تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

للصحيح من الجوع والعطش المعتادين ، بحيث يسبب له أوجاعا أو ضعفا منهكا أو تعاوده به أمراض ساكنة أو يزيد في انحرافه إلى حد المرض أو يخاف تمادي المرض بسببه. وهذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي على تفاوت بينهم في التعبير ، وأعدل العبارات ما نقل عن مالك ؛ لأن الله أطلق المرض ولم يقيده ، وقد علمنا أنه ما أباح للمريض الفطر إلّا لأن لذلك المرض تأثيرا في الصائم ، ويكشف ضابط ذلك قول القرافي في الفرق الرابع عشر إذ قال : «إن المشاق قسمان : قسم ضعيف لا تنفك عنه تلك العبادة كالوضوء والغسل في زمن البرد وكالصوم ، وكالمخاطرة بالنفس في الجهاد ، وقسم هو ما تنفك عنه العبادة وهذا أنواع : نوع لا تأثير له في العبادة كوجع إصبع ، فإن الصوم لا يزيد وجع الأصبع وهذا لا التفات إليه ، ونوع له تأثير شديد مع العبادة كالخوف على النفس والأعضاء والمنافع وهذا يوجب سقوط تلك العبادة ، ونوع يقرب من هذا فيوجب ما يوجبه» (١).

وذهب ابن سيرين وعطاء والبخاري إلى أن المرض وهو الوجع والاعتلال يسوغ الفطر ولو لم يكن الصوم مؤثرا فيه شدة أو زيادة ؛ لأن الله تعالى جعل المرض سبب الفطر كما جعل السفر سبب الفطر من غير أن تدعو إلى الفطر ضرورة كما في السفر ، يريدون أن العلة هي مظنة المشقة الزائدة غالبا ، قيل دخل بعضهم على ابن سيرين في نهار رمضان وهو يأكل فلما فرغ قال : إنه وجعتني إصبعي هذه فأفطرت ، وعن البخاري قال : اعتللت بنيسابور علة خفيفة في رمضان فعادني إسحاق بن راهويه في نفر من أصحابه فقال لي : أفطرت يا أبا عبد الله قلت : نعم أخبرنا عبدان عن ابن المبارك عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : من أي المرض أفطر؟ قال : من أي مرض كان كما قال الله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) وقيل : إذا لم يقدر المريض على الصلاة قائما أفطر ، وإنما هذه حالة خاصة تصلح مثالا ولا تكون شرطا ، وعزي إلى الحسن والنخعي ولا يخفى ضعفه ؛ إذ أين القيام في الصلاة من الإفطار في الصيام ، وفي هذا الخلاف مجال للنظر في تحديد مدى الانحراف والمرض المسوغين إفطار الصائم ، فعلى الفقيه الإحاطة بكل ذلك ونقربه من المشقة الحاصلة للمسافر وللمرأة الحائض.

وقوله : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) أي أو كان بحالة السفر وأصل (على) الدلالة على الاستعلاء ثم استعملت مجازا في التمكن كما تقدم في قوله تعالى : (عَلى هُدىً مِنْ

__________________

(١) «الفروق» للقرافي (١ / ١١٨) ، عالم الكتاب.

١٦١

رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] ثم شاع في كلام العرب أن يقولوا فلان على سفر أي مسافر ليكون نصا في التلبس ، لأن اسم الفاعل يحتمل الاستقبال فلا يقولون على سفر للعازم عليه وأما قول ...

ما ذا على البدر المحجّب لو سفر

إن المعذّب في هواه على سفر

أراد أنه على وشك الممات فخطأ من أخطاء المولدين في العربية ، فنبه الله تعالى بهذا اللفظ المستعمل في التلبس بالفعل ، على أن المسافر لا يفطر حتى يأخذ في السير في السفر دون مجرد النية ، والمسألة مختلف فيها فعن أنس بن مالك أنه أراد السفر في رمضان فرحّلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب وقال : هذه السنة ، رواه الدارقطني ، وهو قول الحسن البصري ، وقال جماعة : إذا أصبح مقيما ثم سافر بعد ذلك فلا يفطر يومه ذلك وهو قول الزهري ، ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور ، فإن أفطر فعليه القضاء دون الكفارة ، وبالغ بعض المالكية فقال : عليه الكفارة وهو قول ابن كنانة والمخزومي ، ومن العجب اختيار ابن العربي إياه ، وقال أبو عمر بن عبد البر : ليس هذا بشيء لأن الله أباح له الفطر بنص الكتاب ، ولقد أجاد أبو عمر ، وقال أحمد وإسحاق والشّعبي : يفطر إذا سافر بعد الصبح ورووه عن ابن عمر وهو الصحيح الذي يشهد له حديث ابن عباس في «صحيحي البخاري ومسلم» «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة ، فصام حتى بلغ عسفان ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه فأفطر حتى قدم مكة» ، قال القرطبي : وهذا نص في الباب فسقط ما يخالفه.

وإنما قال تعالى : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولم يقل : فصيام أيام أخر ، تنصيصا على وجوب صوم أيام بعدد أيام الفطر في المرض والسفر ؛ إذ العدد لا يكون إلّا على مقدار مماثل. فمن للتبعيض إن اعتبر أيام أعم من أيام العدة أي من أيام الدهر أو السنة ، أو تكون من تمييز عدة أي عدة هي أيام مثل قوله : (بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) [آل عمران : ١٢٥].

ووصف الأيام بأخر وهو جمع الأخرى اعتبارا بتأنيث الجمع ؛ إذ كل جمع مؤنث ، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى آنفا (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) قال أبو حيّان : واختير في الوصف صيغة الجمع دون أن يقال أخرى لئلا يظن أنه وصف لعدة ، وفيه نظر ؛ لأن هذا الظن لا يوقع في لبس ؛ لأن عدة الأيام هي أيام فلا يعتني بدفع مثل هذا الظن ، فالظاهر أن

١٦٢

العدول عن أخرى لمراعاة صيغة الجمع في الموصوف مع طلب خفة اللفظ.

