إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

لمّا رميت إليكم بمطامعي

كثر الخلاج مقلّبا لرويّتي (١)

ووقفت دونكم وقوف مقسّم

حذر المنيّة راجي الأمنيّة

فلأرحلنّ رحيل لا متلهّف

لفراقكم أبدا ولا متلفّت

يا ضيعة الأمل الّذي وجّهته

طمعا إلى الأقوام بل يا ضيعتي

وللرّضيّ في معنى هذه القصيدة كثير كالّتي منها قوله [في «ديوانه» ١ / ٦٦٦ من الطّويل] :

سأذهب عنكم غير باك عليكم

وما لي عذر أن تفيض المدامع

ولا عاطفا جيدا إليكم بلهفة

من الشّوق ما سار النّجوم الطّوالع

نبذتكم نبذ المخفّف رحله

وإنّي لحبل منه بالعذر قاطع

وكقوله [في «ديوانه» ١ / ٢٦١ من الوافر] :

فيا ليثا دعوت به ليحمي

حماي من العدا فاجتاح سرحي

ويا طبّا رجوت صلاح جسمي

بكفّيه فزاد فساد جرحي

ولإبراهيم بن العبّاس الصّوليّ في هذا المعنى عدّة مقاطيع ، يعبث فيها بابن الزّيّات ؛ منها قوله [من الطّويل] :

وإنّي وإعدادي لدهري محمّدا

كملتمس إطفاء نار بنافخ

وقوله [من الطّويل] :

وإنّي إذ أدعوك عند ملمّة

كداعية عند القبور نصيرها

وفي ترجمة ابن الزّيّات من «تاريخ ابن خلكان» [٥ / ٩٧] جملة منها.

وقد جاء في قصيدة ابن عقبة ذكر المراحل من الجوف إلى الهجرين ، وبينها ذكر منصح (٢) ، ولعلّها الّتي يقول امرؤ القيس بن عانس السّكونيّ في ذكر روضتها [من الطّويل] :

__________________

(١) الخلاج : ما ينازع القلب من أفكار.

(٢) انظر : «معجم البلدان» (٥ / ٢١٠).

٤٢١

ألا ليت شعري هل أرى الورد مرّة

يطالب سربا موكلا بغرار

أمام رعيل أو بروضة منصح

أبادر أنعاما وأجل صوار

وهل أشربن كأسا بلذّة شارب

مشعشعة أو من صريح عقار

إذا ما جرت في العظم خلت دبيبها

دبيب صغار النّمل وهي سواري

وقد تكون هذه الرّوضة في داخل حضرموت ، بأمارة أنّها لبني وكيعة الكنديّين وهم من وسط حضرموت ، وابن عانس من أسفلها فتكون غير التي ذكرها ابن عقبة إذن.

واسم ملك آل محفوظ لذلك العهد : محفوظ ، عرفناه من قصّته مع الشّيخ عبد الرّحمن جدّ الشّيخ عبد الله بن محمّد القديم عبّاد ـ الآتية في الغرفة إن شاء الله ـ ومن اسمه نفهم أنّ آل جعفر ممدوحي ابن عقبة بتلك القصيدة هم آل محفوظ.

ثمّ خلفهم على الهجرين آل فارس النّهديّون ، وقد ذكرنا ب «الأصل» من أخبارهم مع آل كثير وآل يمانيّ وآل سعد وغيرهم ما شاء الله أن نذكر.

ثمّ تغلّب عليها يافع كسائر بلاد حضرموت في سنة (١١١٧ ه‍) (١).

وفي آل عقبة الخولانيّين كثير من العلماء والشّعراء ؛ منهم الشّيخ أحمد بن عقبة الزّياديّ الخولانيّ الهجرانيّ ، أحد مشايخ الإمام محمّد بن مسعود باشكيل.

وفي حدود سنة (١٢٧٦ ه‍) قدم الشّيخ عمر بن سالم بن مساعد من بقايا آل محفوظ الكنديّين ـ وقيل : إنّه من آل بامطرف ـ بدراهم كثيرة ، فحدّثته نفسه بملك آبائه ، وتمنّى أن يخضع آل يزيد اليافعيّين السّاكنين بأعلى الهجرين ، حتّى لقد ورده الشّيخ صالح باوزير في جملة الوفود الّتي تتابعت لتهنئته ، فأكرم مثواه ، وأطال معه السّمر ، ولم يزل يتسقّطه الكلام ليرى ما قدره مع ثروته في نفس الشّيخ صالح ، فقال له : (إنّك لفوق القبيليّ ودون السّلطان) فلم يقتنع بذلك ، وجفاه ولم يقابله بعدها ،

__________________

(١) ينظر : «العدة المفيدة» لابن حميد الكندي (١ / ٢٦٥) وما بعدها.

٤٢٢

فمرّ في خروجه على جماعة يتراجزون في شبوانيّ لهم (١) ، فقال :

يا بن مساعد قال صالح نعنبوك (٢)

يا الله متى الهوّاك في دارك يهوك (٣)

ولعاد باتنفع مياتك واللّكوك (٤)

باتصبح الّا عند بامهلس تحوك

والّا بعوره عند صالح بادكوك (٥)

وذهب الشّيخ صالح باوزير لطيّته (٦) ، وبقي الشّيخ عمر بن مساعد يساور (٧) الأحلام والآمال ، حتّى لجأ إلى آل عبد الله الكثيريّين بسيئون فنهضوا معه ، ولم يزالوا يوالون التّجهيزات حتّى استولوا على الهجرين في سنة (١٢٨٥ ه‍) ـ ومعلوم أنّ الهجرين مفتاح دوعن بأسره ـ ثمّ حطّوا على قزة آل البطاطيّ فانكسروا دونها ؛ لنجدة جاءت لأهلها من الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ بالشّحر ، فطردوا من حواليها من أصحاب الدّولة الكثيريّة ، وتراجعت فلولهم (٨) إلى الهجرين.

ثمّ لم يحسن المآل بين الشّيخ عمر بن سالم بن مساعد والدّولة الكثيريّة ؛ لأنّه استنفد أكثر ما في يده وعرف أنّ الدّولة لن تعطيه شيئا ممّا يتمنّاه ، وتحقّق استبدادهم عند رسوخ أقدامهم ، فاتّفق مع القعيطيّ وفتح له الطّريق فاقتحموها ، وحصروا بها

__________________

(١) الشبواني : رقصة شعبية حضرمية .. تنسب إلى شبوة ؛ لأنها جاءت منها. وفيها يحمل المرتجزون العصي ويهتزون على أصوات الطبول والدفوف ذات الجلاجل ويرددون الأراجيز الشعبية.

