تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

خشية تأخر نجدات المسلمين في غزواتهم لأن السفن قد يتأخر وصولها إذا لم تساعفها الرياح التي تجري بما لا تشتهي السفن ولأن ركوب العدد الكثير في سفن ذلك العصر مظنة وقوع الغرق ، ولأن عدد المسلمين يومئذ قليل بالنسبة للعدو فلا ينبغي تعريضه للخطر فذلك من النظر في المصلحة العامة في أحوال معينة فلا يحتج به في أحكام خاصة للناس. ولما مات عمر استأذن معاوية عثمان فأذن له في ركوبه فركبه لغزو (قبرص) ثم لغزو القسطنطينية وفي غزوة (قبرص) ظهر تأويل رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أم حرام ، وقد قيل إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة نهى عن ركوبه ثم ركبه الناس بعده.

وروي عن مالك كراهة سفر المرأة في البحر للحج والجهاد ، قال ابن عبد البر وحديث أم حرام يرد هذه الرواية ولكن تأولها أصحابه بأنه كره ذلك لخشية اطّلاعهن على عورات الرجال لعسر الاحتراز من ذلك فخصه أصحابه بسفن أهل الحجاز لصغرها وضيقها وتزاحم الناس فيها مع كون الطريق من المدينة إلى مكة من البر ممكنا سهلا وأما السفن الكبار كسفن أهل البصرة التي يمكن فيها الاستتار وقلة التزاحم فليس بالسفر فيها للمرأة بأس عند مالك (١).

(وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) معطوف على الأسماء التي قبله جيء به اسم موصول ليأتي عطف صلة على صلة فتبقى الجملة بمقصد العبرة والنعمة ، فالصلة الأولى وهي (أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) تذكير بالعبرة لأن في الصلة من استحضار الحالة ما ليس في نحو كلمة المطر والغيث ، وإسناد الإنزال إلى الله لأنه الذي أوجد أسباب نزول الماء بتكوينه الأشياء عند خلق هذا العالم على نظام محكم.

والسماء المفرد هو الجو والهواء المحيط بالأرض كما تقدم آنفا ، وهو الذي يشاهده جميع السامعين.

ووجه العبرة فيه أن شأن الماء الذي يسقي الأرض أن ينبع منها فجعل الماء نازلا عليها من ـ ضدها وهو السماء ـ عبرة عجيبة.

وفي الآية عبرة علمية لمن يجيء من أهل العلم الطبيعي وذلك أن جعل الماء نازلا من السماء يشير إلى أن بخار الماء يصير ماء في الكرة الهوائية عند ما يلامس الطبقة

__________________

(١) «التمهيد» لابن البر (١ / ٢٣٣ ، ٢٣٤) ، ط. المغرب.

٨١

الزمهريرية وهذه الطبقة تصير زمهريرا عند ما تقل حرارة أشعة الشمس ، ولعل في بعض الأجرام العلوية وخاصة القمر أهوية باردة يحصل بها الزمهرير في ارتفاع الجو فيكون لها أثر في تكوين البرودة في أعلى الجو فأسند إليها بإنزال الماء مجازا عقليا وربما يستروح لهذا بحديث مروي وهو أن المطر ينزل من بحر تحت العرش أي إن عنصر المائية يتكون هنالك ويصل بالمجاورة حتى يبلغ إلى جونا قليل منه فإذا صادفته الأرض تكون من ازدواجهما الماء وقد قال تعالى : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) [النور : ٤٣] ، ولعلها جبال كرة القمر وقد ثبت في الهيئة أن نهار القمر يكون خمسة عشر يوما ، وليله كذلك ، فيحصل فيه تغيير عظيم من شدة الحر إلى شدة البرد فإذا كانت مدة شدة البرد هي مدة استقباله الأرض أحدث في جو الأرض عنصر البرودة.

وقوله : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) معطوف على الصلة بالفاء لسرعة حياة الأرض إثر نزول الماء وكلا الأمرين الفعل والفاء موضع عبرة وموضع منة. وأطلقت الحياة على تحرك القوى النامية من الأرض وهي قوة النبات استعارة لأن الحياة حقيقة هي ظهور القوى النامية في الحيوان فشبهت الأرض به. وإذا جعلنا الحياة حقيقة في ظهور قوى النماء وجعلنا النبات يوصف بالحياة حقيقة وبالموت فقوله : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) مجاز عقلي والمراد إحياء ما تراد له الأرض وهو النبات.

وفي الجمع بين السماء والأرض وبين أحيا وموت طباقان.

وقوله : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) عطف إما على (أَنْزَلَ) فيكون صلة ثانية وباعتبار ما عطف قبله على الصلة صلة ثالثة ، وإما عطف على (فَأَحْيا) فيكون معطوفا ثانيا على الصلة ، وأيّا ما كان فهو آية ومنة مستقلة ، فإن جعلته عطفا على الصلة فمن في قوله : (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) بيانية وهي في موضع الحال ظرف مستقر ، وإن جعلته عطفا على المعطوف على الصلة وهو (فَأَحْيا) فمن في قوله : (مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) تبعيضية وهي ظرف لغو ، أي أكثر فيها عددا من كل نوع من أنواع الدواب بمعنى أن كل نوع من أنواع الدواب ينبث بعض كثير من كل أنواعه ، فالتنكير في دابة للتنويع أي أكثر الله من كل الأنواع لا يختص ذلك بنوع دون آخر.

والبث في الأصل نشر ما كان خفيا ومنه بث الشكوى وبث السر أي أظهره. قالت الأعرابية «لقد أبثثتك مكتومي وأطعمتك مأدومي» وفي حديث أم زرع قالت السادسة «ولا يولج الكف ليعلم البث» أي لا يبحث عن سر زوجته لتفشوه له ، فمثلت البحث بإدخال

٨٢

الكف لإخراج المخبوء (١) ، ثم استعمل البث مجازا في انتشار الشيء بعد أن كان كامنا كما في هاته الآية واستعمل أيضا في مطلق الانتشار ، قال الحماسي :

وهلّا أعدّوني لمثلي تفاقدوا

وفي الأرض مثبوت شجاع وعقرب

وبث الدواب على وجه عطفه على فعل (أَنْزَلَ) هو خلق أنواع الدواب على الأرض فعبر عنه بالبث لتصوير ذلك الخلق العجيب المتكاثر فالمعنى وخلق فبث فيها من كل دابة.

وعلى وجه عطف (وَبَثَ) على (فَأَحْيا) فبث الدواب انتشارها في المراعي بعد أن كانت هازلة جاثمة وانتشار نسلها بالولادة وكل ذلك انتشار وبث وصفه لبيد بقوله :

رزقت مرابيع النجوم وصابها

ودق الرواعد جودها فرهامها

فعلا فروع الأيهقان وأطفلت

بالجلهتين ظباؤها ونعامها

والآية أوجز من بيتي لبيد وأوفر معنى فإن قوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) أوجز من البيت الأول ، وقوله : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أوجز من قوله فعلا فروع الأيهقان وأعم وأبرع بما فيه من استعارة الحياة ، وقوله : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أوجز من قوله وأطفلت البيت مع كونه أعم لعدم اقتصاره على الظباء والنعام.

