إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

وفي رحلة المهاجر إلى الله السّيّد أحمد بن عيسى (١) أنّه : لمّا وصل حضرموت .. دخل الهجرين ، وأقام بها مديدة ، واشترى مالا ، فلم تطب له ، فوهب المال لعتيقه شويّه.

وانتقل منها إلى قارة جشيب ، فلم يأنس بها.

فانتقل إلى الحسيّسة ـ بضمّ الحاء وفتح السّين المكرّرة بينهما ياء مشدّدة مكسورة ، قرية على نصف مرحلة من تريم ـ فاستوطنها إلى أن توفّي بها سنة (٣٤٥ ه‍) ، ودفن بحضن الجبل المذكور.

قال السّيّد عمر بن عبد الرّحمن صاحب الحمراء في ترجمته للعيدروس : (توفّي الشّيخ أحمد بن عيسى بالحسيّسة ، ودفن في شعبها ، ولم يعرف الآن موضع قبره ، بل إنّ الشّيخ عبد الله بن أبي بكر العيدروس كان يزوره في الشّعب المذكور ، وقال : إنّ الشّيخ عبد الرّحمن كان يزوره) اه

وهو ظاهر في أنّهما كانا يزوران الجبل بدون تعيين موضع ، أمّا الآن .. فقد عيّنوه : إمّا بالقرائن ، وإمّا بالكشف ، على ارتفاع يزيد عن مئة ذراع في الجبل ، وههنا مباحث :

المبحث الأوّل :

زعم قوم أنّ سيّدنا المهاجر ، وابنه عبيد الله ، وأولادهم الثّلاثة : بصريّ وجديد وعلويّ ، كانوا شافعيّة أشعريّة ، وقد فنّدت ذلك متوكّئا على ما يغني ويقني من الأدلّة والأمارات في «الأصل» ، وتشكّكت في وقت دخول المذهب الشّافعيّ إلى حضرموت ، وقرّرت كثرة العلماء بحضرموت لعهد المهاجر وما قبله ، ولو شئت أن أجمع ما أنجبتهم تلك العصور من رجالات العلم والحديث .. لاستدعى مجلّدا

__________________

(١) ينظر لمعرفة ترجمته : «المشرع» (١ / ٧٧) ، و «الغرر» وتواريخ حضرموت للشاطري ، والحامد ، والبكري ، وللسيد محمد ضياء شهاب كتاب خاص عن المهاجر ، اسمه : «الإمام المهاجر» مطبوع صدر عن دار الشروق بجدة.

٧٨١

ضخما ؛ إذ لا يخلو «تهذيب التّهذيب» في حرف منه عن العدد الكثير منهم.

وإذا استطال الشّيء قام بنفسه

وصفات ضوء الشّمس تذهب باطلا (١)

ومعاذ الله أن تحصل منهم تلك الثّروة الضّخمة في الآفاق ، ويملؤون زوايا الشّام والحجاز ومصر والعراق ، بدون نظيره أو أقلّ منه في مساقط رؤوسهم.

ويتأكّد بما سيأتي عن «المشرع» في تريم من تردّد السّادة من بيت جبير إلى تريم في سبيل العلم.

وفي ترجمة عبد الله بن أحمد : أنّه أخذ عن أبيه وعن غيره من علماء عصره ، مع ذكرهم لاجتماعه بأبي طالب وقراءته لكتابه «القوت» عليه.

ومرّ في شبام ما يكثّر علماء الإباضيّة من شعر إبراهيم بن قيس ، وهو من أهل القرن الخامس ، وذكر من نجع من الأزد إليها في أيّام الحجّاج.

وسبق في الشّحر ما يدلّ على حالتها العلميّة حوالي سنة (٢٨٠ ه‍) ، وفي صوران ونقعة وغيرها ما يؤكّد ذلك ، وحسبك أنّ أكثر مشايخ الفقيه المقدّم من غير العلويّين ، قال سيّدي الأبرّ في «عقده» : (وتفقّه ـ يعني : الفقيه المقدّم ـ على الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن باعبيد ، وعلى القاضي أحمد بن محمّد باعيسى ، وأخذ الأصول والعلوم العقليّة عن الإمام العلّامة عليّ بن أحمد بامروان ، والإمام محمّد بن أحمد بن أبي الحبّ ، وأخذ علم التّفسير والحديث عن الحافظ المجتهد السّيد عليّ بن محمد باجديد ، وأخذ التّصوف والحقائق عن عمّه الشّيخ علويّ بن محمد صاحب مرباط ، وعن الإمام سالم بن بصريّ ، والشّيخ محمّد بن عليّ الخطيب) اه

وأكبر من هذا ما تضمّه الغنّاء من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ودعاته إلى الإسلام حتّى لهذا أنكر الشّيخ عبد الله باعلويّ على من استبعد وجود ربع أهل بدر فيها كما سيأتي في تريم ، وقال : إنّه يتلقّاه الخلف عن السّلف ، فانطمس منارهم ، واندرست آثارهم ، وهم نجوم الهدى ، ومصابيح الدّجى ، وشفاء

__________________

(١) البيت من الكامل.

٧٨٢

الكلوم ، وينابيع العلوم ، كلّا ، ولكنّها الأقدام تزلّ ، والأفهام تضل ، والأهواء تتغلّب ، والأوهام تتألّب ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

ولا يلزم ـ على كثرة العلماء بها ـ أن يتمذهبوا بشيء من المذاهب المشهورة ؛ فقد اشتهروا بالعلوم في عصر التّابعين فمن بعدهم قبل ظهور المذاهب ، وإن كان البدويّ الجافي ليأتي إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقيم أيّاما لا يقرأ كتابا ، فيعود وفي يده سراج الإسلام يرشد قومه ويدعوهم إلى الله ؛ ففي (ص ٤٩٢ ج ١) من «إمتاع الأسماع» للمقريزي : (أنّ عثمان بن أبي العاصي كان أصغر وفد ثقيف ، فكانوا يخلفونه في رحالهم وكان إذا ناموا بالهاجرة .. عمد إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فسأله عن الدّين واستقرأه القرآن ، وأسلم سرّا وفقه ، وقرأ من القرآن سورا) اه

والشّاهد : في فقهه مع أنّه لم يتلقّ إلّا أوقاتا يسيرة ، وكذلك أحوال كثير من الوافدين.

وقد توفّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن مئة وعشرين ألفا من الصّحابة ، وفيهم من الأجلاف من لا يعرف إلّا الفاتحة أو إلّا البسملة ، كما في «معاهد التّنصيص» في قسمة أنفال القادسيّة ، وهم يصلّون ويصومون ويحجّون ويزكّون بدون تمذهب ، وكذلك كان أهل حضرموت فيما أظنّ وفيما يقضي الاستصحاب ، حتّى غزتهم المذاهب بسبب الاختلاط الواقع أكثره بالحجاز واليمن.

