إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

وقد مرّ في ذي أصبح ما يعرف منه تعصّب عبد الله عوض غرامة لآراء الوهّابيّة ، وأنّ الإمام البحر ينكر عليه جوره بعبارات قاسية تكاد تشقّق منها الحجارة ، حتّى إنّه لا يقول في كتبه إليه عندما يثور عليه إلّا : من حسن بن صالح البحر إلى عبد الله عوض غرامة ، السّلام على من اتّبع الهدى ... ثمّ يصعب له القول ، ويطيل في وعظه الجول ، ولو كان من رأيه إنكار توهيبه .. لما سكت له في ذلك ، وهو لسان الدّين النّاطق ، وبرهان الحقّ الصّادق.

توفّي الحبيب علويّ بن سقّاف الجفريّ المذكور بتريس ، سنة (١٢٧٣ ه‍) (١) قبيل وفاة شيخه البحر بمدّة يسيرة (٢).

وخلفه ولده العلّامة الفقيه سالم بن علويّ (٣) ، وكان على قضاء تريس ، وجرت بيننا وبينه محاورات ومناقضات ورسائل ؛ وخبر ذلك أنّني لمّا عدت من جاوة مشبّعا بالآمال في الإصلاح .. خطبت في الجامع في سنة (١٣٣٠ ه‍) إثر الصّلاة ودعوت إلى التّسامح والتّصالح والتّآلف والاجتماع ، فاستاءت لذلك طائفة باطويح ، واشتدّ عليهم أن أتكلّم بمرأى ومسمع من حضرة السّيّد العلّامة عليّ بن محمّد الحبشيّ ، وربّما فهموا من السّياق تعريضا بانحراف السّيّد عليّ عن سير السّلف الطّيّبين ، فلم أشعر بعد مدّة إلّا بورقة فيها ما يشبه الرّدّ على بعض نقاط من تلك الخطبة الّتي اختزلها بعض الطّلبة (٤) ووزّع نسخا منها بين النّاس ، معزوّة تلك الورقة إلى الفاضل الأديب ـ الّذي أخلص صداقتي فيما بعد ـ السّيّد عيدروس بن سالم بن علويّ الجفريّ ، فكتبت ردّا عليها من لسان القلم عزوته إلى غيري.

وبعد شهر تقريبا وصلتني عدّة أوراق ـ نحو العشر ـ يراد منها دفع ذلك الرّدّ ،

__________________

(١) كانت وفاته عصر يوم الخميس (١٦) ربيع الأول ، ودفن بكرة الجمعة ، وله ذكر في مواضع من «العدة» لابن حميد.

(٢) إذ وفاة الإمام البحر في ذي القعدة.

(٣) ولد السيد سالم بتريس سنة (١٢٦٥ ه‍) ، ذكره السيد ضياء في «تعليقاته على شمس الظهيرة» (٢ / ٤١١).

(٤) الذي كان يختزل خطب ابن عبيد الله هو تلميذه النجيب السيد محمد بن أحمد بن عمر بن يحيى فلعله هو.

٦٦١

فنقضتها في بضعة أيّام برسالة ضافية الذّيول ، سمّيتها ب : «النّجم الدّرّيّ في الرّدّ على السّيّد سالم الجفريّ» فكانت القاضية ـ في أخبار طويلة مستوفاة ب «الأصل» ـ فلم يكن منه ـ أعني السّيّد سالم بن علويّ رحمه الله ـ إلّا أن جاءني بعد ذلك على شيخوخته ، وصارحني بأنّه لم يراجعني القول إلّا عن إيعاز قويّ ممّن يذبّ عنهم ، وأنّه مكره لا بطل ، وأنّ الصّواب تبيّن له من «النّجم الدّرّيّ» فرجع إليه ، فأكبرته وأعظمت طيب نيّته ، وسلامة صدره ، إلى ذلك الحدّ الّذي يصعب مثله إلّا على أهل الإخلاص ، وقليل ما هم.

ومن العجب العجيب أنّ كلام العلّامة السّيّد سالم بن علويّ رحمه الله في دفاعه عن صاحبه كان مخالفا على طول الخطّ لما قرّره أبوه في «الدّلائل الواضحة» وهي موجودة عنده ، والحقّ فيها أعظم وأوضح ممّا هو في «النّجم» ، وما وقعت عليها إلّا بعد ذلك من يد ولده الفاضل السّيّد عيدروس ، ولو كانت عندي من قبل .. لكانت الحجّة أدمغ والعبارة أبلغ ، ويقيني أنّه لم يكن على ذكر منها حين كتب ما كتب ، توفّي رحمه الله في حدود سنة (١٣٣٦ ه‍).

وخلفه على القضاء والتّدريس بتريس ولده العالم الجليل ، والفاضل النّبيل عيدروس (١) ، وكان أديبا شاعرا ، جميل الوجه ، نظيف الثّوب ، حسن الشّارة ، كبير الهمّة ، لم تضع الأعادي قدر شأنه وقتما كان على القضاء ، ولكنّه أراد ما أراده الطّغرائيّ في قوله [من البسيط] :

__________________

(١) السيد العلامة الرحالة عيدروس بن سالم ، ولد بتريس في (١٥) شعبان (١٣٠٩ ه‍) ، وتوفي ببلدة فالو بجزيرة سولاويسي بجاوة يوم الإثنين (١٢) شوال (١٣٨٩ ه‍).

وهو مؤسس مدارس الخيرات منذ عام (١٣٣٩ ه‍) ، ولهذه المدارس فروع بلغت إلى (٧٠٠) فرع في أنحاء إندونيسيا ، بها ألوف الطلبة ، تشمل : مدارس رياض الأطفال ، ومدارس المعلمين ، ومدارس تربية المعلمين .. بنيت بمجهودات الأهالي وإرشادات السيد عيدروس ، وقد جعلت لها أوقاف ، وتأتيها تبرعات من أهل الخير. ثم أقامت في (١٣٨٤ ه‍) مؤسسة الخيرات جامعة إسلامية تشمل (٣) كليات : الآداب ، والتربية ، والشريعة.

ترجم له عارف قدره ومعاصره السيد ضياء شهاب في «التعليقات» : (٢ / ٤١٢ ـ ٤١٣) ، ونشرت خبر موته الصحف الإندونيسية وكتبت فيه المقالات.

٦٦٢

أريد بسطة كفّ أستعين بها

على قضاء حقوق للعلا قبلي

فطوّحت به الأسفار إلى جاوة من حدود سنة (١٣٤٢ ه‍) إلى اليوم (١) ، نسأل الله أن يقضي لنا وله الحاجات ، ويفرّج الكربات ، ويجمعنا به في الأوطان على أرغد عيش وأنعم بال.

