تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١٠ ـ سورة يونس

سميت في المصاحف وفي كتب التفسير والسنة سورة يونس ؛ لأنها انفردت بذكر خصوصية لقوم يونس ، أنهم آمنوا بعد أن توعدهم رسولهم بنزول العذاب فعفا الله عنهم لما آمنوا. وذلك في قوله تعالى : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) [يونس : ٩٨]. وتلك الخصوصية كرامة ليونس عليه‌السلام وليس فيها ذكر ليونس غير ذلك. وقد ذكر يونس في سورة الصافات بأوسع مما في هذه السورة ولكن وجه التسمية لا يوجبها.

والأظهر عندي أنها أضيفت إلى يونس تمييزا لها عن أخواتها الأربع المفتتحة ب «الر». ولذلك أضيفت كل واحدة منها إلى نبيء أو قوم نبيء عوضا عن أن يقال : الر الأولى والر الثانية. وهكذا فإن اشتهار السور بأسمائها أول ما يشيع بين المسلمين بأولى الكلمات التي تقع فيها وخاصة إذا كانت فواتحها حروفا مقطعة فكانوا يدعون تلك السور بآل حم وآل الر ونحو ذلك.

وهي مكية في قول الجمهور. وهو المروي عن ابن عباس في الأصح عنه. وفي «الإتقان» عن عطاء عنه أنها مدنية. وفي «القرطبي» عن ابن عباس أن ثلاث آيات منها مدنية وهي قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) إلى قوله : (حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٤ ـ ٩٧] وجزم بذلك القمي النيسابوري. وفي «ابن عطية» عن مقاتل إلا آيتين مدنيتين هما : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) إلى قوله : (مِنَ الْخاسِرِينَ) [يونس: ٩٤ ـ ٩٥]. وفيه عن الكلبي أن آية واحدة نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى : وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) إلى (أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) [ويونس : ٤٠] نزلت في شأن اليهود.

وقال ابن عطية : قالت فرقة : نزل نحو من أربعين آية من أولها بمكة ونزل باقيها

٥

بالمدينة. ولم ينسبه إلى معيّن. وأحسب أن هذه الأقوال ناشئة عن ظن أن ما في القرآن من مجادلة مع أهل الكتاب لم ينزل إلا بالمدينة ، فإن كان كذلك فظن هؤلاء مخطئ. وسيأتي التنبيه عليه.

وعدد آيها مائة وتسع آيات في عد أكثر الأمصار ، ومائة وعشر في عد أهل الشام.

وهي السورة الحادية والخمسون في ترتيب نزول السور. نزلت بعد سورة بني إسرائيل وقبل سورة هود. وأحسب أنها نزلت سنة إحدى عشرة بعد البعثة لما سيأتي عند قوله تعالى : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) [يونس : ٢١].

أغراض السّورة

ابتدئت بمقصد إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدلالة عجز المشركين عن معارضة القرآن ، دلالة نبه عليها بأسلوب تعريضي دقيق بني على الكناية بتهجية الحروف المقطعة في أول السورة كما تقدم في مفتتح سورة البقرة ، ولذلك أتبعت تلك الحروف بقوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) [يونس : ١] إشارة إلى أن إعجازه لهم هو الدليل على أنه من عند الله. وقد جاء التصريح بما كني عنه هنا في قوله : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس : ٣٨].

وأتبع بإثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإبطال إحالة المشركين أن يرسل الله رسولا بشرا.

وانتقل من ذلك إلى إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية بدلالة أنه خالق العالم ومدبره ، فأفضى ذلك إلى إبطال أن يكون لله شركاء في إلهيته ، وإلى إبطال معاذير المشركين بأن أصنامهم شفعاء عند الله.

وأتبع ذلك بإثبات الحشر والجزاء. فذلك إبطال أصول الشرك.

وتخلل ذلك بذكر دلائل من المخلوقات ، وبيان حكمة الجزاء ، وصفة الجزاء ، وما في دلائل المخلوقات من حكم ومنافع للناس. ووعيد منكري البعث المعرضين عن آيات الله ، وبضد أولئك وعد الذين آمنوا.

فكان معظم هذه السورة يدور حول محور تقرير هذه الأصول.

فمن ذلك التنبيه على أن إمهال الله تعالى الكافرين دون تعجيل العذاب هو حكمة منه.

٦

ومن ذلك التذكير بما حل بأهل القرون الماضية لما أشركوا وكذبوا الرسل.

والاعتبار بما خلق الله للناس من مواهب القدرة على السير في البر والبحر ، وما في أحوال السير في البحر من الألطاف.

وضرب المثل للدنيا وبهجتها وزوالها ، وأن الآخرة هي دار السلام.

واختلاف أحوال المؤمنين والكافرين في الآخرة ، وتبرّؤ الآلهة الباطلة من عبدتها.

وإبطال إلهية غير الله تعالى ، بدليل أنها لا تغني عن الناس شيئا في الدنيا ولا في الآخرة.