والدابة ما دب على وجه الأرض وقد أذنت كلمة (كُلِ) بأن المراد جميع الأنواع فانتفى احتمال أن يراد من الدابة خصوص ذوات الأربع.

وقد جمع قوله تعالى : (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) أصول علم التاريخ الطبيعي وهو المواليد الثلاثة المعدن والنبات والحيوان ، زيادة على ما في بقية الآية سابقا ولا حقا من الإشارات العلمية الراجعة لعلم الهيئة وعلم الطبيعة وعلم الجغرافيا الطبيعية وعلم حوادث الجو (٢).

وقوله : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) عطف على مدخول (فِي) وهو من آيات وجود الخالق

__________________

(١) قيل : إنه كان بجسدها عيب أو داء فكان لا يدخل يده في ثوبها فيمسه لعلمه أن ذلك يؤذيها ، تصفه باللطف. وقيل : إن ذلك ذم له ، أي لا يتفقد أمورها ومصالحها كقولهم : ما أدخل يدي في هذا الأمر أي لا أتفقده.

(٢) قال آلوسي في آخر شرحه لهذه الآية : «وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية. وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله ، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة». (٢ / ٣٣) ، ط. المنيرية.

٨٣

وعظيم قدرته لأن هبوب الريح وركودها آية ، واختلاف مهابّها آية ، فلو لا الصانع الحكيم الذي أودع أسرار الكائنات لما هبت الريح أو لما ركدت ، ولما اختلفت مهابّها بل دامت من جهة واحدة وهذا موضع العبرة ، ومن تصريف الرياح أيضا موضع نعمة وهو أن هبوبها قد يحتاج إليه أهل موضع للتنفيس من الحرارة أو لجلب الأسحبة أو لطرد حشرات كالجراد ونحوه أو لجلب منافع مثل الطير.

وقد يحتاج أهل مكان إلى اختلاف مهابها لتجيء ريح باردة بعد ريح حارة أو ريح رطبة بعد ريح يابسة ، أو لتهب إلى جهة الساحل فيرجع أهل السفن من الأسفار أو من الصيد ، فكل هذا موضع نعمة ، وهذا هو المشاهد للناس كلهم ، ولأهل العلم في ذلك أيضا موضع عبرة أعجب وموضع نعمة ، وذلك أن سبب تصريف الرياح أن الله أحاط الكرة الأرضية بهواء خلقه معها ، به يتنفس الحيوان وهو محيط بجميع الكرة بحرها وبرها متصل بسطحها ويشغل من فوق سطحها ارتفاعا لا يعيش الحيوان لو صعد إلى أعلاه ، وقد خلقه الله تعالى مؤلفا من غازين هما (النيتروجين والأكسجين) وفيه جزء آخر عارض فيه وهو جانب من البخار المائي المتصاعد له من تبخر البحار ورطوبة الأرض بأشعة الشمس وهذا البخار هو غاز دقيق لا يشاهد ، وهذا الهواء قابل للحرارة والبرودة بسبب مجاورة حارّ أو بارد ، وحرارته تأتي من أشعة الشمس ومن صعود حرارة الأرض حين تسخنها الشمس وبرودته تجيء من قلة حرارة الشمس ومن برودة الثلوج الصاعدة من الأرض ومن الزمهرير الذي يتزايد بارتفاع الجو كما تقدم.

ولما كانت الحرارة من طبعها أن تمدّد أجزاء الأشياء فتتلطف بذلك التمدد كما تقرر في الكيمياء ، والبرودة بالعكس ، كان هواء في جهة حارة كالصحراء وهواء في جهة باردة كالمنجمد وقع اختلاف بين الهواءين في الكثافة فصعد الخفيف وهو الحار إلى الأعلى وانحدر الكثيف إلى الأسفل وبصعود الخفيف يترك فراغا يخلفه فيه الكثيف طلبا للموازنة فتحدث حركة تسمى ريحا ، فإذا كانت الحركة خفيفة لقرب التفاوت بين الهواءين سميت الحركة نسيما وإذا اشتدت الحركة وأسرعت فهي الزوبعة. فالريح جنس لهاته الحركة والنسيم والزوبعة والزعزع أنواع له.

ومن فوائد هاته الرياح الإعانة على تكوين السحاب ونقله من موضع إلى موضع وتنقية الكرة الهوائية مما يحل بها من الجراثيم المضرة ، وهذان الأمران موضع عبرة ونعمة لأهل العلم.

٨٤

وقد اختير التعبير بلفظ التصريف هنا دون نحو لفظ التبديل أو الاختلاف لأنه اللفظ الذي يصلح معناه لحكاية ما في نفس الأمر من حال الرياح لأن التصريف تفعيل من الصرف للمبالغة وقد علمت أن منشأ الريح هو صرف بعض الهواء إلى مكان وصرف غيره إلى مكانه الذي كان فيه فيجوز أن تقدر : وتصريف الله تعالى الرياح ، وجعل التصريف للريح مع أن الريح تكوّنت بذلك التصريف لأنها تحصل مع التصريف فهو من إطلاق الاسم على الحاصل في وقت الإطلاق كما في قوله تعالى : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة : ١٥٩] وهو ضرب من مجاز الأول ، وأن تجعل التصريف بمعنى التغيير أي تبديل ريح من جهة إلى جهة فتبقى الحقيقة ويفوت الإعجاز العلمي ويكون اختيار لفظ التصريف دون التغيير لأنه أخف.

وجمع الرياح هنا لأن التصريف اقتضى العدد لأنها كلما تغير مهبها فقد صارت ريحا غير التي سبقت. وقرأه الجمهور (الرياح) بالجمع وقرأه حمزة والكسائي (الريح) بالإفراد على إرادة الجنس ، واستفادة العموم من اسم الجنس المعرف سواء كان مفردا أو جمعا سواء ، وقد قيل إن الرياح بصيغة الجمع يكثر استعماله في ريح الخير وإن الريح بالإفراد يكثراستعماله في ريح الشر واعتضدوا في ذلك بما رووه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول إذا رأى الريح : «اللهم اجعلها رياحا لا ريحا» ، وهي تفرقة أغلبية وإلّا فقد غير بالإفراد في موضع الجمع ، والعكس في قراءة كثير من القراء. والحديث لم يصح ، وعلى القول بالتفرقة فأحسن ما يعلل به أن الريح النافعة للناس تجيء خفيفة وتتخلل موجاتها فجوات فلا تحصل منها مضرة فباعتبار تخلل الفجوات لهبوبها جمعت ، وأما الريح العاصف فإنه لا يترك للناس فجوة فلذلك جعل ريحا واحدة وهذا مأخوذ من كلام القرطبي.