وقد جاء في «المشرع» : (أنّ فتاوى السّيّد سالم بن بصريّ على أساليب أولي الاجتهاد) وفي (ص ٥ ج ٢) منه : (أنّ أهل حضرموت يشتغلون بالعلوم الفقهيّة ، وجمع الأحاديث النّبويّة) اه

ويؤيّده ما جاء في موضع آخر منه : (أنّ كثيرا من الصّلحاء والعلماء لا يعرفون عين قبره ، بل ولا جهته ؛ لأنّ المتقدّمين كانوا يجتنبون البناء والكتابة على القبور) اه

فإنّه أنصع الأدلّة على تمسّكهم بالسّنّة. وفي (ص ١٤٤ ج ٦) من «تاريخ ابن

٧٨٣

خلّكان» (عن ابن حزم : مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرّئاسة والسّلطان ؛ مذهب أبي حنيفة ، ومذهب مالك بن أنس) اه مختصرا.

وفي (ص ٢٣٣ ج ٥) : (أنّ المعزّ ابن باديس حمل أهل المغرب على مذهب مالك بعدما كان مذهب أبي حنيفة أظهر المذاهب به). وكانت وفاة المعزّ المذكور سنة (٤٥٤ ه‍).

وفي «مذكراتي» : (أنّ عبد الرّحيم بن خالد بن يزيد بن يحيى بن مولى جمح وصل إلى مصر في أيّام اللّيث بن سعد ، فأخذ عنه اللّيث وابن وهب ورشيد بن سعد ، وانتشر به مذهب مالك ، وتوفّي بالإسكندريّة سنة «١٦٣ ه‍» ، وخلفه ـ في نشر مذهب مالك بمصر ـ عبد الرّحمن بن القاسم ، وما زال مشهورا حتّى قدمها الشّافعيّ في سنة «١٩٨ ه‍» فصحبه جماعة من أعيانها كابن الحكم والرّبيع بن سليمان والمزنيّ والبويطيّ وعملوا بمذهبه ، ولم يكن أهل مصر يعرفون مذهب أبي حنيفة معرفتهم بمذهب مالك والشّافعيّ.

ويعلّل المقريزيّ ذلك بأنّ إسماعيل بن الرّبيع الكوفيّ ـ الّذي تولّى قضاء مصر بعد ابن لهيعة ـ كان يبطل الأحباس ، فثقل على المصريّين مذهبه في ذلك ، وسئموه.

أمّا الإمام أحمد .. فكان في القرن الثّالث ، ولم يخرج مذهبه عن العراق إلّا في القرن الرّابع ، وفي هذا القرن ملك الفاطميّون مصر ، وجاؤوا بمذهبهم على يد جوهر الصّقلّي) اه

ولا بدع أن يغزو المذهب الشّافعيّ حضرموت ؛ إمّا من أصحاب الشّافعيّ الأدنين ، أو من أمّ القرى ، أو من زبيد بواسطة الحجّاج والتّجّار وطلّاب العلم ؛ فالمواصلات متواترة بين حضرموت وبين هذه الأطراف ، على أنّ الحضارمة من أبعد النّاس عن التّمذهب.

وفي «نسيم حاجر» وفي المبحث الثّالث نسبة الاجتهاد لكثير من اللّاحقين فضلا عن السّابقين. قال الشّيخ إبراهيم بن يحيى بافضل ، المتوفّى سنة (٦٨٤ ه‍) [من الوافر]

٧٨٤

إذا لم أفتكم بصريح علم

فلا من بعدها تستفتئوني

بما في محكم القرآن أفتي

وإلّا بعد هذا كذّبوني

أو ليس من أصرح الصّريح في دعوى الاجتهاد؟

وذكر العلّامة ابن حجر في «فتاويه» عن علماء المتأخّرين من الحضارم : أنّهم لا يتقيّدون بكلام الرّافعيّ والنّوويّ ، وهما عمدة المذهب ، ولا يحضرني نصّ صريح في تعيين وقت التّمذهب ، وكانت العرب إذ ذاك متّصلة ، والأسواق جالبة ، والمشاهد جامعة ، والبلاد بما ألفوه من التّرحّل واستقراب البعيد متقاربة.

وممّا يشهد لهذا : أنّ كلّ مرحلة يأتي ذكرها عند الهمدانيّ وأمثاله تزيد عن مرحلتين بسير أهل العصور المتأخّرة.

ومرّ في الكسر أنّ يونس بن عبد الأعلى كان منه ، وهو أحد أصحاب الشّافعيّ ، وغير خاف أن حرملة بن عبيد الله صاحب الإمام الشّافعيّ وأحد رواة مذهبه .. كان من تجيب ، ومثله أبو نعيم التّجيبيّ المتوفّى سنة (٢٠٤ ه‍).

ومثرى تجيب بالكسر ، ثمّ نجع منهم الكثير إلى مصر ، ولا بدّ بطبيعة الحال أن يكونوا على اتّصال بأهل وطنهم أدبيّا ومادّيّا كما هي العادة بين العشائر ، ومعاذ الله أن تقطع رجالات العلم صلاتها بأوطانها وقراباتها وهم أحقّ النّاس بصلة الأرحام والحنين إلى الأوطان والقيام بحقوقها الّتي تفضل حقوق الأمّهات على الأولاد كما فصّلت في غير قصيدة من «الدّيوان».

ومرّت الإشارة في هذا المبحث لبعض العلماء الحضرميّين ، وأنّ آل باذيب نجعوا من العراق إلى حضرموت في أيّام الحجّاج ، وكان فيهم مفتون وقضاة.

وقال الشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان في «جواهر الأنفاس» : (نقل الشّيخ عليّ بن أبي بكر عن بعض علماء آل عبّاد أنّه كان في تريم ثلاث مئة مفت ، والصّفّ الأوّل من جامعها كلّه فقهاء ، يعني : مجتهدين في المذهب.