ولفظ (أخر) ممنوع من الصرف في كلام العرب. وعلل جمهور النحويين منعه من الصرف على أصولهم بأن فيه الوصفية والعدل ، أما الوصفية ظاهرة وأما العدل فقالوا : لما كان جمع آخر ومفرده بصيغة اسم التفضيل وكان غير معرّف باللام كان حقه أن يلزم الإفراد والتذكير جريا على سنن أصله وهو اسم التفضيل إذا جرد من التعريف باللام ومن الإضافة إلى المعرفة أنه يلزم الإفراد والتذكير فلما نطق به العرب مطابقا لموصوفه في التثنية والجمع علمنا أنهم عدلوا به عن أصله (والعدول عن الأصل يوجب الثقل على اللسان ؛ لأنه غير معتاد الاستعمال) فخففوه لمنعه من الصرف وكأنهم لم يفعلوا ذلك في تثنيته وجمعه بالألف والنون لقلة وقوعهما ، وفيه ما فيه.

ولم تبين الآية صفة قضاء صوم رمضان ، فأطلقت (عدة من أيام أخر) ، فلم تبين أتكون متتابعة أم يجوز تفريقها؟ ولا وجوب المبادرة بها أو جواز تأخيرها ، ولا وجوب الكفارة على الفطر متعمدا في بعض أيام القضاء ، ويتجاذب النظر في هذه الثلاثة دليل التمسك بالإطلاق لعدم وجود ما يقيده كما يتمسك بالعام إذا لم يظهر المخصص ، ودليل أن الأصل في قضاء العبادة أن يكون على صفة العبادة المقضية.

فأما حكم تتابع أيام القضاء ، فروى الدار قطني بسند صحيح قالت عائشة نزلت (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) متتابعات فسقطت متتابعات ، تريد نسخت وهو قول الأئمة الأربعة وبه قال من الصحابة أبو هريرة ، وأبو عبيدة ، ومعاذ بن جبل ، وابن عباس ، وتلك رخصة من الله ، ولأجل التنبيه عليها أطلق قوله : (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ولم يقيد بالتتابع كما قال في كفارة الظهار وفي كفارة قتل الخطأ. فلذلك ألغى الجمهور إعمال قاعدة جريان قضاء العبادة على صفة المقضي ولم يقيدوا مطلق آية قضاء الصوم بما قيّدت به آية كفارة الظهار وكفارة قتل الخطأ. وفي «الموطأ» عن ابن عمر أنه يقول : يصوم قضاء رمضان متتابعا من أفطره من مرض أو سفر ، قال الباجي في «المنتقى» : يحتمل أن يريد به الوجوب وأن يريد الاستحباب.

وأما المبادرة بالقضاء ، فليس في الكتاب ولا في السنة ما يقتضيها ، وقوله هنا : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) مراد به الأمر بالقضاء ، وأصل الأمر لا يقتضي الفور ، ومضت السنة على أن قضاء رمضان لا يجب فيه الفور بل هو موسّع إلى شهر شعبان من السنة الموالية للشهر الذي أفطر فيه ، وفي «الصحيح» عن عائشة قالت : يكون عليّ الصوم من رمضان فما

١٦٣

أستطيع أن أقضيه إلّا في شعبان. وهذا واضح الدلالة على عدم وجوب الفور ، وبذلك قال جمهور العلماء وشذ داود الظاهري فقال : يشرع في قضاء رمضان ثاني يوم من شوال المعاقب له.

وأما من أفطر متعمدا في يوم من أيام قضاء رمضان فالجمهور على أنه لا كفارة عليه ؛ لأن الكفارة شرعت حفظا لحرمة شهر رمضان وليس لأيام القضاء حرمة وقال قتادة : تجب عليه الكفارة بناء على أن قضاء العبادة يساوي أصله.

(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ)(١).

عطف على قوله : (عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) والمعطوف بعض المعطوف عليه فهو في المعنى كبدل البعض أي وكتب على الذين يطيقونه فدية ؛ فإن الذين يطيقونه بعض المخاطبين بقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ).

والمطيق هو الذي أطاق الفعل أي كان في طوقه أن يفعله ، والطاقة أقرب درجات القدرة إلى مرتبة العجز ، ولذلك يقولون فيما فوق الطاقة : هذا ما لا يطاق ، وفسرها الفراء بالجهد بفتح الجيم وهو المشقة ، وفي بعض روايات «صحيح البخاري» عن ابن عباس قرأ : (وعلى الذين يطوّقونه فلا يطيقونه). وهي تفسير فيما أحسب ، وقد صدر منه نظائر من هذه القراءة ، وقيل الطاقة القدرة مطلقا.

فعلى تفسير الإطاقة بالجهد فالآية مراد منها الرخصة على من تشتد به مشقة الصوم في الإفطار والفدية.

وقد سمّوا من هؤلاء الشيخ الهرم والمرأة المرضع والحامل فهؤلاء يفطرون ويطعمون عن كل يوم يفطرونه وهذا قول ابن عباس وأنس بن مالك والحسن البصري وإبراهيم النخعي وهو مذهب مالك والشافعي ، ثم من استطاع منهم القضاء قضى ومن لم يستطعه لم يقض مثل الهرم ، ووافق أبو حنيفة في الفطر ؛ إلّا أنّه لم ير الفدية إلّا على الهرم لأنه لا يقضي بخلاف الحامل والمرضع ، ومرجع الاختلاف إلى أن قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) هل هي لأجل الفطر أم لأجل سقوط القضاء؟ والآية تحتملهما إلّا أنها في الأول أظهر ، ويؤيد ذلك فعل السلف ، فقد كان أنس بن مالك حين هرم وبلغ عشرا بعد

__________________

(١) في المطبوعة (مساكين) بصيغة الجمع ، وهي قراءة المصنف.

١٦٤

المائة يفطر ويطعم لكل يوم مسكينا خبزا ولحما.

وعلى تفسير الطاقة بالقدرة فالآية تدل على أن الذي يقدر على الصوم له أن يعوضه بالإطعام ، ولما كان هذا الحكم غير مستمر بالإجماع قالوا في حمل الآية عليه : إنها حينئذ تضمنت حكما كان فيه توسعة ورخصة ثم انعقد الإجماع على نسخه ، وذكر أهل الناسخ والمنسوخ أن ذلك فرض في أول الإسلام لما شق عليهم الصوم ثم نسخ بقوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) [البقرة : ١٨٥] ونقل ذلك عن ابن عباس وفي البخاري عن ابن عمر وسلمة بن الأكوع نسختها آية (شَهْرُ رَمَضانَ) [البقرة : ١٨٥] ثم أخرج عن ابن أبي ليلى قال : حدثنا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم من يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن التابعين وهو الأقرب من عادة الشارع في تدرج تشريع التكاليف التي فيها مشقة على الناس من تغيير معتادهم كما تدرج في تشريع منع الخمر.

