إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

ومنهم : الشّيخ عمر بن عبد الرّحيم ، المشهور بقاضي ظفار (١).

ومنهم : الشّيخ عبد الجامع بن أبي بكر بارجاء ، ذكره الشّلّيّ وأثنى عليه ، توفّي بمكّة سنة (١٠٨٢ ه‍) وترجم له المحبيّ في «الخلاصة» [٢ / ٢٩٨].

ومنهم : الشّيخ محمّد بن محمّد ، خطيب جامع سيئون ، كان شهما صلبا ، عارفا بالقراءات والتّجويد ، إلّا أنّه كان يأكل طعام الدّولة فأنكروا عليه ؛ إذ كان أكل طعامهم من أكبر المنكرات لذلك العهد الصّالح ، توفّي سنة (١٣٢٨ ه‍).

ومنهم : الشّيخ أحمد بن محمّد بارجاء ، تولّى القضاء مرّات بسيئون ، وكانت له بها خطابة الجامع. وكان سخيّا ، دمث الأخلاق ، ليّن الجانب ، خفيف الرّوح ، فقيها مشاركا في بعض الفنون ، وكان ممّن يحضر عليّ وله مكارم ومبرّات كثيرة. توفّي برمضان من سنة (١٣٣٤ ه‍) ، وله أولاد كثيرون ، كان أحبّهم إليه سالم ومحمّد. وكانت له ثروة بجاوة فأتلفوها عليه ، وقد أدركه ابنه الصّالح سعيد بجميل المواصلة وغزير المواساة.

وكان سعيد هذا من المثرين بالصّولو من أرض جاوة ، فأنفق ماله في بذل المعروف ، ولا سيّما للسّادة آل الحبشيّ وآل العطّاس ، حتّى لقد كان يشتري من بعضهم عسلا بأغلى ثمن ، ثمّ يقدّمه له كلّ يوم مع اللّحم الحنيذ (٢) إلى أن ينفد ، وقد أملق بعد ذلك فلم يشنه الفقر ؛ لغناه بالله ، ولأنّه لا أهل له ولا عيال. وقد كمّت الأفواه عن المصارحة بالحقّ ، ولكنّه رافع العقيرة بإنكار المنكر حسب جهده ومعرفته ، لا يحابي ولا يداهن ، جزاه الله خيرا.

وأمّا آل باكثير : فأكثر أعقابهم بتريس ، حسبما سبق فيها ، ومنهم جماعة بمكّة المشرّفة ، ولا يزال بعضهم بسيئون ، ولهم بها مآثر ومساجد.

ومن آخرهم بها : الشّيخ محمّد بن محمّد باكثير (٣) ، كان عيبة علوم ، ودائرة

__________________

(١) وهو من شيوخ العلامة الشلي ، ذكره في «المشرع» عرضا ، وترجم له في «عقد الجواهر».

(٢) اللّحم الحنيذ : المشويّ.

(٣) ولد بسيئون سنة (١٢٨٣ ه‍) ، وبها توفي في (١٣) محرم (١٣٥٥ ه‍) ، ترجمته حافلة في كتابه

٦٨١

معارف ، وعنه أخذت علم النّحو والصّرف ، وكان يؤثرني ويقدّمني على النّاس ، حتّى لقد قال لي مرّة ـ عن تدبير والدي ـ : (إن حفظت لاميّة الأفعال .. فلك ريال) فقرأتها عليه في الصّباح ، ثمّ قلت له من العشيّ : اسمعها. وسردتها عن ظهر قلب وتسلّمت الرّيال ، غير أنّ همّتي كانت ضعيفة في الصّرف ولا سيّما القلب والإبدال فتفلّت عنّي أكثره.

وكان الشّيخ ـ رحمه الله ـ متخصّصا في هذين العلمين ، كثير الإكباب عليهما ، والولوع بهما والبحث فيهما ، وله مؤلّفات عديدة وأشعار كثيرة (١).

وكان شديد التّعلّق بوالدي (٢) ، جمّ القراءة عليه. ثمّ كان يحضر دروسي في التّفسير والفقه والحديث ، ولقد زارني مرّة في سنة (١٣٥٢ ه‍) فقال : (لقد عددنا ستّين ماتوا ممّن كانوا يحضرون دروسك الشّيّقة). توفّي على أبلغ ما يكون من الثّبات بسيئون أوائل سنة (١٣٥٥ ه‍) (٣).

ومنهم : أخوه أحمد بن محمّد باكثير ، كانت له خيرات ومبرّات ، وصلة أرحام ، وكفالة أيتام ، وقضاء حاجات ، وتفريج كربات ، توفّي بسيئون سنة (١٣٤٣ ه‍) (٤).

ومنهم : ولده عبد القادر ، كان تقيّا ، متشدّدا في العبادة ، متحرّيا في الطّهارة ، آخذا بالعزيمة ، سريع الحفظ ، يكاد يحفظ من مرّة واحدة ، وهو الّذي جمع بعض ما كنت أرتجله في المحافل المشهودة من الخطب الطّويلة ، وكنت أظنّه الشّيخ محمّدا ، لأنّه هو الّذي دفعها إليّ حتّى أخبرني ولده الأديب عمر بن محمّد بأنّ الجامع

__________________

«البنان المشير» ، و «تاريخ الشعراء» (٥ / ١٠٤ ـ ١٢١).

(١) عدد تلميذه السيد عبد الله السقاف (٢٣) مؤلفا من مؤلفاته. ينظر «الشعراء» (٥ / ١٠٩ ـ ١١٠) (٢) ومن ثمرات هذا التعلق : تلك الوصية العظيمة التي كتبها الحبيب عبيد الله ـ والد المؤلف ـ للمترجم ، بلغت مجلدا كبيرا ، عدد صفحاته (٣٩٧) صفحة بالخط العادي ، مؤرخة في محرم (١٣١٨ ه‍).

(٣) وقصة وفاته : أنه كان جالسا في مجلس الدرس ، يقرأ عليه القارىء في «الجامع الصغير» للسيوطي ، فلما بلغ حديث : «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» .. نطق بها ومات لتوه.

(٤) ترجمته في «البنان» (١٥٢ ـ ١٧٥).

٦٨٢

إنّما هو عبد القادر بن أحمد ، بمساعدة من الشّيخ محمد في تحرير الآيات والأبيات والأحاديث فقط. توفّي بجاوة في حدود سنة (١٣٤٤ ه‍) (١).

وآل باكثير كلّهم على جانب عظيم من الذّكاء وقرض الشّعر ، ولعمر بن محمّد (٢) شعر جيّد ، وحامل لواء شعرهم اليوم هو : الشّيخ عليّ بن أحمد باكثير (٣) ، نزيل مصر ، وأنا مع حبّي له عاتب عليه ؛ لأنّني أرسلت إليه مسوّدة «العود الهنديّ» (٤) فلم يردّها ، وطبع لي محاضرة مسلّمة النّفقة ولم يدفع لأمري إلّا نحو ثلاث مئة نسخة فقط ، وكان كلّ ذلك في سنة (١٣٥٥ ه‍) ، غير أنّني أحلت السّيّد عبد الله بن محمّد بن حامد السّقّاف ليقبض الجميع منه ، ثمّ كاتبت وطالبت الاثنين حتّى عييت بدون جدوى ولا جواب ، فأحدهما أو كلاهما ملوم ، وكان الواجب على كلّ منهما أن يبرّىء نفسه ، وأن يؤدّي الأمانة من كانت عنده (٥).