وفي شبام ستّون مفتيا ، وقاض شافعيّ ، وقاض حنفيّ ، وفي الهجرين مثل ذلك) اه

٧٨٥

وفي موضع آخر منه عن الشّيخ محمّد بن عمر جمال : (أنّه يقول : عمّت البلوى في جهة حضرموت بكثرة الجهل ، والجهّال أشبه بالشّياطين في أحوالهم ، وأقرب من البهائم في طبائعهم ، وقد كانت هذه الجهة معمورة بالعلم ، حكى المؤرّخون أنّه كان ببلد تريم ثلاث مئة مفت ، وفي شبام ستّون مفت ، وقاض شافعيّ ، وقاض حنفيّ ، وفي الهجرين قريب من ذلك) اه

وما نقله عن الشّيخ عليّ بن أبي بكر موجود في آخر الصّفحة (١١٧) من «البرقة» ونصّه : (وقد صحّ بالنّقل الصّحيح عن الثّقات أنّه اجتمع في تريم في زمن واحد ثلاث مئة مفت ، وبلغ الصّفّ الأوّل في صلاة الجمعة كلّه فقهاء) اه

وسيعاد هذا بأبسط ممّا هنا في تريم.

وفي الصّفحة التي قبلها : أنّ الإمام عليّ بن محمّد حاتم هنّأ شيخه المحقّق قاضي القضاة وسيّد القرّاء في عصره أبا بكر بن يحيى بن سالم أكدر بأبيات على شفائه من مرض ألمّ به ؛ منها :

قد حنّ مسجدنا لفقدك واشتكى

خللا وإن كثرت به الأقوام

وفي الحاشية : أنّ مسجدهم هو المعروف بمسجد عاشق ، يجلس على دكته منهم من أهل العلم والفتوى (٤٥) رجلا.

وفي «سموم ناجر» : أنّ وفاة الشّيخ أبي بكر بن يحيى هذا كانت سنة (٥٧٥ ه‍) شهيدا ، ويأتي في تريم عن «جوهر الخطيب» ما يوهم أنّ كثرة المفتين بتريم يعود إلى ما بذله الشّيخ سالم بافضل من نشر العلم ، والله أعلم.

وكانت وفاة الشّيخ بافضل في سنة (٥٨١ ه‍) أي : بعد الشّيخ أبي بكر أكدر بنحو ستّ سنين ، ومن البعيد أن يكون تفقّهه عليه .. فليتأمّل.

أمّا اشتهار مذهب الشّافعيّ في اليمن .. فقد قال السّخاويّ : إنّه كان في المئة الثّالثة ، ونقله عن الجنديّ.

٧٨٦

وقال اليافعيّ : إنّ ممّن أظهر مذهب الشّافعيّ باليمن موسى بن عمران المعافريّ ، قال : وممّن نشره بزبيد بنو عقامة.

ومن كتاب «المسالك اليمنيّة» للسّيّد محمّد بن إسماعيل الكبسيّ : أنّ المأمون ولّى محمّد بن هارون التّغلبيّ قضاء التّهائم في سنة (٢٠٣ ه‍).

ومحمّد بن هارون هذا هو جدّ بني عقامة.

وفي «طبقات ابن السّبكيّ» [٧ / ١٣٠] : (عن ابن سمرة : أنّ فضائل بني عقامة مشهورة ، وهم الّذين نشر الله بهم مذهب الشّافعيّ في تهامة ، وقدماؤهم جهروا بالبسملة في الجمعة والجماعات) اه

وقوله : (وهم الّذين ... إلخ) صيغة حصر ، وكأنّ المذهب الشّافعيّ أتاهم قبل أن يعرفوا المذاهب ، فوافق ما عندهم فتمكّن ونشره الله بهم.

يعجبني ما ذكره ياقوت [٤ / ١٠٨] لبعض قضاتهم يرثي هلكاه المدفونين بالعرق وهو موضع بزبيد [من الكامل] :

يا صاح قف بالعرق وقفة معول

وانزل هناك فثمّ أكرم منزل

نزلت به الشّمّ البواذخ بعدما

لحظتهم الجوزاء لحظة أسفل

أخواي والولد العزيز ووالدي

يا حطم رمحي عند ذاك ومنصل

هل كان في اليمن المبارك بعدنا

أحد يقيم صغا الكلام الأميل

حتّى أنار الله سدفة أهله

ببني عقامة بعد ليل أليل

لا خير في قول امرىء مستمدح

لكن طغى قلمي وأفرط مقولي

وذكر اليافعيّ أيضا : (أنّ القاسم بن محمّد بن عبد الله القرشيّ المتوفّى سنة «٤٣٨ ه‍» نشر مذهب الشّافعيّ في نواحي الجند وصنعاء والمعافر والسّحول وعدن ولحج وأبين) اه

ولئن تأخّر وصول المذهب الشّافعيّ إلى حضرموت عمّا مرّ .. فلن يخطئها فيما حوالي هذا التّاريخ.

٧٨٧

وقال بعض الزّيديّة : إنّ العترة الطّيّبة قد تفرّقت في البلاد ، وملأت الأغوار والأنجاد ، وكلّ من كان منهم في إقليم .. فإنّما هو على مذهب جهته وإقليمه في غالب الأمر ، لم يتواصوا كلّهم بمذهب واحد في مهمّات الأصول ، فضلا عن نوادر الفروع ، فهؤلاء الأئمّة المعروفون في اليمن وعدد قليل من الجبل شاعت أقوالهم ، وسارت الرّكبان بمذاهبهم كالنّاصر.

وفي الكثير منهم ـ وهم أهل الكوفة وما والاها ـ ذكر بعض العلماء جماعة كثيرة زيديّة من دعاتهم ، وأهل اليمن لا يعرفونهم ولا يعرفون مقالتهم ، وكذلك الإدريسيّون في المغرب فيهم كثرة ، وظاهرهم على مذهب مالك ، ثمّ من هذه الذّرّيّة شافعيّة أو حنفيّة في الفروع ، أشعريّة في الأصول ، متظاهرون بذلك ؛ كالمحقّق السّيّد الشّريف الجرجانيّ وغيره.

وفي المحدثين الكثير الطّيّب علماء مجتهدون منتسبون إلى المذاهب الأربعة ، مصنّفون فيها ، إذا طالعت كتب الرّجال .. عرفت ما يصفونهم به.

وبه نعرف أنّ الّذي في الزّيديّة لا يزيدون عليهم وصفا ولا عددا ، وكلّ يدّعي أنّه المقتفي لآبائه القدماء من أهل البيت عليّ والحسنين ونحوهم رضي الله عنهم ... إلخ كلامه.

وكتب عليه القاضي إسماعيل بن مزاحم المجاهد بما حاصله : حصر الحقّ على السّادة الزّيديّة باليمن ؛ لأنّهم هم الّذين بقوا مع القرآن في قرن متبوعين لا تابعين.