وإثبات أن القرآن منزل من الله ، وأن الدلائل على بطلان أن يكون مفترى واضحة.

وتحدي المشركين بأن يأتوا بسورة مثله ، ولكن الضلالة أعمت أبصار المعاندين.

وإنذار المشركين بعواقب ما حل بالأمم التي كذبت بالرسل ، وأنهم إن حل بهم العذاب لا ينفعهم إيمانهم ، وأن ذلك لم يلحق قوم يونس لمصادفة مبادرتهم بالإيمان قبل حلول العذاب.

وتوبيخ المشركين على ما حرّموه مما أحل الله من الرزق.

وإثبات عموم العلم لله تعالى.

وتبشير أولياء الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

وتسلية الرسول عما يقوله الكافرون.

وأنه لو شاء الله لآمن من في الأرض كلهم.

ثم تخلص إلى الاعتبار بالرسل السابقين نوح ورسل من بعده ثم موسى وهارون.

ثم استشهد على صدق رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشهادة أهل الكتاب.

وختمت السورة بتلقين الرسول عليه الصلاة والسلام مما يعذر به لأهل الشك في دين الإسلام ، وأن اهتداء من اهتدى لنفسه وضلال من ضل عليها ، وأن الله سيحكم بينه وبين معانديه.

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١))

٧

(الر)

تقدم القول في الحروف الواقعة في فواتح بعض السور في أول سورة البقرة فهي بمنزلة الأعداد المسرودة ، لا محل لها من الإعراب ، ولا ينطق بها إلا على حال السكت ، وحال السكت يعامل معاملة الوقف ، فلذلك لا يمد اسم را في الآية ، وإن كان هو في اللغة بهمزة في آخره لأنه بالسكت تحذف الهمزة كما تحذف في الوقف لثقل السكوت على الهمزة في الوقف والسكت ، فبذلك تصير الكلمة على حرفين فلا تمد. ولذلك أجمع القراء على عدم مد الحروف : را. ها. يا. طا. حا. التي في أوائل السور وإن كانت تلك الأسماء ممدودة في استعمال اللغة.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ)

اسم الإشارة يجوز أن يكون مرادا به جميع آي القرآن التي نزلت قبل هذه السورة باعتبار حضور تلك الآيات في أذهان الناس من المؤمنين وغيرهم ، فكأنها منظورة مشاهدة ، فصحت الإشارة إليها إذ هي متلوة محفوظة فمن شاء أن يسمعها ويتدبرها أمكنه ذلك ولأن الخوض في شأنها هو حديث الناس في نواديهم وأسمارهم وشغلهم وجدالهم ، فكانت بحيث تتبادر إلى الأذهان عند ورود الإشارة إليها.

واسم الإشارة يفسر المقصود منه خبره وهو (آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) كما فسره في قوله تعالى : (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) [الروم : ٥٦] وقوله تعالى : (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) [الكهف : ٧٨]. قال في «الكشاف» : تصوّر فراقا بينهما سيقع قريبا فأشار إليه بهذا.

وقد تقدم شيء من هذا المعنى عند قوله تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) في سورة الأنعام [٨٨]. فالمقصود من الإشارة إما الحث على النظر في آيات القرآن ليتبين لهم أنه من عند الله ويعلموا صدق من جاءهم به. وإما إقناعهم من الآيات الدالة على صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بآيات الكتاب الحكيم فإنهم يسألون النبي آية على صدقه ، كما دل عليه قوله في هذه السورة [يونس : ١٥] (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) فقيل لهم (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ، أي ما هو آية واحدة بل آيات كثيرة ، فإن الإعجاز حاصل بكل سورة منه.

ولأنه اشتمل على الحقائق السامية والهدى إلى الحق والحكمة ؛ فرجل أمي ينشأ في أمة جاهلة يجيء بمثل هذا الهدى والحكمة لا يكون إلا موحى إليه بوحي إلهي ، كما دل

٨

عليه قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨].

وعليه فاسم الإشارة مبتدأ و (آياتُ) خبره. وإضافة (آياتُ) إلى (الْكِتابِ) إضافة شبيهة بالبيانية وإن كان الكتاب بمنزلة الظرف للآيات باختلاف الاعتبار ، وهو معنى الإضافة البيانية عند التحقيق.

ويجوز أن تجعل الإشارة ب (تِلْكَ) إلى حروف (الر) لأن المختار في الحروف المقطعة في فواتح السور أن المقصود من تعدادها التحدي بالإعجاز ، فهي بمنزلة التهجي للمتعلم. فيصح أن يجعل (الر) في محل ابتداء ويكون اسم الإشارة خبرا عنه. والمعنى تلك الحروف آيات الكتاب الحكيم ، أي من جنسها حروف الكتاب الحكيم ، أي جميع تراكيبه من جنس تلك الحروف.