أمّا دولة تريس : فقد كانت لآل ثعلب ، ومن صلحائهم : السّلطان عمر بن سليمان بن ثعلب أثنى عليه الشّيخ محمّد بن عمر باجمال في كتابه «مقال النّاصحين» [ص ١٩٦] وقال : (كانت له أحوال محمودة ، وشفقة على الرّعيّة صالحة ، وتفقّد لهم تامّ ، وكان يقتني من البهائم وآلات الحرث لرعاياه مثل ما يعدّه لنفسه ، ويبذل ذلك لهم ، وكان يتفقّد أهل الفقر والحاجة منهم ، فيواسيهم ويحسن إليهم ، ويصلح بين المتخاصمين ، ويتحمّل في ذلك الأثقال الكثيرة) اه

ومع هذا .. فقد كان الشّيخ عمر بن عبد الله بامخرمة يغري به سلاطين آل كثير ويهيّجهم عليه ، إلّا أنّ الشّيخ من أهل الأحوال الّذين لا يقتدى بهم.

ولمّا تلاشى ملك آل ثعلب .. صاروا سوقة وتجّارا بالغرفة وغيرها ، حسبما مرّت الإشارة فيها إليه.

ثمّ استولت يافع على تريس ، وكان عليها منهم : الأمير صالح بن ناصر بن نقيب ، يعشّرها وما حواليها إلى مكان آل مهري ، لا يقدر أحد من آل كثير أن يعترضه في شيء ، مع أنّ عسكره قليل جدّا ، غير أنّه كان شجاعا مهابا ، وكان ولده عبد الله جمرة حرب ، متورّدا على حياض القتل والضّرب.

وفي جمادى الآخرة من سنة (١٢٦٤ ه‍) : نازلهم آل عبد الله الكثيريّون بأشراف القبلة (٢) وغيرهم بعد أن فرغوا من آل الظّبي بسيئون.

وبعد حصار دام سبعين يوما .. سلّمت تريس ، وتمّ الصّلح ، وكان جلاء آل ابن

__________________

(١) لعل سفره كان حدود (١٣٣٧ ه‍) بعيد وفاة والده .. كما ذكر السيد ضياء.

(٢) ولكن في العرف الخاص بالحضارمة : يراد بأرض القبلة بلاد الجوف وبيحان ، وهي من بعد شبام والقطن كما تقدم ذكرها في الكتاب.

٦٦٣

نقيب إلى القطن حسبما هو مفصّل ب «الأصل» ، وتلك الأيّام نداولها بين النّاس (١).

وعلى ذكر بيت الطّغرائيّ السّابق : بلغني أنّ بعض بني شيبة اعتزم السّفر فجاء لموادعة الشّريف ، فقال له : فيم؟ قال : أريد.

فلم يصل داره إلا وقد سبقه ألف دينار له إليه من الشّريف ، أراد الشّريف قول الطّغرّائيّ [من البسيط] :

فيم اقتحامك لجّ البحر تركبه

وأنت تكفيك منه مصّة الوشل؟ (٢)

وأراد الرّجل ذلك البيت السّابق ذكره من نفس القصيدة.

رحمة الله على أهل الجود ، ووا أسفا إذ قد تضمّنتهم اللّحود ، ولله درّ الرّضيّ في قوله [في «ديوانه» ١ / ٦٦٥ من الطّويل] :

وهل تدّعي حفظ المكارم عصبة

لئام ومثلي بينها اليوم ضائع

نعم لستم الأيدي الطّوال فعاونوا

على قدركم قد تستعان الأصابع

وللشّعراء في معنى الأوّل مجال واسع ، ذكرنا منه في «العود الهنديّ» ما شاء الله أن نذكر.

السّوم (٣)

موضع في شرقيّ تريس ، فيه نخيل كثير ، وكان به مسجد صغير للسّيّد عبد الرّحمن بن محمّد الجفريّ ، مولى العرشة السّابق ذكره في تريس وغيرها.

وكان مكمنا لقطّاع الطّريق ، ثمّ أحبّه السّيّد الإمام عمر بن سقّاف بن محمّد بن عمر

__________________

(١) تنظر أخبار آل النقيب وحصارهم ل (تريس) مفصلة تفصيلا دقيقا في «العدة» (١ / ٣٧٤) وما بعدها.

(٢) الوشل : الماء القليل الّذي يخرج من الصّخر قليلا قليلا.

(٣) أصل إطلاق كلمة السوم على الفواصل الطينية الواقعة بين الجروب ـ المزارع ـ وهي مرتفعة نوعا ما ، يصعد عليها صعودا .. وأطلق فيما بعد على هذا الموضع ، وعلى مواضع أخرى بحضرموت.

٦٦٤

السّقّاف (١) وأكثر من التّردّد إليه ، ثمّ ابتنى به دارا وعمّر ذلك المسجد ، وزاد فيه زاوية ، فعاد موئلا لكلّ شارد ، وكيف لا وقد حلّ به بكر عطارد (٢)؟

أغرّ أبلج تأتمّ الهداة به

كأنّه علم في رأسه نار (٣)

له مناقب كثيرة ، وفضائل شهيرة ، وقد ترجمه العلّامة الشّيخ عبد الله بن سعد بن سمير ـ السّابق ذكره في ذي أصبح ـ بكتاب سمّاه : «المنهل العذب الصّاف» (٤) ، جمع فيه وأوعى ، ومع ذلك فسيّدنا عمر بن سقّاف حقيق بقول شاعر «الخريدة» [من البسيط] :

قد حلّ في مدرج العلياء مرتبة

مطامح الشّهب عن غاياتها تقف

أغرى بوصف معاليه الورى شغفا

لكنّه والمعالي فوق ما وصفوا

وفي كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط : (أنّه ـ أعني الحبيب عمر بن سقّاف ـ يقول كلّما قام أو قعد : «الله ، لا شريك مع الله» ؛ لأنّ الأكابر يعبدون الله بخالص التّوحيد) اه

وفيه تأكيد لما أسلفناه عمّا قريب.

توفّي سنة (١٢١٦ ه‍) وله عدّة تآليف ، وأشعار بعضها جيّد إلّا أنّه كان لدينا حاد ثقيل روح أملّني بتكرير قصيدة من أدائه يتواجد عليها حتّى أضجرني وصرفني عنه جملة ، وكنت في ذلك كما قال معن بن أوس [من الطّويل] :

إذا انصرفت نفسي عن الشّيء لم تكن

إليه بوجه آخر الدّهر تقبل

__________________

(١) الحبيب عمر بن سقاف (١١٥٤ ـ ١٢١٦ ه‍) : ولد بسيئون ، وتربى على يد أبيه الإمام ، وجده لأمه الحبيب علي بن عبد الله السقاف ، قرأ القرآن وهو ابن أربع سنوات ، وحفظه وهو ابن ست ، ومناقبه فخيمة ، وأحواله جسيمة. ينظر : «التلخيص الشافي» (٥٨ ـ ٦٢).

(٢) البكر : أوّل أولاد المرأة. عطارد : نجم من النّجوم السّيّارة. وهذا كناية عن التّفرّد.

(٣) البيت من البسيط ، وهو للخنساء في «ديوانها» (٢٣٠). الأغرّ : المشهور. الأبلج : الأبيض الوجه. تأتمّ : تقتدي. الهداة : الأدلّاء ، الّذين يهتدى بهم في الأمور والشّرف. العلم : الجبل المرتفع.