ومن أكابر من تديّر سيئون : الشّيخ عمر بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بامخرمة (٦) ، السّيبانيّ الهجرانيّ ، ترجمه الشّليّ في «السّنا الباهر» (٧) ترجمة

__________________

(١) ولد عبد القادر بن أحمد في سربايا سنة (١٣١٦ ه‍) ، وسمّاه الحبيب محمد بن طاهر ، وتوفي بها في (٢٨) جمادى الآخرة (١٣٤٥ ه‍) ، وله ولد على اسم أبيه. «البنان» : (١٧٦).

أما ابنه أحمد هذا .. فولد سنة (١٣٤٤ ه‍) ، ترجم له معاصره الصبّان في كتابه : «الحركة الأدبية في حضرموت» (١٨٦).

(٢) ولد عمر بن محمد سنة (١٣٢٠ ه‍) ، ترجم له والده في «البنان» ، والصبان في «الحركة الأدبية» (١٧٨) ، وكانت وفاته سنة (١٤٠٥ ه‍) بعد طبع «البنان».

(٣) شاعر حضرموت الشهير ، ورائد القصة المسرحية في العالم العربي ، ولد بسربايا حدود (١٣٢٠ ه‍) أو قبلها ، وتوفي بمصر سنة (١٣٨٩ ه‍) ـ (١٠) نوفمبر (١٩٦٩ م). ترجم له عمه الشيخ محمد في «البنان» ، وكتب عنه د. محمد أبو بكر حميد في مقدمة ديوان «أزهار الربى في شعر الصبا» ، والزركلي في «الأعلام» (٤ / ٢٦٢).

(٤) وبحمد الله تمت طباعته محققا مرتبا ، بدار المنهاج بجدة ، وصدر في (٣) مجلدات.

(٥) توفي المذكوران بعد المؤلف ؛ فالسيد عبد الله توفي سنة (١٣٨٧ ه‍) ، وباكثير بعده بسنتين.

(٦) الشيخ عمر بامخرمة ولد سنة (٨٧٠ ه‍) ، وتوفي بسيئون سنة (٩٥٢ ه‍) في يوم السبت (٢٠) ذي القعدة الحرام ، تقدم ذكر والده وإخوته في الهجرين. ومن مراجع ترجمة الشيخ عمر : «تاريخ بافقيه» (٣١٢) ، و «السنا الباهر» ، و «الشعراء» (١ / ١٣٠) ، وغيرها.

(٧) في حوادث سنة (٩٥٢ ه‍).

٦٨٣

طويلة ، وذكر أنّ فقهاء عصره أنكروا عليه بعض الأحوال ، منها : أنّه يحضر أغاني الفتايا ويجلس إليهنّ وأنّهنّ ممّن يضرب الدّفوف ويغنّي بين يديه في المواكب والمجالس.

ولذا لم يذكره ولده عبد الله في «ذيل طبقات الفقهاء» للإسنوي ، وذكر أخاه الطّيّب ، مع أنّه لا يزيد عليه فقها. ونقل تلك التّرجمة بأسرها سيّدي عمر بن سقّاف في كتابه «تفريح القلوب».

وما صنعه عبد الله بن عمر من إغفال ذكر والده يدلّك على تحرّ شديد وحيطة هائلة ، وماذا عليه لو ذكر فقهه وأشار إلى بعض أحواله؟ غير أنّ فرط إنصافه ذهب به إلى أن يتصوّر أنّ ذكر أبيه مع ما ينكر عليه يوقعه في شيء من الهوادة ، وهو ينزّه عدالته عن كلّ ما يعلق بها من الرّيب أو يمسّها من التّهم ، وإنّه لمقام صعب إلّا على من وفّقه الله ، فلهو أحقّ بقول حبيب [أبي تمّام في «ديوانه» ٢ / ١٧١ من الكامل] :

ويسيء بالإحسان ظنّا لا كمن

هو بابنه وبشعره مفتون

أخذ عنه جماعة من العلويّين ، منهم : الشّيخ أبو بكر بن سالم. والشّيخ أحمد بن حسين العيدروس.

وأخذ هو عن جماعة من العلماء (١) ، منهم : سيّدنا أبو بكر العدنيّ ، لكن لم يحمد بينهما المآل ، لأنّ الشّيخ عبد الله باهرمز لم يقبل تحكّم الشّيخ عمر له إلّا بشرط أن يسمع العدنيّ ما يكره ، ففعل ، وساءت بينهما الحال حتّى لقد كان الشّيخ يمدح بدر بن محمّد الكثيريّ والعدنيّ يهجوه ، والعدنيّ يمدح السّلطان عامر بن عبد الوهّاب ويذمّ البهّال (٢) ، والشّيخ عمر بعكسه.

ولمّا جرت الحادثة الهائلة على البهّال .. عدّها الغواة من هواة الخوارق من كرامات العدنيّ ، ثمّ لمّا قتل عامر شرّ قتلة .. عدّها الآخرون في كرامات الشّيخ عمر.

__________________

(١) ومن شيوخه : الشيخ عبد الرحمن الأخضر باهرمز ، (ت ٩١٤ ه‍) ، المتقدم ذكره في هينن.

(٢) البهّال هو شريف بيحان وحاكمها.

٦٨٤

وما أحسن قول ابن نباتة : (والله .. لا يضرّ ولا ينفع ، ولا يضع ولا يرفع ، ولا يعطي ولا يمنع .. إلّا الله).

وكنت أظنّ النّفرة استحكمت بين العلويّين وآل بامخرمة في عهده وعهد ولده عبد الله إلى حدّ بعيد ، حسبما أشرت إلى ذلك في «الأصل» ، ويتأكّد ذلك بالقصّة الآتية له مع السّيّد علويّ بن عقيل في العرّ من ضرب السّيّد علويّ بن عقيل الشّيخ عمر بالنّعال ، وما بعد ذلك من هوادة ولا حفظ لخطّ الرّجعة.

لا سيّما وقد نقل سيّدي عليّ بن حسن العطّاس عن القطب الحدّاد ما يقتضي انحصار أخذ الشّيخ عمر بامخرمة على الشّيخ عبد الرّحمن باهرمز وأن لا شيخ له من العلويّين.

ولا ينتقض ذلك بما كان من أخذه عن العدنيّ ؛ لأنّه لم يدم ، بل بطل حكمه ، وقد أشرت إلى جميع هذا في «الأصل» وربّما كان مبالغا فيه ، وقد عوّض الشّيخ عمر عمّا لحقه من جفاء العلويّين في زمانه بما كان من إصفاق أعقابهم على فضله والولوع بديوانه وقد أطنب سيّدي عمر بن سقّاف في مدحه.