والمقصود تسجيل عجزهم عن معارضته بأن آيات الكتاب الحكيم كلها من جنس حروف كلامهم فما لكم لا تستطيعون معارضتها بمثلها إن كنتم تكذّبون بأن الكتاب منزل من عند الله ، فلو لا أنه من عند الله لكان اختصاصه بهذا النظم المعجز دون كلامهم محالا إذ هو مركب من حروف كلامهم.

والكتاب : القرآن. فالتعريف فيه للعهد. ويجوز جعل التعريف دالا على معنى الكمال في الجنس ، كما تقول : أنت الرجل.

والحكيم : وصف إما بمعنى فاعل ، أي الحاكم على الكتب بتمييز صحيحها من محرفها ، مثل قوله : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨] ، وقوله : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة : ٢١٣].

وإما بمعنى مفعل بفتح العين ، أي محكم ، مثل عتيد ، بمعنى معد.

وإما بمعنى ذي الحكمة لاشتماله على الحكمة والحق والحقائق العالية ، إذ الحكمة هي إصابة الحق بالقول والعمل فوصف بوصف ذي الحكمة من الناس على سبيل التوسع الناشئ عن البليغ كقول الأعشى :

وغريبة تأتي الملوك حكيمة

قد قلتها ليقال من ذا قالها

وإما أن يكون وصف بوصف منزّله المتكلم به ، كما مشى عليه صاحب «الكشاف» عند قوله تعالى : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [يس : ١ ، ٣].

٩

واختيار وصف (الْحَكِيمِ) من بين أوصاف الكمال الثابتة للقرآن ؛ لأن لهذا الوصف مزيد اختصاص بمقام إظهار الإعجاز من جهة المعنى بعد إظهار الإعجاز من جهة اللفظ بقوله : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ، ولما اشتملت عليه السورة من براهين التوحيد وإبطال الشرك.

وإلى هذا المعنى يشير قوله بعد هذا : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [يونس ١٦].

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢))

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)

الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن جملة تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ)[يونس : ١] بما فيها من إبهام الداعي إلى التوقف على آيات الكتاب الحكيم تثير سؤالا عن ذلك الداعي فجاءت هذه الجملة تبيّن أن وجه ذلك هو استبعاد الناس الوحي إلى رجل من الناس استبعاد إحالة. وجاءت على هذا النظم الجامع بين بيان الداعي وبين إنكار السبب الذي دعا إليه وتجهيل المتسببين فيه ، ولك أن تجعله استئنافا ابتدائيا ، لأنه مبدأ الغرض الذي جاءت له السورة ، وهو الاستدلال على صدق الرسول وإثبات البعث.

فالهمزة للاستفهام المستعمل في الإنكار ، أي كيف يتعجبون من ذلك تعجب إحالة.

وفائدة إدخال الاستفهام المستعمل في الإنكار ، على (كان) دون أن يقال : أعجب الناس ، هي الدلالة على التعجيب من تعجّبهم المراد به إحالة الوحي إلى بشر.

والمعنى : أحدث وتقرر فيهم التعجب من وحينا ، لأن فعل الكون يشعر بالاستقرار والتمكن فإذا عبر به أشعر بأن هذا غير متوقّع حصوله.

و (لِلنَّاسِ) متعلق ب (كانَ) لزيادة الدلالة على استقرار هذا التعجب فيهم ، لأن أصل اللام أن تفيد الملك ، ويستعار ذلك للتمكن ، أي لتمكن الكون عجبا من نفوسهم.

و (عَجَباً) خبر (كانَ) مقدم على اسمها للاهتمام به لأنه محل الإنكار.

و (أَنْ) و (أَوْحَيْنا) اسم كان ، وجيء فيه ب (أن) والفعل دون المصدر الصريح وهو وحينا

١٠

ليتوسل إلى ما يفيده الفعل من التجدد وصيغة المضي من الاستقرار تحقيقا لوقوع الوحي المتعجب منه وتجدده وذلك ما يزيدهم كمدا.

والعجب : مصدر عجب ، إذا عدّ الشيء خارجا عن المألوف نادر الحصول. ولما كان التعجب مبدأ للتكذيب وهم قد كذبوا بالوحي إليه ولم يقتصروا على كونه عجيبا جاء الإنكار عليهم بإنكار تعجبهم من الإيحاء إلى رجل من البشر لأن إنكار التعجب من ذلك يؤول إلى إنكار التكذيب بالأولى ويقلع التكذيب من عروقه.

ويجوز أن يكون العجب كناية عن إحالة الوقوع ، كما في قوله تعالى : (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) في سورة هود [٧٢ ، ٧٣] وقوله : (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ) في سورة الأعراف [٦٣]. وكانت حكاية تعجبهم بإدماج ما يفيد الرد عليهم بأن الوحي كان إلى رجل من الناس وذلك شأن الرسالات كلها كما قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً) يوحى إليهم [النحل : ٤٣] وقال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] وقال : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٥].