(٤) واسمه كاملا : «المنهل العذب الصاف في مناقب الحبيب عمر بن سقاف».

٦٦٥

وخلفه على عمارة مسجده والتّردّد إلى مكانه بالسّوم الّذي سمّاه الطّائف .. ولده الجليل المقدار نور الدّين حسن بن عمر (١) ، وابتنى به دارين زائدين على الدّار الّذي بناه والده ، توفّي سنة (١٢٣٥ ه‍) ، وخلفه ولده العالم العابد عبد القادر (٢) ، المتوفّى سنة (١٢٩٦ ه‍) ، ثمّ ولده العلّامة النّاسك محمّد ، المتوفّى سنة (١٣٠٥ ه‍) (٣) ، ثمّ ولده القانت المتواضع سالم (٤) ، وقد عمّر به دارا واسعة في سنة (١٣١١ ه‍) ، إلّا أنّها الآن تريد أن تنقضّ ، فنسأل الله أن يقيمها ، وأن يديم منازلنا عامرة بالعلوم ويديمها ، توفّي في سنة (١٣٥٧ ه‍) ، عن جملة أولاد ؛ منهم : عيدروس ، شاعر فقيه ، ومنهم عبد الله ، أبيّ غيور.

القرين (٥)

هي حوطة العلّامة الجليل الشّريف ، الغاني عن الوصف والتّعريف ، الحسن بن عليّ الصّادق الجفريّ (٦) ، أحد مشايخ الحبيب عمر بن سقّاف ، له في التقوى والعبادة والتّواضع أحوال عجيبة.

قال سيّدي حسن بن سقّاف بن محمّد في مناقبه لوالده لمّا ذكر سيّدي حسن بن عليّ الجفريّ المذكور : واستوطن مكانا نجديّ تريس يسمّى : القرين ، ضعيف البقعة والنّخلة ، ولكنّ الحبيب كان قانعا ، وقد أخذه مع خلوّ يده بقيمة حقيرة وبنى فيه ـ بالتّدريج ـ بيتا ، ولم يزل به حتّى توفّي سنة (١١٧١ ه‍) ، ودفن به ؛ لأنّه قال لأخ له

__________________

(١) المولود سنة (١١٧٥ ه‍) ، والمتوفى سنة (١٢٣٥ ه‍).

(٢) وكان مولده سنة (١٢٢٥ ه‍) ، ترجم له الحبيب أحمد بن عبد الرحمن في «الأمالي» ، والسيد علوي في «التلخيص» (٧٣ ـ ٧٤).

(٣) وكان مولده سنة (١٢٥١ ه‍). «التلخيص» (٧٤).

(٤) ولد بسيئون سنة (١٢٨٣ ه‍) ، وتوفي سنة (١٣٥٧ ه‍) ، ترجمته في «التلخيص» (٧٥).

(٥) القرين هذا .. هو غير بلدة القرين المارة في دوعن.

(٦) هو الحسن بن علي الصادق بن الهادي بن عبد الرحمن مولى العرشة ، أخباره في «العدة» (١ / ٣٠٤) ، ومواضع أخرى.

٦٦٦

مجذوب : ما ترى في القرين؟ فقال : هو قرين ما زال حسن فيه ، فأحبّ أن لا يزال فيه ؛ لكلام أخيه.

ولا يزال أعقابه بها يعمرون مسجده ويكرمون وارده ، إلّا أنّهم قلّوا ، فليس منهم بالقرين الآن سوى أربعة رجال ، وهي في شمال السّوم إلى جهة الغرب قليلا ، وحواليها نخيل كثير.

وفي شمالها إلى شرق : حصون آل حصن من آل كثير ، لا يوجد بها الآن من الرّجال إلّا القليل.

شحوح

هو واد واسع عن يسار الذّاهب من سيئون غربا إلى تريس ، آخذ في الجنوب ، يدفع فيه واديان عظيمان :

يقال لغربيّهما : شحوح ابن ثعلب ، نسبة إلى أمراء تريس السّابق ذكرهم.

ولشرقيّهما : شحوح ابن يمانيّ ، نسبة إلى مسعود بن يماني (١) ؛ لأنّ نهدا ثارت وحلفاؤها على عمر بن مهديّ أحد أمراء الرّسوليّين موالي الأيوبيّين في سنة (٦٢١ ه‍) (٢) ، فقتلوه في وادي شحوح هذا ، ثمّ اندفعوا في ثورتهم إلى تريم ، واستولوا على جميع بلدان حضرموت ، غير أنّ مسعود بن يمانيّ هذا أخرجهم منها صاغرين ، واستقال منهم في نفس العام جميع بلدان حضرموت ، كما قال كثيّر [في «ديوانه» ٢٠٥ من الطّويل]

فما تركوها عنوة عن مودّة

ولكن بحدّ المشرفيّ استقالها (٣)

__________________

(١) توفي مسعود بن يماني سنة (٦٤٨ ه‍). «شنبل» (٩٤).

(٢) «شنبل» (٨١).

(٣) العنوة : من الأضداد فيكون بمعنى : القهر والغصب. أو الطّواعية والمودّة. والمقصود هنا الثّاني.

المشرفيّ : السّيف. استقال : استعاض أو استبدل.

٦٦٧

وقد ذكرت هذا البيت ب «الأصل» ، ووازنت بينه وبين نظرائه في المعنى ، فلتكشف منه.

وكان ذلك بدء أمر مسعود ، وقد أبقى على ابن ثعلب فلم يتعرّض له بسوء ـ وكأنّه ساعده على نهد ـ فبقيت في يده تريس ، ثمّ في أعقابه من بعده ، وكذلك بقي لهم وادي شحوح الغربيّ ، وأمّا وادي شحوح الشّرقيّ .. فصار إلى ابن يمانيّ ، فأطلق عليه : شحوح ابن يماني ، كذا سمعته من بعض المعمّرين.

مدوده (١)

هي في سفح الجبل الشّماليّ عن سيئون. وهي من البلاد القديمة ، ذكرها ابن الحائك الهمدانيّ ، إلّا أنّه أخطأ في ترتيب موقعها كما هو شأنه في كثير من البلدان (٢).

وفي «الأصل» عن الشّيخ سالم بن أحمد باحميد : أنّ الشّيخ أحمد بن الجعد اجتمع فيها هو والشّيخ عبد الله القديم عبّاد المتوفّى سنة (٦٨٧ ه‍).

وفي «المشرع» (٣) (ص ٤٣٥ ج ٢) : أن برهان الدّين بن عبد الكبير بن عبد الله باحميد اشترى مدوده ـ وهي قرية خربة ـ من السّلطان بدر بن عبد الله بن عليّ الكثيريّ ، المتوفّى سنة (٨٩٤ ه‍) ، وأنّه بناها وحفر بها بئرا فمنعه آل كثير ، فقامت الحرب بينهم ، وحمل آل باحميد السّلاح ودخلوا في حرب آل يمانيّ بأسفل حضرموت.