أمّا أشعار الشّيخ عمر بامخرمة .. فألذّ من الوصال ، وأحلى من السّلسال ، وفيها فراسات صادقة عن أمور متأخّرة ، كما يعرف ذلك بالاستقراء (١). ولم يزل بسيئون تحت الضّغط والمراقبة من بدر بوطويرق (٢) ، لا من النّاحية الّتي ينكرها عليه الفقهاء ، ولكن لما على كلامه من القبول : وله من التّأثير ؛ فهو يخشى أن يحرّض عليه ، فتتنكّر له النّاس (٣) ، على أنّ ذلك وقع عليه مع شدّة تحرّيه ، فثار عليه ولده (٤) ، وألقى القبض عليه ، وسجنه حتّى مات بغيظه مقهورا في سجنه سنة (٩٧٧ ه‍).

__________________

(١) وشعره مجموع في دواوين ، والمسموع من أفواه الشيوخ أن شعره كله يزيد على (٢٠) ديوانا.

والموجود حاليا من شعره مجلدان مخطوطان متداولان بين الناس ، ويقال : إنها تصل إلى عشرة مجلدات.

(٢) تماما كما فعل بدر مع الشيخ معروف باجمال في شبام ، كما مر فيها.

(٣) أي : لبدر بوطويرق.

(٤) أي : عبد الله بن بدر .. انظر مادة مريمه.

٦٨٥

وما كنت أدري أنّ للشّيخ عمر بامخرمة حشما وأبّهة وأتباعا إلّا من قصّته السّابقة في هينن مع الشّيخ حسين بن عبد الله بافضل ، فإمّا أن تكون قبل المراقبة عليه ، وإمّا أن تكون المراقبة محدودة بما يخشى منه الثّورة.

وكانت وفاة الشّيخ حسين كما في «النّور السّافر» سنة (٩٧٩ ه‍).

وكانت وفاة الشّيخ عمر بامخرمة بسيئون في سنة (٩٥٢ ه‍) ، وكان السّيّد زين بن عبد الله بن علويّ الحدّاد كثير المدح له والثّناء عليه ، وما أكثر ما يتمنّى أن يدفن بجواره (١).

وفي غربيّ قبره : ضريح الشّيخ أحمد مسعود بارجاء ، باني الجامع الثّاني السّابق ذكره.

وفي غربيّه إلى الجنوب : مقبرة آل باحويرث ، كان فيهم كثير من الأخيار ، يكثرون العبادة ، ويحافظون على الصّلاة ، وأظنّهم على اتّصال في المناسب بآل حويرث السّابق ذكرهم في الخريبة.

وكانت أمّ جدّنا عليّ بن عبد الرّحمن السّقّاف من آل ثبتان ، وهم من سيئون.

وكان جدّنا عمر الصّافي (٢) بن عبد الرّحمن المعلّم بن محمّد بن عليّ بن عبد الرّحمن السّقّاف يتردّد من تريم إلى سيئون بسبب أنّ أحد محبّيه من تريم انتقل منها إليها ، ولمّا علم بدر بوطويرق بتردّده .. أمر ذلك الرّجل أن يزيّن له الزّواج بسيئون ، فما زال به حتّى اقترن بسلطانة بنت محمّد بانجّار ، من قوم يرجعون إلى نجّار بن نشوان من بني حارثة ، وقد اختلف في بني حارثة : فقيل : كنديّون. وقيل : مذحجيّون (٣).

وكانت لآل بانجّار دولة ببور فانمحت بدولة آل كثير وصاروا سوقة بسيئون وغيرها.

وقد ولد لجدّنا عمر ولده طه من سلطانة المذكورة ، ونشأ في حجر أمّه بسيئون ،

__________________

(١) ولكنه مات بعمان بجزيرة الصير سنة (١١٥٧ ه‍).

(٢) توفي الحبيب عمر الصافي بتريم ، ودفن بها ، ولم تؤرخ وفاته.

(٣) وزاد المقحفي في «معجمه» : ذكر انتسابهم لبني زياد الخولانيين (٢ / ١٧١٨).

٦٨٦

ولمّا شبّ .. ذهب إلى تريم ، فضجّ آل سيئون وراجعوه ، فعاد وتزوّج بها وبنى بها مسجده المشهور ، ولم يزل بها منفردا بالسّيادة إلى أن توفّي سنة (١٠٠٧ ه‍).

وله ابن اسمه : عمر ، له حالات شريفة ، طلب العلم ، ثمّ غلب عليه التّصوّف ، وأكبّ على «رسالة القشيريّ» ، ونقلها بخطّه ، وكتب سبعة كراريس منها في يوم واحد.

وكان له اتّصال أكيد بالسّادة آل عبد الله بن شيخ العيدروس في تريم ، لا ينزل هناك إلّا عليهم. وله عبادات جليلة ، وأوقات موزّعة ، توفّي بسيئون سنة (١٠٥٣ ه‍) (١).

وهو والد العلّامة الجليل طه بن عمر الثّاني ، المتوفّى بسيئون سنة (١٠٦٣ ه‍) المترجم له في «المشرع» [٢ / ٢٨٥] ، ورثاه جماعة من الشّعراء ، فكانت أبلغ مرثيّة فيه للشّيخ عمر بن محمّد باكثير.

وخلفه ولده عمر ، توفّي بمكّة سنة (١٠٨٥ ه‍) ، وسنّه سبع وعشرون سنة ، وخلفه ابنه محمّد بن عمر بن طه بن عمر.

وقد رسخت أقدام هذا البيت بسيئون ، غير أنّهم كانوا لا يزيدون على سبعة ، متى وجد لأحدهم ذكر .. مات أحد السّبعة حتّى كانت أيّام الجدّ سقّاف بن محمّد بن عمر بن طه المتوفّى سنة (١١٩٥ ه‍) (٢) ، فبدؤوا يتكاثرون ، ولم يمت إلّا وقد بلغوا الثّلاثين ، إلّا أنّ عصاهم انشقّت ، وأمرهم انفرج ، وكانوا ـ وهم قليل ـ خيرا منهم بعدما كثروا ، ولله درّ حبيب حيث يقول [في «ديوانه» ١ / ٣٣٠ من البسيط] :

إنّ الكرام كثير في البلاد وإن

قلّوا ، كما غيرهم قلّ وإن كثروا (٣)

__________________

(١) هو الحبيب عمر بن طه بن عمر الصافي الأول ، ولد بسيئون سنة (٩٩٠ ه‍) ، وبها توفي ضحى السبت (٢٠) جمادى الثانية (١٠٥٣ ه‍).

(٢) الحبيب سقاف بن محمد ، كان عالما شريفا عفيفا ، تولى القضاء ، وتولاه بعده عدد من أولاده ، أفرده بالترجمة ابنه حسن وهي المسماة : «نشر محاسن الأوصاف» ، وقد طبعت في مجلّد صدر عن دار المنهاج.

(٣) المعنى : إنّ الكرام لهم شأن عظيم وإن كان عددهم قليلا ؛ فهم قليلو العدد كثيرو الفائدة ، على العكس من اللّئام ؛ فإنّهم وإن كثر عددهم .. لكنّ فعلهم قليل ، ولا تأثير له.