وأطلق الناس على طائفة من البشر والمراد المشركون من أهل مكة لأنهم المقصود من هذا الكلام. وهذا الإطلاق مثل ما في قوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران : ١٧٣]. وعن ابن عباس أنكرت طائفة من العرب رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : الله أعظم من أن يكون له رسول بشرا ، فأنزل الله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ).

و (أَنْ) في قوله : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) تفسيرية لفعل (أَوْحَيْنا) لأن الوحي فيه معنى القول.

والناس الثاني يعم جميع البشر الذين يمكن إنذارهم ، فهو عموم عرفي. ولكون المراد بالناس ثانيا غير المراد به أول ذكر بلفظه الظاهر دون أن يقال : أن أنذرهم.

ولما عطف على الأمر بالإنذار الأمر بالتبشير للذين آمنوا بقي (النَّاسَ) المتعلق بهم الإنذار مخصوصا بغير المؤمنين.

وحذف المنذر به للتهويل ، ولأنه يعلم حاصله من مقابلته بقوله : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا

١١

أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) ، وفعل التبشير يتعدى بالباء ، فالتقدير : وبشر الذين آمنوا بأن لهم قدم صدق ، فحذف حرف الجر مع (أنّ) جريا على الغالب.

والقدم : اسم لما تقدم وسلف ، فيكون في الخير والفضل وفي ضده. قال ذو الرمة :

لكم قدم لا ينكر الناس إلها

مع الحسب العادي طمّت على البحر

وذكر المازري في «المعلم» عن ابن الأعرابي : أن القدم لا يعبر به إلا عن معنى المقدم لكن في الشرف والجلالة. وهو فعل بمعنى فاعل مثل سلف وثقل. قال ابن عطية : ومن هذه اللفظة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفة جهنم : «حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط» يشير إلى حديث أنس بن مالك قال نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة(وفي رواية الجبار) فيها قدمه فتقول قط قط ، وعزتك. ويزوى بعضها إلى بعض. وهذا أحد تأويلين لمعنى «قدمه». وأصل ذلك في «المعلم على صحيح مسلم» للمازري وعزاه إلى النضر بن شميل.

والمراد ب (قَدَمَ صِدْقٍ) في الآية قدم خير ، وإضافة (قَدَمَ) إلى (صِدْقٍ) من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله قدم صدق ، أي صادق وهو وصف بالمصدر : فعلى قول الجمهور يكون وصف (صِدْقٍ) ل (قَدَمَ) وصفا مقيدا. وعلى قول ابن الأعرابي يكون وصفا كاشفا.

والصدق : موافقة الشيء لاعتقاد المعتقد ، واشتهر في مطابقة الخبر. ويضاف شيء إلى (صدق) بمعنى مصادفته للمأمول منه المرضي وأنه لا يخيب ظن آمل كقوله : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) [يونس : ٩٠] وقوله : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥].

وقوله : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) تفسير لفعل (أَوْحَيْنا). وإنما اقتصر على ذكر هذا الموحى به لأن ذلك هو الذي حملهم على التكذيب إذ صادف صرفهم عن ضلالة دينهم وسمعوا منه تفضيل المؤمنين عليهم. وأيضا في ذكر المفسّر إدماج لبشارة المؤمنين بهذه المزية.

(قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لسحر مبين)

هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) إلخ. ووجه هذا الإبدال أن قولهم هذا ينبئ عن بلوغ التعجب من دعوى الوحي والرسالة من نفوسهم مزيد الإحالة والتكذيب حتى صاروا إلى القول : إن هذا لسحر مبين [يونس : ٧٦] أو (إِنَّ هذا لَساحِرٌ

١٢

مُبِينٌ) فاسم الإشارة راجع إلى ما تضمنته جملة (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا).

وقرأه الجمهور «لسحر» ـ بكسر السين وسكون الحاء على أن المراد به الحاصل بالمصدر ، أي أن هذا الكلام كلام السحر ، أي أنه كلام يسحر به. فقد كان من طرق السحر في أوهامهم أن يقول الساحر كلاما غير مفهوم للناس يوهمهم أن فيه خصائص وأسماء غير معروفة لغير السحرة ، فالإشارة إلى الوحي.

وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي (لَساحِرٌ) فالإشارة إلى رجل من قوله : إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن وصفهم إياه بالسحر ينبئ بأنهم كذبوا بكونه من عند الله ولم يستطيعوا أن يدعوه هذيانا وباطلا فهرعوا إلى ادعائه سحرا ، وقد كان من عقائدهم الضالة أن من طرائق السحر أن يقول الساحر أقوالا تستنزل عقول المسحورين. وهذا من عجزهم من الطعن في القرآن بمطاعن في لفظه ومعانيه.

والسحر : تخييل ما ليس بكائن كائنا. وقد تقدم عند قوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) في سورة البقرة [١٠٢].