ونلحق بالهرم والمرضع والحامل كلّ من تلحقه مشقة أو توقّع ضر مثلهم وذلك يختلف باختلاف الأمزجة واختلاف أزمان الصوم من اعتدال أو شدة برد أو حر ، وباختلاف أعمال الصائم التي يعملها لاكتسابه من الصنائع كالصائغ والحدّاد والحمامي وخدمة الأرض وسير البريد وحمل الأمتعة وتعبيد الطرقات والظّئر.

وقد فسرت الفدية بالإطعام إما بإضافة المبيّن إلى بيانه كما قرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر وأبو جعفر : (فدية طعام مساكين) ، بإضافة فدية إلى طعام ، وقرأه الباقون بتنوين (فدية) وإبدال (طعام) من (فدية).

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر (مساكين) بصيغة الجمع جمع مسكين ، وقرأه الباقون بصيغة المفرد ، والإجماع على أن الواجب إطعام مسكين ، فقراءة الجمع مبنية على اعتبار جمع الذين يطيقونه من مقابلة الجمع بالجمع مثل ركب الناس دوابهم ، وقراءة الإفراد اعتبار بالواجب على آحاد المفطرين.

والإطعام هو ما يشبع عادة من الطعام المتغذى به في البلد ، وقدره فقهاء المدينة مدّا بمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من برّ أو شعير أو تمر.

(فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ).

تفريع على قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) إلخ ، والتطوع : السعي في أن يكون

١٦٥

طائعا غير مكره أي طاع طوعا من تلقاء نفسه. والخير مصدر خار إذا حسن وشرف وهو منصوب لتضمين (تَطَوَّعَ) معنى أتى ، أو يكون (خَيْراً) صفة لمصدر محذوف أي تطوعا خيرا. ولا شك أن الخير هنا متطوع به فهو الزيادة من الأمر الذي الكلام بصدده وهو الإطعام لا محالة ، وذلك إطعام غير واجب فيحتمل أن يكون المراد : فمن زاد على إطعام مسكين واحد فهو خير ، وهذا قول ابن عباس ، أو أن يكون : من أراد إطعام مع الصيام ، قاله ابن شهاب ، وعن مجاهد : من زاد في الإطعام على المدّ وهو بعيد ؛ إذ ليس المدّ مصرحا به في الآية ، وقد أطعم أنس بن مالك خبزا ولحما عن كل يوم أفطره حين شاخ.

و (خَيْرٌ) الثاني في قوله : (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) يجوز أن يكون مصدرا كالأول ويكون المراد به خيرا آخر أي خير الآخرة. ويجوز أن يكون خير الثاني تفضيلا أي فالتطوع بالزيادة أفضل من تركها وحذف المفضل عليه لظهوره.

(وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

الظاهر رجوعه لقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) فإن كان قوله ذلك نازلا في إباحة الفطر للقادر فقوله : (وَأَنْ تَصُومُوا) ترغيب في الصوم وتأنيس به ، وإن كان نازلا في إباحته لصاحب المشقة كالهرم فكذلك ، ويحتمل أن يرجع إلى قوله : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) وما بعده ، فيكون تفضيلا للصوم على الفطر إلّا أن هذا في السفر مختلف فيه بين الأئمة ، ومذهب مالك رحمه‌الله أن الصوم أفضل من الفطر وأما في المرض ففيه تفصيل بحسب شدة المرض.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) تذييل أي تعلمون فوائد الصوم على رجوعه لقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) إن كان المراد بهم القادرين أي إن كنتم تعلمون فوائد الصوم دنيا وثوابه أخرى ، أو إن كنتم تعلمون ثوابه على الاحتمالات الأخر. وجيء في الشرط بكلمة (إن) لأن علمهم بالأمرين من شأنه ألّا يكون محققا ؛ لخفاء الفائدتين.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا

١٦٦

اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

قد علمت أن هذه الآيات تكملة للآيات السابقة وأن لا نسخ في خلال هاته الآيات ، فقوله : (شَهْرُ رَمَضانَ) خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي الأيام المعدودات شهر رمضان ، والجملة مستأنفة بيانيا ، لأن قوله : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ١٨٤] يثير سؤال السامع عن تعيين هذه الأيام ، ويؤيد ذلك قراءة مجاهد شهرا بالنصب على البدلية من (أَيَّاماً) : بدل تفصيل.

وحذف المسند إليه جار على طريقة الاستعمال في المسند إليه إذا تقدم من الكلام ما فيه تفصيل وتبيين لأحوال المسند إليه فهم يحذفون ضميره ، وإذا جوّزت أن يكون هذا الكلام نسخا لصدر الآية لم يصح أن يكون التقدير هي شهر رمضان فيتعين أن يكون شهر رمضان مبتدأ خبرهم قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) ، واقتران الخبر بالفاء حينئذ مراعاة لوصف المبتدأ بالموصول الذي هو شبيه بالشرط ومثله كثير في القرآن وفي كلام العرب ، أو على زيادة الفاء في الخبر كقوله :

وقائلة خولان فانكح فتاتهم (١)

أنشده سيبويه ، وكلا هذين الوجهين ضعيف.

والشهر جزء من اثني عشر جزءا من تقسيم السنة قال تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [التوبة : ٣٦] والشهر يبتدئ من ظهور الهلال إلى المحاق ثم ظهور الهلال مرة أخرى ، وهو مشتق من الشهرة لأن الهلال يظهر لهم فيشهرونه ليراه الناس فيثبت الشهر عندهم.

ورمضان علم وليس منقولا ؛ إذ لم يسمع مصدر على وزن الفعلان من رمض بكسر الميم إذا احترق ؛ لأن الفعلان ، يدل على الاضطراب ولا معنى له هنا ، وقيل هو منقول عن المصدر. ورمضان علم على الشهر التاسع من أشهر السنة العربية القمرية المفتتحة بالمحرم ؛ فقد كان العرب يفتتحون أشهر العام بالمحرم ؛ لأن نهاية العام عندهم هي

__________________

(١) تمامه :

وأكرومة الحيّين خلو كما هيا

١٦٧

انقضاء الحج ومدة الرجوع إلى آفاقهم ، ألا ترى أن لبيدا جعل جمادى الثانية وهو نهاية فصل الشتاء شهرا سادسا إذ قال :