(٢) نعنبوك : كلمة توبيخ كثكلتك أمك في الفصحى ، ولعل أصلها : نعني بالذّم أباك.

(٣) الهوّاك : الصايح ، أو الناعي.

(٤) مياتك واللكوك : مئاتك ـ الدراهم ـ واللكوك : جمع لكّ ، وهو عبارة عن رزمة من المال.

(٥) آل بادكوك : أسرة في دوعن يسكنون عورة والقرين ، ظهر فيها أفاضل من الفقهاء ؛ منهم : الفقيه سعيد بن عبد الله بادكوك ، عاش في أواخر القرن الثالث عشر ، أخذ عن الشيخين سعيد باعشن وعبد الله باسودان ، وجمع فتاواهما في كتاب سماه : «فتح المنان بجمع فتاوى باعشن وباسودان».

منه نسخة خطية نفيسة بمكتبة الإمام أحمد بن حسن العطاس بحريضة ذكره السيد عبد الله الحبشي في «فهرس المكتبات الخاصّة باليمن».

(٦) ذهب لطيّته : لوجهه الّذي يريد.

(٧) يساور : يواثب.

(٨) الفلول : بقايا الجيش المنهزم.

٤٢٣

الأمير الكثيريّ ـ وهو صالح بن مطلق ـ حتّى سلّم بشرط أن يتحمّل بما معه ممّا تقدر عليه الجمال ، ولهذا بقي بها مدفع الدّولة إلى اليوم ؛ لأنّه لم يدخل تحت الشّرط.

وقد وفّى السّلطان القعيطيّ للشّيخ عمر بن سالم بن مساعد بما اشترطه عليه ، والأخبار في ذلك طويلة شيّقة ، وهي مستوفاة ب «الأصل».

وفيه : أنّ آل محفوظ عدّة قبائل ؛ منهم آل عمر بن محفوظ أهل نحولة ، وآل أحمد بن محفوظ أهل صيلع ، وآل عجران منهم آل مرشد وآل ريّس وآل الشّيبة ، ومنهم : آل عبد الله بن محفوظ رهط الشّيخ عمر بن مساعد السّالف الذّكر.

المشهد

قرية صغيرة ، تبعد عن الهجرين في شمالها مسافة ساعتين ، وكان موضعه يسمّى (الغيوار) ، يكمن به اللّصوص فيخيفون السّابلة (١) ويقطعون السّبيل ، ويأتون في ذلك المكان المنكر.

وكان الحسد قد تكسّرت نصاله في الحبيب عليّ بن حسن بن عبد الله بن حسين بن عمر بن عبد الرّحمن العطّاس (٢) ؛ لعلوّ شأنه ، وغزارة علمه ، وقوّة عارضته ، وكان يتنقّل في البلدان لنشر الدّعوة إلى الله ، وكانت أمّه من المشايخ آل إسحاق السّاكنين بهينن ، فبدا له أن يختطّ بذلك المكان دارا ويبني مسجدا ، ورغّب النّاس في البناء بجواره ، وعندما رأوا عموم الأمان .. بنيت ديار حواليه ، فكان بناؤه هناك واختطاطه ذلك المكان حصاة صادت عصفورين ؛ إذ استراح هو من مناوأة الحسّاد ، وأمن به النّاس ، وزال البأس.

وكان يحتفل بمولد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل في كلّ عام ، يتقاطر له الوفود من كل ناحية حتّى من قريب صنعاء ، وهناك تكثر

__________________

(١) السّابلة : أبناء السّبيل والمارّة في الطّريق.

(٢) الحبيب علي بن حسن العطاس (١١٢١ ـ ١١٧٢ ه‍) من أشهر مشاهير عصره ، تربى في حجر جده عبد الله ، وتفقه عليه ، وله مصنفات كثيرة وديوان كبير.

٤٢٤

الفوائد ، وتبسط الموائد ، وتهتزّ الأبشار ، وتحنّ العشار ، وينظم الانتشار ، وتقشعرّ الأبدان ؛ لحضور الأرواح من بشّار.

هنالك يهتزّ الشّعور إذا التقى

من الملأ الأعلى كرام وطيّب (١)

وثمّ يطيب الاتّصال إذا انبرى

نسيم الرّضا وانهلّ بالفضل صيّب

ولا تزال تلك العادة متّبعة إلى اليوم ، وهذا المولد من أقلّ الموالد بدعا ومفاسد ، إلّا ما قد يقع من اختلاط الرّجال بالنّساء ، ولكن لم يشتهر عنه فساد ، ولا مانع أن يكون ذلك ببركة إخلاص مؤسّسه وحسن نيّته ، ولو رأيت ما يقع من فرح الوفود ، وزجل الأراجيز ، ودويّ المدافع ، وزمجرة الميازر.

والخيل تصهل والفوارس تدّعي

والبيض تلمع والأسنّة تزهر (٢)

والأرض خاشعة تميد بثقلها

والجوّ معتكر الجوانب أغبر

والشّمس طالعة توقّد في الضّحى

طورا ويطفئها العجاج الأكدر

 .. لرأيت ما يملأ عينيك نورا ، وقلبك سرورا.

وتقوم هناك سوق من أسواق العرب تدوم ثلاثة أيّام ، وتأتيها القوافل حتّى من نحو صنعاء.

وكان الحبيب عليّ بن حسن العطّاس ـ صاحب المشهد هذا ـ صدرا من صدور الرّجال ، وله مؤلّفات كثيرة ، منها : «القرطاس» في ثلاث مجلّدات كبار ، ومنها : «سفينة البضائع» ، وله «ديوان» عذب (٣) ، كأنّه اللّؤلؤ الرّطب ، وهو يمرّ في منظومه ومنثوره مع خاطره ، لا يتكلّف ولا يتنطّع ، ولا يدع شيئا بباله إلّا نفث به لسانه ، وعسل به قلمه ، من ذلك : أنّ جماعة من قرار (٤) شبام باتوا عنده ، فأكرمهم وأسبغ قراهم ، ومعهم جمّال من آل مهري ، سأل عنه الحبيب عند حضور العشاء ،

__________________

(١) البيتان من الطّويل.

(٢) الأبيات من الكامل ، وهي للبحتريّ في «ديوانه» (١ / ٢٤).

(٣) واسمه : «قلائد الحسان وفرائد اللسان».