والمبين : اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بأن ، أي ظهر ، أي سحر واضح ظاهر. وهذا الوصف تلفيق منهم وبهتان لأنه ليس بواضح في ذلك بل هو الحق المبين.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣))

استئناف ابتدائي للاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية. وإنما أوقع هنا لأن أقوى شيء بعث المشركين على ادعاء أن ما جاء به النبي سحر هو أنه أبطل الشركاء لله في الإلهية ونفاها عن آلهتهم التي أشركوا بها فقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا) (لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] فلا جرم أن أعقب إنكار إحالتهم ذلك بإقامة الدليل على ثبوته.

والخطاب للمشركين ، ولذلك أكد الخبر بحروف التوكيد ، وأوقع عقبه (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [يونس : ٢] ، فهو التفات من الغيبة في قوله : (أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً) وقوله (قالَ الْكافِرُونَ). وقد مضى القول في نظير صدر هذه الآية في سورة الأعراف إلى قوله: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ).

وقوله : (اللهُ) خبر (إِنَ) ، كما دل عليه قوله بعده : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ).

١٣

وجملة (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) في موضع الحال من اسم الجلالة ، أو خبر ثان عن رَبَّكُمُ).

والتدبير : النظر في عواقب المقدرات وعوائقها لقصد إيقاعها تامة فيما تقصد له محمودة العاقبة.

والغاية من التدبير الإيجاد والعمل على وفق ما دبر. وتدبير الله الأمور عبارة عن تمام العلم بما يخلقها عليه ، لأن لفظ التدبير هو أوفى الألفاظ اللغوية بتقريب إتقان الخلق.

والأمر : جنس يعم جميع الشئون والأحوال في العالم. وتقدم في قوله : (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) في سورة براءة [٤٨].

وفي إجراء هذه الصفات على الله تعالى تعريض بالرد على المشركين إذ جعلوا لأنفسهم آلهة لا تخلق ولا تعلم ؛ كما قال تعالى : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النخل : ٢٠]. ولذلك حسن وقع جملة (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) عقب جملة : (الَّذِي خَلَقَ) بتمامها ، لأن المشركين جعلوا آلهتهم شفعاء فإذا أنذروا بغضب الله يقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، أي حماتنا من غضبه. فبعد أن وصف الإله الحق بما هو منتف عن آلهتهم نفي عن آلهتهم وصف الشفاعة عند الله وحماية المغضوب عليهم منه.

وأكد النفي ب (مِنْ) التي تقع بعد حرف النفي لتأكيد النفي وانتفاء الوصف عن جميع أفراد الجنس الذي دخلت (من) على اسمه بحيث لم تبق لآلهتهم خصوصية.

وزيادة (إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) احتراس لإثبات شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإذن الله ، قال تعالى: (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨]. والمقصود من ذلك نفي الشفاعة لآلهتهم من حيث إنهم شركاء لله في الإلهية ، فشفاعتهم عنده نافذة كشفاعة الند عند نده. والشفاعة تقدست عند قوله تعالى : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) في سورة البقرة [٤٨]. وكذلك الشفيع تقدم عند قوله : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) في سورة الأعراف [٥٣].

وموقع جملة : (ما مِنْ شَفِيعٍ) مثل موقع جملة : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ).

وجملة : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) ابتدائية فذلكة للجمل التي قبلها ونتيجة لها ، وهي معترضة بين تلك الجمل وبين الجملة المفرعة عليها ، وهي جملة : (فَاعْبُدُوهُ) ، وتأكيد لمضمون الجملة الأصلية وهي جملة : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ).

١٤

والإتيان في صدرها باسم الإشارة لتمييزه أكمل تمييز لأنهم امتروا في صفة الإلهية وضلوا فيها ضلالا مبينا ، فكانوا أحرياء بالإيقاظ بطريق اسم الإشارة ، وللتنبيه على أن المشار إليه حقيق بما سيذكر بعد اسم الإشارة من حيث إنه اتصف بتلك الأوصاف التي أشير إليه من أجلها ، فإن خالق العوالم بغاية الإتقان والمقدرة ومالك أمرها ومدبر شئونها والمتصرف المطلق مستحق للعبادة نظير الإشارة في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] بعد قوله : (لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) إلى قوله : (هُمْ يُوقِنُونَ) [البقرة : ٢ ـ ٤].

وفرّع على كونه ربهم أن أمروا بعبادته ، والمفرّع هو المقصود من الجملة وما قبله مؤكد لجملة : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) تأكيدا بفذلكة وتحصيل. والتقدير : إن ربكم الله إلى قوله : فَاعْبُدُوهُ) ، كقوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] إذ وقع قوله (فبذلك) تأكيدا لجملة بفضل الله وبرحمته. وأوقع بعده الفرع وهو (فليفرحوا). والتقدير : قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا بذلك.

والمقصود من العبادة العبادة الحق التي لا يشرك معه فيها غيره ، بقرينة تفريع الأمر بها على الصفات المنفرد بها الله دون معبوداتهم.

وجملة : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ابتدائية للتقريع. وهو غرض جديد ، فلذلك لم تعطف ، فالاستفهام إنكار لانتفاء تذكرهم إذ أشركوا معه غيره ولم يتذكروا في أنه المنفرد بخلق العوالم وبملكها وبتدبير أحوالها.