حتّى إذا سلخا جمادى ستّة

جزءا فطال صيامه وصيامها

ورمضان ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون ؛ لأنه مشتق من الرمضاء وهي الحرارة لأن رمضان أول أشهر الحرارة بناء على ما كان من النسيء في السنة عند العرب إذ كانت السنة تنقسم إلى ستة فصول كل فصل منها شهران : الفصل الأول الخريف وشهراه محرم وصفر ، الثاني ربيع الأول وهو وقت نضج الثمار وظهور الرّطب والتمر وشهراه شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني على أن الأول والثاني وصف لشهر ، ألا ترى أن العرب يقولون «الرطب شهري ربيع» ، الثالث الشتاء وشهراه جمادى الأولى وجمادى الثانية قال حاتم :

في ليلة من جمادى ذات أندية

لا يبصر الكلب من ظلمائها الطّنبا

لا ينبح الكلب فيها غير واحدة

حتّى يلفّ على خيشومه الذّنبا

الرابع الربيع الثاني ـ والثاني وصف للربيع ـ وهذا هو وقت ظهور النّور والكمأة وشهراه رجب وشعبان ، وهو فصل الدّر والمطر قال النابغة يذكر غزوات النعمان ابن الحارث:

وكانت لهم ربعيّة يحذرونها

إذا خضخضت ماء السماء القبائل

وسمّوه الثاني لأنه يجيء بعد الربيع الأول في حساب السنة ، قال النابغة :

فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع الثّان والبلد الحرام

في رواية وراوي «ربيع الناس» ، وسموا كلا منهما ربيعا لأنه وقت خصب ، الفصل الخامس ، الصيف وهو مبدأ الحر وشهراه رمضان وشوال ، لأن النوق تشول أذنابها فيه تطرد الذباب. السادس القيظ وشهراه ذو القعدة وذو الحجة.

وبعض القبائل تقسم السنة إلى أربعة ، كل فصل له ثلاثة أشهر ؛ وهي الربيع وشهوره رجب وشعبان ورمضان ، والصيف وشهوره شوال وذو القعدة وذو الحجة ، والخريف وشهوره محرم وصفر والربيع الأول ، والشتاء وشهوره شهر ربيع الثاني ـ على أن الأول والثاني وصفان لشهر لا لربيع ـ وجمادى الأولى وجمادى الثانية.

ولما كانت أشهر العرب قمرية وكانت السنة القمرية أقل من أيام السنة الشمسية التي

١٦٨

تجيء بها الفصول تنقص أحد عشر يوما وكسرا ، وراموا أن يكون الحج في وقت الفراغ من الزروع والثمار ووقت السلامة من البرد وشدة الحر جعلوا للأشهر كبسا بزيادة شهر في السنة بعد ثلاث سنين وهو المعبر عنه بالنسيء.

وأسماء الشهور كلّها أعلام لها عدا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني فلذلك وجب ذكر لفظ الشهر معهما ثم وصفه بالأول والثاني ؛ لأن معناه الشهر الأول من فصل الربيع أعني الأول ، فالأول والثاني صفتان لشهر ، أما الأشهر الأخرى فيجوز فيها ذكر لفظ الشهر بالإضافة من إضافة اسم النوع إلى واحده مثل شجر الأراك ومدينة بغداد ، وبهذا يشعر كلام سيبويه والمحققين فمن قال : إنه لا يقال رمضان إلّا بإضافة شهر إليه بناء على أن رمضان مصدر ، حتى تكلف لمنعه من الصرف بأنه صار بإضافة شهر إليه علما فمنع جزء العلم من الصرف كما منع هريرة في أبي هريرة فقد تكلف شططا وخالف ما روي من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صام رمضان إيمانا واحتسابا» بنصب رمضان وإنما انجر إليهم هذا الوهم من اصطلاح كتاب الديوان كما في «أدب الكاتب».

وإنما أضيف لفظ الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن الإيجاز المطلوب لهم يقتضي عدم ذكره إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم ؛ لأنه لو قال رمضان لكان ظاهرا لا نصا ، لا سيما مع تقدم قوله (أَيَّاماً) [البقرة : ١٨٤] فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان.

فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفا لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه ، ولما كان ذلك حلوله مكررا في كل عام كان وجوب الصوم مكررا في كل سنة إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ولأن ما أجري على الشهر من الصفات يحقق أن المراد منه جميع الأزمنة المسماة به طول الدهر.

وظاهر قوله : (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أن المخاطبين يعلمون أن نزول القرآن وقع في شهر رمضان ، لأن الغالب في صلة الموصول أن يكون السامع عالما باختصاصها بمن أجرى عليه الموصول ، ولأن مثل هذا الحدث الديني من شأنه ألا يخفى عليهم ، فيكون الكلام تذكيرا بهذا الفضل العظيم ، ويجوز أيضا أن يكون إعلاما بهذا الفضل وأجري الكلام على طريقة الوصف بالموصول للتنبيه على أن الموصوف مختص بمضمون هذه

١٦٩

الصلة بحيث تجعل طريقا لمعرفته ، ولا نسلم لزوم علم المخاطب باتصاف ذي الصلة بمضمونها في التعريف بالموصولية بل ذلك غرض أغلبي كما يشهد به تتبع كلامهم ، وليس المقصود الإخبار عن شهر رمضان بأنه أنزل فيه القرآن ، لأن تركيب الكلام لا يسمح باعتباره خبرا لأن لفظ (شَهْرُ رَمَضانَ) خبر وليس هو مبتدأ ، والمراد بإنزال القرآن ابتداء إنزاله على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن فيه ابتداء النزول من عام واحد وأربعين من الفيل فعبر عن إنزال أوله باسم جميعه ؛ لأن ذلك القدر المنزل مقدّر إلحاق تكملته به كما جاء في كثير من الآيات مثل قوله: (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ٩٢] وذلك قبل إكمال نزوله فيشمل كل ما يلحق به من بعد ، وقد تقدم عند قوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ومعنى (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ) أنزل في مثله ؛ لأن الشهر الذي أنزل فيه القرآن قد انقضى قبل نزول آية الصوم بعدة سنين ، فإن صيام رمضان فرض من السنة الثانية للهجرة فبين فرض الصيام والشهر الذي أنزل فيه القرآن حقيقة عدة سنين فيتعين بالقرينة أن المراد أنزل في مثله أي في نظيره من عام آخر.