(٤) القرار : أهل الحراثة والأرياف إذا اعتزلوها وسكنوا المدن.

٤٢٥

فقالوا له : إنّه عند المراكيب ، فأخّر عشاءه حتّى نفرغ ، قال : لا يمكن أن نأكل إلّا ويده مع أيدينا.

واتّفق أنّ الحبيب دخل شباما بعد أمّة من الزّمان واجتمع بكلّ أولئك في الجامع ، ولم يقل له أحد تفضّل إلى منزلي ، وأبوا بلسان الحال أن يضيّفوه ، فاضطرّ إلى الخروج من شبام قريب المغرب ، فلاقاه ابن مهريّ خارجا من سدّة شبام وعزم عليه وألحّ ، وذبح له منيحة ولده ، فأنشأ الحبيب قصيدة يقول فيها :

علي بن حسن حوّط الغيوار وامسى مزار

وامسيت يالجحي جنّه بعد ما كنت نار

يا القروي القار يا عرق الحدج يا قرار

حبّ القبيلي وقيراط القبيلي بهار

وان جيت صرّ القبيلي ما لطف في الصّرار

وسيأتي في شبام أنّ لأهلها مكارم غزيرة ، ومحاسن كثيرة ، إلّا أنّهم لا يقرون الضّيف ؛ لضيق منازلهم وكثرة أشغالهم.

وكلام الحبيب في «ديوانه» ، وإن خرج عن قواعد الإعراب .. فإنّه عذب اللهجة ، حلو السّياق ، خفيف الرّوح.

أخذ عن كثير من المشايخ ، مرّ ذكر جملة منهم ، ومنهم : جدّ أبيه : الحبيب حسين بن عمر العطّاس ، وجدّه عبد الله بن جعفر مدهر ، والسّيّد أحمد بن زين الحبشيّ ، وغيرهم.

وكانت وفاته بالمشهد سنة (١١٧٢ ه‍) ، ولا يزال أولاده يتوارثون منصبه على البرّ والتّقوى ، وإكرام الضّيف ، وإعانة المنكوب ، وتأمين الخائف ، والإصلاح بين النّاس ، والحجز ما بين المتحاربين.

والقائم بمنصبهم الآن هو : أخونا المنصب السّيّد أحمد بن حسين بن عمر بن هادون (١) ، سخيّ الكفّ ، سليم الصّدر ، خفيف الرّوح ، قليل الغضب ، لا يشينه

__________________

(١) السيد الشريف أحمد بن حسين بن عمر بن هادون بن هود بن علي بن حسن العطاس ، ولد سنة (١٣٠١ ه‍) ، وتوفي سنة (١٣٧٨ ه‍) ، أخذ العلم عن عدد من الشيوخ ، وكان شهما كريما حكيما حليما.

٤٢٦

عبوس ، ولا يبطره غنى ، ولا يذلّه بؤس.

لا مترفا إن رخاء العيش ساعده

وليس إن عضّ مكروه به خشعا

وفيه أقول من «الرّحلة الدّوعنية» [من الطّويل] :

وعجنا إلى الغيوار صبحا فأطلقوا

كذا وكذا عند التّحيّة مدفعا

وزرنا البعيد الصّيت حامي الحمى الّذي

به صار من عرّيسة اللّيث أمنعا (١)

وكان زعيم المشهد الشّهم غائبا

مضى هو والسّلطان في رحلة معا

وكان مكينا عنده حيث إنّه

بأخلاقه لم يبق للظّرف موضعا

سوى لحية فيها يسير زيادة

أريد على تقصيرها فتمنّعا

وفي جيده باللّيل أبصرت سبحة

من الرّقش خفنا أن تدبّ وتلسعا (٢)

ولا يشكل قولنا : (أبصرت) مع أنّه كان غائبا ؛ لأنّا اجتمعنا وإيّاه بعد ذلك مع السّلطان ، فكان ما في البيت.

ولقد أخبرني أنّ السّلطان صالح بن غالب أراده على حلق لحيته أيّام كان معه بمصر ؛ لأنّ أهل مصر لا يحبّون اللّحى ، وبذل له مئة دينار مصريّ فامتنع ، إلّا أنّه ندم بعد ذلك ، ولا سيّما إثر ما أخبرته باتّفاق الرّافعيّ والنّوويّ على كراهة حلقها لا حرمته ، وأنّ السّخاويّ ذكر في «الضّوء اللّامع» أنّ عبد الحقّ بن هاشم الجربيّ المغربيّ كان يحلق لحيته وشاربه ، وكان صالحا معتقدا ، وأصله من الينبوع فيما يذكر ، وقد تولّى مشيخة رباط السّيّد حسن بن عجلان بمكّة ، وبها توفّي سنة (٨٤٥ ه‍) فاشتدّ ندمه حينئذ ، وأنشد لسان حاله قول كثيّر عزّة [في «ديوانه» ٢٤٤ من الطّويل] :

لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها

وأمكنني منها إذن لا أقيلها

__________________

(١) عرّيسة الليث : عرينه.

(٢) الرّقش : الحيّات الّتي فيها سواد وبياض ، والمعنى : أن في جيده سبحة سوادها وبياضها يخيل للناظر أنه حية رقشاء.

٤٢٧

وفي حوالي المشهد كثير من الأطلال والآثار العاديّة (١) ، وأكثرها في مكان يقرب منه ، يقال له : ريبون ، يزعمون أنّ به آثارا مطمورة بالتّراب ، كمثل الآثار الّتي اكتشفت بناحية حريضة ، أو أكثر (٢).

ميخ

وفي جنوب المشهد على نصف ساعة منه بالأقدام ، قرية يقال لها : ميخ ، فيها جماعة من ذرّيّة الشّيخ محمّد بن عبد الله ـ مولى الغيل ـ ابن عبد الله بن أحمد المشهور باستجابة الدّعاء ، يرجعون إلى عفيف الكنديّ.

ومنهم : الشّيخ سعيد بن محمّد الملقّب الصّوفيّ الكنديّ وهو منصبهم.

وفيها آل باسمح ، ولهم من اسمهم نصيب ؛ منهم : سالم وأحمد وعمر وسعيد بن محمّد باعمر باسمح ، لهم ثروة وخير وسماحة.

وفي غربيّ ميخ غيل أجراه الشّيخ محمّد بن عبد الله العفيفيّ الكنديّ ، وأعانه عليه الشّيخ عبد الله بن محمّد القديم عبّاد بخمس مئة ريال.