والرياح جمع ريح والريح بوزن فعل بكسر الفاء وعينها واو انقلبت ياء لأجل الكسرة بدليل قولهم في الجمع أرواح وأما قولهم في الجمع رياح فانقلاب الواو فيه ياء كانقلابها في المفرد لسبب الكسرة كما قالوا ديمة وديم وحيلة وحيل وهما من الواوي.

وقوله : (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ) عطف على (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أو على (الرِّياحِ) ويكون التقدير : وتصريف السحاب المسخر أي نقله من موضع إلى موضع. وهو عبرة ومنة أما العبرة ففي تكوينه بعد أن لم يكن وتسخيره وكونه في الفضاء ، وأما المنة ففي جميع ذلك فتكوينه منة وتسخيره من موضع إلى موضع منة وكونه بين السماء والأرض منة لأنه ينزل منه المطر على الأرض من ارتفاع فيفيد اختراق الماء في الأرض ، ولأنه لو كان على

٨٥

سطح الأرض لاختنق الناس فهذا ما يبدو لكل أحد ، وفي ذلك أيضا عبرة ومنة لأهل العلم فتكوينه عبرة لهم وذلك أنه يتكون من تصاعد أبخرة البحار ورطوبة الأرض التي تبخّرها أشعة الشمس ولذا لم يخل الهواء من بخار الماء كما قدمناه إلّا أن بخار الماء شفاف غازي فإذا جاور سطحا باردا ثقل وتكاثف فصار ضبابا أو ندى أو سحابا ، وإنما تكاثف لأن أجزاء البخار تجتمع فتقل قدرة الهواء على حمله ، ثم إذا تكامل اجتماعه نزل مطرا ، ولكون البخار الصاعد إلى الجو أكثر بخار البحر ؛ لأن البحر أكثر سطح الكرة الأرضية كانت السحب أكثر ما تتكون من جهة البحار ، وكانوا يظنون أن المطر كله من ماء البحر وأن خراطيم السحاب تتدلى إلى أمواج البحر فتمتص منه الماء ثم ينزل مطرا. قال أبو ذؤيب الهذلي :

سقى أم عمرو كلّ آخر ليلة

حناتم سود ماؤهن ثجيج

شربن بماء البحر ثم ترفعت

متى لجج خضر لهن نئيج

وقال البديع الأصطرلابي (١) :

أهدي لمجلسك الشريف وإنما

أهدي له ما حزت من نعمائه

كالبحر يمطره السحاب وماله

فضل عليه لأنه من مائه

فلو لا الرياح تسخره من موضع إلى موضع لكان المطر لا ينزل إلّا في البحار. وموضع المنة في هذا في تكوينه حتى يحمل الماء ليحيى الأرض ، وفي تسخيره لينتقل ، وفي كونه بين السماء والأرض فهو مسخر بين السماء والأرض حتى يتكامل ما في الجو من الماء فيثقل السحاب فينزل ماء إذا لم تبق في الهواء مقدرة على حمله قال تعالى : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) [الرعد : ١٢] وقوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي دلائل وقد تقدم الكلام على الآية والآيات ، وجمع الآيات لأن في كل ما ذكر من خلق السماوات والأرض وما عطف عليه آيات.

فإن أريد الاستدلال بها على وجود الله تعالى فقد كانت دلائل واضحة وكان ردا على الدّهريين من العرب وكان ذكرهم بعد الذين كفروا وماتوا وهم كفار (٢) المراد بهم

__________________

(١) هبة الله بن الحسين لقب بالبديع ووصف بالاصطرلابي لأنه صانع آلة الأصطرلاب توفي سنة ٥٣٤ ه‍.

(٢) يشير إلى قوله تعالى السابق : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الآية.

٨٦

المشركون تكميلا لأهل النحل في العرب ، ويكون قوله بعد ذلك : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) [البقرة : ١٦٥] رجوعا إلى المشركين وهذا الوجه يرجع إلى الاستدلال بالعالم على الصانع وهو دليل مشهور في كتب الكلام.

وإن أريد الاستدلال بهاته الدلائل على وحدانية الله تعالى المستلزمة لوجوده وهو الظاهر من قوله : (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ، لأن الاستدلال بهاته الدلائل وأمثالها على وجود الصانع لا يدل على كمال عقل بخلاف الاحتجاج بها على الوحدانية ، ولأنه ذكره بعد قوله: (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، ولأن دهماء العرب كانوا من المشركين لا من المعطلين الدهريين. وكفاية هذه الدلائل في الرد على المشركين من حيث إنهم لم يكونوا يدعون للأصنام قدرة على الخلق كما أشار إليه قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧].

وإن أريد الاستدلال بهذه الآثار لوحدانية الله على الأمم التي تثبت الاشتراك للآلهة في الإيجاد مثل مجوس الفرس ومشركي اليونان. فوجه دلالة هاته الآيات على الوحدانية أن هذا النظام البديع في الأشياء المذكورة وذلك التدبير في تكوينها وتفاعلها وذهابها وعودها ومواقيتها كل ذلك دليل على أن لها صانعا حكيما متصفا بتمام العلم والقدرة والحكمة وهي الصفات التي تقتضيها الألهانية ، ولا جرم أن يكون الإله الموصوف بهاته الصفات واحدا لاعتراف المشركين بأن نواميس الخلق وتسيير العالم من فعل الله تعالى ، إذا لم يدعوا لشركائهم الخلق ولذلك قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧] ، وذكر في سورة النمل الاستدلال ببعض ما هنا على أن لا إله مع الله ، فالمقصود التذكير بانتفاء حقيقة الإلهية عن شركائهم ، وأما طريقة الاستدلال العلمية فهي بالبرهان الملقب في علم الكلام ببرهان التمانع وسيأتي عند قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] في سورة الأنبياء.

والقوم : الجماعة من الرجال ويطلق على قبيلة الرجل كما قال عمرو بن معدي كرب:

فلو أن قومي أنطقتني رماحهم

ويطلق على الأمة.

وذكر لفظ (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) دون أن يقال للذين يعقلون أو للعاقلين لأن إجراء

٨٧

الوصف على لفظ قوم يومئ إلى أن ذلك الوصف سجية فيهم ، ومن مكملات قوميتهم ، فإن للقبائل والأمم خصائص تميزها وتشتهر بها كما قال تعالى : (وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) [التوبة : ٥٦] ، وقد تكرر هذا في مواضع كثيرة من القرآن ومن كلام العرب ، فالمعنى إن في ذلك آيات للذين سجيتهم العقل ، وهو تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بآيات ذلك ليست عقولهم براسخة ولا هي ملكات لهم وقد تكرر هذا في سورة يونس.