وقال : ألا ترى لو أنّ أحد أهل البيت المقلّدين لمالك قال : إنّ الكلب طاهر .. لأنكر عليه الكلّ أن تكون هذه المقالة لأهل البيت. اه مختصرا بالمعنى

وأنا لا أرضى هذا الجواب ؛ لما فيه من تحجّر ، وليس الزّيديّة بفرقة واحدة ، وإنّما هم ـ كغيرهم ـ فيهم المغالون والمعتدلون ، وما أحسن ما فسّر به الشّوكانيّ الفرقة النّاجية من أنّها : من كانت على هديه صلّى الله عليه وآله وسلّم في إيثار الحقّ على ما سواه. أو ما يقرب هذا من معناه.

٧٨٨

والوسط هو المحمود ، وعنده يلتقي شأو المنصفين من كلّ فرقة ، وقبلتنا من أمّها .. لا يكفّر.

وفي غير هذا الموضع أنّه كان للعلويّين اتّصال بالسّادة الزّيديّة إلّا أنّه تلاشى بعد التّمذهب حتّى جدّده الله باتّصالي بأمير المؤمنين المتوكّل على الله يحيى بن محمّد حفظه الله.

المبحث الثّاني :

لا نزاع فيما يؤثر عن سابقي العلويّين من الشّهامة والفتوّة والكرم ، والمروءة والجاه والشّرف والسّيادة ، والحلم والصّبر والعبادة ، والنّجدة والتّواضع والورع والتّقوى ، والأخذ من مكارم الأخلاق بالغايات القصوى ، بل كلّ ثناء مقصّر عنهم في هذه النّواحي.

وجاء في مواضع من كلام الحبيب عمر بن حسن الحدّاد أنّ المشايخ استنكروا العلويّين ؛ لأنّ المقام مقامهم ، وفي كلام غيره : أنّ النّاس أقبلوا عليهم من بدء الأمر ، وتجتمع أطراف الكلام بما انتصبت عليه القرائن من استنكار أهل المذاهب للتّخالف المنضمّ إلى الحسد ، ولكنّ العامّة ـ بسلامة قلوبهم ونشأتهم على الفطرة وانقيادهم بسوق الطّبيعة ـ أقبلوا عليهم إقبالا عظيما ، وكيف لا .. وهم أوّل من عرفوا من العترة الطّاهرة ، وقد قيل (١) :

يقولون ما بال النّصارى تحبّهم

وأهل النّهى من أعرب وأعاجم

فقلت لهم : إنّي لأحسب حبّهم

سرى في قلوب الخلق حتّى البهائم

لا سيّما وقد انضمّ إلى ذلك ما يستجهر الأبصار والبصائر من الشّرف الفخم والسّؤدد الضّخم ؛ فقد كان الأمر أعظم ممّا يتصوّر ، وإن كان سيّدنا محمّد بن عليّ ـ صاحب مرباط ـ ليخفر القوافل من بيت جبير إلى ظفار ، بما له من ضخامة الجاه ، كما ذكره الشّيخ سالم بن حميد عن الشّيخ عبد الله بن عمر الكثيريّ.

__________________

(١) البيتان من الطويل ، وهما لزينب بنت إسحاق النصراني ، وهما في «نفح الطيب» (٢ / ٨٤٤).

٧٨٩

وكانت القوافل ترحل من حضرموت إلى صنعاء في خفارة مسبحة سيّدنا الشّيخ عبد الله باعلويّ كما رواه والدي عن الأستاذ الأبرّ فيما جمعه من كلامه.

ولا شاهد بشيء من ذلك على التّوسّع في العلم بأمارة المشاهدة ؛ فأولو الجاه عند البوادي والعامّة وغيرهم من مناصب حضرموت قديما وحديثا لا ينتسب منهم إلى العلم إلّا القليل ، فأرى أنّه مبالغ فيما ينسب منه إلى الأسلاف الطّيّبين.

فقد نقلوا عن «الياقوت الثّمين» : (أنّ عبيد الله بن أحمد من أكابر العلماء) ، مع أنّهم لم يذكروا أثرا لعلمه إلّا قراءته ل «قوت القلوب» على مؤلّفه ، وطنطنوا على ذلك بما دلّنا على أنّه لو كان هناك أثر أكبر منه .. لذكروه وكبّروه ، على أنّ الّذي في «المشرع» أنّه : (حجّ في سنة «٣٧٧ ه‍» ، وفي ذلك العام حجّ أبو طالب المكيّ ، فأخذ عنه مؤلّفاته ، وسمع منه مرويّاته) اه

ولم يذكر أنّه قرأ عليه «قوت القلوب» .. ومعلوم أنّ وقت الحجّ لا يتّسع لغير مجرّد الأخذ ، فأمّا قراءة «قوت القلوب» بحذافيره .. فلا بدّ لها من زمان طويل ، ثمّ إنّ مجرّد قراءة «القوت» ـ بتسليمها ـ لا تستدعي التّوسّع في العلم الشّرعيّ ، بل ولا الاتّسام بسمته ؛ إذ لا يعطى من حفظ «قوت القلوب» وتعقّله ـ فضلا عمّن قرأه فقط ـ ممّا يوصى به للعلماء أو يوقف عليهم.

وممّا يدلّك على تسامحهم في الثّناء بالعلم : أنّ الشّلّيّ وغيره ترجم للسّيّد عبد الله بن محمّد صاحب مرباط ، ووصفوه بالحفظ ، ثمّ لم يذكروا له أثرا من ذلك سوى إجازة له من القلعيّ (١) في رواية «جامع التّرمذيّ» (٢) ، مع أنّ البخاريّ ـ كما

__________________

(١) هو الفقيه الإمام العلامة محمد بن علي القلعي الظفاري ، المتوفى سنة (٦٣٠ ه‍). ينظر : «عقود الألماس» (٢٣٠) وما بعدها ، ومقدمة كتابه «تهذيب الرياسة».

(٢) أورد السيد خرد في «الغرر» نصّ هذه الإجازة المؤرخة في (٥٧٥ ه‍) ، وهو رآها مكتوبة على ظهر الجزء الأول من «الترمذي» وهي للشريف عبد الله وللفقيه الإمام أبي القاسم بن فارس بن ماضي.

ونصها : (أجزت لهما «جامع أبي عيسى الترمذي» وغيره ، كتبه محمد بن علي القلعي) اه توفي الشريف عبد الله سنة (٥٩٢ ه‍).

٧٩٠

رواه غير واحد ـ يقول : (اعلم أنّ الرّجل لا يصير محدّثا كاملا في الحديث .. إلّا أن يكتب أربعا مع أربع ، كأربع مثل أربع ، في أربع عند أربع ، بأربع على أربع ، عن أربع لأربع. وكلّ هذه الرّباعيّات لا تتمّ إلّا بأربع مع أربع ..) إلى آخره (١) ، ممّا ينبغي أن يكشف من [ص ٢٨٤] «فتاوى حديثية» لابن حجر الهيتمي.