ومنها الشّاعر المشهور غانم الحكيميّ وهو القائل ينسب نفسه :

من نسل عذره بن سبا بن سام

وننسب لا نوح بن شيليخ

__________________

(١) العادية : نسبة إلى قوم عاد.

(٢) تقع ريبون غربي المشهد ، قال صلاح البكري : في هذه المنطقة أحجار كثيرة عليها كتابات حميرية ، وتوجد تلال تعلو إلى (٣٠) قدما على سفوحها أنقاض جدران ، وعلى إحدى التلال بئر اتساعها (٣٠) قدما وعمقها (٦٠). وقد عثر على آثار قيمة في هذه المنطقة. اه

وقال الأستاذ جعفر السقاف : تقع ريبون غربي المشهد ، وهي منطقة تزيد مساحتها على (١٠) هكتار ، وعليها الآن آثار المعابد والقصور والمساكن ومنشآت الحرفيين التي اكتشفتها البعثة اليمنية السوفيتية العلمية في موسم عملها لعام (١٩٨٣ م) ، وبها معبد الإله عشترم ، وبناؤه يعود إلى القرن السابع قبل الميلاد ، ثم أحرق في الفترة ما بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول بعد الميلاد ، كما لاقت المدينة نفس المصير.

وكانت ريبون في الماضي مركزا لمنطقة زراعية كبيرة تقدر مساحتها بنحو (٥٠٠ ، ١) هكتار.

٤٢٨

ما نكسب الّا من علوق الشام

مسرح مضوّي والمحلّه ميخ

ومن شعره في موسم المشهد :

اليوم صبّحناك يا علي بن حسن

يا معطي الزوّار كلّ لي بغاه

من ليس له نيّه في السّاده وظنّ

لا الرّزق قدّامه رجع لمّا قفاه

وقال أيضا :

اليوم صبّحناك يا علي بن حسن

يومك كما ياسين سلطان القران

طالب كرامه من بحورك يا علي

يا الطير لاخضر يا الشّقر يا الضّيمران

وقال :

يا الرّعد حنّيتي وحن دقم الحسي

لا (١) قام وادي العين ترغي من رغاش

في شهر لوّل تلتقي زوّارها

وبعد في الآراض تسعى للمعاش

و (الرعد) : اسم للطبل الكبير الذي يضرب بالعيدان المسمى بالطاسة وهي الخانة الكبيرة. و (الحسي) : جبل كبير في شمال المشهد بطرف وادي العين.

وقد ذكّرني قوله : (ترغي) بقول ناصر بن أبي المكارم الخوارزميّ [من الطّويل]

فإن تنكروا فضلي فإنّ رغاءه

كفى لذوي الأسماع منكم مناديا

وذكرني قوله : (تسعى للمعاش) أنّ الحبيب هادون بن هود بن عليّ بن حسن العطّاس كان متزوّجا بشريفة من آل الجفريّ ، فأمرها أن تعطي مساكين قدرا من الحبوب .. فنقصتهم منه ، فقال : ما قصّرت إلّا لأنّ أهلك طلب. فقالت له : أمّا أهلي إذا سألوا أحدا سألوه بسرّ ، وأمّا أنت وآباؤك .. فقد جعلوا للطّلبة مرافع وطوس فضحك الحبيب من ذلك الكلام ، وأعجب به ، ونشره ؛ لبعده عن الكبر والتّصنّع ، ولسيرهم كلّهم بسوق الطّبيعة ، وابتناء أمرهم على الإخلاص ولقد ذكر ذلك في مجلس حافل بعظماء العلويّين ، ومنهم إمام الدّعوة والإرشاد أحمد عمر بن سميط ،

__________________

(١) عامية بمعنى إذا الشرطية.

٤٢٩

وسيّد الوادي حسن بن صالح البحر الجفريّ فانبسطوا ، وكلّهم عن الرّياء بمعزل ، ينطبق على كلّ منهم ما قاله ابن الخطّاب وقد رأى صفوان متبذلا : إنّه ليفرّ من الشّرف ، والشرف يتبعه.

وقول حبيب [في «ديوانه» ٢ / ١٠١ من الكامل] :

متبذّل في القوم وهو مبجّل

متواضع في الحيّ وهو معظّم

رضوان الله عليهم أجمعين.

وادي العين

هو واد واسع في شرقيّ المشهد ووادي ليسر ، تفصل بينها وبينه الجبال ، فيه كثير من الحصون والقرى ، ونحن نذكر ما يجمّع فيها (١).

وأكثر سكّانه من المشايخ آل باوزير والعوابثة. وقد مرّ في غيل باوزير ما يفهم منه أنّ الرّئاسة الدّينيّة كانت للمشايخ آل باوزير ، وأنّ العوابثة المذحجيّين كانوا ينتسبون إليهم بالخدمة والموالاة ، كأكثر قبائل حضرموت مع مناصبها.

وكان شيخ العوابثة حوالي سنة (٨٥٨ ه‍) رجل يقال له : عمر بن أبي قديم ، له ذكر في الحكاية (٣٩٩) من «الجوهر الشّفّاف» للخطيب [٢ / ١٦٢ ـ ١٦٣ (خ)] ، وفي وادي عمد ذكر عوبث وناعب وريام.

وأعلى وادي العين قرية يقال لها : شرج الشّريف ، فيها قرار ـ أعني : سوقة ـ وعوابثة ، وبعده : غورب ، مكان آل باذياب ، وبعده : الهشم ، فيه عوابثة ، ومشايخ من آل باوزير ، وبعده : الباطنة ، للمشايخ آل باوزير ، منصبهم : الشّيخ عبد الله بن محمّد بن أحمد باوزير. وبعده : البويرقات ، فيها مشايخ من آل باوزير ، وقرار وغيرهم. وبعدها : السّفيل ، فيها مشايخ من آل باوزير وسوقة ، والمنصب بها : أحمد بن صالح باوزير.

__________________

(١) يقصد القرى التي تصلى فيها الجمعة.

٤٣٠

وبين البويرقات وغورب مكان لا جمعة فيه ، يقال له : الرّابية ، كانت تقيم فيه العرب سوقا.

قال اليعقوبيّ : (يقوم سوق صحار (١) في أوّل يوم من رجب ، ثمّ يرتحلون إلى دما ، وهي من بلاد عمان كما في (ص ٤٤٨) من آخر أجزاء «معجم البلدان» وغيرها.