ولم يذكر صاحب «المشرع» تاريخ الشّراء ، ولكنّه كان قبل سنة (٨٨٦ ه‍) قطعا.

ثمّ إنّ الشّيخ برهان الدّين وهبها لوالده عبد الكبير (٤) المقبور في الشّبيكة من مكّة

__________________

(١) وهي مسقط رأس آل باحميد ، وهي غير مدورة بالراء موضع بالكسر ، سبق ذكره.

(٢) صفة جزيرة العرب (١٦٩).

(٣) في ترجمة السيد عبد الله بن محمد صاحب الشبيكة القديم ، المتوفى سنة (٨٨٦ ه‍) بمكة.

(٢ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦).

(٤) الشيخ عبد الكبير هذا كان من أكابر أهل القرن التاسع ، له ترجمة في «الضوء اللامع» ، و «الدر

٦٦٨

المشرّفة ، فوقفها ، وقد أشكل شراؤها مع أنّها كانت معمورة في أيّام الشّيخ عبد الله القديم ، وما بالعهد من قدم حتّى يقال : إنّها خربت وجهل ملّاكها فعادت من الأموال الضّائعة فساغ للسّلطان بيعها ، ولبرهان الدّين شراؤها .. فالإشكال قويّ.

لكنّ الجواب حاصل بأنّ الخراب كثيرا ما يتكرّر على قرى حضرموت كما وقع في الحسيّسة والعر وغيرهما.

ومتى حصل الخراب .. تبعه الجهل بالملّاك سريعا في الغالب ؛ لأنّ شملهم يتفرّق وأمورهم تتمزّق ، فلا تبقى لهم بقايا معروفة ، بل يشملهم الاندثار والخمول.

وليس في اجتماع ابن الجعد والقديم ما يدلّ على سلامتها من الخراب إذ ذاك ؛ ألا ترى إلى مريمه الشّرقيّة فإنّها خاوية على عروشها منذ زمان طويل؟

وليس بالمستنكر أن يتّعد جماعة للاجتماع في أطلال أحد مساجدها لشأن من الشّؤون. ومثل هذا كاف لدفع الإشكال.

وجاء في حوادث سنة (٩١٦ ه‍) من «تاريخ شنبل» وغيره : أنّ عمر بن عامر الشّنفريّ سلطان آل عبد العزيز الشّنافر أخذ مدوده من أحمد بن بدر بخيانة من راميها.

__________________

المكين ذيل العقد الثمين للفاسي» للبدر ابن فهد المكي (خ) ، و «خبايا الزوايا» للعجيمي (٤٥) (خ) ، و «الجامع» لبامطرف باختصار.

وملخّص ترجمته : أنه الشيخ عبد الكبير بن عبد الكبير بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن علي بن عبد الله باحميد ، المنتهي نسبه إلى أبي حميد الأنصاري الصحابي ، ولد بحضرموت حوالي سنة (٧٩٤ ه‍) ، وتوفي بمكة سنة (٨٦٩ ه‍) ، أخذ عن الإمام الشيخ عبد الرحمن السقاف ـ ت (٨١٩ ه‍) ـ وصحب أولاده : عمر المحضار ، والشيخ أبا بكر السكران ، وحسن ، وصحب الشيخ عبد الرحيم باوزير وابنه أحمد ، وساح في البلدان ، واجتمع بعدد من الصالحين كالشيخ الصديق بن إسماعيل الجبرتي بزبيد. حج سنة (٨٢١ ه‍) ، وزار سنة (٨٢٧ ه‍) ، ثم عاد إلى بلده ، ثم عاد إلى مكة ، وخرج إلى حضرموت مرة أخرى حدود سنة (٨٥٠ ه‍) ، وعاد إلى مكة سنة (٨٥٢ ه‍) ، ثم انقطع بها إلى وفاته.

أخذ عنه عدد من الأكابر ؛ كالحافظين السيوطي والسخاوي ، ولبسا منه خرقة آل باعلوي ، وأيضا لقيه الشيخ أحمد بن عبد القادر بن عقبة الشبامي وأخذ عنه ، وجمع ابن ظهيرة القرشي في مناقبه كتابا سماه : «نشر العبير في ترجمة الشيخ عبد الكبير» ، وتوفي بمكة ودفن بالشبيكة.

٦٦٩

وأنّ تبيع ابن عبد الله بن جعفر هجم على مدوده ، وحصرها شهرين حتّى صالحه ابن عبد العزيز.

وأنّ آل كثير أثاروا الحرب على مدوده وهي في أيدي الشّنافر آل عبد العزيز ، وأضرّوا بنخيلها.

وأنّ محمّد بن أحمد بن سلطان سار من تريم هاجما على آل عبد العزيز بمدوده ، وأحرق بها نخلا كثيرا (١).

وذكر في حوادث سنة (٩١٨ ه‍) أنّ أحمد بن بدر أخذ مدوده من عبود بن عامر الشّنفريّ (٢). هذا آخر كلام شنبل ، وفي هذا تصريح بأنّ آل كثير ليسوا من الشّنافر ، وقد مرّ في القارة ما يتعلّق به.

وسبق قبيل القسم الثّاني من هذا الكتاب : أنّ الشّنافر لقب فرقة من آل كثير بظفار فقط ، فليكن من النّاظر على بال.

وآل باحميد ثلاث فرق : آل نادر ، وآل فرج ، وآل عوض ، ولا يزالون مختلفين ، وأوفرهم حظّا من الشّيطنة ، والاعتماد على حملة السّلاح من القبائل : آل عوض ، ولذا احتال جدّنا علويّ بن سقّاف في إصلاحهم بمداولة المنصبة مسانهة (٣) فيما بينهم.

وفي «مجموع الجدّ طه بن عمر» : أن لا أكبر بحضرموت من منصب آل باحميد ومنصب باعبّاد.

ومثرى آل باحميد في مدوده ، وفيهم كثير من الصّالحين (٤) ؛ منهم : الشّيخ الصّالح الكبير الشّهير عبد الله بن ياسين ، المتوفّى بمدوده في سنة (٩٦٨ ه‍).

__________________

(١) «شنبل» (٢٤٢ ـ ٢٤٦). وهذا الخبر الأخير أورده شنبل في حوادث سنة (٩١٧ ه‍).

(٢) «شنبل» (٢٤٩) ، في حوادث (٩١٧ ه‍).

(٣) أي : سنة بسنة ، وهذا معروف عندهم.

(٤) ومن قدماء آل باحميد : الشيخ محمد بن عمر باحميد ، كان معاصرا للشيخ عبد الله باعلوي. ذكره في «المشرع» وأورد له قصة فيه ، ووفاة الشيخ باعلوي سنة (٧٣١ ه‍).