٦٨٧

والشّريف الرّضيّ حيث يقول [في «ديوانه» ١ / ٥٢٨ من البسيط] :

قلّوا عناء وإن أثرى عديدهم

وربّما قلّ أقوام وإن كثروا

وهو بيت طيّب ، مغرس علم ، ومنبت صلاح ، سيماهم التّواضع ، وشأنهم الخمول ، يقضون حوائجهم بأنفسهم ، ولا يتميّزون عن أحد من النّاس إلّا بالعلم إذا سئلوا عنه أو تفتّحوا في الدّروس.

وكان نجوعهم من تريم على حين خلل بدأ في طريق العلويّين ، كما يعرف من «الفوائد السّنيّة» لسيّدي أحمد بن حسن الحدّاد ، ومن «العقود اللّؤلؤيّة» (١) للعلّامة السّيّد محمّد بن حسين الحبشيّ ، فانحفظت طريقهم بسيئون عن ذلك الخلل ، وبقوا على ما كان عليه أوّلوهم من التلزّم بالفقه ، حسبما قلت من قصيدة أردّ بها على بعض المغترّين من أهل البدع والرّئاسات [في «ديوان المؤلّف» ق ١٩٢ من البسيط] :

سل من أردت فقد كانت أبوّتنا

على طريق من الإنصاف محمود

طريقة من قذى الأوهام صافية

ومنهل من زلال الفقه مورود

لا يدخل مسجدهم طبل ولا يراع (٢) ، ولقد عمل الشّيخ عوض جبران تابوتا لقبر جدّي المحسن فمنعته من وضعه عليه.

وكانوا يتوسّعون في الفقه ، ويشاركون في التّفسير والحديث ، وليس عندهم من علوم العربيّة إلّا القليل ، ولبعضهم أشعار لا تنتهي إلى إجادة. ولهم من الأعمال الصّالحة وتحمّل المشاقّ في مجاهدة النّفوس ما لو لم أره عيانا في مثل والدي .. لم يكن لي بما يذكر عن السّلف سبيل إلى التّصديق ، لكن جاء العيان فألوى بالأسانيد.

فلقد نشأ والدي في طاعة الله (٣) ، لهوه التّحنّث مع أتراب له في جبال سيئون ،

__________________

(١) اسمه كاملا : «العقود اللؤلؤية في بيان طريق السادة العلوية». طبع ضمن مجموع بالمطبعة الشرفية بمصر سنة (١٣٢٨ ه‍) ، على نفقة السيد شيخ بن محمد الحبشي ابن مؤلفه ، يقع في (٣٠) صفحة.

(٢) اليراع : قصبة يزمّر بها ، وقد يقال لها : الشبابة ، أو المدروف ، أو الناي.

(٣) أي : الحبيب العالم الورع الزاهد الإمام عبيد الله بن محسن بن علوي بن سقاف ، ولد سنة

٦٨٨

وكان يكتفي بوجبة ويتصدّق بالأخرى ، حتّى علم به أبوه لمّا كان يذهب بها من مخترفهم إلى من كانوا يعتادونه منه بالبلد ، فنهاه.

ومنذ عرفته وهو يقوم من النّوم قبل انتصاف اللّيل فيخفّ إلى الطّهارة ، ثمّ يصلّي سنّتها ، ثمّ الوتر إحدى عشرة بحسن قراءة وطول قيام ، ثمّ يقرأ حصّة من القرآن بصوت شجيّ ، ثمّ يأخذ في الأوراد والمناجاة ، وكثيرا ما يقول في آخر دعائه :

اللهمّ ؛ ارحمنا إذا عرق منّا الجبين ، وانقطع منّا الأنين ، وأيس منّا الطّبيب ، وبكى علينا الحبيب.

اللهمّ ؛ ارحمنا يوم نركب على العود ، ونساق إلى اللّحود.

اللهمّ ؛ ارحمنا إذا نسي اسمنا ، واندرس رسمنا ، وفنينا وانطوى ذكرنا ، فلم يزرنا زائر ، ولم يذكرنا ذاكر.

اللهمّ ؛ ارحمنا يوم تبلى السّرائر ، وتكشف الضّمائر ، وتوضع الموازين ، وتنشر الدّواوين.

ومتى جاء فصل الصّيف والخريف .. كان تهجّده على سطح مصلّاه أو في بطن مسيله ، فكأنّما تؤوّب معه الجبال (١) ، وتكاد تنقدّ لخشوعه الصّدور وتتفطر المرائر (٢) ، ثمّ يصلّي الصّبح ونافلته ، ويأخذ في أذكار الصّباح ، حتّى إذا أسفر الأفق .. نبّهني وأعاد معي الصّلاة وجلس يقرئني إلى أن ترتفع الشّمس قدر رمح ، فيصلّي سبحة الضّحى ثمانيا ، وتارة يختصّ الإشراق بركعتين ؛ إذ المسألة خلافيّة ، فالّذي في «الإحياء» [١ / ٣٣٧] أنّ صلاة الإشراق غير صلاة الضّحى ، وجرى عليه في «العباب» [١ / ٢٦٣] و «التّحفة» [٢ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨].

__________________

(١٢٦١ ه‍) ، وتوفي سنة (١٣٢٤ ه‍). «التلخيص الشافي» (١٣٢ ـ ١٣٧) ، «تاريخ الشعراء» (٤ / ١٧٠ ـ ١٧٦).

(١) تؤوّب معه : تردّد معه بالتّسبيح ، وهو من قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)

(٢) جمع مرارة ، كناية عن شدة الهلع.

٦٨٩

وقال ابن زياد في «فتاويه» : ويظهر عدم الاكتفاء في نيّتها بمطلق الصّلاة ؛ لأنّها ذات وقت كالضّحى ، وقال في «الإمداد» : وهي غير الضّحى على ما قاله في «الإحياء».

فتبرّأ منه ، واعتمد في «الإيعاب» أنّها من الضّحى وأنّ مقتضى المذهب امتناع فعلها بنيّة الإشراق ، وعليه الرّمليّ في «النّهاية» ، ومال إليه السّيّد عمر البصريّ.

ثمّ يتناول ما تيسّر من الفطور ويعود إلى مصلّاه الّذي بناه في سنة (١٣٠٠ ه‍) ، ووقف منه قطعة صغيرة للمسجديّة علينا وعلى ذرّيّاتنا فقط ؛ ليصحّ الاعتكاف فيه ، فيجلس للتّدريس به لأناس مخصوصين ؛ هم : السّيّد سقّاف بن علويّ بن محسن (١) ، والسّيّد عبد الله بن حسين بن محسن (٢) ، والشيخ عمر عبيد حسّان (٣) ، والشّيخ محمّد بن محمّد باكثير ، والشّيخ محفوظ بن عبد القادر حسّان (٤) ، وأمّا الشّيخ محمّد بن عليّ الدّثنيّ .. فإنّه لزيمه.

وكلّ هؤلاء حضر بعض دروسي في التّفسير والشّمائل والفقه بسيئون ، إلّا السّيّد سقّاف بن علويّ فإنّما حضر دروسي بسربايا من أرض جاوة في سنة (١٣٣٠ ه‍).