ثمّ : سوق مهرة ؛ وهو سوق الشّحر ، يقوم تحت ظلّ الجبل الّذي عليه قبر هود عليه السّلام ، ولم تكن بها خفارة ، كانت المهرة تقوم بحفظها. ثمّ : سوق عدن أوّل يوم من رمضان. ثمّ : سوق صنعاء في النّصف من رمضان. ثمّ : سوق الرّابية بحضرموت ، ولا وصول إليها إلّا بخفارة ؛ لأنّها لم تكن أرضا مملّكة ، بل كان كلّ من عزّ بها .. بزّ ، وكانت كندة تخفر فيها ، ثمّ يقوم بعدها سوق عكاظ) اه

وقد ذكرت ما يتعلّق به في «الأصل» ، وقوله : (من عزّ .. بزّ) (٢) من الأمثال الّتي أرسلها عبيد بن الأبرص لمّا قدّمه المنذر اللّخميّ في يوم بؤسه للقتل.

وأبسط ما رأيت الكلام عن أسواق حضرموت بكتاب «الأمكنة والأزمنة» لأبي عليّ المرزوقيّ ، وهو مطبوع بدائرة المعارف الدّكنيّة ، وقد ذكر سوق الرّابية هذا.

ثمّ رأيت قول صاحب «قبائل العرب» : (تقوم سوق دومة الجندل أوّل يوم من ربيع الأوّل إلى النّصف منه. وتقوم سوق المشقر من أوّل يوم من جمادى الآخرة. ثمّ تقوم سوق صحار خمسة أيّام لعشر يمضين من رجب. ثمّ سوق الشّحر في النّصف من شعبان. ثمّ سوق صنعاء في النّصف من شهر رمضان إلى آخره. ثمّ سوق حضرموت في النّصف من ذي القعدة.

وتقوم سوق عكاظ بأعلى نجد قريبا من عرفات في نصف القعدة أيضا إلى آخرها ، وهو أعظم أسواق العرب ، تأتيها قريش وهوازن وغطفان وسليم والأحابيش وعقيل

__________________

(١) صحار : بلدة عامرة الآن بسلطنة عمان.

(٢) من عزّ .. بزّ ؛ أي : من غلب .. سلب.

٤٣١

والمصطلق وطوائف من العرب يبقون بها إلى هلال الحجّة فيأتون ذا المجاز ـ وهو قريب من عكاظ ـ فيقوم سوقه إلى التّروية فيصيرون إلى منى.

وتقوم سوق نطاه بخيبر ، وسوق حجر ـ بفتح المهملة وسكون الجيم ـ يوم عاشوراء إلى آخر المحرّم) اه

وقريب منه في (ص ٢٧٥ ج ٢) من «خزانة الأدب» وفي الّتي قبلها منها : أنّ أوّل ما ترك من أسواق العرب سوق عكاظ ، ترك في زمن الخوارج سنة (١٢٥ ه‍) ، وآخر ما ترك منها سوق جاشة في زمن عيسى بن موسى العبّاسيّ سنة (١٩٧ ه‍).

وممّا يتأكّد به عدم النّصف والأمان في ذلك المكان : ما أخرجه البخاريّ ، وأحمد ، والتّرمذيّ ، وأبو داود : عن خبّاب بن الأرتّ مرفوعا : «ليتمّنّ الله هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله والذّئب على غنمه» (١) ؛ لأنّ القوافل كانت تجيء لسوق الرّابية من صنعاء فتلاقي عناء من الخوف وخسارة من الخفارة ، ولو لم تكن أشدّ الطّرق خوفا .. لما كان أمنها إعجازا.

وحوالي قعوضة مكان يقال له : الرّابية أيضا ، قيل : إنّ السّوق إنّما كان فيه ، وإنّما بنيت قعوضة من أجله. والله أعلم.

ووادي العين من أطول أودية حضرموت ، من أعلاه ـ وهو شرج الشّريف ـ إلى السّفيل مسافة يوم للماشي.

ومن شرج الشّريف إلى أقصاه الجنوبيّ مسافة يوم كذلك للرّاجل ، إلّا أنّه يضيق وتنتهي المحارث.

وفي أعلاه عين ماء نضّاخة ، عليها نخيل تسقيها إلى مسافة ستّة أميال تقريبا ، ثمّ تغور في الأرض ، ولكن متى جاءت السّيول .. مدّت باللّيل إلى مسافة طويلة ، وتجزر بالنّهار ، ومن انحطّ عن مائها الدّائم المعتاد .. يحمي نخله عن مائها ؛ لأنّه

__________________

(١) الحديث أخرجه البخاريّ (٦٥٤٤) ، وهو بنحوه عند الإمام أحمد (٥ / ١٠٩) ، وأبي داود (٢٦٤٩).

٤٣٢

يضرّه فيما يقولون ، وإنّما ينتفع به الّذي يألفه. وحيثما يجري ذلك الماء .. يكون الجوّ رديئا موبوءا ، يغلب على أهله الضعف وانتفاخ البطون وقصر الأعمار ، وقلّ من يبيت به ليلتين من غير أهله .. إلّا أصابته الحمّى ، ثمّ منهم من يسلم ، ومنهم من يذهب لما به.

وأهل النّخل به من غيره يبادرون بجذّ خريفهم وتحميله ، تفاديا عن البيات ؛ خوفا من أمّ ملدم.

ومن أخبار العوابثة الظّريفة : أنّ بعضهم أخفرت ذمّته ، فلم يقدر على جلاء العار وغسله عن وجهه ، وكان بينهم شاعر من الحاكة ، لا يشهد زفافا ولا غيره من احتفالات الأفراح .. إلّا غمزة بشيء من الكلام ، حتّى لقد توعّدوه بقطع لسانه إن بقي يعيّره ، ولكنّه لم يصبر ؛ ففي احتفال بفرح عندهم قال :

لا الحول حولي ولا لي من قدا الحول حول

لو شفت غربان سودا قلت ذولاك عول

ومعناها : إنّني لا أقدر على تعيير صاحب الوجه الأسود ، بل أقول : إنّه أبيض.

فأعادوا عليه الوعيد والتّهديد ، وكادوا يسطون به ، ولكنّه لم يصبر ، فعاد مرّة أخرى يقول في احتفال :

والله لا ثوّر النّائم إلمّا المقيل

وان لا كفت فوقه الشّقّه طرحنا المكيل

وأهل بلادنا يعرفون مغزى هذا الكلام .. فلا حاجة إلى الشّرح.