٦٧٠

ومن متأخّريهم : الصّالح الكبير ، صاحب الفراسة الصّادقة ، الشّيخ أحمد بن طه باحميد ، كان ضريرا ، ولكنّه يخيط ويدخل الخيط في الإبرة عن مشاهدة بعيني! وكان والدي يحبّه كثيرا ، وكان كثير الدّعاء لي والاعتناء بي ، توفّي بمدوده بعد الثّلاثين والثّلاث مئة وألف.

ومنهم : الشّيخ سالم بن أحمد باحميد ، له مؤلّفات كثيرة ، وكان عابدا متبتّلا ، حصورا تقيّا ورعا ، توفّي بمدوده سنة (١٣٤٥ ه‍) (١) ، وكان مولعا بمحبّة الفاضل السّيّد حسين بن عبد الله عيديد ، كثير الثّناء عليه ، حتّى لقد أوصى بأن يقبر إلى قريب من داره ومسجده اللّذين ابتناهما بمدوده ، فاختار جواره على مجاورة الشّيخ عبد الله بن ياسين.

وكان السّيّد حسين بن عبد الله عيديد (٢) هذا انتقل من سيئون بعد وفاة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ ، والنّاس يتعالمون بأنّه ورث حاله ، ولم تطب له سيئون فبارحها وسكن مدوده وابتنى بها دارا ومسجدا ـ حسبما قدّمنا ـ ولم يزل موئل الضّيفان والوافدين ، وأمره غريب ، وحاله عجيب ، ونفقاته طائلة ، وله كلام من جنس ما يتكلّم به مورّثه في الحال : العلّامة السّيّد عليّ الحبشيّ ، إلّا أنّ شعره أحطّ من شعر ذلك ؛ لأنّ بضاعته في علم العربيّة مزجاة ، (٣) بخلاف السّيّد عليّ ، وله رحلات إلى عدن وإلى الحجاز ، وله وجاهة ، ولا سيّما لدى أهل دوعن وبعض حضارمة عدن والحبشة وغيرهم ، وإنّهم لمشكورون على معرفتهم بقدره وقيامهم بحقّه ، وإعانتهم له على المروءة والضّيافة.

ولمّا كثرت الفتن بمدوده ، ولا سيّما بين آل منيباري وآل جعفر بن بدر ، بسبب أنّ

__________________

(١) ترجم له السيد محمد بن حسن عيديد في «ثبته» ، ووفاته في (٢٨) جمادى الآخرة من العام المذكور.

(٢) ولد بمدودة ، وأخواله من آل باحميد ، تربى عندهم يتيما ، ثم لما كبر .. أتت به والدته إلى الحبيب علي الحبشي ، ومكث عنده في بيته طويلا .. وقد كان مشهورا ببناء المساجد ، رمم وبنى الكثير منها ، توفي بمدودة سنة (١٣٨٨ ه‍) ، وابنه السيد علي مقيم بمكة المكرمة.

(٣) مزجاة : قليلة.

٦٧١

الأوّلين أخفروا ذمّة الآخرين ، فلم يتقنعوا ولم يناموا عن ثأر ، بل غسلوا بالنّجيع ما كان من ذلك العار .. فتكدّر من جرّاء ذلك ، وابتنى دارا واسعة بسفح جبل عفاك غربيّ مدينة سيئون ، قريبا من القارة الّتي كانت عليها حصون آل الشّيخ عليّ بن حسين بن هرهرة السّابق ذكرهم في عرض مسرور ، وهي معمورة الفناء بالقاصدين ، مملوءة الجفان للواردين.

وفي مدوده جماعة من آل باسلامه. وجماعة من آل ابن عتيق ، جدّهم : الشّيخ عيسى بن سلمة بن عيسى بن سلمة ، أخي الشّيخ محمّد بن سلمة جدّ آل كثير. فيهم كثير من الصّالحين.

ولو لم يكن لهم من الفسّاق إلّا عدوّ الله عبد الرّحمن بن عبد الله بن عتيق ، وزير الشّريف حسن بن أبي نميّ بن بركات .. لكفى ؛ فلقد ذكر عنه المحبيّ والعصاميّ وغيرهما ما تكاد تنشقّ له الأرض ، وتخرّ الجبال هدّا (١).

وفي مدوده جماعة من آل بامطرف يحترفون بشطف الحصر وزنابيل الخريف المسمّاة ـ في عرف الحضارم ـ بالخبر ، وأصلهم ـ كآل الغيل وآل القطن ـ من الصّيعر.

وفيها جماعة من آل حاتم يرجع نسبهم إلى الصّيعر ، لا إلى العلماء الّذين كانوا في تريم (٢).

__________________

(١) ولد ابن عتيق هذا بمكة ، وأمه بنت المشايخ آل ظهيرة ، وخاله هو العلامة الشيخ علي بن جار الله بن ظهيرة الحنفي ، تولى الوزارة بعد سنة (١٠٠٣ ه‍) ، وعاث في مكة فسادا ؛ إذ تسلط على الشريف حسن أمير مكة ، وصار هو الذي يصدر الأوامر ، وأكل أموال الناس ظلما ، وكان إذا مات أحد من الحجّاج .. أخذ ماله وحجبه عن الورثة ، وهرب من مكة بعض سكانها خوفا من ظلمه ، ولما ولي أبو طالب بن الحسن سنة (١٠١٠ ه‍) .. استدعاه فأقر بكل ما عمله فحبسه ، فقتل نفسه بجنبية ، فأخذه الشريف ورمى به في حفرة في طريق جدة ، ولم يغسل ولم يكفن ، ورموا عليه الحجارة وقيل فيه :

أشقى النفوس الباغيه

ابن عتيق الطاغيه

نار الجحيم استعوذت

منه وقالت ماليه

لما أتى تاريخه

(أجب لظى والهاويه)

ذكره القطبي في «وقائع مكة» ، والمحبي في «الخلاصة» (٢ / ٣٦١ ـ ٣٦٢) ، وقد ذكر أنه كان يصرح بقوله : الشرع ما نريده ، فباع أمهات الأولاد وألغى الوصايا والأحكام.

(٢) وكان منهم جماعة في شبام ثم عادوا أدراجهم إلى مدوده.

٦٧٢

وفي غربيّ مدوده : حصن خزام ـ كما سبق ـ لآل منيباري ، وقد كان بينه وبين مدوده فضاء رحب لكن عمّر بالبيوت فاتصل بمدوده.

وفي جنوبها : ديار آل شملان ، لا يزيد الموجودون من رجالهم بحضرموت عن ستّة نفر.

وفي شرقيّها : مكان آل الصّقير (١) ، وهم قبائل تغلب عليهم البساطة وسلامة الصّدر ، فهم من أبعد آل كثير عن التّنطّع والتّحذلق ، وأقربهم إلى سوق الطّبيعة كان منهم : الشّيخ سعيد عامر ، رجل طيّب. وخلفه ولده عامر بن سعيد على مثل حاله ، وكانت لهم شدّة تحلّب منها آل سيئون المرّ في سنة (١٣١٨ ه‍) ، ولا يزيد عدد الموجودين بديارهم هناك الآن عن أربعين رجلا.

