حذف الفاعل لدقته ، إذ المزيّن لهم الدنيا أمر خفي فيحتاج في تفصيله إلى شرح في أخلاقهم وهو ما اكتسبته نفوسهم من التعلق باللذات وبغيرها من كل ما حملهم على التعلق به التنافس أو التقليد حتى عموا عما في ذلك من الأضرار المخالطة للذّات أو من الأضرار المختصة المغشّاة بتحسين العادات الذميمة ، وحملهم على الدوام عليه ضعف العزائم الناشئ عن اعتياد الاسترسال في جلب الملائمات دون كبح لأزمة الشهوات ، ولأجل اختصاصهم بهذه الحالة دون المؤمنين ودون بعض أهل الكتاب الذين ربّت الأديان فيهم عزيمة مقاومة دعوة النفوس الذميمة بتعريفهم ما تشتمل عليه تلك اللذات من المذمات وبأمرهم بالإقلاع عن كل ما فيه ضر عاجل أو آجل حتى يجردوها عنها إن أرادوا تناولها وينبذوا ما هو ذميمة محضة ، وراضتهم على ذلك بالبشائر والزواجر حتى صارت لهم ملكة ، فلذلك لم تزين الدنيا لهم ، لأن زينتها عندهم ومعرضة للحكم عليها بالإثبات تارة وبالنفي أخرى ، فإن من عرف ما في الأمر الزين ظاهره من الإضرار والقبائح انقلب زينه عنده شينا ، خص التزيين بهم ، إذ المراد من قوله : (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ذمّهم والتحذير من خلقهم ، ولهذا لزم حمل التزيين على تزيين يعد ذما ، فلزم أن يكون المراد منه تزيينا مشوبا بما يجعل تلك الزينة مذمة ، وإلّا فإن أصل تزيين الحياة الدنيا المقتضي للرغبة فيما هو زين أمر ليس بمذموم إذا روعى فيه ما أوصى الله برعيه قال تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الأعراف : ٣٢].

وقد استقريت مواقع التزيين المذموم فحصرتها في ثلاثة أنواع : الأول ما ليس بزين أصلا لا ذاتا ولا صفة ، لأن جميعه ذم وأذى ولكنه زين للناس بأوهام وخواطر شيطانية

٢٧٨

وتخييلات شعرية كالخمر. الثاني ما هو زين حقيقة لكن له عواقب تجعله ضرا وأذى كالزنا. الثالث ما هو زين لكنه يحف به ما يصيره ذميما كنجدة الظالم وقد حضر لي التمثيل لثلاثتها بقول طرفة :

ولو لا ثلاث هنّ من عيشة الفتى

وجدّك لم أحفل متى قام عوّدي

فمنهن سبقي العاذلات بشربة

كميت متى ما تعل بالماء تزبد

وتقصير يوم الدّجن والدّجن معجب

ببهكنة تحت الخباء المعمّد ٢

وكرّي إذا نادى المضاف مجنّبا

كسيد الغضا نبّهته المتورّد

وقوله : (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على جملة (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) إلخ ، وهذه حالة أعجب من التي قبلها وهي حالة التناهي في الغرور ؛ إذ لم يقتصروا على افتتانهم بزهرة الحياة الدنيا حتى سخروا بمن لم ينسج على منوالهم من المؤمنين الذين تركوا كثيرا من زهرة الحياة الدنيا لما هداهم الدين إلى وجوب ترك ذلك في أحوال وأنواع تنطوي على خبائث.

والسخر بفتحتين : كالفرح وقد تسكن الخاء تخفيفا وفعله كفرح والسّخرية الاسم ، وهو تعجب مشوب باحتقار الحال المتعجب منها ، وفعله قاصر لدلالته على وصف نفسي مثل عجب ، ويتعدى بمن جارّة لصاحب الحال المتعجّب منها فهي ابتدائية ابتداء معنويا ، وفي لغة تعديته بالباء وهي ضعيفة.