فلم يكن من العوابثة إلّا أن عيّروا صاحبهم وكان مثريا ، فحمل ولده على ركوب اللّيل ، واستأجر معه جماعة من أهل النّجدة ، فذهبوا إلى مكان المطلوب ، وكان آمنا ؛ لبعدهم ، ولما يعرفه من حال طالبه ، وأنه كما قال جرير [في «ديوانه» ٢٧٢ من الكامل] :

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا

أبشر بطول سلامة يا مربع

فلم يكن من الجماعة إلّا أن أمسكوه وكلّفوا الولد أن يطعنه ، فما كاد يفعل إلّا بعد أمر ما ، وعندما انتهى من العمل .. خرق وعقر ، فاحتملوه حتّى أوصلوه إلى أبيه في

٤٣٣

زفّ كبير ، حضره ذلك الشّاعر ، فألقى عليهم ما يمحو بوادره السّابقة.

ومن أخبارهم : أنّه كان بين عبد الله باذياب (١) ـ صاحب غورب ـ وبين عبد الله بن عوض بن فاجع ـ صاحب الهشم ـ منافسات ، فبينا أحمد بن عبد الله باذياب يمشي ذات يوم مع اثنين من أصحابه على مقربة من الهشم .. إذ خرج عليهم عبد الله عوض صاحب الهشم في سبعة من أصحابه ، فأطلقوا الرّصاص على أحمد بن عبد الله فخرّ صريعا يتشحّط في دمه ، وهرب صاحباه ، فاحترق لذلك فؤاد والده عبد الله باذياب ، وأخذه من الأسف على ولده ما كاد يفلق فؤاده ، لا سيّما وقد أعياه الثّأر ؛ إذ أخذ عبد الله بن عوض بن فاجع بالحزم الشّديد ، فقلّما خرج من داره إلّا بعد الاستبراء.

ولمّا اشتدّ الأسف بباذياب .. خاطر ولده مانع بنفسه ، واقتعد اللّيل وكمن في خربة بالهشم ، ولمّا خرج أحمد بن عبد الله بافاجع .. قدر عليه ، ولكنّه تركه رجاء أن يخرج أبوه ليشفي غيظه وغيظ أبيه من نفس القاتل الّذي اقتطف ثمار قلوبهم ، فلم يكن من أحمد بن عبد الله إلّا أن نادى أباه وقال له : عارضني بمزحاة ومكتل (٢).

فقال له : سآمر أحد العبيد .. يأتيك بها. فلمّا أيس من الأب .. أطلق بندقيّته على أحمد .. فخرّ صريعا لليدين وللفم ، وانساب ابن ذياب انسياب أيم الرّمل (٣) ، ولمّا دنا من دار أبيه .. أطلق الرّصاص ؛ إشارة إلى الظّفر ، فاستقبله أبوه في حفل كبير ، وذبح الذّبائح وعمل ضيافة للنّاس.

وساغ له الشّراب وكان قدما

يكاد يغصّ بالماء الزّلال (٤)

والنّاس يعدّون صنيع مانع بن ذياب من المعجزات ، ولا بدع ؛ فإنّه من سرّ قوله

__________________

(١) الباذياب من الباعنس ، فخيذة من العوابثة.

(٢) المزحاة : هي آلة تشبه القدوم عند الحضارمة. والمكتل : هي الوعاء الذي يحمل فيه أيّ متاع من أكل وغيره.

(٣) الأيم : الحيّة الذكر.

(٤) البيت من الوافر ، وأصله للنّابغة الذّبياني في «ديوانه» (١١٨) بلفظ :

وساغ لي الشّراب وكنت قبلا

أكاد أغصّ بالماء الحميم

٤٣٤

جلّ ذكره : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً)

ولم يعمّر بعدها عبد الله بن عوض بافاجع ، بل مات غبنا عند ما أيس من آل باذياب.

وذلك أوّل شرّ نجم بين العوابثة ، وإلّا .. فقد كانوا قبلها يتناصفون ويقتلون القاتل ، ولهم قوانين عادلة ، يحرسها في كلّ قرية رئيسها ، ثمّ يكون الاستئناف لمن لم يقتنع عند المنصب العامّ.

وكان لعبد الله بن أحمد باذياب هذا بنت تسمّى : عبودة ، تنافس عليها الخطّاب ، وكان منهم : محمّد بن عمر باعقيل ـ السّابق خبره في الضّليعة ـ وأعطاهم ألف ريال ، وشرطوا عليه معه هدايا طائلة ، إن جاء بها على ميعاد عيّنوه .. كان الإملاك والبناء ، وإلّا .. انفسخت وضاع الألف ، فتأخّر عن وعده فتركوه.

ويقال : إنّهم رفعوا أمره إلى السّيّد حسين بن حامد المحضار فقضى عليه ، وكلّفه مع ذلك غرامة الدّعوى ومقدارها مئتا ريال. وقيل : إنّه بنى بها ، وإنّما كان النّزاع بعد الزّواج. والله أعلم.

ومن غرائب الصّدف : أنّ عبودة هذه تزوّجت من الشّيخ حسن بن أحمد القحوم العموديّ ، وحملها إلى خديش ، وأولدها بنتا ، قضى الله أن تكون تلك البنت زوجة لأحد أولاد محمّد بن عمر باعقيل ، لا تزال تحته إلى اليوم.

سدبه

أوّل ضمير من وادي العين ، هو الّذي يسقي سدبه. وهي عدّة قرى ، منها : كيرعان (١) ومنها : عرض بو زيد.

وفيها شراج (٢) ونخيل ، وهي من قدامى البلدان ، ولها ذكر عند ابن الحائك

__________________

(١) كيرعان : وتسمّى : حوطة حميشة ، تنسب للسيد الحبيب سالم بن عمر العطاس ، وكان يلقب بمولى حميشة.

(٢) منها الشرج المسمى : قهول.

٤٣٥

الهمدانيّ ، قال : (وهي قرية محمّد بن يوسف التّجيبيّ) اه (١)

وفيها جماعة من أعقاب السّيّد سالم بن عمر بن عبد الرّحمن العطّاس (٢).

وعلى قارة منها : حصن الرّكّة (٣) ، كان لمحسن بن عليّ الملكيّ ، وقد قتله مذحج بفنائه (٤).

وفي سنة (٨٢١ ه‍) .. هجم آل الملكيّ على صاحبهم في حوره ، وأعانهم عليه آل عامر.

وفي سدبه كثير من آل ربّاع يرجعون في نسبهم إلى مذحج (٥).