فإذا قضى أولئك دروسهم .. استدعاني ليباشر تعليمي بنفسه بعقب انصراف المخصّصين لتعليمي في محلّنا ؛ إذ كان يحميني عن مخالطة أبناء النّاس ، ويسرّب إليّ أولادا في سنّي يرضاهم للّعب معي ، يراقب أخلاقهم وأحوالهم بنفسه ، منهم السّيّد علويّ بن حسين بن محسن ، ومنهم : سالم بن حسن بن محمّد حسّان.

__________________

(١) ابن عم المؤلف ، ولد بسيئون ، وطلب العلم بها ، هاجر إلى إندونيسيا ، وكان له بها نفع ، فتولى منصب قاضي العرب بسورابايا ، وتوفي بها سنة (١٣٣٦ ه‍). «التلخيص» (١٦١).

(٢) ابن عم المؤلف أيضا ، ولد سنة (١٢٨٨ ه‍) ، وتوفي في (٨) رجب (١٣٤٩ ه‍) ، كان عالما زعيما ، قاضيا مصلحا حكيما ، وعرف أولاده بآل القاضي ، ومن ذريته : السيد العلامة علوي بن عبد الله ، المتوفى سنة (١٣٩١ ه‍) بمصر مؤلف كتاب : «التلخيص الشافي في تاريخ آل طه بن عمر الصافي» ، وشيخنا الحبيب العلامة علي بن عبد الله المتوفى بجدة في محرم سنة (١٤٢٣ ه‍) ، تراجمهم في «التلخيص» (١٤٥ ـ ١٦١).

(٣) توفي بسيئون سنة (١٣٥٦ ه‍).

(٤) المعروف بقاضي شبام ؛ لإقامته مدة بها في عمل القضاء ، ثم عاد إلى سيئون ، وتوفي بها ، لعله حدود (١٣٤٨ ه‍).

٦٩٠

ومتى فرغ من درسي .. جاء إليه الدّثنيّ يقرأ عليه إلى قريب الظّهر ، عندئذ يتناول ما تيسّر من الغداء ، ثمّ يقيل نصف ساعة أو أقلّ ، ثمّ يتهيّأ للظّهر فريضة ونوافل ، وبعد أن يفرغ فتارة يحضر عليه أولئك الرّهط فيقرؤون ، وتارة يدخل إلى أهله ، وهناك تحضر الوالدة (١) بكتابها فتقرأ عليه ، كلّما انتهت من كتاب .. شرعت في آخر ؛ لأنّها كانت مشاركة في العلم ، وأحيانا يضرب السّتر ويأتي الدّثنيّ بكتابه وسيدتي الوالدة من ورائه إلى أن تجب العصر ، فيقوم إلى مصلّاه ويؤدّيها نافلة وفريضة بطهر مجدّد ، ثمّ يشتغل بشيء من الأوراد والحزوب ، ثمّ أحضر بكتابي فأقرأ درسا ، ثمّ أنهض للّعب مع أصحابي المخصّصين لذلك ، وكثيرا ما يزورنا ويراقبنا ، وربّما شاركنا ؛ تطييبا لأنفسنا دقيقة أو دقيقتين.

يروع ركانة ويذوب ظرفا

فما تدري أشيخ أم غلام (٢)

ثمّ يحضر الدّثنيّ إلى المغرب ، وعند ذاك يستأنف الطّهارة ، ثمّ يؤدّي المغرب بنوافلها الرّاتبة وغيرها ، ثمّ أحضر بكتابي فأقرأ درسا خفيفا ، ويخلفني الدّثنيّ في القراءة إلى العشاء ، وقد يحضر السّابقون في هذا الوقت وغيرهم فيكون درسهم واحدا.

ثمّ يؤدّي العشاء بدون تجديد طهارة ، ثمّ يصلّي راتبته ، ويشتغل بأذكار المساء ، ثمّ يتناول العلقة من الطعام ، ثمّ يأخذ مضجعه وقد غلب عليه الخوف من الله والشّوق إليه ، فقلّما يطمئنّ به مضجعه ، وهكذا دواليك.

وقد انطبعت نفسه ـ ورسخت أعضاؤه على اتّباع السّنّة في يقظته وانتباهه ، وقيامه وقعوده ، ومدخله ومخرجه ، وقضائه للحاجة ، وأكله وشربه ـ انطباعا لا يحتاج معه إلى تكلّف ، بل كثيرا ما أراه يتضجّر من النّهار ، ولا سيّما إذا كثر عليه الواردون ـ مع أنّ كلامه معهم لا يخرج عن التّمجيد والتّحميد ، والتّعريف والتّوحيد ، والوعظ الّذي

__________________

(١) هي الشريفة نور بنت محمد بن سقاف مولى خيلة.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لأبي الطيّب المتنبّي في «العكبريّ» (٤ / ٧٥). يروع : يفزع. الرّكانة : الوقار. الظّرف : الحسن.

٦٩١

يلين له الحديد ـ فيحنّ إلى اللّيالي حنين الصبّ المشتاق إلى حبيبه القادم بعد طول الفراق ؛ لما يجده من لذّة العبادة ، وحلاوة التّلاوة ، وعذوبة المناجاة الّتي أشار إلى مثلها ابن القيّم في (ص ٣٣١) من «إغاثة اللهفان».

ومع ذلك فقد كان يتململ لما يجد من تلك اللّذة خوفا أن ينقطع بها عن المقصود ، أو تكون حظّه من العمل ، وكان يحكي مثل ذلك عن أبيه. وأقول : أمّا خوف الانقطاع بها عن المقصود .. فممكن ، وأمّا أن تكون حظّه من العمل .. فلا ؛ لأنّها بعض ثمرته المعجّلة.

وكان آية في عزّة النّفس والصّدع بالحقّ والشّدّة فيه والغيرة عليه ، إلى بسطة كفّ ، وفرط رحمة ، وسلامة صدر ، وورع حاجز ، واحتياط تامّ ، وقناعة بما يجد من حرثه ، وما يصل من الفتوح إليه من غير طمع ولا إشراف نفس ، فعنده غفّة (١) من العيش ، جمع إليها شعبة وافرة من القناعة ، مغتبط بعيشه ، قانع برزقه ، راض عن ربّه ، ليس له حجاب ، ولا يغلق عليه باب ، وإنّما هو كما قال السّلاميّ [من الطّويل] :

كماء الفرات الجمّ أعرض ورده

لكلّ أناس فهو سهل الشّرائع

وكان له في الوعظ لسان ، ويأخذه فيه حال عظيم يشغله عن نفسه ، وله قلم سيّال في المكاتبات والرّسائل العلميّة ، جمع من ذلك الفاضل السّيّد سالم بن حفيظ ما دخل في ستّة مجلّدات.

ولكنّ لسانه أقوى بكثير من قلمه.