وأخرى ، وهي أنّ بين أيدينا «البرقة» و «عقد» سيّدي الأستاذ الأبرّ ، وقد ذكروا عمود النّسب فلم يطنبوا في الثّناء بالعلم إلّا على الفقيه المقدّم وصاحب مرباط ، ولم يصفوا والد الفقيه المقدّم إلّا بأنّه عالم صوفيّ.

واقتصروا في الإمام أحمد بن عيسى على : (ذي العقل الكبير ، والقلب المستنير ، والعلم الغزير) لأجل السّجع ، ولو كان واسع العلم .. لبسطوا القول فيه ، كما لم يذكروا ولده عبيد الله ولا محمّدا صاحب الصّومعة ، ولا عليّا العريضيّ ، ولا عليّا خالع قسم بعلم أصلا.

وأضجعوا القول في وصف علويّ بن محمّد وعيسى بن محمّد بالعلم ، مع إطنابهم في فضلهم وعبادتهم ، على أنّنا لا ننسى ما نقله والدي عن سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر : أنّه زار المهاجر مع العلّامة الحبيب عبد الله بن عمر ، فقال لولد له صغير ـ يدعى محمّد الطّاهر ـ : تدري من هذا ـ يعني المهاجر ـ يا ولدي؟ فقال له : هذا المهاجر ، أفضل من في الوادي علما وعملا وقربا من النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ؛ لأنّ مثل ذلك قد لا يراد به كلّ ظاهره في تبصير الأولاد وحثّهم على الاجتهاد.

وسيأتي في تريم أنّ الطّيّب بامخرمة لم يذكر فقيها من العلويّين إلّا الفقيه المقدّم.

__________________

(١) ثم قال الراوي : فهالني قوله ، فسكتّ متفكرا ، وأطرقت نادما. فلما رأى ذلك مني .. قال ـ أي : الإمام البخاري ـ : وإن لا تطق احتمال هذه المشاق كلها .. فعليك بالفقه الذي يمكنك تعلمه وأنت في بيتك ، قار ساكن ، لا تحتاج إلى بعد الأسفار ، ووطء الديار ، وركوب البحار ، وهو مع ذا ثمرة الحديث. وليس ثواب الفقيه بدون ثواب المحدث في الآخرة ، ولا عزه بأقل من عز المحدث. وانظر هذا الخبر بطوله في «الغنية» للقاضي عياض (ص ٦٨) ، و «الإلماع» (ص ٢٩).

٧٩١

وفي ترجمة عليّ بن الجديد من «تاريخ الجنديّ» : أنّه من أشراف هناك يعرفون بآل أبي علويّ ، بيت عبادة وصلاح ، على طريق التّصوّف ، وفيهم فقهاء يأتي ذكر من أتحقّق منهم إن شاء الله تعالى.

ومن مجموع ما سقناه مع ما سبق من مبالغة «العقد الثّمين» .. تعرف أنّ تلك المبالغات ـ من غير شهادة الآثار ـ مبنيّة على ممادح العناوين الّتي لا يراد من أكثرها إلّا مجرّد الثّناء ، وهو شيء معروف بين النّاس.

والثالثة : هي : أنّ قريشا ـ ومن على شاكلتهم من العرب ـ انصرفوا لتلك العصور عن طلب العلم ؛ لما في طريقه من الذّلّ الّذي يمنعهم الشّرف ـ بعد الطّفوليّة ـ عن امتهان أنفسهم فيه ، ولذا قلّ ما يوجد العلم فيهم إلّا في النّدرى ؛ كالباقر وأخيه ، والصّادق وابنه ، والإمام أحمد بن عيسى بن زيد ثمّ المرتضى وأخيه والنّاصر للحقّ من بعدهم.

وهناك دسيس آخر ، وهو : أنّ الملوك لا ينصفون العلماء منهم ، ولا ينعمونهم به عيونا ؛ لأنّ للعلم سلطانا فوق كلّ سلطانهم ، فلا بدّ للمستبدّ أن يستحقر نفسه ـ ولو في سرّه ـ كلّما وقعت عينه على من هو أرفع منه سلطانا ، فإن اضطرّ إلى العلم .. اختار المتصاغر المتملّق.

وإذا كان الأمويّون والعبّاسيّون يطاردون العلويّين لمجرّد بسوقهم في الشّرف (١) .. أفتراهم يسكتون عنهم لو جمعوا إليه عزّة العلم وسلطان المعرفة؟ هذا ما لا يتصوّر بحال.

وقد أخرج ابن الصّلاح في «رحلته» عن الزّهريّ ، قال : (قدمت على عبد الملك ابن مروان. فقال : من أين أقبلت؟ قلت : من مكّة. قال : من يسود أهلها؟ قلت : عطاء بن أبي رباح. قال : من العرب هو؟ قلت : لا ، بل من الموالي. قال : بم سادهم؟ قلت : بالدّيانة والرّواية. قال : فمن يسود أهل اليمن؟ قلت :

__________________

(١) البسوق : الطّول ، وهو هنا كناية عن الرّفعة والسّموّ.

٧٩٢

طاووس بن كيسان. فقال مثل قوله الأوّل .. فأجبته بمثل قولي في عطاء. قال : فمن يسود أهل مصر؟ قلت : يزيد بن أبي حبيب. قال : فمن يسود أهل دمشق؟ قلت : مكحول ، وهو عبد نوبيّ أعتقته امرأة من هذيل. قال : فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت : ميمون بن مهران. قال : فمن يسود أهل خراسان؟ قلت : الضّحّاك بن مزاحم. قال : فمن يسود أهل البصرة؟ قلت : الحسن بن أبي الحسن. وهو في كلّ ذلك يسألني مثل سؤاله عن عطاء ، وأجيبه بمثل جوابي فيه ، حتّى قال : من يسود أهل الكوفة؟ قلت : إبراهيم النّخعيّ.

قال : من العرب أم من الموالي؟ قلت : بل من العرب. قال : ويلك يا زهريّ! فرّجت عنّي ، والله لتسودنّ الموالي حتّى يخطب لها على المنابر والعرب من تحتها. قلت : إنّما هو أمر الله ودينه ، من حفظه .. ساد ، ومن ضيّعه .. سقط) اه مختصرا.