(ومِنَ النّاسِ مَن َتَّخِذُ مِن دونِ اللّهِ اَندادًا ُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللّهِ والَّذنَ ءامَنوا اَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ ولَو َرَ الَّذنَ ظَلَموا اِذ َرَونَ العَذابَ اَنَّ القُوَّةَ لِلّهِ جَمعًا واَنَّ اللّهَ شَددُ العَذاب(١٦٥)).

(ومِنَ النّاسِ مَن َتَّخِذُ مِن دونِ اللّهِ اَندادًا ُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللّهِ والَّذنَ ءامَنوا اَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ).

عطف على (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١٦٤] إلخ لأن تلك الجملة تضمنت أن قوما يعقلون استدلوا بخلق السموات والأرض وما عطف عليه على أن الله واحد فوحدوه ، فناسب أن يعطف عليه شأن الذين لم يهتدوا لذلك فاتخذوا لأنفسهم شركاء مع قيام تلك الدلائل الواضحة ، فهؤلاء الذين اتخذوا من دون الله هم المتحدث عنهم آنفا بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) [البقرة : ١٦١] الآيات.

وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ) خبر مقدم وقد ذكرنا وجه الإخبار به وفائدة تقديمه عند قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٨] وعطفه على ذكر دلائل الوحدانية وتقديم الخبر وكون الخبر (مِنَ النَّاسِ) مؤذن بأنه تعجب من شأنهم.

و (مِنَ) في قوله : (مَنْ يَتَّخِذُ) ما صدقها فريق لا فرد بدليل عود الضمير في قوله : (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ).

والمراد بالأنداد الأمثال في الألوهية والعبادة ، وقد مضى الكلام على النّد بكسر النون عند قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢].

وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) معناه مع الله لأن كلمة دون تؤذن بالحيلولة لأنها بمعنى وراء فإذا قالوا اتخذه دون الله فالمعنى أنه أفرده وأعرض عن الله وإذا قالوا اتخذه من دون الله فالمعنى أنه جعله بعض حائل عن الله أي أشركه مع الله لأن الإشراك يستلزم الإعراض عن

٨٨

الله في أوقات الشغل بعبادة ذلك الشريك.

وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) خال من ضمير (يَتَّخِذُ) ، وقوله : (يُحِبُّونَهُمْ) بدل من (يَتَّخِذُ) بدل اشتمال ، لأن الاتخاذ يشتمل على المحبة والعبادة ، ويجوز كونه صفة لمن ، وجوّز أن يكون صفة لأندادا لكنه ضعيف لأن فيه إيهام الضمائر لاحتمال أن يفهم أن المحب هم الأنداد يحبون الذين اتخذوهم ، والأظهر أن يكون حالا من (من) تفظيعا لحالهم في هذا الاتخاذ وهو اتخاذ أنداد سووها بالله تعالى في محبتها والاعتقاد فيها.

والمراد بالأنداد هنا وفي مواقعه من القرآن ، الأصنام لا الرؤساء (١) كما قيل ، وعاد عليهم ضمير جماعة العقلاء المنصوب في قوله : (يُحِبُّونَهُمْ) لأن الأصنام لما اعتقدوا ألوهيتها فقد صارت جديرة بضمير العقلاء على أن ذلك مستعمل في العربية ولو بدون هذا التأويل ، والمحبة هنا مستعملة في معناها الحقيقي وهو ميل النفس إلى الحسن عندها بمعاينة أو سماع أو حصول نفع محقق أو موهوم لعدم انحصار المحبة في ميل النفس إلى المرئيات خلافا لبعض أهل اللغة فإن الميل إلى الخلق (بضم الخاء) الحسن وإلى الفعل الحسن والكمال ، محبة أشد من محبة محاسن الذات فتشترك هذه المعاني في إطلاق اسم المحبة عليها باعتبار الحاصل في النفس وقطع النظر عن سبب حصوله.

فالتحقيق أن الحب يتعلق بذكر المرء وحصول النفع منه وحسن السمعة وإن لم يره فنحن نحب الله لما نعلمه من صفات كماله ولما يصلنا من نعمته وفضله ورحمته ، ونحب رسوله لما نعلم من كماله ولما وصل إلينا على يديه ولما نعلم من حرصه على هدينا ونجاتنا ، ونحب أجدادنا ، ونحب أسلافنا من علماء الإسلام ، ونحب الحكماء والمصلحين من الأولين والآخرين ، ولله در أبي مدين في هذا المعنى :

وكم من محب قد أحب وما رأى

وعشق الفتى بالسمع مرتبة أخرى

وبضد ذلك كله تكون الكراهية.

ومن الناس من زعم أن تعلق المحبة بالله مجاز مرسل في الطاعة والتعظيم بعلاقة اللزوم لأن طاعة المحب للمحبوب لازم عرفي لها قال الجعدي :

__________________

(١) أي الذين كانوا يتبعونهم ويطيعونهم وينزلون على أوامرهم ونواهيهم ، ورجّح هذا لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة : ١٦٦].

٨٩

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

أو مجاز بالحذف ، والتقدير : يحبون ثواب الله أو نعمته لأن المحبة لا تتعلق بذات الله ، إما لأنها من أنواع الإرادة ، والإرادة لا تتعلق إلا بالجائزات وهو رأى بعض المتكلمين ، وإما لأنها طلب الملائم. واللذة لا تحصل بغير المحسوسات وكلا الدليلين ظاهر الوهن كما بينه الفخر ، وعلى هذا التفصيل بين إطلاقي المحبة هنا يكون التشبيه راجعا إلى التسوية في القوة

ومنهم من جعل محبة الله تعالى مجازا وجعلها في قوله : (يُحِبُّونَهُمْ) أيضا مجازا وعلى ذلك درج في «الكشاف» وكان وجهه أن الأصل في تشبيه اسم بمثله أن يكون تشبيه فرد من الحقيقة بآخر منها. وقد علمت أنه غير متعين. وقوله : (كَحُبِّ اللهِ) مفيد لمساواة الحبين ؛ لأن أصل التشبيه المساواة وإضافة حب إلى اسم الجلالة من الإضافة إلى المفعول فهو بمنزلة الفعل المبني إلى المجهول. فالفاعل المحذوف حذف هنا لقصد التعميم أي كيفما قدرت حب محب لله فحب هؤلاء أندادهم مساو لذلك الحب ، ووجه هذا التعميم أن أحوال المشركين مختلفة ، فمنهم من يعبد الأنداد من الأصنام أو الجن أو الكواكب ويعترف بوجود الله ويسوي بين الأنداد وبينه ، ويسميهم شركاء أو أبناء الله تعالى ، ومنهم من يجعل لله تعالى الإلهية الكبرى ويجعل الأنداد شفعاء إليه ، ومنهم من يقتصر على عبادة الأنداد وينسى الله تعالى قال تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) [الحشر : ١٩] ، ومن هؤلاء صابئة العرب الذين عبدوا الكواكب ، ولله تعالى محبون من غير هؤلاء ومن بعض هؤلاء ، فمحبة هؤلاء أندادهم مساوية لمحبة محبي الله إياه أي مساوية في التفكير في نفوس المحبين من الفريقين فيصح أن تقدر يحبونهم كما يحب أن يحب الله أو يحبونهم كحب الموحدين لله إياه أو يحبونهم كحبهم الله ، وقد سلك كل صورة من هذه التقادير طائفة من المفسرين ، والتحقيق أن المقدر هو القدر المشترك وهو ما قدرناه في أول الكلام.