يقول عارف مقدار الكلام له

سبحان خالقه سبحان باريه (٢)

وطيلة حياتي لم أسمع منه لغوا قطّ ، وكان أعيان زمانه يعرفون منه ذلك ، فيحاولون أن يتسقّطوه الكلام ويحتالون ليخوض معهم ، فلا يقدرون على شيء ، فلا أجد لهم وإيّاه مثلا إلّا الرّبيع بن خيثم ؛ إذ خفّوا إليه يوم قتل الحسين ليستخرجوا منه

__________________

(١) الغفّة : البلغة من العيش.

(٢) البيت من البسيط.

٦٩٢

كلاما ، فأخبروه ، فلم يزد على أن قال : أو قد فعلوها؟! قالوا : نعم.

فرفع يديه إلى السّماء وقال : (قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١).

فما أشبه هذا بذاك. لا ينفذ إلى فعله التّعليل ، ولا يحتاج شيء منه إلى التّأويل ؛ إذ صار هواه تبعا لما جاء به نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فجاء فيه موضع قول ابن كناسة في إبراهيم بن أدهم [من الطّويل] :

أمات الهوى حتّى تجنّبه الهوى

كما اجتنب الجاني الدّم الطّالب الدّما

سروره في إقبال الخلق على الله ، وحزنه في إعراضهم عنه ، حتّى لقد كان سبب موته من هذا الباب.

وكان كثير الأخذ عن المشايخ ، جمّ الحرص على الاستكثار من الأسانيد والاتّصال بسلاسل الرّجال وأئمّة الحديث والطّريق. وقد اجتمع له ولي بفضله ـ رضوان الله عليه ـ ما لا يوجد عند أحد من أهل عصره ، ولله الحمد.

وكان في أيّام أستاذه الأبرّ عيدروس بن عمر يتردّد عليه من أيّام والده (٢) عن أمره في كلّ ثلاث ماشيا ، وبينهما نحو من أربعة أميال أو أكثر ، ولقد أراد أخوه في الله الشّيخ عوض بن عمر شيبان السّابق ذكره في الغرفة أن يشتري له مركوبا ، فأبى وقال : لو أحسست بتعب .. لقبلت. ولقد كاد أن يخرج عن إهابه من الطّرب ؛ إذ تمثّلت له عند مثل هذا الكلام بقول العبّاس بن الأحنف [من البسيط] :

أرى الطّريق قريبا حين أسلكه

إلى الحبيب بعيدا حين أنصرف

وقول الآخر [كثيّر عزّة في «ديوانه» ١٠٩ من الطّويل] :

وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها

أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها (٣)

__________________

(١) حلية الأولياء (٢ / ١١١).

(٢) أي : الحبيب محسن بن علوي ، المتوفى سنة (١٢٩١ ه‍) ، وعمر المترجم حينذاك (٣٠) عاما.

(٣) في «الديوان» : (سعدى) بدل : (ليلى).

٦٩٣

من الخفرات اللّاء ودّ جليسها

إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها

ثمّ ظفر هو بقول الآخر [من السّريع] :

والله ما جئتكم زائرا

إلّا رأيت الأرض تطوى لي

ولا انثنى عزمي عن بابكم

إلّا تعثّرت بأذيالي

فكان كثير التّغنّي بهما ، وهو معنى واسع للشّعراء فيه مجال ، ولم ينس المتنبّي حظّه من هذا المعنى ، لكن من غير إجادة ، حيث يقول [في «العكبريّ» ١ / ٦٣ من الطّويل] :

أتى مرعشا يستقرب البعد مقبلا

وأدبر إذ أقبلت يستبعد القربا (١)

وكانت ترعد عنده فرائص الملوك ؛ لما عندهم من احترام الحقّ وهيبة الدّين ، ولما يرون عليه من عزّة الإيمان وشرف العلم ، وصولة الحقّ ، وسلطان الصّدق ، وقوّة اليقين ، فيأمرهم وينهاهم ، ولا يؤمّلون أبدا في أن يقبل منهم شيئا ؛ إذ كانت الشّبهات في عهده ـ فضلا عن الحرام ـ ظاهرة النّكارة ، فاحشة الملامة ، حتّى لقد كان مكّاس الدّولة الكثيريّة ـ المسمّى توفيقا ـ منبوذا مهانا ، وكثيرا ما يمرّ بجانب مدرسة طه بن عمر فيرميه صبيانها بالحجارة ، فلا يقدر على الدّفاع ، ولو دافع .. للقي أكبر.

وله محاسن ، وكان موته يوم الجمعة ، فأشكل ذلك على والدي ، فخفّ إلى الأستاذ الأبرّ فقال ـ قبل أن يبلع الرّيق ـ : أحوج النّاس إلى الجمعة : توفيق.

ثمّ صار أبناء السّادة اليوم يتسابقون إلى مثل وظيفته ، ويتنافسون فيها ، ويشمخون بأنوفهم ؛ ظنّا أن قد رفعت من أقدارهم.

وعلى الجملة : فكلّ ساعاته ذكر أو تذكير ، أو قراءة أو تدريس ، أو صلاة يستشعر حاضرها ـ بما يغشاه من الطّمأنينة والخشية ـ نزول السّكينة ، وشمول الرّحمة ، وحضور الملائكة.

__________________

(١) مرعش : حصن ببلد الرّوم من أعمال ملطية.

٦٩٤

وما ألذّ ما تسمع آيات القرآن من لسانه في الصّلاة الجهريّة ، بصوته الجهير ، ونغمته الشّجيّة ، غضّة طريّة ، تكاد تنتزع القلوب من أماكنها ، ويخيّل لهم أنّهم لم يسمعوها من قبل ، وأنّها إنّما نزلت تلك السّاعة ، حتّى ليحسب المقتدون بما يشملهم من اللّذّة ويغمرهم من الهيبة ويستولي عليهم من الخشوع أن قد انفصلوا عن عالم الحسّ ، والتحقوا بعوالم القدس ، بحيث لا يمكن لمسبوق أن يقرأ (الفاتحة) من خلفه.

وأذكر أيّامي لديه فأنثني

على كبدي من خشية أن تقطّعا (١)

وما أذكر صلاة أشفى للنّفس ، وأجمع للقلب ، وأبرد للخاطر وأنفى للهمّ ، وأدنى إلى الإخلاص من صلواتي في الجهريّات خلفه ، وخلف شيخنا الفاضل الشّيخ حسن بن عوض بن زين مخدّم ، وصلواتي خلف الأستاذ الأبرّ جهريّة كانت أو سرّيّة ؛ فإنّه يسري إلينا سرّ من إخلاصه ، يلذّ لنا به التّطويل مطلقا.

وأذكر أنّ أوّل صلاة كانت لي بالمسجد الحرام لمّا حججنا في سنة (١٣٢٢ ه‍) هي الصّبح خلف واحد من العلماء ـ يدعى فيما أتوهّم خوقير ـ قرأ في الأولى بالتّين فكاد القلب يخرج عن شغافه عند إشارته إلى البلد بقوله : (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) ثمّ ما كفاه حتّى قرأ في الثّانية سورة ـ (قريش) فلا تسل عمّا داخلني عند إشارته إلى البيت ـ وما بيننا وبينه إلّا ثمانية أذرع أو أقلّ ـ بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) فلو لا الاعتصام بالأجل .. لا لتحقت الرّوح بالباري عزّ وجلّ ، ولكنّي :

ضممت على قلبي يديّ مخافة

وقد قرعته بالغطاة القوارع (٢)

وما ينفع القلب الّذي طاش لبّه

لتلك المعاني أن تضمّ الأصابع

__________________

(١) البيت من الطّويل ، وهو للصّمّة بن عبد الله القشيريّ ، بتغيير بسيط.