وما كان ابن مروان ليجهل حال أولئك ، وإنّما هو من سوق المعلوم مساق المجهول ؛ لنكتة هي ـ فيما أرجّح ـ قرّة عينه بانصراف العرب عن العلم ؛ لئلّا يستحقر نفسه في جانبهم ، خلاف ما يتظاهر به من قوله : (فرّجت عنّي) ؛ إذ لو كان أولئك من قريش فضلا عن أن يكونوا هاشميّين .. لاستشاط غضبا ، وتأجّج حسدا ، لا سيّما وأشدّ النّاس حسدا هم الملوك كما قيل.

وما كانت قريش إذ ذاك خالية من العلم ، ولكنّهم ضيّقوا عليهم الأنفاس ، وأخذوا منهم بالمخنق ، وقد أشرت إلى شيء من انصرافهم عن العلم أوائل «النّجم المضي في نقد عبقرية الرّضي».

وفي آخر الجزء الأوّل من «البيان والتّبيين» للجاحظ : أنّ رجلا من بني العبّاس قال : ليس ينبغي للقرشيّ أن يستغرق في شيء من العلم إلّا علم الأخبار ، فأمّا غير ذلك .. فالنّتف والشّدو من القول.

وفيه أيضا : (أنّ رجلا من قريش مرّ بفتى من ولد عتّاب بن أسيد يقرأ «كتاب سيبويه» ، فقال : إنّ لكم علم المؤدّبين وهمّة المحتاجين).

٧٩٣

وفيه : (قال ابن عتّاب : يكون الرّجل نحويّا عروضيّا ، قسّاما فرضيّا ، حسن الكتابة جيّد الحساب ، حافظا للقرآن ، راوية للأشعار ، يرضى أن يعلّم أولادنا بستّين درهما) (١).

ومتى تقرّر انحراف قريش عن العلم لما يجلبه لها من تهضّم الملوك ، ولأنّها تسود قبل أن تتفقّه .. فما كان العلويّون المهاجرون إلى حضرموت ليخرقوا عادتهم إلّا بعد أن تؤثّر فيهم الظّروف ، وينطبعوا بطابع الزّمان والمكان ، وتقهرهم العوائد وتنتفي الموانع ، وربّما كان ذلك أواسط القرن السّابع ، مع استثناء القليل فيما قبل ذلك.

وإنّما بقي العلم في السّادة الزّيديّة لبعدهم عن المدنيّة الشّومى ، وتصديقا لوعد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولاشتراطه للخلافة ، وهي لا تزال فيهم ، والنّاس على دين ملوكهم ، والسّلطان سوق يجلب إليه ما يناسبه ، ولهذا فلا بدّ أن تتفاوت أزمنتهم بحسب رغبات خلفائهم فيه كثرة وقلّة. ولهذا المبحث تكميل ـ إن شاء الله ـ يأتي في تريم.

أمّا المبحث الثّالث :

فقد اتّسع فيه القول ، وتفتّحت شآبيب الكلام ، وسالت فيه عزالي البراهين والأدّلة ، حتّى صار رسالة فضفاضة تستحقّ أن تسمّى : «سموم ناجر لمن يعترض نسيم حاجر» ، ولا بأس أن نزيد هنا ما يتأكّد به بعض ما فيها وما في «النّسيم» مع الاعتذار عمّا لا بدّ منه للفائدة من التّكرار.

قال سيّدي الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ في كتابه «المسلك السّويّ» : (ومن ثمّ لمّا ذهبت عنهم الخلافة الظّاهرة ـ لكونها صارت ملكا عضوضا ـ ولذا لم تتمّ للحسن .. عوّضوا عنها بالخلافة الباطنة حتّى ذهب كثير من القوم إلى أنّ قطب الأولياء في كلّ زمان لا يكون إلّا منهم) اه

ثمّ رأيت هذه العبارة عند الحفظيّ آخر كلام نقل عن «صواعق ابن حجر» [٢ / ٤٢٦] والله أعلم.

__________________

(١) انظر «البيان والتبيين» (١ / ٢٠٧ ـ ٢٠٨).

٧٩٤

وقال في «المسلك السّويّ» أيضا : (ولمبالغة الشّافعيّ في تعظيمهم .. صرّح بأنّه من شيعتهم حتّى نسبه الخوارج إلى الرفض) اه

وذكر الذّهبيّ : أنّ والي اليمن كتب إلى العراق : إن كنتم لطاعة أهل اليمن أرسلتم الشّافعيّ .. فإنّه يعمل مع الطّالبيّين للخروج ، فأرسلوا به إلى العراق مكبّلا بالحديد ، وممّا قال حين اتّهم بالرّفض [من الكامل] :

إن كان رفضا حبّ آل محمّد

فليشهد الثّقلان أنّي رافضي

وفي «المسلك» أيضا عن الأستاذ الحدّاد أنّه قال : (جاءني جماعة من علماء مكّة يسألونني عن مذهبي ، فأردت أن أقول لهم : مذهبي الكتاب والسّنّة ، لكن حصلت محاذرة ؛ خوفا عليهم من الإنكار.

وهذه إشارة إلى أنّه مجتهد لا مقلّد ، وكثيرا ما أسمعه يقول عند المذاكرة في المسائل : وعندنا فيها رأي آخر ، لكنّ التّمسّك بمذهب الشّافعيّ كافي) اه

ونقل عن الأستاذ أيضا أنّه قال : (أريت أصول أهل الأصول ، لكن يغلب علينا الرّجاء حتّى للمخالفين من الفرق. وهذه المسألة متّصلة بالذّوق ، ولا يمكن التّعبير عنها ؛ لخفاء الحقّ فيها ، فلا يعلم إلّا في الدّار الآخرة.

وادّعى أناس أنّهم حقّقوها ، ولم يظهر لنا ذلك ؛ لأنّ التّدقيق لا تحيط به العبارة ، ولا بدّ أن يقع في الغلط من يعبّر عنها ؛ كقول الغزاليّ : ما في الإمكان أبدع ممّا كان) اه

وقوله : (حتى للمخالفين من الفرق) أي : الإسلامية ؛ لإجماعهم على تكفير من لم يدن بدين الإسلام ـ كما فصّلناه في «السّيف الحاد» ـ وكلّ من يعتقد بنجاة ملّة غير الإسلام .. فهو كافر ، وقد حاول البهائيّون ـ الّذين ذكرهم فريد وجديّ ـ أن يوحّدوا بين الأديان ، فوقعوا في شرّ من كفر اليهود قاتلهم الله أنّى يؤفكون. ومنهم القائلون بالإباحة من أهل الوحدة المطلقة الّذين يعتقدون بأنّ الباري عزّ شأنه هذا الوجود السّاري في الموجودات الظّاهر فيها على اختلاف صورها وأنواعها بحسبها .. فهو في الماء ماء ، وفي النّار نار ، وهو حقيقة كلّ شيء وماهيّته ، ووجود كلّ موجود صغير

٧٩٥

أو كبير ، خسيس أو شريف. (تَعالى) الله (عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً).