فقد جعل الله للمواقيت المحدودة اعتبارا يشبه اعتبار الشيء الواحد المتجدد ، وإنما هذا اعتبار للتذكير بالأيام العظيمة المقدار كما قال تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) [إبراهيم : ٥] ، فخلع الله على المواقيت التي قارنها شيء عظيم في الفضل أن جعل لتلك المواقيت فضلا مستمرا تنويها بكونها تذكرة لأمر عظيم ، ولعل هذا هو الذي جعل الله لأجله سنة الهدي في الحج ، لأن في مثل ذلك الوقت ابتلى الله إبراهيم بذبح ولده إسماعيل وأظهر عزم إبراهيم وطاعته ربه ومنه أخذ العلماء تعظيم اليوم الموافق ليوم ولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويجيء من هذا إكرام ذرية رسول الله وأبناء الصالحين وتعظيم ولاة الأمور الشرعية القائمين مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أعمالهم من الأمراء والقضاة والأئمّة.

وهذا يدل على أن مراد الله تعالى من الأمة صوم ثلاثين يوما متتابعة مضبوطة المبدأ والنهاية متحدة لجميع المسلمين. ولما كان ذلك هو المراد وقّت بشهر معيّن وجعل قمريا لسهولة ضبط بدئه ونهايته برؤية الهلال والتقدير ، واختير شهر رمضان من بين الأشهر لأنه قد شرف بنزول القرآن فيه ، فإن نزول القرآن لما كان لقصد تنزيه الأمة وهداها ناسب أن يكون ما به تطهير النفوس والتقرب من الحالة الملكية واقعا فيه ، والأغلب على ظني أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصوم أيام تحنثه في غار حراء قبل أن ينزل عليه الوحي إلهاما من الله تعالى وتلقينا لبقية من الملة الحنيفية فلما أنزل عليه الوحي في شهر رمضان أمر الله الأمة

١٧٠

الإسلامية بالصوم في ذلك الشهر ، روى ابن إسحاق أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جاورت بحراء شهر رمضان» ٠ ، وقال ابن سعد : جاءه الوحي وهو في غار حراء يوم الاثنين لسبع عشرة حلت من رمضان.

وقوله : (هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) حالان من (القرآن) إشارة بهما إلى وجه تفضيل الشهر بسبب ما نزل فيه من الهدى والفرقان.

والمراد بالهدى الأول : ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة ، وبالبينات من الهدى : ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير من الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية. والفرقان مصدر فرق وقد شاع في الفرق بين الحق والباطل أي إعلان التفرقة بين الحق الذي جاءهم من الله وبين الباطل الذي كانوا عليه قبل الإسلام ، فالمراد بالهدى الأول : ضرب من الهدى غير المراد من الهدى الثاني ، فلا تكرار.

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

تفريع على قوله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) الذي هو بيان لقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] كما تقدم فهو رجوع إلى التبيين بعد الفصل بما عقب به قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) من استيناس وتنويه بفضل الصيام وما يرجى من عوده على نفوس الصائمين بالتقوى وما حف الله به فرضه على الأمة من تيسير عند حصول مشقة من الصيام.

وضمير (مِنْكُمُ) عائد إلى (الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ١٨٣] مثل الضمائر التي قبله ، أي كل من حضر الشهر فليصمه ، و (شَهِدَ) يجوز أن يكون بمعنى حضر كما يقال : إن فلانا شهد بدرا وشهد أحدا وشهد العقبة أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي حضرها فنصب الشهر على أنه مفعول فيه لفعل (شَهِدَ) أي حضر في الشهر أي لم يكن مسافرا ، وهو المناسب لقوله بعده : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ). إلخ. أي فمن حضر في الشهر فليصمه كله ويفهم أن من حضر بعضه يصوم أيام حضوره.

ويجوز أن يكون (شَهِدَ) بمعنى علم كقوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] فيكون انتصاب الشهر على المفعول به بتقدير مضاف أي علم بحلول الشهر ،

١٧١

وليس شهد بمعنى رأى ؛ لأنه لا يقال : شهد بمعنى رأى ، وإنما يقال شاهد ، ولا الشهر هنا بمعنى هلاله بناء على أن الشهر يطلق على الهلال كما حكوه عن الزجاج وأنشد في «الأساس» قول ذي الرمة :

فأصبح أجلى الطّرف ما يستزيده

يرى الشهر قبل الناس وهو نحيل

أي يرى هلال الشهر ؛ لأن الهلال لا يصح أن يتعدى إليه فعل (شَهِدَ) بمعنى حضر ومن يفهم الآية على ذلك فقد أخطأ خطأ بينا وهو يفضي إلى أن كل فرد من الأمة معلق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم وهذا باطل ، ولهذا فليس في الآية تصريح على طريق ثبوت الشهر وإنما بينته السنة بحديث «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غمّ عليكم فاقدروا له» وفي معنى الإقدار له محامل ليست من تفسير الآية.

وقرأ الجمهور : (القرءان) بهمزة مفتوحة بعد الراء الساكنة وبعد الهمزة ألف ، وقرأه ابن كثير براء مفتوحة بعدها ألف على نقل حركة الهمزة إلى الراء الساكنة لقصد التخفيف.

وقوله : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ) قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) [البقرة : ١٨٤] أنه لما كان صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] إلخ وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله (شَهْرُ رَمَضانَ) الآية وصار الصوم واجبا على التعيين خيف أن يظنّ الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضا حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحا ببقاء تلك الرخصة ، ونسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحضر والصحة لا غير ، وهو بناء على كون هاته الآية ناسخة للتي قبلها ، فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم ، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقا بالسامعين ، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) إذا كان شهد بمعنى تحقق وعلم ، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

١٧٢

استئناف بياني كالعلة لقوله : (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) إلخ بيّن به حكمة الرخصة أي شرع لكم القضاء لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة.

وقوله : (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) نفي لضد اليسر ، وقد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملة قصر نحو أن يقول : ما يريد بكم إلّا اليسر ، لكنه عدل عن جملة القصر إلى جملتي إثبات ونفي لأن المقصود ابتداء هو جملة الإثبات لتكون تعليلا للرخصة ، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيدا لها ، ويجوز أن يكون قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) تعليلا لجميع ما تقدم من قوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] إلى هنا فيكون إيماء إلى أن مشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم.

وقرأ الجمهور : (اليسر) و (العسر) بسكون السين فيهما ، وقرأه أبو جعفر بضم السين ضمة اتباع.

(وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

عطف على جملة : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) إلخ ؛ إذ هي في موقع العلة كما علمت ؛ فإن مجموع هذه الجمل الأربع تعليل لما قبلها من قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) إلى قوله : (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).