واعلم أن المراد إنكار محبتهم الأنداد من أصلها لا إنكار تسويتها بحب الله تعالى وإنما قيدت بمماثلة محبة الله لتشويهها وللنداء على انحطاط عقول أصحابها وفيه إيقاظ لعيون معظم المشركين وهم الذين زعموا أن الأصنام شفعاء لهم كما كثرت حكاية ذلك عنهم في القرآن فنبهوا إلى أنهم سووا بين محبة التابع ومحبة المتبوع ومحبة المخلوق ومحبة الخالق لعلهم يستفيقون فإذا ذهبوا يبحثون عما تستحقه الأصنام من المحبة وتطلبوا

٩٠

أسباب المحبة وجدوها مفقودة كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] مع ما في هذه الحال من زيادة موجب الإنكار.

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) أي أشد حبّا لله من محبة أصحاب الأنداد أندادهم ، على ما بلغوا من التصلب فيها ، ومن محبة بعضهم لله ممن يعترف بالله مع الأنداد ، لأن محبة جميع هؤلاء المحبين وإن بلغوا ما بلغوا من التصلب في محبوبيهم لمّا كانت محبة مجردة عن الحجة لا تبلغ مبلغ أصحاب الاعتقاد الصميم المعضود بالبرهان ، ولأن إيمانهم بهم لأغراض عاجلة كقضاء الحاجات ودفع الملمات بخلاف حب المؤمنين لله فإنه حب لذاته وكونه أهلا للحب ثم يتبع ذلك أغراض أعظمها الأغراض الآجلة لرفع الدرجات وتزكية النفس.

والمقصود تنقيص المشركين حتى في إيمانهم بآلهتهم فكثيرا ما كانوا يعرضون عنها إذا لم يجدوا منها ما أمّلوه. فمورد التسوية بين المحبتين التي دل عليها التشبيه مخالف لمورد التفضيل الذي دل عليه اسم التفضيل هنا ، لأن التسوية ناظرة إلى فرط المحبة وقت خطورها ، والتفضيل ناظر إلى رسوخ المحبة وعدم تزلزلها ، وهذا مأخوذ من كلام «الكشاف» ومصرح به في كلام البيضاوي مع زيادة تحريره ، وهذا يغنيك عن احتمالات وتمحلات عرضت هنا لبعض المفسرين وبعض شراح «الكشاف».

روي أن إمرأ القيس لما أراد قتال بني أسد حين قتلوا أباه حجرا ملكهم مر على ذي الخلصة الصّنم الذي كان بتبالة بين مكة واليمن فاستقسم بالأزلام التي كانت عند الصّنم فخرج له القدح الناهي ثلاث مرات (١) فكسر تلك القداح ورمى بها وجه الصّنم وشتمه وأنشد :

لو كنت يا ذا الخلص الموتورا

مثلي وكان شيخك المقبورا

لم تنه عن قتل العداة زورا

ثم قصد بني أسد فظفر بهم.

وروي أن رجلا من بني ملكان جاء إلى سعد الصّنم بساحل جدّة وكان معه إبل __________________

(١) ذو الخلصة بضم الخاء وفتح اللام صنم كان لخثعم وزبيد ودوس وهوازن ، وهو صخرة قد نقشت فيها صورة الخلصة والخلصة زهرة معروفة ، وكان عند ذي الخلصة أزلام ثلاثة يستقسمون بها وهي الناهي والآمر والمرتضى. وذو الخلصة هدمه جرير بن عبد الله البجلي بإذن من صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٩١

فنفرت إبله لما رأت الصّنم (١) فغضب الملكاني على الصّنم ورماه بحجر وقال :

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا

فشتّتنا سعد فما نحن من سعد

وهل سعد إلّا صخرة بتنوفة

من الأرض لا تدعو لغيّ ولا رشد

وإنما جيء بأفعل التفضيل بواسطة كلمة (أَشَدُّ) قال التفتازانيّ : آثر (أَشَدُّ حُبًّا) على أحبّ لأن أحب شاع في تفضيل المحبوب على محبوب آخر تقول : هو أحب إلي ، وفي القرآن : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ٢٤] إلخ. يعني أن فعل أحب هو الشائع وفعل حب قليل فلذلك خصوا في الاستعمال كلا بمواقع نفيا للبس فقالوا : أحب وهو محب وأشد حبا وقالوا حبيب من حب وأحب إلى من حب أيضا.

(وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ).

عطف على قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ) وذلك أن قوله ذلك لما كان شرحا لحال ضلالهم الفظيع في الدنيا من اتخاذ الأنداد لله مع ظهور أدلة وحدانيته حتى كان قوله : (وَمِنَ النَّاسِ) مؤذنا بالتعجيب من حالهم كما قدمنا ، وزيد في شناعته أنهم اتخذوا لله أندادا وأحبوها كحبه ، ناسب أن ينتقل من ذلك أي ذكر عاقبتهم من هذا الصنيع ووصف فظاعة حالهم في الآخرة كما فظع حالهم في الدنيا.

قرأ نافع وابن عامر ويعقوب (وَلَوْ يَرَى) بتاء فوقية وهو خطاب لغير معين يعم كل من يسمع هذا الخطاب ، وذلك لتناهي حالهم في الفظاعة والسوء ، حتى لو حضرها الناس لظهرت لجميعهم ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فالذين ظلموا) مفعول (ترى) على المعنيين ، و (إذ) ظرف زمان ، والرؤية بصرية في الأول والثاني لتعلقها في الموضعين بالمرئيات، ولأن ذلك مورد المعنى ، إلّا أن وقت الرؤيتين مختلف ، إذ المعنى لو تراهم الآن حين يرون العذاب يوم القيامة ، أي لو ترى الآن حالهم ، وقرأه الجمهور (يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالتحتية فيكون (الَّذِينَ ظَلَمُوا) فاعل (يَرَى) والمعنى أيضا لو يرون الآن ، وحذف مفعول (يَرَى) لدلالة المقام ، تقديره لو يرون عذابهم أو لو يرون أنفسهم أو يكون

__________________

(١) كان هذا الصنم حجرا طويلا ضخما.

٩٢

(إذ) اسما غير ظرف أي لو ينظرون الآن ذلك الوقت فيكون بدل اشتمال من (الَّذِينَ ظَلَمُوا).