وليس منها كما قال سعد الدّين التّفتازانيّ في «شرح المقاصد» أن يستغرق السّالك عند انتهاء سلوكه في بحر التّوحيد والعرفان بحيث تضمحلّ ذاته في ذاته ، وصفاته في صفاته ، ويغيب عن كلّ ما سواه ، ولا يرى في الوجود إلّا الله ، وهذا ما يسمّونه : الفناء في التّوحيد ، ويسمّونه : الجمع أيضا.

وغاية سير السّالكين .. فناء المريد عن نفسه ، ومنه يرجع إلى عالم الملك ، وهو الفرق الثّاني ، والصّحو بعد المحو ، ويعبّر عنه أيضا : بانصداع الجمع ، وبالفرق بعد الجمع ، وبظهور الكثرة في الوحدة ، ويعبر عنه أيضا : بمحو المحو ، وبشهود الوحدة في الكثرة ، والكثرة في الوحدة ، وصاحب هذا المقام عندهم لا يحجبه الحقّ عن الخلق ، ولا الخلق عن الحقّ ، وهو مقام إرشاد المريدين.

المبحث الرّابع :

جاء في (ص ٣٣ ج ١) من «المشرع» : (أنّه كان للمهاجر في الوعظ لسان فصيح ، ثمّ لمّا استولى أخوه محمّد بن عيسى على أقاليم العراق .. أتى إليه ووعظه موعظة بليغة ، بألفاظ فصيحة جسيمة ، ولم يزل به حتّى ترك ذلك ، وزهد فيما هنالك) اه

وفي (ص ١٣٩) من «البرقة» : (أنّ محمّد بن عيسى استولى على جهة من العراق ، وتبعه خلق كثير ، وجمّ غفير ، ثمّ ترك الولاية زاهدا) اه

وبين الرّوايتين فرق ليس باليسير ، وقد راجعت «كامل ابن الأثير» و «تاريخ ابن خلدون» .. فلم أر لخروج محمّد بن عيسى ذكرا ، ولو كان كما يقول صاحب «المشرع» في شمول استيلائه للعراق .. لذكراه ، وإذا لم يذكراه .. كان ذلك قادحا فيه ؛ لأنّ الخبر الّذي تتوافر الدّواعي على تواتره ثمّ لا ينقله إلّا الآحاد .. يكون مردودا كما قرّره أهل الأثر ؛ فإن وجد له ذكر في التّاريخ ، وإلّا .. فما هو إلّا انتقال نظر إليه من زيد بن موسى الكاظم.

٧٩٦

وقد كان زيد هذا ـ كما عند ابن خلدون ـ من قوّاد أبي السّرايا مدبّر أمر محمّد بن محمّد بن زيد بن عليّ زين العابدين ، وكان أبو السّرايا وجّه زيد بن موسى هذا إلى البصرة ، فعاث وأحرق خلقا كثيرا حتّى سمّوه : زيد النّار.

وفي (ص ٢٧١ ج ٣) من «تاريخ ابن خلّكان» : (وكان زيد بن موسى الكاظم خرج بالبصرة وفتك بأهلها ، فأرسل إليه المأمون أخاه عليّا الرّضا يردّه عن ذلك ، وقال له : ويلك يا زيد ؛ فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت وتزعم أنّك ابن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ والله لأشدّ النّاس عليك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يا زيد ، ينبغي لمن أخذ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يعطي به.

فبلغ كلامه المأمون ، فبكى وقال : هكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

قلت : وآخر هذا الكلام مأخوذ من كلام عليّ زين العابدين ؛ فقد قيل : إنّه إذا سافر .. كتم نفسه ، فقيل له في ذلك؟ فقال له : أنا أكره أن آخذ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما لا أعطي به) اه كلام ابن خلّكان

أقول : ومثله موجود في خطبة عليّ الرّضا يوم بويع له ، فقد قال : أيّها النّاس ؛ إنّ لنا عليكم حقّا برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولكم علينا حقّ به ، فإذا أدّيتم لنا ذلك .. وجب لكم علينا الحقّ ، والسّلام.

المبحث الخامس :

اشتبه عليّ وقت انهيار سدّ سنا ، وقد رأيت في مناقب الحبيب عليّ بن عبد الله السّقّاف ـ تأليف الحبيب عمر بن سقّاف بن محمّد الصّافي ، السّابق ذكره في السّوم ـ : (أنّ الحبيب عليّا المذكور اجتمع بالسّيّد الجليل حسن بن عبد الله بن علويّ الحدّاد ، فسأله عن ارتفاع قبر المهاجر ، فقال : لعلّه خشية السّيول السّابقة الهائلة مع عدم الخدّ في الأرض ، لأنّه لم يحدث إلّا بعد زمان الفقيه المقدّم بسيل قاحش ، الّذي أخبر عنه في غيبته ، قال الحبيب عليّ : هذا هو الّذي أراه) اه بمعناه وفيه إشكالات وفائدة :

٧٩٧

فمن الإشكالات : أنّ الحسيّسة ـ وهي محلّ السّكنى ـ لم تكن بذلك الارتفاع ولا بقريب منه ، وإنّما كانت بسفح الجبل وحضيضه ، وآثارها ظاهرة به إلى اليوم .. فكيف يخافون على الميت في قبره ما لا يخافونه على الأحياء في دورهم؟!

ومنها : أنّه لو كان ماء السّيل الرّاجع عن سدّ سنا يصل ولو إلى ربع ارتفاع الموجود .. لأغرق شباما فضلا عمّا دونها ، حسبما قلنا في الكسر.

ومنها : أنّ تريم ، وبور ، وتنعه ، والعجز ، وثوبه ، كانت موجودة من قبل انهيار سدّ سنا ، ولو كان رجع الماء عنه يضرّها .. لما أمكن بقاؤها.

وأمّا الفائدة الّتي لم نسمع بها إلّا من هذا الكلام .. فهي : أنّ الخدّ بالأرض لم يكن إلّا من بعد الفقيه المقدّم ، المتوفّى سنة (٦٥٢ ه‍) ، ومعلوم أنّه لن يكون دفعة ، بل بالتّدريج ، في الّذي يلي السّدّ ، ثمّ في الّذي يليه ، وهكذا كما يشهد له الحسّ ، فمسيال سرّ الواقع الآن بين الحسيّسة وبور لا ينخفض الآن عن سطح الأرض بأكثر من نحو ستّة أذرع .. إن لم يكن بأقلّ.