واللام في قوله : (وَلِتُكَبِّرُوا) تسمى شبه الزائدة وهي اللام التي يكثر وقوعها بعد فعل الإرادة وفعل الأمر أي مادة أمر اللذين مفعولهما أن المصدرية مع فعلها ، فحق ذلك المفعول أن يتعدى إليه فعل الإرادة وفعل مادة الأمر بنفسه دون حرف الجر ولكن كثر في الكلام تعديته باللام نحو قوله تعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) [الصف : ٨] قال في «الكشاف» : أصله يريدون أن يطفئوا ، ومنه قوله تعالى : (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) [الزمر : ١٢] والفعل الذي بعد اللام منصوب بأن ظاهرة أو مقدرة.

والمعنى : يريد الله أن تكملوا العدة وأن تكبروا الله ، وإكمال العدة يحصل بقضاء الأيام التي أفطرها من وجب عليه الصوم ليأتي بعدة أيام شهر رمضان كاملة ، فإن في تلك العدة حكمة تجب المحافظة عليها ، فبالقضاء حصلت حكمة التشريع وبرخصة الإفطار لصاحب العذر حصلت رحمة التخفيف.

١٧٣

وقرأ الجمهور : (ولتكملوا) بسكون الكاف وتخفيف الميم مضارع أكمل وقرأه أبو بكر عن عاصم ويعقوب بفتح الكاف وتشديد الميم مضارع كمّل.

وقوله : (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) عطف على قوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) ، وهذا يتضمن تعليلا وهو في معنى علة غير متضمنة لحكمة ولكنها متضمنة لمقصد إرادة الله تعالى وهو أن يكبروه.

والتكبير تفعيل مراد به النسبة والتوصيف أي أن تنسبوا الله إلى الكبر والنسبة هنا نسبة بالقول اللساني ، والكبر هنا كبر معنوي لا جسمي فهو العظمة والجلال والتنزيه عن النقائص كلها ، أي لتصفوا الله بالعظمة ، وذلك بأن تقولوا : الله أكبر ، فالتفعيل هنا مأخوذ من فعّل المنحوت من قول يقوله ، مثل قولهم : بسمل وحمدل وهلّل وقد تقدم عند الكلام على البسملة ، أي لتقولوا : الله أكبر ، وهي جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الواقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة ، ومن كل عظيم في الاعتقاد كالآلهة الباطلة ، وإثبات الأعظمية لله في كلمة (الله أكبر) كناية عن وحدانيته بالإلهية ، لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية ، لأن حقيقتها لا تلاقي شيئا من النقص ، ولذلك شرع التكبير في الصلاة لإبطال السجود لغير الله ، وشرع التكبير عند نحر البدن في الحج لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم ، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية ، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد ويكبر الإمام في خطبة العيد.

وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأكل والتلطيخ بالدماء ، فكان لقول المسلم : الله أكبر ، إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام.

وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تعليل آخر وهو أعم من مضمون جملة (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) فإن التكبير تعظيم يتضمن شكرا والشكر أعم ، لأنه يكون بالأقوال التي فيها تعظيم لله تعالى ويكون بفعل القرب من الصدقات في أيام الصيام وأيام الفطر ، ومن مظاهر الشكر لبس أحسن الثياب يوم الفطر.

وقد دلت الآية على الأمر بالتكبير ؛ إذ جعلته مما يريده الله ، وهو غير مفصّل في لفظ التكبير ، ومجمل في وقت التكبير ؛ وعدده ، وقد بينت السنة القولية والفعلية ذلك على اختلاف بين الفقهاء في الأحوال.

١٧٤

فأما لفظ التكبير فظاهر الآية أنه كل قول فيه لفظ الله أكبر ، والمشهور في السنة أنه يكرر الله أكبر ثلاثا ، وبهذا أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك والشافعي : إذا شاء المرء زاد على التكبير تهليلا وتحميدا فهو حسن ولا يترك الله أكبر ، فإذا أراد الزيادة على التكبير كبر مرتين ثم قال : لا إله إلّا الله والله أكبر ولله الحمد وهو قول ابن عمر وابن عبا ، وقال أحمد : هو واسع ، وقال أبو حنيفة : لا يجزئ غير ثلاث تكبيرات.

وأما وقته : فتكبير الفطر يبتدئ من وقت خروج المصلي من بيته إلى محل الصلاة ، وكذلك الإمام ومن خرج معه ، فإذا بلغ محل الصلاة قطع التكبير ، ويسن في أول كل ركعة من ركعتي صلاة العيد افتتاح الأولى بسبع تكبيرات والثانية بست ، هذا هو الأصح مما ثبت في الأخبار وعمل به أهل المدينة من عهد النبي عليه الصلاة والسلام فما بعده وتلقاه جمهور علماء الأمصار ، وفيه خلاف كثير لا فائدة في التطويل بذكره والأمر واسع ، ثم يكبر الإمام في خطبة صلاة العيد بعد الصلاة ويكبر معه المصلون حين تكبيره وينصتون للخطبة فيما سوى التكبير.

وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والشافعي : يكبر الناس من وقت استهلال هلال الفطر إلى انقضاء صلاة العيد ثم ينقطع التكبير ، هذا كله في الفطر فهو مورد الآية التي نحن بصدد تفسيرها.

فأما في الأضحى فيزاد على ما يذكر في الفطر التكبير عقب الصلوات المفروضة من صلاة الظهر من يوم الأضحى إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع منه ، ويأتي تفصيله في تفسير قوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ٢٠٣].

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦))

الجملة معطوفة على الجمل السابقة المتعاطفة أي (لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : ١٨٥] ، ثم التفت إلى خطاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده لأنه في مقام تبليغ فقال : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) ، أي العباد الذين كان الحديث معهم ، ومقتضى الظاهر أن يقال (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وتدعون فأستجيب لكم إلّا أنه عدل عنه ليحصل في خلال ذلك تعظيم شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يسأله المسلمون عن أمر الله تعالى ، والإشارة إلى جواب من عسى أن يكونوا سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كيفية الدعاء هل يكون جهرا أو سرا ، وليكون

١٧٥

نظم الآية مؤذنا بأن الله تعالى بعد أن أمرهم بما يجب له عليهم أكرمهم فقال : وإذا سألوا عن حقهم عليّ فإني قريب منهم أجيب دعوتهم ، وجعل هذا الخير مرتبا على تقدير سؤالهم إشارة إلى أنهم يهجس هذا في نفوسهم بعد أن يسمعوا الأمر بالإكمال والتكبير والشكر أن يقولوا : هل لنا جزاء على ذلك؟ وأنهم قد يحجمون عن سؤال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك أدبا مع الله تعالى فلذلك قال تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ) الصريح بأن هذا سيقع في المستقبل. واستعمال مثل هذا الشرط مع مادة السؤال لقصد الاهتمام بما سيذكر بعده استعمال معروف عند البلغاء قال علقمة :