ومن خصائص سدبه ـ فيما يقال ـ : أن لا تدخلها الغربان. كما أنّ من خصائص قارّة الشّناهز : أن لا يأكل مزارعها الطّير. وأنّ من خصائص اللّسك : أن لا يسلّط عليها الجراد.

ويروى أنّ الأفاعي لا تضرّ في ثلاثة مواضع من اليمن ؛ وهي : صنعاء وناعط وظفار ؛ لتحصينها من أيّام حمير بالطّلاسم.

__________________

(١) صفة جزيرة العرب (١٧١).

(٢) منهم السادة آل الشامي العطاس ، ومن علمائهم : السيد الشريف حسين بن محسن بن حسين بن عبد الله بن حسين بن أبي بكر بن سالم بن عمر .. إلخ ، وهو الذي لقب الشامي لهجرته من وطنه.

ومنهم : ابنه العالم الحبيب عبد الله بن الحسين .. طاف على بلدان حضرموت ، وأخذ عمن بها ، ثم استقر به المقام بجاكرتا ، وأقام بها بعض الأسباب ، وكان عالما صالحا تقيا. فاجأته منيته بجاكرتا في شعبان سنة (١٤٢١ ه‍). وبسدبه جماعة من آل العطاس من ذرية السيد عبد الله بن علي بن الحسين بن عمر العطاس ، وآخرون.

(٣) اختلف المؤرخون في ضبط هذا الاسم .. ففي «شنبل» : الراكة ، وفي بعض النسخ : الدكة ، وكذا في «العدة» ، وغيرها.

(٤) جاء الخبر عند «شنبل» هكذا : وفيها في صفر قتلوا مذحج علي بن حسن الملكي تحت الراكة. اه (ص ١٦٣) ، حوادث سنة (٨٢٠ ه‍).

(٥) في «جواهر تاريخ الأحقاف» (٢ / ١١) ذكر آل باربّاع ، وقال : إنهم من كندة. وفيه أيضا : (٢ / ١٥٨) ذكر آل ربّاع وأنهم من كندة ، وأنهم هم الذين بنوا حصن الراكة سنة (٨٢٢ ه‍) ، ومساكنهم : سدبة وبدره قريتان بقرب حوره.

٤٣٦

حوره (١)

قال ابن الحائك في موضع من «صفة جزيرة العرب» [١٦٨] : (هي مدينة عظيمة لبني حارثة من كندة).

وقال في آخر [١٧١] : (ولبدّا (٢) قرية أخرى ، يقال لها : حوره ، فيها بطنان يقال لهما : بنو حارثة ، وبنو محرية من تجيب ، ورأسهم اليوم : حارثة بن نعيم ، ومحمّد ، ومحرية أبناء الأعجم) اه

وقوله : (قرية) لا يخالف قوله : (مدينة عظيمة) ؛ لأنّ القرية قد تطلق عليها ، وقد سمّى الله مكّة قرية ، بل هي أمّ القرى.

وفي الجزء الثّامن [ص ٩٠] من «الإكليل» : (أنّ حوره من حصون حمير بحضرموت ، فيها كندة اليوم) اه

وكانت حوره في الأزمنة المتأخّرة تحت حكم النّقيب بركات بن معوضة اليافعيّ ، وله مكاتبات من الحبيب عليّ بن حسن العطّاس ، ثمّ استولت عليها عساكر السّلطان عبد العزيز بن محمّد بن سعود ، أو ولده سعود المتوفّى سنة (١٢٢٩ ه‍) ـ حسبما سبق في الشّحر ـ وطردوا النّقباء اليافعيّين.

وكانوا وصلوا إلى حضرموت سنة (١٢١٩ ه‍) ، ولكنّهم كانوا قليلا إذ ذاك فصدّهم السّلطان جعفر بن عليّ الكثيريّ عن شبام :

فإمّا أن يكونوا انحازوا من عامهم ذلك إلى حوره ، وطردوا النّقباء اليافعيّين منها. أو صالحوهم لاتّفاق في المبادىء ؛ فقد سمعت كلّا من أفواه المعمّرين.

__________________

(١) حوره ـ بفتح يميل إلى الضم ـ : مدينة مشهورة بوادي العين ، وهي منطقة زراعية تكثر حواليها النخل والسدر ، وتشكل اليوم مركزا إداريا تابعا لمديرية القطن ، ويشمل هذا المركز : النقعة ، المنبعث ، قعوضة ، سدبه ، عرض بوزيد ، الظاهرة ، كيرعان ، شريوف ، وفي حوره : آل باوزير ، وناس ترجع أصولهم إلى كندة.

(٢) بنو بدّا : بطن من تجيب.

٤٣٧

وإمّا أن يكونوا عادوا أدراجهم واستأنفوا التّجهيز على حضرموت في سنة (١٢٢٣ ه‍) ، واستولوا به عليها ، وأقاموا بها ردحا (١) من الزّمن ، يبعثون البعوث بقيادة الأمير عليّ بن قملا وأخيه ناجي.

ففي سنة (١٢٢٤ ه‍) استولوا على حضرموت ، وهدموا القباب بها ، إلّا قبّة السّيّد أحمد بن زين الحبشيّ (٢) ؛ فإنّهم لم يعرّجوا عليها مراعاة لخواطر آل كثير الّذين فتحوا لهم الطّريق ولم يعارضوهم في شيء. وكذلك هاجموا حضرموت في سنة (١٢٢٦ ه‍) ، واختلفت الأقوال :

فقيل : إنّهم انكسروا دون شبام بقيادة الحبيب حسن بن صالح البحر. وقيل : إنّهم استولوا عليها ، كما اكتسحوها في سنة (١٢٢٤ ه‍).

ولم يكن سيّدنا الحسن البحر من المتعصّبين على الوهّابيّة ، ولا من المتشدّدين في إنكار مذهبهم كما يعرف من مواضع من هذا الكتاب ، منها : ما يأتي في تريس .. فلا يبعد أن يقود الجيوش لمحاربتهم ؛ لأنّه ينكر على غلاتهم تكفير المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم.

وفي «الأصل» : أنّ الجدّ علويّ بن سقّاف كتب للسّيّد عمر بن أحمد الحدّاد جاء فيه : أنّ المكرميّ خرج إلى حضرموت سنة (١٢١٨ ه‍) ، ولا يمكن أن يكون سيّد الوادي الحبيب حسن بن صالح تساند هو والسلطان جعفر بن عليّ في دحرهم ؛ لأنّ ظهور جعفر هذا إنّما كان في سنة (١٢١٩ ه‍).