(٢) البيتان من الطّويل ، وهما كما عند ابن نباتة السّعديّ :

أضمّ على قلبي يديّ مخافة

إذا لاح لي برق من الشّرق لامع

وما ينفع القلب الّذي بان إلفه

إذا طار شوقا أن تضمّ الأضالع

٦٩٥

وكثيرا ما شنّف سمعي ، واستوكف دمعي ، وامتلك لبّي ، واستأسر قلبي ما سمعته من قراءة إمام الحرم بأوساط المفصّل في صلاة الصّبح سنة (١٣٥٤ ه‍) ، وتذكّرت صلاة والدي ، إلّا أنّ تلك أخشع وقراءة إمام الحرم أجود وأسمع ، فهو مقرىء غير مدافع ، ولكنّ خطابته دون ما يليق بالمسجد الحرام الّذي يطلب بلاغة تتفرّى لها الأهب ، وتكاد لها النّفوس تنتهب.

ثمّ إنّ والدي رحمه الله مع ما سبق كلّه لم يكن بالمتزمّت ولا بالمتنطّع ولا بالمنقبض ، بل لا يفارق ثغره الابتسام في سرّاء ولا ضرّاء ، وله في الدّعابة مذهب جميل ، يخرجه عن طريق المرائين المتصنّعين ، ويحلّيه بقول المتنبّي [في «العكبريّ» ٢ / ٢٨٧ من الطّويل] :

تفكّره علم ، وسيرته هدى

وباطنه دين ، وظاهره ظرف

فله معنا ـ ولا سيّما عند الأكل ، بل وفي مثاني الدّروس عند المناسبات ـ مفاكهات شهيّة ، ومنادرات لذيذة ، وتراه يصغي بسمعه وقلبه لما أنشده إيّاه من الأبيات الأدبيّة عند المقتضيات ، ويطرب لذلك ويستعيده.

وقد سبق أنّه يشاركني أحيانا في اللّعب إيناسا لي ، وضنّة بي عن مخالطة الأضداد ، فلم تكن الهيبة الغالبة عليه هيبة تعاظم ولا ترفّع ، كلّا والله ، ثمّ كلّا والله ، ولكن كما قال أبو عبادة [في «ديوانه» ٢ / ٣٠٩ من البسيط] :

يهاب فينا وما في لحظه شزر

وسط النّديّ ولا في خدّه صعر (١)

وإن كان ليجرّني الرّسن فأناقشه المسائل وأجاذبه البحث فلا يزيده إلّا سرورا واغتباطا ، على شرط أن أتوكّأ على الدّليل وأعتمد على النّصّ. ولقد جهدت أن أتعلّق له بهفوة أحتجّ بها عند ما يناقشني الحساب على المباحات ، ويكلّفني الصّعب من المجاهدات فلم أستطع.

__________________

(١) الشّزر : النّظر بمؤخّر العين ، ويكون عند الغضب. النّديّ : مجلس القوم. الصّعر : إمالة الخدّ عن النّاس تكبّرا.

٦٩٦

وقد سئل الحسن البصريّ عن عمرو بن عبيد (١) ، فقال : (لقد سألتني عن رجل كأنّ الملائكة أدّبته ، وكأنّ الأنبياء ربّته ، إن قام بأمر .. قعد به ، وإن قعد بأمر .. قام به ، وإن أمر بشيء .. كان ألزم النّاس له ، وإن نهى عن شيء .. كان أبعد النّاس عنه ، ما رأيت ظاهرا أشبه بباطن منه) (٢) ، وكأنّما نظر في هذا بلحظ الغيب إلى والدي ، فإنّه الوصف الّذي ينطبق عليه تماما ، لا يأنف من حقّ ، ولا يتقدّم إليه بباطل ، فلهو والله من أحقّ النّاس بقول كثير [في «ديوانه» ١٤٥ من الطّويل] :

ترى القوم يخفون التّبسّم عنده

وينذرهم عور الكلام نذيرها (٣)

فلا هاجرات القول يؤثرن عنده

ولا كلمات النّصح يقصى مشيرها

وقول كعب بن سعد الغنويّ [من الطّويل] :

إذا ما تراءاه الرّجال تحفّظوا

فلم ينطقوا العوراء وهو قريب

ولئن قال ابن عنقاء : (إذا قيلت العوراء .. أغضى) فإنّ هذا إذا قيلت : العوراء .. غضب ، بل لا أذكر أنّ أحدا نطق في مجلسه بكلمة غيبة أو نحوها.

وكذلك كان يقول عنه الشّيخ الدّثنيّ ، ويكثر التّعجّب من ذلك ، وهو أشدّ وأقدم له لزاما منّي.

ومع هذا كلّه فما هو إلّا صورة مصغّرة من أحوال والده وأحوال سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر ، وكلّما استكثرنا أعماله .. قلّل منها بالنّسبة لأعمالهم ، وأقسم أنّه غير هاضم لنفسه ، ولكنّه مخبر بالواقع.

وعلى مثل حاله رأيت سيّدي شيخان بن محمّد الحبشيّ ، على ضيق في عطفه ، وخشونة في خلقه ، وإلّا .. فقد كان هذا أوسع علما وأكثر عبادة ، وأشدّ مجاهدة

__________________

(١) هو عمرو بن عبيد بن باب ، وقيل : ابن كيسان ، التميمي المعتزلي مولاهم أبو عثمان البصري. ولد سنة (٨٠ ه‍) ، ومات سنة (١٤٢ ه‍) ، ترجمته مطولة في «تهذيب الكمال» ومختصراته.

(٢) انظر ترجمة عمرو بن عبيد ، والقصّة هذه في «وفيات الأعيان» (٣ / ٤٦٠).

(٣) عور الكلام : قبيحه.

٦٩٧

للنّفس ، إلّا أنّ والدي كان أجود وأسمح ، وأنصح وأفصح ، وأرأف وأعطف ، وأظرف وألطف.

وكان سيّدي عبد الله بن حسن البحر على قريب من تلك الحال ، بل هو أندى بنانا ، وأشجع جنانا ، وأكثر ضيفانا ، وأطول قياما وركوعا ، وأغزر بكاء وخشوعا ، إلّا أنّ والدي كان أكثر علما وأغزر فهما ، وأبلغ لسانا ، وأفصح بيانا ، وأحلى لفظا وأنجع وعظا.