فإن تسألوني بالنّساء فإنّني

خبير بأدواء النساء طبيب

والعلماء يفتتحون المسائل المهمة في كتبهم بكلمة (فإن قلت) وهو اصطلاح «الكشاف». ويؤيد هذا تجريد الجواب من كلمة قل التي ذكرت في مواقع السؤال من القرآن نحو (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ) [البقرة : ١٨٩] ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) [البقرة : ٢٢٠] ، مع ما في هذا النظم العجيب من زيادة إخراج الكلام في صورة الحكم الكلي إذ جاء بحكم عام في سياق الشرط فقال (سَأَلَكَ عِبادِي) وقال : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) ولو قيل وليدعوني فأستجيب لهم لكان حكما جزئيا خاصا بهم ، فقد ظهر وجه اتصال الآية بالآيات قبلها ومناسبتها لهن وارتباطها بهن من غير أن يكون هنالك اعتراض جملة.

وقيل إنها جملة معترضة اقترنت بالواو بين أحكام الصيام للدلالة على أن الله تعالى مجازيهم على أعمالهم وأنه خبير بأحوالهم ، قيل إنه ذكر الدعاء هنا بعد ذكر الشكر للدلالة على أن الدعاء يجب أن يسبقه الثناء.

والعباد الذين أضيفوا إلى ضمير الجلالة هم المؤمنون لأن الآيات كلها في بيان أحكام الصوم ولوازمه وجزائه وهو من شعار المسلمين ، وكذلك اصطلاح القرآن غالبا في ذكر العباد مضافا لضمير الجلالة ، وأما قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) [الفرقان : ١٧] بمعنى المشركين فاقتضاه أنه في مقام تنديمهم على استعبادهم للأصنام.

وإنما قال تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) ولم يقل : فقل لهم إني قريب إيجازا لظهوره من قوله: (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) ، وتنبيها على أن السؤال مفروض غير واقع منهم بالفعل، وفيه لطيفة قرآنية وهي إيهام أن الله تعالى تولّى جوابهم عن سؤالهم بنفسه إذ حذف في اللفظ ما يدل على وساطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تنبيها على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء.

١٧٦

واحتيج للتأكيد بإنّ ، لأن الخبر غريب وهو أن يكون تعالى قريبا مع كونهم لا يرونه. و (أُجِيبُ) خبر ثان لإنّ وهو المقصود من الإخبار الذي قبله تمهيدا له لتسهيل قبوله.

وحذفت ياء المتكلم من قوله «دعان» في قراءة نافع وأبي عمرو وحمزة والكسائي ؛ لأن حذفها في الوقف لغة جمهور العرب عدا أهل الحجاز ، ولا تحذف عندهم في الوصل لأن الأصل عدمه ولأن الرسم يبنى على حال الوقف ، وأثبت الياء ابن كثير وهشام ويعقوب في الوصل والوقف ، وقرأ ابن ذكوان وعاصم بحذف الياء في الوصل والوقف وهي لغة هذيل ، وقد تقدم أن الكلمة لو وقعت فاصلة لكان الحذف متفقا عليه في قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠] في هذه السورة.

وفي هذه الآية إيماء إلى أن الصائم مرجوّ الإجابة ، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته ، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان.

والآية دلت على أن إجابة دعاء الداعي تفضل من الله على عباده غير أن ذلك لا يقتضي التزام إجابة الدعوة من كل أحد وفي كل زمان ، لأن الخبر لا يقتضي العموم ، ولا يقال : إنه وقع في حيز الشرط فيفيد التلازم ، لأن الشرط هنا ربط الجواب بالسؤال وليس ربط للدعاء بالإجابة ، لأنه لم يقل : إن دعوني أجبتهم.

وقوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) تفريع على (أُجِيبُ) أي إذا كنت أجيب دعوة الداعي فليجيبوا أوامري ، واستجاب وأجاب بمعنى واحد. وأصل أجاب واستجاب أنه الإقبال على المنادي بالقدوم ، أو قول يدل على الاستعداد للحضور نحو (لبيك) ، ثم أطلق مجازا مشهورا على تحقيق ما يطلبه الطالب ، لأنه لما كان بتحقيقه يقطع مسألته فكأنّه أجاب نداءه.

فيجوز أن يكون المراد بالاستجابة امتثال أمر الله فيكون (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) عطفا مغايرا والمقصود من الأمر الأول الفعل ومن الأمر الثاني الدوام ، ويجوز أن يراد بالاستجابة ما يشمل استجابة دعوة الإيمان ، فذكر (وَلْيُؤْمِنُوا) عطف خاص على عام للاهتمام به.

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) تقدم القول في مثله. والرشد إصابة الحق وفعله كنصر وفرح وضرب ، والأشهر الأول.

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ

١٧٧

وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)).

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)

انتقال في أحكام الصيام إلى بيان أعمال في بعض أزمنة رمضان قد يظن أنها تنافي عبادة الصيام ، ولأجل هذا الانتقال فصلت الجملة عن الجمل السابقة.

وذكروا لسبب نزول هذه الآية كلاما مضطربا غير مبيّن فروى أبو داود عن معاذ بن جبل «كان المسلمون إذا نام أحدهم إذا صلى العشاء وسهر بعدها لم يأكل ولم يباشر أهله بعد ذلك فجاء عمر يريد امرأته فقالت : إني قد نمت فظن أنها تعتلّ فباشرها» ، وروى البخاري عن البراء بن عازب أن قيس بن صرمة جاء إلى منزله بعد الغروب يريد طعامه فقالت له امرأته : حتى نسخن لك شيئا فنام فجاءت امرأته فوجدته نائما فقالت : خيبة لم فبقي كذلك فلما انتصف النهار أغمي عليه من الجوع ، وفي كتاب التفسير من «صحيح البخاري» عن حديث البراء بن عاذب قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) الآية ، ووقع لكعب بن مالك مثل ما وقع لعمر ، فنزلت هذه الآية بسبب تلك الأحداث ، فقيل : كان ترك الأكل ومباشرة النساء من بعد النوم أو من بعد صلاة العشاء حكما مشروعا بالسّنة ثم نسخ ، وهذا قول جمهور المفسرين ، وأنكر أبو مسلم الأصفهاني أن يكون هذا نسخا لشيء تقرر في شرعنا وقال : هو نسخ لما كان في شريعة النصارى.