والتذكّر : التأمل. وهو بهذه الصيغة لا يطلق إلا على ذكر العقل لمعقولاته ، أي حركته في معلوماته ، فهو قريب من التفكر ؛ إلا أن التذكر لما كان مشتقا من مادة الذكر التي هي في الأصل جريان اللفظ على اللسان ، والتي يعبر بها أيضا عن خطور المعلوم في الذهن بعد سهوه وغيبته عنه كان مشعرا بأنه حركة الذهن في معلومات متقررة فيه من قبل.

فلذلك أوثر هنا دون (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [البقرة : ٢١٩] للإشارة إلى أن الاستدلال على وحدانية الله تعالى قد تقرر في النفوس بالفطرة ، وبما تقدم لهم من الدعوة والأدلة فيكفي في الاستدلال مجرد إخطار هذه الأدلة في البال.

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا

١٥

يَكْفُرُونَ (٤))

وقع أمرهم بعبادته عقب ذكر الجزاء إنذارا وتبشيرا ، فالجملة كالدليل على وجوب عبادته ، وهي بمنزلة النتيجة الناشئة عن إثبات خلقه السماوات والأرض لأن الذي خلق مثل تلك العوالم من غير سابق وجود لا يعجزه أن يعيد بعض الموجودات الكائنة في تلك العوالم خلقا ثانيا. ومما يشير إلى هذا قوله : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، فبدأ الخلق هو ما سبق ذكره ، وإعادته هي ما أفاده قوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) ولذلك فصلت عن التي قبلها لما بينهما من شبه كمال الاتصال ، على أنها يجوز كونها خبرا آخر عن قوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ) [يونس : ٣] ، أو عن قوله : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) [يونس : ٣].

وقد تضمنت هذه الجملة إثبات الحشر الذي أنكروه وكذبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجله.

وفي تقديم المجرور في قوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) إفادة القصر ، أي لا إلى غيره ، قطعا لمطامع بعضهم القائلين في آلهتهم (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] يريدون أنهم شفعاء على تسليم وقوع البعث للجزاء ، فإذا كان الرجوع إليه لا إلى غيره كان حقيقا بالعبادة وكانت عبادة غيره باطلا.

والمرجع : مصدر ميمي بمعنى الرجوع. وقد تقدم في قوله : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في سورة العقود [١٠٥].

و (جَمِيعاً) حال من ضمير المخاطبين المضاف إليه المصدر العامل فيه.

وانتصب (وَعْدَ اللهِ) على المفعولية المطلقة توكيدا لمضمون الجملة المساوية له ، ويسمى موكّدا لنفسه في اصطلاح النحاة لأن مضمون (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) الوعد بإرجاعهم إليه وهو مفاد وعد الله ، ويقدر له عامل محذوف لأن الجملة المؤكدة لا تصلح للعمل فيه. والتقدير : وعدكم الله وعدا حقا.

وانتصب (حَقًّا) على المفعولية المطلقة المؤكدة لمضمون جملة (وَعْدَ اللهِ) باعتبار الفعل المحذوف. ويسمى في اصطلاح النحاة مؤكدا لغيره ، أي مؤكدا لأحد معنيين تحتملهما الجملة المؤكدة.

وجملة : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) واقعة موقع الدليل على وقوع البعث وإمكانه بأنه قد ابتدأ خلق الناس ، وابتداء خلقهم يدل على إمكان إعادة خلقهم بعد العدم ، وثبوت إمكانه يدفع تكذيب المشركين به ، فكان إمكانه دليلا لقوله : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) وكان الاستدلال

١٦

على إمكانه حاصلا من تقديم التذكير ببدء خلق السماوات والأرض كقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧].

وموقع (إن) تأكيد الخبر نظرا لإنكارهم البعث ، فحصل التأكيد من قوله : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) أما كونه بدأ الخلق فلا ينكرونه.

وقرأ الجمهور (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) بكسر همزة (إنه). وقرأه أبو جعفر بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل محذوفة ، أي حق وعده بالبعث لأنه يبدأ الخلق ثم يعيده فلا تعجزه الإعادة بعد الخلق الأول ، أو المصدر مفعول مطلق منصوب بما نصب به (وَعْدَ اللهِ) أي وعد الله وعدا بدء الخلق ثم إعادته فيكون بدلا من (وَعْدَ اللهِ) بدلا مطابقا أو عطف بيان.

ويجوز أن يكون المصدر المنسبك من (أنّ) وما بعدها مرفوعا بالفعل المقدر الذي انتصب (حقا) بإضماره. فالتقدير : حقّ حقا أنه يبدأ الخلق ، أي حق بدؤه الخلق ثم إعادته.