وفي أشعار الحضارمة ومكاتباتهم ـ الموجود شيء منها ب «الأصل» ـ ما يدلّ على طول زمان الوهابيّة بحوره ، وأنّهم لبثوا مدّة ليست بالقصيرة يتجاذبون الحبال مع قبائل حضرموت مصالحة ومحاربة ، وكان أكثر من يتولّاهم يافع ، وأكثر من ينازعهم ناس من آل كثير ، وللحديث عنهم بقيّة تأتي في تريم وعينات إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الرّدح : المدّة من الزّمن.

(٢) وأيضا : قبة الشيخة سلطانة الزّبيدية ، وعبد الله بن علوي العيدروس (صاحب بور) ، وقبة الشيخ عبد الله بن ياسين باحميد صاحب مدودة.

٤٣٨

وبعد ارتفاع أصحاب ابن قملا عن حوره .. استولى عليها عمر بن جعفر بن صالح بن مطلق ، من آل عمر بن جعفر آل عمد ، ثمّ ولده جعفر ، ثمّ ولده صالح ، ثمّ ولده مقبل بن صالح.

ثمّ أخذ القعيطيّ يسايسهم حتّى أدخلوه إليها ، وبقي نائبه هو وإيّاهم بحصنها ، يديرون أمرها معا ، حتّى استولى القعيطيّ على شبام ، فعندئذ قال نائبه بحوره لصالح بن مقبل : لا مقام لك بعد اليوم ، فإن شئت الخروج بالأمان ، وإلّا .. ناجزتك. فخرج إلى النّقعة عند المشايخ آل باوزير ، فأوصلوه ومن معه إلى العجلانيّة حيث يقيم بها أعقابه إلى اليوم.

وكان استيلاء القعيطيّ على حوره كلّها في سنة (١٢٧٢ ه‍) (١) ، وكانت هي وشبام أحبّ بلاده إليه ، وقد خصّهما الأمير الحاجّ عمر بن عوض القعيطيّ ـ وكذلك ابنه السّلطان عوض بن عمر ـ بحصّة وافرة من البرّ والإحسان في وصيّتهما ، وقد أوردنا وصيّة الأوّل ب «الأصل» ، وأمّا وصيّة الثّاني .. فإنّها مطبوعة منشورة ، وهي مع ذلك لا تخرج عن معنى وصيّة أبيه (٢).

ثمّ رأيت معاهدة بين السّلطان أحمد بن جعفر بن عبد الله بن جعفر بن عمر عنه وعن أولاده والّسّلطان مقبل بن صالح بن مطلق بن جعفر بن عمر عنه وعن أولاده من جهة ، ومن الأخرى الجمعدار محمّد بن عمر بن عوض القعيطيّ بتاريخ صفر من سنة (١٢٧٢ ه‍).

وفيها : أنّهم تناصفوا في بلد حوره ومصنعتها وجميع ما يتعلّق بها .. فلأحمد ومقبل ناصفة ، ولمحمّد بن عمر ناصفة في الحصن والبلاد والمراتب وكلّ ما يعتادونه في البلاد وخليانها وسدبة.

__________________

(١) «العدة المفيدة» (٢ / ١٥٩) ، وفيه : أن مقبل بن صالح وأحمد بن جعفر باعوا حوره بدراهم إلى نائب الجمعدار عمر بن عوض القعيطي مع الرضا من بعض نهد ، وذلك في (٢٦) رجب (١٢٧٢ ه‍).

(٢) والوصيتان بعضهما في كتاب «حياة السيد الزعيم» للسيد حامد المحضار ، وكتاب «تأملات عن تاريخ حضرموت» للسلطان غالب الثاني (١٢٣ ـ ١٢٩).

٤٣٩

وفيها : أنّ الدّولة يشلّون أنفسهم وحاشيتهم عشر سنين ، وإن بدت فتنة في العشر السّنين .. فعلى محمّد بن عمر ثقلها ، وبعد العشر السّنين هم إخوة متّحدون في فائدة وخسارة.

والشّهود على ذلك الخطّ : عليّ بن سعيد بن عليّ ، وأحمد حسين بن عامر آل عمر نقيب القعطة ، وعبد الله بن عمر بن عوض القعيطيّ ، ومحمد بن سعيد بن محمّد بن سالم بن جنيد ، وعبد الله بن عليّ بن عبود بن طاهر ، ومحمّد بن سالم بن محمّد بن سالم بن عليّ بن جنيد.

وفي القرن العاشر عمّر الشّيخ عمر بن عبد الله بن عبد الرحمن باوزير (١) ضميرا لسقي أطيان حوره ونخيلها ، فمانعه بنو معاذ وأهل غنيمة والسّحارى والخطّة والمخينيق وحريز والعدان ، وقاموا عليه ، وساعدهم عليّ بن ظفر والي المخينيق ، وبنو ظنّة أهل السّور ، وبنو قيس ، والمقاديم والظّلفان من نهد ، وأمدّهم التّجّار بالمال ، وهم : أبو منذر ، وبو عيران ، وبو عسكر ، وحصل منهم ضرر عظيم على أهل حوره ، وعلى أهل عرض مخاشن.

وقام مع الشّيخ عمر باوزير آل عامر وآل بدر وآل بشر وآل فارس المجلف ، وامتدّ أمد الحرب ، وقتل خلق كثير من مذحج ، وانتهى الأمر بفوز الشّيخ عمر وانهزام أصحاب المخينيق والسّور ، وجاء من السّيل ما يكفي لحوره والنّقعة ولعرض آل مخاشن ، مع أنّ آل مخاشن لم يشتركوا في الحرب ، ولم يساعدوا بحارّة ولا باردة ؛ ولهذا استحقّوا الهجاء اللّاذع من الشّيخ في قصيدته المذكورة ب «الأصل» (٢).

وبما أنّ وادي العين هو وادي المشايخ آل باوزير وقبائلهم العوابثة .. فقد تدير كثير منهم بحوره ، وأظنّ السّابق منهم إليها هو : الشّيخ أبو بكر (٣) مولى حوره ، بن محمّد

__________________

(١) هو الشيخ عمر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر مولى حوره باوزير .. تنظر ترجمته الواسعة في «الصفحات» : (١٠٤ ـ ١٠٨).

(٢) انظر حوادث سنة (٩١٦ ه‍) من «تاريخ شنبل» (٢٤٤) ، و «تاريخ الشحر».

(٣) ولد الشيخ أبو بكر بحوره ، ونشأ بها بين أخواله آل باجابر ، ودرس على أبيه محمد مولى عرف ،

٤٤٠