وما شرع الصوم إلّا إمساكا في النهار دون الليل فلا أحسب أن الآية إنشاء للإباحة ولكنها إخبار عن الإباحة المتقررة في أصل توقيت الصيام بالنهار ، والمقصود منها إبطال شيء توهمه بعض المسلمين وهو أن الأكل بين الليل لا يتجاوز وقتين وقت الإفطار ووقت السحور وجعلوا وقت الإفطار هو ما بين المغرب إلى العشاء ، لأنهم كانوا ينامون إثر صلاة العشاء وقيامها فإذا صلوا العشاء لم يأكلوا إلّا أكلة السحور وأنهم كانوا في أمر الجماع كشأنهم في أمر الطعام وأنهم لما اعتادوا جعل النوم مبدأ وقت الإمساك الليلي

١٧٨

ظنوا أن النوم إن حصل في غير إبانة المعتاد يكون أيضا مانعا من الأكل والجماع إلى وقت السحور وإن وقت السحور لا يباح فيه إلّا الأكل دون الجماع ؛ إذ كانوا يتأثمون من الإصباح في رمضان على جنابة ، وقد جاء في «صحيح مسلم» أن أبا هريرة كان يرى ذلك يعني بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لعل هذا قد سرى إليهم من أهل الكتاب كما يقتضيه ما رواه محمد بن جرير من طريق السدي ، ولعلهم التزموا ذلك ولم يسألوا عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولعل ذلك لم يتجاوز بعض شهر رمضان من السنة التي شرع لهم فيها صيام رمضان فحدثت هذه الحوادث المختلفة المتقاربة ، وذكر ابن العربي في «العارضة» عن ابن القاسم عن مالك كان في أول الإسلام من رقد قبل أن يطعم لم يطعم من الليل شيئا فأنزل الله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) فأكلوا بعد ذلك فقوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ) دليل على أن القرآن نزل بهذا الحكم لزيادة البيان ؛ إذ علم الله ما ضيق به بعض المسلمين على أنفسهم وأوحى به إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا يشير إلى أن المسلمين لم يفشوا ذلك ولا أخبروا به رسول الله ولذلك لا نجد في روايات البخاري والنسائي أن الناس ذكروا ذلك لرسول الله إلّا في حديث قيس بن صرمة عند أبي داود ولعله من زيادات الراوي. فأما أن يكون ذلك قد شرع ثم نسخ فلا أحسبه ، إذ ليس من شأن الدين الذي شرع الصوم أول مرة يوما في السنة ثم درّجه فشرع الصوم شهرا على التخيير بينه وبين الإطعام تخفيفا على المسلمين أن يفرضه بعد ذلك ليلا ونهارا فلا يبيح الفطر إلّا ساعات قليلة من الليل.

وليلة الصيام الليلة التي يعقبها صيام اليوم الموالي لها جريا على استعمال العرب في إضافة الليلة لليوم الموالي لها إلّا ليلة عرفة فإن المراد بها الليلة التي بعد يوم عرفة.

والرّفث في «الأساس» و «اللسان» أن حقيقته الكلام مع النساء في شئون الالتذاذ بهن ثم أطلق على الجماع كناية ، وقيل هو حقيقة فيهما وهو الظاهر ، وتعديته بإلى ليتعين المعنى المقصود وهو الإفضاء.

وقول : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) جملة مستأنفة كالعلة لما قبلها أي أحل لعسر الاحتراز عن ذلك. ذلك أن الصوم لو فرض على الناس في الليل وهو وقت الاضطجاع لكان الإمساك عن قربان النساء في ذلك الوقت عنتا ومشقة شديدة ليست موجودة في الإمساك عن قربانهن في النهار ؛ لإمكان الاستعانة عليه في النهار بالبعد عن المرأة ، فقوله تعالى : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) استعارة بجامع شدة الاتصال حينئذ وهي استعارة أحياها القرآن ، لأن العرب كانت اعتبرتها في قوله : لابس الشيء الشيء ، إذا اتصل به لكنهم صيروها في خصوص

١٧٩

زنة المفاعلة حقيقة عرفية فجاء القرآن فأحياها وصيّرها استعارة أصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية وقريب منها قول امرئ القيس :

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

و (تَخْتانُونَ) قال الراغب : «الاختيان مراودة الخيانة» بمعنى أنه افتعال من الخون وأصله تختونون فصارت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وخيانة الأنفس تمثيل لتكليفها ما لم تكلف به كأنّ ذلك تعزير بها ؛ إذ يوهمها أن المشقة مشروعة عليها وهي ليست بمشروعة ، وهو تمثيل لمغالطتها في الترخص بفعل ما ترونه محرما عليكم فتقدمون تارة وتحجمون أخرى كمن يحاول خيانة فيكون كالتمثيل في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ) [البقرة : ٩].

والمعنى هنا أنكم تلجئونها للخيانة أو تنسبونها لها ، وقيل : الاختيان أشد من الخيانة كالاكتساب والكسب كما في «الكشاف» قلت : وهو استعمال كما قال تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) [النساء : ١٠٧].

وقوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) الأمر للإباحة ، وليس معنى قوله : (فَالْآنَ) إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذ بل معناه فالآن اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم. والابتغاء الطلب ، وما كتبه الله : ما أباحه من مباشرة النساء في غير وقت الصيام أو اطلبوا ما قدر الله لكم من الولد تحريضا للناس على مباشرة النساء عسى أن يتكون النسل من ذلك وذلك لتكثير الأمة وبقاء النوع في الأرض.

(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ).

عطف على (بَاشِرُوهُنَ) ، والخيط سلك الكتان أو الصوف أو غيرهما يلفق به بين الثياب بشدة بإبرة أو مخيط ، يقال خاط الثوب وخيّطه. وفي خبر قبور بني أميّة أنهم وجدوا معاوية رضي‌الله‌عنه في قبره كالخيط ، والخيط هنا يراد به الشعاع الممتد في الظلام والسواد الممتد بجانبه قال أبو دؤاد من شعراء الجاهلية :

فلمّا أضاءت لنا سدفة (١)

ولاح من الصّبح خيط أنارا

__________________

(١) السدفة الضوء بلغة قيس والظلمة بلغة تميم فهي من الأضداد في العربية.

١٨٠