ولهم بادية بنجد آل كثير لا يزيد عددهم عن ثلاثين راميا ، وكان على رئاستهم رجل له مروءة وشجاعة ، يقال له : الوريقة ، من مروءته أنّ أحد عبيد آل منيباري حشم (٢) آل الصّقير ، فأصبحوا على آل منيباري ، وقتل عبد الله بن سلامة من آل الصّقير ، وكانت أعرافهم تقضي بانغسال العار به ، ولكنّ آل الصّقير جدّوا في طلب ثأره ، وبيناهم كامنون في الحيمرات .. أقبل عائظ بن صالح بن منيباري في عبيد له ، فأراد آل الصّقير إطلاق الرّصاص عليه .. فكفّهم الوريقة وقال : مثل عائظ بن صالح لا يقتل ، فتعمى بقتله جهة حتّى قتلوا بعد مدّة واحدا آخر من آل منيباري يقال له سعيد بن محمّد بن سالمين ، فأدركوا به ثأرهم.

وفي شرقيّ مدوده أيضا : ديار آل عليّ بن سعيد ، وكلّهم من آل كثير ، إلّا أنّ الأخيرين من قبيلة آل عامر ، وعدد الموجودين منهم اليوم بديارهم قليل.

__________________

(١) من فخائذ آل كثير ، ويوجد آل الصقير أيضا في وادي جردان ، ولكنهم من قبيلة النمارة من بني هلال «المقحفي».

(٢) حشم : عامية بمعنى : خفر ذمتهم.

٦٧٣

سيئون (١)

زنة : زيدون ، بعضهم يكتبها بواو واحدة ، وبعضهم بواوين ، والقاعدة : أنّ ما كثر استعماله واشتهر وفيه واوان .. يكتب بواحدة فقط ، كداود.

وقد قلت في «منظومة» أنشأتها في «علم الخطّ» [من الرّجز] :

ما كثر استعماله وفيه

واوان .. واو واحد يكفيه

وهي من البلدان القديمة ، نقل الشّيخ المؤرّخ سالم بن حميد : أنّ سيئون ، وتريم ، وشبام ، وتريس أبناء حضرموت ، وأنّ هذه البلاد سمّيت بأسمائهم.

وقد ذكرها الهمدانيّ في «صفة جزيرة العرب» [١٧٠] إلّا أنّه لم يسمّها باسمها ، بل قال : (وشزن وذو أصبح مدينتان في دوعن) اه

وقد استشكلت هذا ردحا من الزّمن (٢) حتّى فرّج الله عنّي بما رأيته منقولا عن أبي شكيل ، عن أبي الحسن أحمد بن إبراهيم الأشعريّ (٣) من قوله : (وذي أصبح وسيئون مدينتان عظيمتان لبني معاوية الأكرمين) ، فدلّ ذلك على قدمهما.

فقول الهمدانيّ : (شزن) .. إمّا غلط منه وإمّا أن يكون عرض بعده التّبديل ، لكن من المعلوم أنّ سيئون منعطفة على الجبل الّذي هي بحضيضه انعطاف اللام. والانعطاف من الانحراف هو الشّزن بنفسه ، قال ابن أحمر [من الوافر] :

ألا ليت المنازل قد بلينا

فلا يرمين عن شزن حزينا

__________________

(١) أكبر بلدان وادي حضرموت ، وهي الآن عاصمة المحافظة ، تبعد عن شبام شرقا نحو (١٨ كم) ، وعن تريم غربا نحو (٣٤ كم).

(٢) الرّدح من الزّمن : المدة الطويلة منه.

(٣) تقدم ذكره في مواضع من الكتاب ، وهو : العلامة الفقيه النحوي اللغوي أحمد بن محمد بن إبراهيم الأشعري ، من أعلام المئة السادسة. أخذ عن الفقيه عمارة اليمني المؤرّخ ، وسكن بلدة القرتب ، ولم تعلم وفاته ، له مؤلفات مفيدة. ينظر : «مصادر الفكر الإسلامي» (٤٥٣) ، «هجر العلم» (١٦٨٤) ، «طبقات فقهاء اليمن» (١٨٤) ، «السلوك» (٢ / ٣٨٠) ، «بغية الوعاة» (١ / ٣٥٦) ، «تاريخ عمارة» (٣٨).

٦٧٤

ولعلّ سيئون في القديم كانت كحالها اليوم في الانعطاف على جبلها.

وأمّا قوله : (بدوعن) .. فخطأ ظاهر لا يحتمل التّأويل ، ولهذا تركه أبو شكيل.

وقد يغبّر على قدم سيئون شيئان :

أحدهما : أنّه لا ذكر لها في الحوادث القديمة ، وأوّل ما يحضرني من ذكرها فيها أنّ نهدا اقتسمت السّرير في (سنة ٦٠١ ه‍) فصارت سيئون وحبوظة لبني سعد وظبيان.

وثانيهما : أنّ الجامع الأوّل بسيئون كان صغيرا لا يتّسع لمئتي نفس تقريبا ، ومع ذلك فالّذي بناه هو الشّيخ عبد الله بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن سلمة باكثير ، وهو متأخّر الزّمان ، لم يمت كما في «البنان المشير» [ص ٢٥] إلّا في حدود سنة (٩٢٠ ه‍) وله قصّة مع سيّدنا الشّيخ أبي بكر العدنيّ ابن سيّدنا عبد الله العيدروس لمّا اجتاز بسيئون ، وقد كانت وفاة العدنيّ في سنة (٩١٤ ه‍).

ولكنّ الجواب يحصل عن ذينك الأمرين ، ممّا أجمع عليه المؤرّخون ؛ كشنبل وباشراحيل وغيرهما : أنّ سيئون خربت في سنة (٥٩٥ ه‍) فتحصل أنّها كانت مدينة عظيمة لبني معاوية الأكرمين من كندة ، ثمّ خربت حتّى لم تكن شيئا مذكورا ، ثمّ عادت شيئا مذكورا حتّى دخلت في قسمة نهد سنة (٦٠١ ه‍) ، إن لم تؤل بأرباضها.

ثمّ كانت في أيّام العيدروس (١) المتوفّى سنة (٨٦٥ ه‍) قرية ، كما يعرف من قول السّيّد عمر بن عبد الرّحمن صاحب الحمراء في ترجمته للعيدروس عن عبد الله بن عليّ باسلامة ، وكان من الثّقات : (إنّ العيدروس جاء إلى عنده بمريمه ، فكلّف عليه أن يذهب إلى سيئون ـ وهي قرية من قرى حضرموت ـ ليشفع إلى جعفر بن محمّد الجعفريّ نائب بدر بن عبد الله بن جعفر عليها في إطلاق عليّ باحارثة ، فلم يقبل شفاعته) اه

__________________

(١) أي : الأكبر ، والد العدني المتقدم.

٦٧٥

بل سبق في شبام عن الجدّ طه ما يفهم منه أنّها لم تكن في أيّامه إلّا قرية ، مع أنّه متأخّر التّاريخ.