و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم الذين اتخذوا من دون الله أندادا فهو من الإظهار في مقام الإضمار ليكون شاملا لهؤلاء المشركين وغيرهم ، وجعل اتخاذهم الأنداد ظلما لأنه اعتداء على عدة حقوق فقد اعتدوا على حق الله تعالى من وجوب توحيده ، واعتدوا على من جعلوهم أندادا لله على العقلاء منهم مثل الملائكة وعيسى ، ومثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، فقد ورد في «الصحيح» عن ابن عباس أنهم كانوا رجالا صالحين من قوم نوح فلما ماتوا اتخذ قومهم لهم تماثيل ثم عبدوها ، ومثل (اللات) يزعم العرب أنه رجل كان يلت السويق للحجيج (١) وأن أصله اللات بتشديد التاء ، فبذلك ظلموهم إذ كانوا سببا لهول يحصل لهم من السؤال يوم القيامة كما قال الله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] وقال : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) [سبأ : ٤٠] الآية ـ وقال : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) [الفرقان : ١٧] الآية ، وظلموا أنفسهم في ذلك بتعريضها للسخرية في الدنيا وللعذاب في الآخرة وظلموا أعقابهم وقومهم الذين يتبعونهم في هذا الضلال فتمضي عليه العصور والأجيال ، ولذلك حذف مفعول (ظَلَمُوا) لقصد التعميم ، ولك أن تجعل (ظَلَمُوا) بمعنى أشركوا كما هو الشائع في القرآن قال تعالى عن لقمان : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] وعليه فالفعل منزّل منزلة اللازم لأنه صار كاللقب.

وجملة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) معترضة والغرض منها التنويه بشأن الذين آمنوا بأن حبهم لله صار أشد من حبهم الأنداد التي كانوا يعبدونها وهذا كقول عمر بن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأنت أحب إليّ من نفسي التي بين جنبيّ».

وتركيب لو ترى وما أشبهه نحو لو رأيت من التراكيب التي جرت مجرى المثل فبنيت على الاختصار وقد تكرر وقوعها في القرآن.

وجواب (لَوْ) محذوف لقصد التفخيم وتهويل الأمر لتذهب النفس في تصويره كل مذهب ممكن ونظيره (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) [الأنعام : ٩٣] (وَلَوْ تَرى

__________________

(١) في «الروض» للسهيلي أنه عمرو بن لحي.

٩٣

إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) [الأنعام : ٢٧] (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) [الرعد : ٣١] ، قال المرزوقي عند قول الشّميذر الحارثي :

وقد ساءني ما جرّت الحرب بيننا

بني عمّنا لو كان أمرا مدانيا

«حذف الجواب في مثل هاته المواضع أبلغ وأدل على المراد بدليل أن السيد إذا قال لعبده لئن قمت إليك ثم سكت تزاحم على العبد من الظنون المعترضة للتوعد ما لا يتزاحم لو نص على ضرب من العذاب» ، والتقدير على قراءة نافع وابن عامر لرأيت أمرا عظيما وعلى قراءة الجمهور لرأوا أمرا عظيما.

وقوله : (أَنَّ الْقُوَّةَ) قرأه الجمهور بفتح همزة أنّ وهو بدل اشتمال من (الْعَذابَ) أو من (الَّذِينَ ظَلَمُوا) فإن ذلك العذاب من أحوالهم ، ولا يضر الفصل بين المبدل منه والبدل لطول البدل ، ويجوز أن يكون على حذف لام التعليل والتقدير لأن القوة لله جميعا والتعليل بمضمون الجواب المقدر أي لرأيت ما هو هائل لأنه عذاب الله ولله القوة جميعا.

وجميعا استعمل في الكثرة والشدة فقوة غيره كالعدم وهذا كاستعمال ألفاظ الكثرة في معنى القوة وألفاظ القلة في معنى الوهن كما في قول تأبط شرا :

قليل التشكي للملمّ يصيبه

كثير الهوى شتّى النّوى والمسالك

أراد شديد الغرام.

وقرأه أبو جعفر ويعقوب (أَنَّ الْقُوَّةَ) بكسر الهمزة على الاستئناف البياني كأن سائلا قال : ما ذا أرى وما هذا التهويل؟ فقيل : إن القوة ولا يصح كونها حينئذ للتعليل التي تغني غناء الفاء كما هي في قول بشار :

إن ذاك النجاح في التبكير

لأن ذلك يكون في مواقع احتياج ما قبلها للتعليل حتى تكون صريحة فيه.

وقرأ ابن عامر وحده (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) بضم الياء أي إذ يريهم الله العذاب في معنى قوله : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ) [البقرة : ١٦٧].

وانتصب (جميعا) على التوكيد لقوله (القوة) أي جميع جنس القوة ثابت لله ، وهو مبالغة لعدم الاعتداد بقوة غيره فمفاد جميع هنا مفاد لام الاستغراق في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢].

٩٤

وقد جاء (لو) في مثل هذا التركيب بشرط مضارع ووقع في كلام الجمهور من النحاة أن لو للشرط في الماضي وأن المضارع إذا وقع شرطا لها يصرف إلى معنى الماضي إذا أريد استحضار حالة ماضية وأما إذا كان المضارع بعدها متعينا للمستقبل فأوّله الجمهور بالماضي في جميع مواقعه وتكلفوا في كثير منها كما وقع لصاحب «المفتاح» ، وذهب المبرد وبعض الكوفيين إلى أن لو حرف بالمعنى إن لمجرد التعليق لا للامتناع ، وذهب ابن مالك في «التسهيل» و «الخلاصة» إلى أن ذلك جائز لكنه قليل وهو يريد القلة النسبية بالنسبة لوقوع الماضي وإلّا فهو وارد في القرآن وفصيح العربية.

والتحقيق أن الامتناع الذي تفيده (لو) متفاوت المعنى ومرجعه إلى أن شرطها وجوابها مفروضان فرضا وغير مقصود حصول الشرط فقد يكون ممكن الحصول وقد يكون متعذرا ولذلك كان الأولى أن يعبر بالانتفاء دون الامتناع لأن الامتناع يوهم أنه غير ممكن الحصول فأما الانتفاء فأعم ، وأن كون الفعل بعدها ماضيا أو مضارعا ليس لمراعاة مقدار الامتناع ولكن ذلك لمقاصد أخرى مختلفة بالاختلاف مفاد الفعلين في مواقعها في الشروط وغيرها ، إذ كثيرا ما يراد تعليق الشرط بلو في المستقبل نحو قول توبة :

ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا

ومن بين رمسينا من الأرض سبسب

لظل صدى صوتي وإن كنت رمّة

لصوت صدى ليلى يهشّ ويطرب

فإنه صريح في المستقبل ومثله هذه الآية.

(إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧))

إذ ظرف وقع بدل اشتمال من ظرف (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) [البقرة : ١٦٥] أي لو تراهم في هذين الحالين حال رؤيتهم العذاب وهي حالة فظيعة وتشتمل على حال اتخاذ لهم وتبرئ بعضهم من بعض وهي حالة شنيعة وهما حاصلان في زمن واحد.

وجيء بالفعل بعد (إذ) هنا ماضيا مع أنه مستقبل في المعنى لأنه إنما يحصل في الآخرة تنبيها على تحقق وقوعه فإن درجت على أن إذ لا تخرج عن كونها ظرفا للماضي على رأي جمهور النحاة فهي واقعة موقع التحقيق مثل الفعل الماضي الذي معها فتكون ترشيحا للتبعية ، وإن درجت على أنها ترد ظرفا للمستقبل وهو الأصح ونسبه في «التسهيل»

٩٥

إلى بعض النحاة ، وله شواهد كثيرة في القرآن قال تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) [آل عمران : ١٥٢] على أن يكون (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) هو الموعود به وقال : (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) [غافر : ٧١] فيكون المجاز في فعل (تَبَرَّأَ) خاصة.

والتبرؤ تكلف البراءة وهي التباعد من الأمر الذي من شأن قربه أن يكون مضرا ولذلك يقال تبارءا إذا أبعد كل الآخر من تبعة محققة أو متوقعة.

و (الَّذِينَ اتُّبِعُوا) بالبناء إلى المجهول هم الذين ضللوا المشركين ونصبوا لهم الأنصاب مثل عمرو بن لحيّ ، فقد أشعر قوله : (اتُّبِعُوا) أنهم كانوا يدعون إلى متابعتهم ، وأيّد ذلك قوله بعده (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) أي نجازيهم على إخلافهم.

ومعنى براءتهم منهم تنصلهم من مواعيد نفعهم في الآخرة الذي وعدوهم في الدنيا والشفاعة فيهم ، وصرفهم عن الالتحاق بهم حين هرعوا إليهم.

وجملة (وَرَأَوُا الْعَذابَ) حاليّة أي تبرءوا في حال رؤيتهم العذاب ، ومعنى رؤيتهم إياه أنهم رأوا أسبابه وعلموا أنه أعد لمن أضلّ الناس فجعلوا يتباعدون من أتباعهم لئلا يحق عليهم عذاب المضللين ، ويجوز أن تكون رؤية العذاب مجازا في إحساس التعذيب كالمجاز في قوله : (يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) [الأنعام : ٤٩] فموقع الحال هنا حسن جدا وهي مغنية عن الاستئناف الذي يقتضيه المقام لأن السامع يتساءل عن موجب هذا التبرؤ فإنه غريب فيقال رأوا العذاب فلما أريد تصوير الحال وتهويل الاستفظاع عدل عن الاستئناف إلى الحال قضاء لحق التهويل واكتفاء بالحال عن الاستئناف لأن موقعهما متقارب ، ولا تكون معطوفة على جملة (تَبَرَّأَ) لأن معناها حينئذ يصير إعادة لمعنى جملة : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) فتصير مجرد تأكيد لها ويفوت ما ذكرناه من الخصوصيات.

وضمير (رَأَوُا) ضمير مبهم عائد إلى فريقي الذين اتّبعوا والذين اتّبعوا.

وجملة (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) معطوفة على جملة (تَبَرَّأَ) أي وإذ تقطعت بهم الأسباب ، والضمير المجرور عائد إلى كلا الفريقين.

والتقطع الانقطاع الشديد لأن أصله مطاوع قطّعه بالتشديد مضاعف قطع بالتخفيف.

والأسباب جمع سبب وهو الحبل الذي يمد ليرتقى عليه في النخلة أو السطح ، وقوله (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) تمثيلية شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم

٩٦

الذي تعبوا لأجله مدة حياتهم وقد جاء إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب ، بحال المرتقى إلى النخلة ليجتنى الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب عند ارتقائه فسقط هالكا ، فكذلك هؤلاء قد علم كلهم حينئذ أن لا نجاة لهم فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة ، وهي تمثيلية بديعة لأنها الهيئة المشبهة تشتمل على سبعة أشياء كل واحد منها يصلح لأن يكون مشبّها بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبه بها وهي : تشبيه المشرك في عبادته الأصنام واتباع دينها بالمرتقي بجامع السعي ، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل ، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل لها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر ، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول ، وتشبيه الحرمان من الموصول للنعيم بتقطع الحبل ، وتشبيه الخيبة بالبعد عن الثمرة ، وتشبيه الوقوع في العذاب بالسقوط المهلك. وقلما تأتي في التمثيلية صلوحية أجزاء التشبيه المركب فيها لأن تكون تشبيهات مستقلة ، والوارد في ذلك يكون في أشياء قليلة كقول بشار الذي يعد مثالا في الحسن :

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

فليس في البيت أكثر من تشبيهات ثلاثة.

فالباء في (بهم) للملابسة أي تقطعت الأسباب ملتبسة بهم أي فسقطوا ، وهذا المعنى هو محل التشبيه لأن الحبل لو تقطع غير ملابس للمرتقى عليه لما كان في ذلك ضر إذ يمسك بالنخلة ويتطلب سببا آخر ينزل فيه ، ولذلك لم يقل وتقطعت أسبابهم أو نحوه ، فمن قال إن الباء بمعنى عن أو للسببية أو التعدية فقد بعد عن البلاغة ، وبهذه الباء تقوّم معنى التمثيلية بالصاعد إلى النخلة بحبل وهذا المعنى فائت في قول امرئ القيس :

تقطّع أسباب اللّبانة والهوى

عشيّة جاوزنا حماة وشيزرا

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) أظهر في مقام الإضمار لأن ضميري الغيبة اللذين قبله عائدان إلى مجموع الفريقين ، على أن في صلة (الَّذِينَ اتُّبِعُوا) تنبيها على إغاظة المتبوعين وإثارة حسرتهم وذلك عذاب نفساني يضاعف العذاب الجثماني وقد نبه عليه قوله : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ).

و (لو) في قوله : (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) مستعملة في التمني وهو استعمال كثير لحرف (لو) وأصلها الشرطية حذف شرطها وجوابها واستعيرت للتمني بعلاقة اللزوم لأن الشيء العسير المنال يكثر تمنيه ، وسدّ المصدر مسد الشرط والجواب ، وتقدير الكلام لو ثبتت لنا كرة

٩٧

لتبرأنا منهم وانتصب ما كان جوابا على أنه جواب التمني وشاع هذا الاستعمال حتى صار من معاني لو وهو استعمال شائع وأصله مجاز مرسل مركب وهو في الآية مرشح بنصب الجواب.

والكرّة الرّجعة إلى محل كان فيه الراجع وهي مرة من الكر ولذلك تطلق في القرآن على الرجوع إلى الدنيا لأنه رجوع لمكان سابق ، وحذف متعلّق (الكرة) هنا لظهوره.