ولقد أشهدت منهما مشهدا عجيبا بمنزل سيّدي الفاضل محمّد ابن الأستاذ الأبرّ المسمّى : باوعيل في شرقيّ تريس سنة (١٣١٨ ه‍) ، تذاكرا فيه أحوال الإمام البحر والأستاذ الأبرّ وشدّة خوفهما من الباري عزّ وجلّ ، وفرط انكسارهما بين يديه ، وجرى لهما مثل ما جرى لابن المنكدر وأبي حازم ؛ فقد ذكر غير واحد أنّ ابن المنكدر صلّى وبكى ، ففزع أهله حتّى استعانوا بأبي حازم .. فقال له : ما الّذي يبكيك حتّى رعت أهلك؟

قال : مرّ بي قوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فصعق أبو حازم واشتدّ بكاؤهما ، فقال بعض أهل ابن المنكدر لأبي حازم : جئنا بك لتفرّج عنه فزدته. فقريب من ذلك جرى لوالدي مع القانت الأوّاب البحر يومئذ ، وكانا جاءا للترويح .. فعادا في مأتم.

وعلى الجملة : فقد كان كثير ممّن أدركناهم وأخذنا عنهم على غرارهم ، وشريف آثارهم ؛ كسادتي : عبد الله بن عمر بن سميط ، المتوفّى بشبام سنة (١٣١٣ ه‍). وأحمد بن محمّد الكاف ، المتوفّى بتريم سنة (١٣١٧ ه‍). وعبد الرّحمن بن حامد السّقّاف ، المتوفّى بسيئون سنة (١٣١٦ ه‍). والشّيخ عمر عبود بلخير ، المتوفّى بالغرفة في حدود سنة (١٣١٦ ه‍). وعبد الرّحمن بن محمّد المشهور ، المتوفّى بتريم سنة (١٣٢٠ ه‍).

والشّيخ أحمد بن عبد الله بن أبي بكر الخطيب ، المتوفّى بتريم سنة (١٣٣١ ه‍). والشّيخ محمّد بن أحمد قعيطبان ، المتوفّى بها سنة (١٣١٦ ه‍). والشيخ أحمد بن

٦٩٨

عبد الله بن عمر الخطيب ، المتوفّى بها سنة (١٣٣٣ ه‍). والسّيّد عيدروس بن علويّ العيدروس ، المتوفّى بتريم سنة (١٣٢٠ ه‍). وأخيه من الأمّ السّيّد شيخ بن عيدروس بن محمّد العيدروس المتوفّى بها سنة (١٣٣٠ ه‍). والسّيّد علويّ بن عبد الرّحمن السّقّاف ، المتوفّى بسيئون سنة (١٣٢٨ ه‍). والشّيخ حسن بن عوض بن زين بن مخدّم ، المتوفّى ببور سنة (١٣٢٨ ه‍). والسّيّد أحمد بن حامد بن سميط ، المتوفّى بشبام سنة (١٣٣١ ه‍). وطاهر بن عبد الله بن سميط ، المتوفّى بشبام أيضا سنة (١٣٣١ ه‍). والسّيّد عبد القادر بن أحمد بن قطبان ، المتوفّى بسيئون سنة (١٣٣٤ ه‍). والسّيّد عبد الله بن عليّ بن شهاب ، المتوفّى بتريم سنة (١٣٤٠ ه‍).

ومن في طبقاتهم ممّن لم تحضرني أسماؤهم حال رقم هذا ، فقد كانوا بتفاوت الدّرجات العلميّة أراكين إسلام ، وجمال أيّام.

وجوه عليها للقبول علامة

وليس على كلّ الوجوه قبول (١)

وجوه إذا ما أسفرت عن جمالها

سجدن على أعتابهنّ عقول

أمّا من قبلهم ؛ كسادتي : أحمد بن عمر بن سميط ، وسيد الوادي الحسن بن صالح البحر ، وعبد الله بن حسين بن طاهر ، وعبد الله بن حسين بلفقيه ، وعبد الله بن أحمد باسودان ، وعبد الله بن سعد بن سمير ، وجدّي المحسن ، وعبد الله بن عمر بن يحيى ، والإمام المحضار ، ومن على شاكلتهم من تلك الطّبقة .. فقد كانوا أفضل فريقا ، وأقوم طريقا.

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم

بعد الممات جمال الكتب والسّير (٢)

وقد ذكر سيّدي عبد الله بن حسين بن طاهر في (ص ١٠٧) من «مجموعه» جماعة من أفاضل من رآهم وعاشرهم بهم تقرّ النّواظر ، وتبرد الخواطر ، وتطيب الأخبار ، وتزّيّن الأسمار ، ومع هذا كلّه فلا أتصوّر أحدا يتفضّل على سيّدي الأستاذ

__________________

(١) البيتان من الطّويل.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لأبي العلاء المعرّي في «سقط الزند» (٥٩).

٦٩٩

الأبرّ ؛ وما أدري أذلك هو الواقع؟ أو إنّما هي دهشة النّظر ، وقد قال أبو الطّيّب [في «العكبريّ» ٣ / ٨١ من البسيط] :

خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به

في طلعة الشّمس ما يغنيك عن زحل

وربّما كان في مثل هذا إساءة أدب منّا ؛ إذ العلم لله ، وما نظنّ إلّا ظنّا ؛ لأنّ شمائله لم تكن لتخرج ـ بعد استثناء الجهاد ـ عن شمائل جدّه المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وههنا موضع قول كشاجم :

لو لا عجائب صنع الله ما نبتت

تلك الفضائل في لحم ولا عصب (١)

وإنّما أسهبت في الموضوع مع خروجه عن سمت المقصود ؛ لأنّ الزّمان انحطّ دفعة ، وتراذل فجأة ، فلم تكتحل عيون المتأخّرين بأحد من أمثال أولئك الّذين :

رضعوا لبان المجد في حجر العلا

فعلوا على الأكفاء والأنداد (٢)

وأظلّهم بيت النّبوّة وابتنوا

شرفا على شرف بغير حداد

فلهم إذا ما زرتهم وخبرتهم

شرف الملوك وسيرة الزّهّاد

قوم إذا سفروا حسبت وجوههم

للنّاظرين أهلّة الأعياد

فأحببت تقريرهم به عن مشاهدة بالعين ؛ كيلا تحملهم الظّروف السّيّئة بقياس المشاهدة على إنكارهم وتوهّم استحالتهم ، وما كانوا إلّا كما قال القطاميّ ، أو لقيط بن زرارة :

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى اللّيل حتّى نظّم الجزع ثاقبه (٣)

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو ليس لكشاجم ، بل لابن الرومي من قصيدته الطويلة التي مطلعها :

ما أنس لا أنس هندا آخر الحقب

على اختلاف حروف الدّهر والعقب

وعدد أبيات القصيدة (١٤٠) بيتا.

(٢) الأبيات من الكامل ، وهي لناصح الدّين الأرّجاني.

(٣) الأبيات من الطّويل ، وهي ليست للقطاميّ ، ولا للقيط بن زرارة ، بل لأبي الطّمحان القينيّ ، كما في «ديوان الحماسة» (٢ / ٢٧١ ـ ٢٧٢). دجى اللّيل : ظلمته. نظّم : جمع. الجزع : الخرز اليماني. ثاقبه : الّذي يضمه.

٧٠٠