والتعليل بقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) إلخ إبداء لحكمة البعث وهي الجزاء على الأعمال المقترفة في الحياة الدنيا ، إذ لو أرسل الناس على أعمالهم بغير جزاء على الحسن والقبيح لاستوى المحسن والمسيء ، وربما كان بعض المسيئين في هذه الدنيا أحسن فيها حالا من المحسنين. فكان من الحكمة أن يلقى كل عامل جزاء عمله. ولم يكن هذا العالم صالحا لإظهار ذلك لأنه وضع نظامه على قاعدة الكون والفساد ، قابلا لوقوع ما يخالف الحق ولصرف الخيرات عن الصالحين وانهيالها على المفسدين والعكس لأسباب وآثار هي أوفق بالحياة المقررة في هذا العالم ، فكانت الحكمة قاضية بوجود عالم آخر متمحض للكون والبقاء وموضوعا فيه كل صنف فيما يليق به لا يعدوه إلى غيره إذ لا قبل فيه لتصرفات وتسببات تخالف الحق والاستحقاق. وقدم جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لشرفه ولياقته بذلك العالم ، ولأنهم قد سلكوا في عالم الحياة الدنيا ما خلق الله الناس لأجله ولم يتصرفوا فيه بتغليب الفساد على الصلاح.

والباء في (بِالْقِسْطِ) صالحة لإفادة معنى التعدية لفعل الجزاء ومعنى العوض. والقسط : العدل. وهو التسوية بين شيئين في صفة والجزاء بما يساوي المجزي عليه. وتقدم في قوله : (قائِماً بِالْقِسْطِ) في أول آل عمران [١٨]. فتفيد الباء أنهم يجزون بما يعادل أعمالهم الصالحة فيكون جزاؤهم صلاحا هنالك وهو غاية النعيم ، وأن ذلك الجزاء

١٧

مكافاة على قسطهم في أعمالهم في عدلهم فيها بأن عملوا ما يساوي الصلاح المقصود من نظام هذا العالم.

والإجمال هنا بين معنيي الباء مفيد لتعظيم شأن جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات مع الإشارة إلى أنه جزاء مماثل لصلاح أعمالهم.

وإنما خص بذلك جزاء المؤمنين مع أن الجزاء كله عدل ، بل ربما كانت الزيادة في ثواب المؤمنين فضلا زائدا على العدل لأمرين : أحدهما : تأنيس المؤمنين وإكرامهم بأن جزاءهم قد استحقوه بما عملوا ، كقوله : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[النحل : ٣٢]. ومن أعظم الكرم أن يوهم الكريم أن ما تفضل به على المكرم هو حقه وأن لا فضل له فيه.

الأمر الثاني : الإشارة إلى أن جزاء الكافرين دون ما يقتضيه العدل ، ففيه تفضل بضرب من التخفيف لأنهم لو جوزوا على قدر جرمهم لكان عذابهم أشد ، ولأجل هذا خولف الأسلوب في ذكر جزاء الذين كفروا فجاء صريحا بما يعم أحوال العذاب بقوله : لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ) [الأنعام : ٧٠]. وخص الشراب من الحميم بالذكر من بين أنواع العذاب الأليم لأنه أكره أنواع العذاب في مألوف النفوس.

(أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) في سورة الأنعام [٧٠]. والباء في قوله :

وشراب الحميم تقدم في قوله تعالى : (بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) للعوض.

وجملة : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) إلى آخرها استئناف بياني لأنه لما ورد ذكر جزاء المؤمنين على أنه العلة لرجوع الجميع إليه ولم يذكر في العلة ما هو جزاء الجميع لا جرم يتشوف السامع إلى معرفة جزاء الكافرين فجاء الاستئناف للإعلام بذلك.

ونكتة تغيير الأسلوب حيث لم يعطف جزاء الكافرين على جزاء المؤمنين فيقال : ويجزى الذين كفروا بعذاب إلخ كما في قوله : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) [الكهف : ٢] هو الإشارة إلى الاهتمام بجزاء المؤمنين الصالحين وأنه الذي يبادر بالإعلام به وأن جزاء الكافرين جدير بالإعراض عن ذكره لو لا سؤال السامعين.

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ

١٨

وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥))

هذا استئناف ابتدائي أيضا ، فضمير (هو) عائد إلى اسم الجلالة في قوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) [يونس : ٣]. وهذا استدلال آخر على انفراده تعالى بالتصرف في المخلوقات ، وهذا لون آخر من الاستدلال على الإلهية ممزوج بالامتنان على المحجوجين به لأن الدليل السابق كان متضمنا لعظيم أمر الخلق وسعة العلم والقدرة بذكر أشياء ليس للمخاطبين حظ في التمتع بها. وهذا الدليل قد تضمن أشياء يأخذ المخاطبون بحظ عظيم من التمتع بها وهو خلق الشمس والقمر على صورتهما وتقدير تنقلاتهما تقديرا مضبوطا ألهم الله البشر للانتفاع به في شئون كثيرة من شئون حياتهم.