والكاف في كما تبرءوا للتشبيه استعملت في المجازاة لأن شأن الجزاء أن يماثل الفعل المجازي قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ، وهذه الكاف قريبة من كاف التعليل أو هي أصلها وأحسن ما يظهر فيه معنى المجازاة في غير القرآن قول أبي كبير الهذلي :

أهزّ به في ندوة الحي عطفه

كما هزّ عطفي بالهجان الأوارك

ويمكن الفرق بين هذه الكاف وبين كاف التعليل أن المذكور بعدها إن كان من نوع المشبه كما في الآية وبيت أبي كبير جعلت للمجازاة ، وإن كان من غير نوعه وما بعد الكاف باعث على المشبه كانت للتعليل كما في قوله تعالى : (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [البقرة : ١٩٨].

والمعنى أنهم تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا بعد ما علموا الحقيقة وانكشف لهم سوء صنيعهم فيدعوهم الرؤساء إلى دينهم فلا يجيبونهم ليشفوا غيظهم من رؤسائهم الذين خذلوهم ولتحصل للرؤساء خيبة وانكسار كما خيبوهم في الآخرة.

فإن قلت هم إذا رجعوا رجعوا جميعا عالمين بالحق فلا يدعوهم الرؤساء إلى عبادة الأوثان حتى يمتنعوا من إجابتهم ، قلت باب التمني واسع فالأتباع تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا عالمين بالحق ويعود المتبوعون في ضلالهم السابق وقد يقال اتهم الأتباع متبوعيهم بأنهم أضلوهم على بصيرة لعلمهم غالبا والأتباع مغرورون لجهلهم فهم إذا رجعوا جميعا إلى الدنيا رجع المتبوعون على ما كانوا عليه من التضليل على علم بناء على أن ما رأوه يوم القيامة لم يزعهم لأنهم كانوا من قبل موقنين بالمصير إليه ورجع الأتباع عالمين بمكر المتبوعين فلا يطيعونهم.

وجملة (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) تذييل وفذلكة لقصة تبري المتبوعين من أتباعهم.

٩٨

والإشارة في قوله : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ) للإراءة المأخوذة من (يُرِيهِمُ) على أسلوب (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣].

والمعنى أن الله يريهم عواقب أعمالهم إراء مثل هذا الإراء إذ لا يكون إراء لأعمالهم أوقع منه فهو تشبيه الشيء بنفسه باختلاف الاعتبار كأنه يرام أن يريهم أعمالهم في كيفية شنيعة فلم يوجد أشنع من هذه الحالة ، وهذا مثل الإخبار عن المبتدأ بلفظه في نحو شعري شعرى ، أو بمرادفه نحو والسفاهة كاسمها ، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً).

والإراءة هنا بصرية ولذلك فقوله : (حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) حال من (أَعْمالَهُمْ) ومعنى (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ) يريهم ما هو عواقب أعمالهم لأن الأعمال لا تدرك بالبصر لأنها انقضت فلا يحسّون بها.

والحسرة حزن في ندامة وتلهف وفعله كفرح واشتقاقها من الحسر وهو الكشف لأن الكشف عن الواقع هو سبب الندامة على ما فات من عدم الحيطة له.

وقوله : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) حال أو اعتراض في آخر الكلام لقصد التذييل لمضمون (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) لأنهم إذا كانوا لا يخرجون من النار تعيّن أن تمنيهم الرجوع إلى الدنيا وحدوث الخيبة لهم من صنع رؤسائهم لا فائدة فيه إلّا إدخال ألم الحسرات عليهم وإلّا فهم باقون في النار على كل حال.

وعدل عن الجملة الفعلية بأن يقال «وما يخرجون» إلى الاسمية للدلالة على أن هذا الحكم ثابت أنه من صفاتهم ، وليس لتقديم المسند إليه هنا نكتة ، إلّا أنه الأصل في التعبير بالجملة الاسمية في مثل هذا إذ لا تتأتّى بسوى هذا التقديم ، فليس في التقديم دلالة على اختصاص لما علمت ولأن التقديم على المسند المشتق لا يفيد الاختصاص عند جمهور أئمة المعاني ، بل الاختصاص مفروض في تقديمه على المسند الفعلي خاصة ، ولأجل ذلك صرح صاحب «الكشاف» تبعا للشيخ عبد القاهر بأن موقع الضمير هنا كموقعه في قول المعذّل البكري :

هم يفرشون اللّبد كلّ طمرّة

وأجرد سبّاق يبذ المغاليا

في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص اه.

وادعى صاحب «المفتاح» أن تقديم المستند إليه على المسند المشتق قد يفيد

٩٩

الاختصاص كقوله تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) [هود : ٩١] ـ (وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا) [هود : ٢٩] ـ (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الأنعام : ١٠٧] فالوجه أن تقديم المسند إليه على المسند المشتق لا يفيد بذاته التخصيص وقد يستفاد من بعض مواقعه معنى التخصيص بالقرائن ، وليس في قوله تعالى : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ). ما يفيد التخصيص ولا يدعو إليه.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩))

استئناف ابتدائي هو كالخاتمة لتشويه أحوال أهل الشرك من أصول دينهم وفروعه التي ابتدأ الكلام فيها من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ) [البقرة : ١٦١] الآية ، إذ ذكر كفرهم إجمالا ثم أبطله بقوله : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [البقرة : ١٦٣] واستدل على إبطاله بقوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١٦٤] الآيات ثم وصف كفرهم بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة : ١٦٥] ، ووصف حالهم وحسرتهم يوم القيامة ، فوصف هنا بعض مساوئ دين أهل الشرك فيما حرموا على أنفسهم مما أخرج الله لهم من الأرض ، وناسب ذكره هنا أنه وقع بعد ما تضمنه الاستدلال على وحدانية الله والامتنان عليهم بنعمته بقوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى قوله : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) [البقرة : ١٦٤] الآية ، وهو تمهيد وتلخيص لما يعقبه من ذكر شرائع الإسلام في الأطعمة وغيرها التي ستأتي من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢].

فالخطاب بيا أيها الناس موجه إلى المشركين كما هو شأن خطاب القرآن بيا أيها الناس. والأمر في قوله : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) مستعمل في التوبيخ على ترك ذلك وليس للوجوب ولا للإباحة ، إذ ليس الكفار بأهل للخطاب بفروع الشريعة فقوله : (كُلُوا) تمهيد لقوله بعده (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ).

وقوله : (حَلالاً طَيِّباً) تعريض بتحميقهم فيما أعنتوا به أنفسهم فحرموها من نعم طيبة افتراء على الله ، وفيه إيماء إلى علة إباحته في الإسلام وتعليم للمسلمين بأوصاف الأفعال التي هي مناط الحل والتحريم.

١٠٠