وأخبرني السّيّد عمر بن عبد الرّحمن بن عليّ بن عمر بن سقّاف عن والده : (أنّ سيئون اسم امرأة كان لها عريش في جانب سيئون الغربيّ ، المسمّى اليوم بالسّحيل ، يمرّ عليها أبناء السّبيل المنقطعون ، فسمّيت باسمها البلاد).

وقد يجمع بينه وبين بعض ما تقدّم بأنّ اسم سيئون الأوّل إنّما هو شزن ـ حسبما مرّ عن الهمدانيّ ـ ثمّ خربت ، وكانت المرأة المسمّاة سيئون أوّل من اتّخذت عريشا في أطلالها الدّاثرة .. فغلب عليها اسمها.

وحدّثني السّيّد المؤرّخ الرّاوية محمّد بن عقيل بن يحيى : أنّ سيئون اسم يهوديّ محرّف عن صهيون ، وقد كان مثرى اليهود بسيئون. وصهيون كنيسة بيت المقدس ، وإليها يشير الأعشى في مديحه لأساقفة نجران بقوله [في «ديوانه» ٢٤٣ من الطّويل] :

وإن أجلبت صهيون يوما عليكما

فإنّ رحا الحرب الدّكوك رحاكما (١)

وفي (ص ٣٠٩ ج ٥) من «صبح الأعشى» : (إنّ صهيون بيعة (٢) قديمة البناء بالإسكندريّة ، معظّمة عند النّصارى).

وقبله من تلك الصّفحة ـ في الكلام على بطارقة الإسكندريّة الّذين تنشّأ عن ولايتهم مملكة الحبشة ـ : (إنّ الملك الأكبر الحاكم على جميع أقطارهم يسمّى بلغتهم : (الحطيّ) ومعناه : السّلطان ، وهو لقب لكلّ من قام عليهم ملكا كبيرا. ويقال : إنّ تحت يده تسعة وتسعين ملكا ، وهو تمام المئة. وإنّ الملك الكبير في زمن صاحب «مسالك الأبصار» يقال له : عمد سيئون ، ومعناه : ركن صهيون) اه

وهو كالصّريح في أنّ سيئون وصهيون شيء واحد.

ورأيت في بعض الصّحف أنّ اليهود قدّموا عريضة على يد أحد زعمائهم للسّلطان

__________________

(١) «معجم البلدان» (٣ / ٤٣٦). الحرب الدّكوك : المدمّرة.

(٢) البيعة : متعبد النصارى ، جمعها : بيع ، ذكرت في القرآن الكريم.

٦٧٦

عبد الحميد رحمه الله يسترحمونه في أن يعيّن قطعة من فلسطين لسكنى اليهود الّذين قتلهم الضّغط في روسيا وإسبانيا ، وفيها ما صورته : إنّ جمعيّة سيئون الّتي تشكّلت في صهيون بعد الميلاد بمئة وخمسة وثلاثين سنة قد اختارتني للمثول بين يديكم ؛ لأقدّم لكم هذه العريضة. وتسترحم الجمعيّة اليهوديّة من صاحب الجلالة التّكرّم بتخصيص القطعة الفلانيّة ـ وحدّدها ـ لإسكان اليهود.

ونظرا لما انتاب خزينة الدّولة من الضّائقة الماليّة من جرّاء الحرب اليونانيّة .. فإنّ الجمعيّة تقدّم بواسطتي عشرين مليون ليرة ذهبا لصندوق الخزينة على سبيل القرض لمدّة غير معيّنة بدون فائدة ، وخمسة ملايين ليرة ذهبا إلى خزينتكم الخاصّة ، لقاء ما تكرّمتم به من البرّ والإحسان ، وأسترحم قبول هذا العرض.

فلم يكن من السّلطان إلّا أن استشاط غضبا وطرده ، ولكنّ جمعيّة الاتحاد والتّرقّي جعلت ذلك الزّعيم اليهوديّ على رأس الهيئة الّتي جاءت لتبليغ السّلطان خلعه عن العرش ؛ لأنّ ذلك اليهوديّ كان من مؤسّسي تلك الجمعيّة!! وكان نائبا عن سبلانيك في مجلس المبعوثان. اه

ومنه تعرف أنّ سيئون اسم للجمعيّة الّتي ألّفت ، أو للّذين ألّفوها ، أو للمكان الّذي ألّفت فيه.

وقد ملأ العرب اليوم الدّنيا ضجيجا بشأن فلسطين ، وسننظر ـ كما في المثل الحضرميّ ـ أسيادنا آل باعبّاد على الصّراط ، فإمّا سبقناهم على الظّفر ، وإلّا .. كان للنّاس الحقّ أن ينشدوهم ما نكرّره من قول الحطيئة [في «ديوانه» ٤٠ من الطّويل] :

أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم

من اللّوم أو سدّوا المكان الّذي سدّوا

وفي معناه ما أنشده الحجّاج [من الطّويل] :

ألام على عمرو ولو مات أو نأى

لقلّ الّذي يغني غناءك يا عمرو

إذ كان اليهود لا يطمعون في شبر من فلسطين أيّام الأتراك ، وعمّا قليل ينكشف الغبار عمّا في المضمار ، والبيت الّذي يتمثّل به الحجّاج شبيه بقول ابن عرادة السّعدي

٦٧٧

وكان بخراسان مع سلمة بن زياد يكرمه وهو يتجنّى عليه ، ثمّ فارقه وصحب غيره فلم يحمد .. فعاد إليه وقال [من الطّويل] :

عتبت على سلم فلمّا فقدته

وصاحبت أقواما .. بكيت على سلم

رجعت إليه بعد تجريب غيره

فكان كبرء بعد طول من السّقم

وقال زياد ابن منقذ العدوي التميمي من قصيدة جزلة أنشأها بصنعاء يتشوق فيها إلى وطنه ببطن الرّمّة ـ وهو واد بنجد [في «ديوان الحماسة» ٢ / ١٥٣ من البسيط]

لم ألق بعدهم حيّا فأخبرهم

إلّا يزيدهم حبّا إليّ هم

وقال أبو العتاهية [في «ديوانه» ١٨ من الطّويل] :

جزى الله عنّي جعفرا بوفائه

وأضعف إضعافا له بوفائه

بلوت رجالا بعده في إخائهم

فما ازددت إلّا رغبة في إخائه

وقال أحمد بن أبي طاهر [من الوافر] :

بلوت النّاس في شرق وغرب

وميّزت الكرام من اللّئام

فردّني الزّمان إلى ابن يحيى

عليّ بعد تجريب الأنام

فإن نجح العرب حسبما يتبجّحون في هذه الأيّام .. فبها ونعمت ؛ لأنّها أمنيّة كلّ مؤمن ، وإلّا .. فما أخذوا إلّا يوم الثّور الأبيض (١) ؛ أي يوم نهض المنقذ ، وكانت نهضته فاتحة هزائم الأتراك الّتي اهتزّت لها منابر الدّنيا بالدّعاء لهم عدّة قرون.