ووجه سخريتهم بالمؤمنين أنهم احتقروا رأيهم في إعراضهم عن اللذات لامتثال أمر الرسول وأفنوهم في ذلك ورأوهم قد أضاعوا حظوظهم وراء أوهام باطلة ، لأن الكفار اعتقدوا أن ما مضى من حياتهم في غير نعمة قد ضاع عليهم إذ لا خلود في الدنيا ولا حياة بعدها كما قال الشاعر (أنشده شمر) :

وأحمق ممن يلعق الماء قال لي

دع الخمر واشرب من نقاخ (١) مبرّد

فالسخرية ناشئة عن تزيين الحياة عندهم ولذلك يصح جعل الواو للحال ليفيد تقييد حالة التزيين بحالة السخرية ، فتتلازم الحالان ويقدر للجملة مبتدأ ، أي وهم يسخرون ، وقد قيل إن من جملة من كان الكفار يسخرون منهم بلالا وعمارا وصهيبا يقولون : هؤلاء المساكين تركوا الدنيا وطيباتها وتحملوا المشاق لطلب ما يسمونه بالآخرة وهي شيء

__________________

(١) النقاخ : الماء العذب.

٢٧٩

باطل ، وممن كان يسخر بهم عبد الله بن أبيّ والمنافقون.

وجيء في فعل التزيين بصيغة الماضي وفي فعل السخرية بصيغة المضارع قضاء لحقي الدلالة على أن معنيين فعل التزيين أمر مستقر فيهم ؛ لأن الماضي يدل على التحقق ، وأن معنى (يَسْخَرُونَ) متكرر متجدد منهم ؛ لأن المضارع يفيد التجدد ويعلم السامع أن ما هو محقق بين الفعلين هو أيضا مستمر ؛ لأن الشيء الراسخ في النفس لا تفتر عن تكريره ، ويعلم أن ما كان مستمرا هو أيضا محقق ؛ لأن الفعل لا يستمر إلّا وقد تمكن من نفس فاعله وسكنت إليه ، فيكون المعنى في الآية : زيّن للذين كفروا وتزين الحياة الدنيا وسخروا ويسخرون من الذين آمنوا ، وعلى هذا فإنما اختير لفعل التزيين خصوص المضي ولفعل السخرية خصوص المضارعة إيثارا لكل من الصفتين بالفعل التي هي به أجدر ؛ لأن التزيين لما كان هو الأسبق في الوجود وهو منشأ السخرية أوثر بما يدل على التحقق ، ليدل على ملكة واعتمد في دلالته على الاستمرار بالاستتباع ، والسخرية لما كانت مترتبة على التزيين وكان تكررها يزيد في الذم ، إذ لا يليق بذي المروءة السخرية بغيره ، أوثرت بما يدل على الاستمرار واعتمد في دلالتها على التحقق دلالة الالتزام ، لأن الشيء المستمر لا يكون إلّا متحققا.

وقوله : (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ) أريد من الذين اتقوا المؤمنون الذين سخر منهم الذين كفروا ؛ لأن أولئك المؤمنين كانوا متقين ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال وهم فوقهم لكن عدل عن الإضمار إلى اسم ظاهر لدفع إيهام أن يغتر الكافرون بأن الضمير عائد إليهم ويضموا إليه كذبا وتلفيقا كما فعلوا حين سمعوا قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) [النجم : ١٩] إذ سجد المشركون وزعموا أن محمدا أثنى على آلهتهم. فعدل لذلك عن الإضمار إلى الإظهار ولكنه لم يكن بالاسم الذي سبق أعني (الذين آمنوا) لقصد التنبيه على مزية التقوى وكونها سببا عظيما في هذه الفوقية ، على عادة القرآن في انتهاز فرص الهدى والإرشاد ليفيد فضل المؤمنين على الذين كفروا ، وينبه المؤمنين على وجوب التقوى لتكون سبب تفوقهم على الذين كفروا يوم القيامة ، وأما المؤمنون غير المتقين فليس من غرض القرآن أن يعبأ بذكر حالهم ليكونوا دوما بين شدة الخوف وقليل الرجاء ، وهذه عادة القرآن في مثل هذا المقام.

والفوقية هنا فوقية تشريف وهي مجاز في تناهي الفضل والسيادة كما استعير التحت لحالة المفضول والمسخّر والمملوك. وقيدت بيوم القيامة تنصيصا على دوامها ، لأن ذلك

٢٨٠