فجعل الشمس ضياء لانتفاع الناس بضيائها في مشاهدة ما تهمهم مشاهدته بما به قوام أعمال حياتهم في أوقات أشغالهم. وجعل القمر نورا للانتفاع بنوره انتفاعا مناسبا للحاجة التي قد تعرض إلى طلب رؤية الأشياء في وقت الظلمة وهو الليل. ولذلك جعل نوره أضعف لينتفع به بقدر ضرورة المنتفع ، فمن لم يضطرّ إلى الانتفاع به لا يشعر بنوره ولا يصرفه ذلك عن سكونه الذي جعل ظلام الليل لحصوله ، ولو جعلت الشمس دائمة الظهور للناس لاستووا في استدامة الانتفاع بضيائها فيشغلهم ذلك عن السكون الذي يستجدون به ما فتر من قواهم العصبية التي بها نشاطهم وكمال حياتهم.

والضياء : النور الساطع القوي ، لأنه يضيء للرائي. وهو اسم مشتق من الضوء ، وهو النور الذي يوضح الأشياء ، فالضياء أقوى من الضوء ، وياء (ضياء) منقلبة عن الواو لوقوع الواو إثر كسرة الضاد فقلبت ياء للتخفيف.

والنور : الشعاع ، وهو مشتق من اسم النار ، وهو أعم من الضياء ، يصدق على الشعاع الضعيف والشعاع القوي ، فضياء الشمس نور ، ونور القمر ليس بضياء. هذا هو الأصل في إطلاق هذه الأسماء ، ولكن يكثر في كلام العرب إطلاق بعض هذه الكلمات في موضع بعض آخر بحيث يعسر انضباطه. ولما جعل النور في مقابلة الضياء تعين أن المراد به نور ما.

وقوله : (ضِياءً) و (نُوراً) حالان مشيران إلى الحكمة والنعمة في خلقهما. والتقدير : جعل الأشياء على مقدار عند صنعها.

والضمير المنصوب في (قدّره) : إما عائد إلى النور فتكون المنازل بمعنى المراتب ،

١٩

وهي مراتب نور القمر في القوة والضعف التابعة لما يظهر للناس نيرا من كرة القمر ، كما في قوله تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٩]. أي حتى نقص نوره ليلة بعد ليلة فعاد كالعرجون البالي. ويكون (مَنازِلَ) في موضع الحال من الضمير المنصوب في (قَدَّرَهُ) فهو ظرف مستقر ، أي تقديرا على حسب المنازل ، فالنور في كل منزلة له قدر غير قدره الذي في منزلة أخرى. وإما عائد إلى (القمر) على تقدير مضاف ، أي وقدر سيره ، فتكون (مَنازِلَ) منصوبا على الظرفية.

والمنازل : جمع منزل ؛ وهو مكان النزول. والمراد بها هنا المواقع التي يظهر القمر في جهتها كل ليلة من الشهر. وهي ثمان وعشرون منزلة على عدد ليالي الشهر القمري. وإطلاق اسم المنازل عليها مجاز بالمشابهة وإنما هي سموت يلوح للناس القمر كل ليلة في سمت منها ، كأنه ينزل بها. وقد رصدها البشر فوجدوها لا تختلف.

وعلم المهتدون منهم أنها ما وجدت على ذلك النظام إلا بصنع الخالق الحكيم.

وهذه المنازل أماراتها أنجم مجتمعة على شكل لا يختلف ، فوضع العلماء السابقون لها أسماء. وهذه أسماؤها في العربية على ترتيبها في الطلوع عند الفجر في فصول السنة. والعرب يبتدئون ذكرها بالشرطان وهكذا ، وذلك باعتبار حلول القمر كل ليلة في سمت منزلة من هذه المنازل ، فأول ليلة من ليالي الهلال للشّرطان وهكذا. وهذه أسماؤها مرتبة على حسب تقسيمها على فصول السنة الشمسية. وهي : العوّاء ، السّماك الأعزل ، الغفر ، الزّباني ، الإكليل ، القلب ، الشّولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذّابح ، سعد بلع ، سعد السّعود ، سعد الأخبية ، الفرغ الأعلى ، الفرغ الأسفل ، الحوت ، الشرطان ، البطين ، الثّريا ، الدّبران ، الهقعة ، الهنعة ، ذراع الأسد ، النّشرة ، الطّرف ، الجبهة ، الزّبرة ، الصّرفة.

وهذه المنازل منقسمة على البروج الاثني عشر التي تحل فيها الشمس في فصول السنة ، فلكل برج من الاثني عشر برجا منزلتان وثلث ، وهذا ضابط لمعرفة نجومها ولا علاقة له باعتبارها منازل للقمر.

وقد أنبأنا الله بعلة تقديره القمر منازل بأنها معرفة الناس عدد السنين والحساب ، أي عدد السنين بحصول كل سنة باجتماع اثني عشر.

والحساب : مصدر حسب بمعنى عد. وهو معطوف على (عَدَدَ) ، أي ولتعلموا الحساب. وتعريفه للعهد ، أي والحساب المعروف. والمراد به حساب الأيام والأشهر لأن

٢٠