__________________

(١) يوم الثور الأبيض ؛ مأخوذ من المثل : (إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض) قال الميداني في «مجمع الأمثال» (١ / ٢٥): (يروى أن أمير المؤمنين عليا رضي الله تعالى عنه قال : إنما مثلي ومثل عثمان كمثل أثوار ثلاثة كن في أجمة ؛ أبيض وأسود وأحمر ، ومعهنّ فيها أسد ، فكان لا يقدر منهن على شيء ؛ لاجتماعهنّ عليه ، فقال للثور الأسود والأحمر : لا يدلّ علينا في أجمتنا .. إلا الثور الأبيض ؛ فإن لونه مشهور ، ولوني على لونكما .. فلو تركتماني آكله .. صفت لنا الأجمة ، فقالا : دونك فكله ، فأكله ، ثم قال للأحمر : لوني على لونك .. فدعني آكل الأسود لتصفو لنا الأجمة ، فقال : دونك فكله ، فأكله ، ثم قال للأحمر : إني آكلك لا محالة ، فقال : دعني أنادي ثلاثا ، فقال : افعل ، فنادى : ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأبيض.

ثم قال علي رضي الله عنه : «ألا إني وهنت يوم قتل عثمان» يرفع بها صوته).

٦٧٨

ولئن لم تكن زنة سيئون في اللّفظ .. فقد كانت على رسمها في الخطّ كما تقدّم أوّل المسوّدة ، وما أكثر التّصحيف في مثل ذلك ، فمهما يكن .. فالأمر قريب من بعضه ، ولا مانع أن تكون المرأة المذكورة في كلام سيّدي عبد الرّحمن بن عليّ يهوديّة ، وبذلك تلتئم أطراف الكلام (١).

ثمّ إنّ سيئون نهضت نهضة سريعة ، ونبتت كما ينبت الحبّ في حميل السّيل ، والدّليل على ذلك : أنّ باني الجامع الكبير الّذي يسع الألوف إلى اليوم .. هو الشّيخ أحمد بن مسعود بن محمّد بن مسعود بن عليّ بن سعد بارجاء بن عبد الله بن عليّ الظّفاريّ العبهليّ المذحجيّ ـ كما مرّ في الشّحر ـ ، كان موجودا في أواخر القرن التّاسع ، بشهادة ما سقناه ب «الأصل» من خبره مع السّلطان بدر بن عبد الله بن علي بن عمر الكثيريّ ، الّذي كانت ولايته في سنة (٨٥٠ ه‍) ، ووفاته في سنة (٨٩٤ ه‍) ، فباكثير باني الجامع الأوّل ، وبارجاء باني الجامع الثّاني متعاصران ، فغاية ما يحتمل : تقدّم الجامع الأوّل بسنوات معدودة ، ومتى عرفت تعاصرهما .. تقرّر لديك أنّ عمارة البلاد حديثة ، وأنّ اتّساعها كان دفعة واحدة في أيّام بدر بوطويرق.

وممّا يؤكّد ذلك : اتّفاقهم على أنّ مقبرة سيئون في شرقيّها. أمّا نسبتهم تلك المقبرة إلى الشّيخ عمر بامخرمة :

فإمّا أن يكون المراد جانبها الشّرقيّ منها فقط. وإمّا أن يكون للشّهرة ، وإلّا .. فآل بارجاء كانوا متقدّمين عليه.

وكان الشّيخ سعد بارجاء موجودا بسيئون من أوائل القرن السّابع ، وكانت وفاة عمّه تاج العارفين سعد الظّفاريّ بالشّحر سنة (٦٠٩ ه‍).

__________________

(١) قال بعض الباحثين : إن أسماء بلدان حضرموت استوقفت بعض الباحثين أو المستشرقين عندها ، لأنها في اعتقادهم تمثل حقبا زمنية متفاوتة مرت على حضرموت.

فمن هذه الأسماء : سيئون ، وريبون ، ودمّون ، وخودون ، وسمعون ، ونفحون ، ونظيراتها.

ومنها : سيحوت ، ريسوت ، يعشوت ، خيصوت ، دمقوت ، خرفوت ، ومثيلاتها. وخلص الباحثون أولئك إلى أن الواو والنون ، والواو والتاء .. إنما هي بمثابة (أل) التعريفية ، وأنها اختلفت باختلاف الزمان والمكان ، والله أعلم بحقيقة الأمر.

٦٧٩

وكان الشّيخ سعد بارجاء من المشهورين بالفضل ، نجع هو وعمّه الشّيخ سعد بن عليّ الظّفاريّ من ظفار إلى الشّحر ، واستوطنها أيّام كانت خصاصا (١) قبل أن تكون مدينة ، وأشار على ابن أخيه سعد هذا أن يذهب إلى أرض لا يكون له بها شأن ، فكانت سيئون ؛ لأنّها لم تكن إذ ذاك إلّا صغيرة جدّا.

ولا يشوّش على قولنا : (أنّ سيئون اتّسعت دفعة). ما سبق عن الجدّ طه ، ممّا يفهم استصحاب اسم القرية عليها ؛ لاحتمال أنّه باعتبار ما كان.

وكان الشّيخ أحمد بن مسعود ـ باني جامع سيئون الثّاني ـ أحد مشايخ سيئون المشهورين ، وله بها آثار ، منها : الجامع المذكور ، وقد زاد فيه الشّيخ عليّ بارجاء صفّين في جهته الغربيّة أيّام السّلطان عمر بن بدر ـ أي : في القرن الحادي عشر ـ في أرض اشتراها من صلب ماله ، ثمّ زاد فيه السّيّدان محمّد بن سقّاف بن محمّد وعبد الرّحمن بن عليّ بن عبد الله آل السّقّاف زيادات قليلة ، ثمّ زاد فيه السّيّد حسين بن عليّ سميطة ثلاثة صفوف في جانبه الشّرقيّ ، ثمّ جدّدت عمارته على عهد جدّنا محسن بن علويّ بن سقّاف ، وهي الموجودة إلى الآن ، وكانت النّفقة من الأمير عبد الله بن عليّ العولقيّ السّابق ذكره في الحزم وصداع ، يرسلها من حيدرآباد الدّكن إلى يد الجدّ رضوان الله عليه.

ثمّ زاد فيه السّيّد الجليل أحمد بن جعفر بن أحمد بن عليّ بن عبد الله السّقّاف المتوفّى بسيئون سنة (١٣٢٠ ه‍) رواقا في جانبه الغربيّ الجنوبيّ.

وفي آل بارجاء كثير من العلماء والصّلحاء.

منهم : الشّيخ عمر بن عبد الرّحيم بن عمر بن عبد الرّحمن بارجاء ، مؤلّف «تشييد البنيان» ، وهو كتاب حافل في ربع العبادات ، نقل فيه نقولا كثيرة الفائدة ، فرغ منه في سنة (١٠٣٦ ه‍).

__________________

(١) الخصاص : البيوت المصنوعة من القصب ، سمّيت بذلك لما فيها من الخصاص وهي الفرج والأنقاب.

٦٨٠