وجاء في «النّور السّافر» [ص ١١٨] عن تريم أنّها كانت في قديم الزّمان عامرة جدّا ، وأمّا الآن .. فهي ضعيفة إلى الغاية (١) ، إلى أن قال : (والظّاهر أنّ سبب خرابها سيل العرم الّذي أرسله الله على سبأ ، فانقطعت عنها المياه الّتي كانت تزرع عليها ، فسبحان من يقلّب الأمور) اه

وهذا أيضا فيه فائدة وإشكال :

أمّا الفائدة فهي : الإشارة إلى أنّ حضرموت كانت تشرب من المياه المخزونة بسدّ مأرب ، وهو موافق لما ذكرته في «الأصل» عن الخزرجيّ و «شرح الأمثال» للميدانيّ ، إلّا أنّه قد يغبّر عليه ما جاء في «إكليل الهمدانيّ» (ص ٤٦ ج ٨) من قوله [من البسيط] :

__________________

(١) مفاد الكلام هنا : أن تريم كانت عامرة ـ أي : بالزروع والنخيل ـ ولكنها ضعفت جدا في أواخر القرن العاشر ، زمن تأليف «النور السافر».

٧٩٨

وجنّتا مأرب من بعد ذا مثل

والعرش فيها وسدّ وسط واديها

تسقى به جنّتاها ثمّ بعدهما

مسافة الخمس موصولا لياليها

ولكن يجاب بأنّ المسافة من مأرب إلى الكسر إنّما هي أربع مراحل ، وهي لا تستوفي الخمسة الأيّام ، وإذا بقي للّيالي مثلها .. بلغ سدّ سنا أو جاوزها ، فالأمر قريب من بعضه.

وأمّا الإشكال : فإنّه لا يمكن أن تصل حضرموت من الضّعف إلى حيث ذكر ما دام الماء ينبسط على الأرض كلّها فتئثّ زروعها ، وتؤتي أكلها كما كانت أيّام ملوك كندة وملوك حضرموت ، وإنّما تناهى بها الجدب والقحط من حين ظهور الأخدود ، وانقباض الماء عن أكثر الأرض ولم يكن ذلك إلّا بعد الفقيه المقدّم بزمان طويل ، حتّى إنّه ـ مع تفارط الأيّام ـ لم يصل إلى المسحرة بعد ؛ فهي لا تزال سالمة منه ، والماء ينبسط فيها من الشّمال إلى الجنوب.

وقد كان الإشكال في سدّ سنا أثقل عليّ من الطّود العظيم ، وكلّما التأم لي الكلام عنه من جانب .. انتشر من الآخر ، حتّى أخبرني الأخ الفاضل عبد الرّحمن بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن محمّد بن شهاب عن مشاهدة أنّ سدّ سنا طبيعيّ من حجارة رخوة ، يمازجها طين صلب ، شبه القارة الصّغيرة ، يدفع الماء عن جانبيها المرتفعين عن مستوى الأرض بنحو من ستّة أذرع تقريبا ، ثمّ إنّ السيول جرفت تلك القارة وحفرتها فصار الماء يجري في مكانها الّذي خدّه سيل قاحش وما بعده ، وارتفع جانباها اللّذان كان عليهما يجري السّيل ـ كما سنرسم صورته الّتي دفعها لي في موضعه إن شاء الله (١) ـ فلم يكن رجع السّيول عن ذلك السّدّ الطّبيعيّ بالفاحش حتّى يكتسح البلاد ، ولكنّه صغير يصدّ تيّار الماء فقط ، فينبسط في كلّ ناحية ، ويسقي النّاس منه أراضيهم بدون أن يجرف في الأرض ؛ لأنّ انبساطه يقلّل من قوّة جريه فلا يخدّ في الأرض ، وهذا هو المعقول ؛ فقد كانت الحصاة الّتي يصلّي عليها سيّدنا عمر

__________________

(١) ستأتي الصورة في سنا.

٧٩٩

المحضار بحافّة نهر هود عليه السلام بارزة لعهده ، وما به بعد عن عهد الفقيه ، وليس ارتفاعها عن النّهر اليوم بالفاحش ، مع تناهي الخدّ ، ولكنّه قريب. ولهذا السّبب أنكر بعض السّيّاح الأجانب وجود هذا السّدّ رأسا ؛ لأنّ الوهم يذهب بهم إلى ارتفاعه ، فيتأمّلون ولا يجدون له أثرا ، فأنكروه. والحال أنّه كما وصفه لي الأخ عبد الرّحمن ابن شهاب.

وفي حدود سنة (١٣٣٩ ه‍) اشتد النّزاع بين آل بور وآل تاربه بشأن جبل الحسيّسة ، وكلّ ادّعى أنّه في حدّه ، فله قنص صيده وإدارة القهوة والعود في حفلاته العامّة ، حتّى عطّلت مرارا ، ثمّ تواضعوا على أن لا يدار شيء خوف الفتنة.

وما زالوا كذلك حتّى أقيمت جمعيّة ببتاوي لآل العيدروس ، كان من أغراضها : الالتفات إلى إصلاح ذات بينهم.

وفي سنة (١٣٤١ ه‍) وافق آل العيدروس بحضرموت ، وصار الإصلاح بين آل بور وآل تاربه على أنّ لكلّ منهم قنص الجبل ، وعلى أنّ خدّامهم يشتركون فيما يدار فيه.

تاربه

هي أرض واسعة ، فيها قرى كثيرة ، أكثرها عن يمين الذّاهب من سيئون والحسيّسة في الطّريق السّلطانيّة (١) ـ أو العبّاديّة ـ إلى تريم ، وبعضها عن يساره.

فأمّا الّتي عن يمينه : فأوّلها قرية يقال لها : السّحيل القبليّ ، وكذلك يقال لها : سحيل بدر ، يعنون بدر بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق (٢).

وفي «الأصل» : أنّ الملك كان لأبيه عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق (٣) ، فتنازل عنه في سنة (١٠٢٤ ه‍) لأخيه بدر بن عمر ، ولكنّ بدر بن عبد الله هذا وثب

__________________

(١) الطريق السلطانية هي التي عبّدها آل كثير لتصل السيارات بين سيئون وتريم.

(٢) المتوفى سنة (١٠٧٥ ه‍). «تاريخ الدولة» (٧٤ ـ ٨٣).

(٣) المتوفى بمكة سنة (١٠٤٥ ه‍). «تاريخ الدولة» (٦٧ ـ ٦٨).

٨٠٠