إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

حضرموت (١)

ساكنة الضّاد ، مفتوحة الميم ، قال أبو صخر الهذليّ [من الطّويل] :

حدت مزنة من حضرموت مريّة

ضجوج لها منها مدرّ وحالب (٢)

وقال عبد يغوث الحارثي [من الطّويل] :

أبا كرب والأيهمين كليهما

وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا

وهذا البيت من قصيدة لها قصّة وشرح يوجدان في «خزانة الأدب» [٢ / ١٩٤ ـ ٢٠٢].

ويروى : أن قيسا لمّا سمعه .. قال : لبيك ، وإن أخّرتني.

وما هو إلّا محض تعنّت ، وإلّا .. فالوزن يمهّد لما هو أكبر من هذا ، على أنّ أساليب القرآن التّعلّي ، وفيه شبه بما ذكر السّيوطيّ في «شواهد المغني» ، والأصفهانيّ في «الأغاني» [٢٢ / ٣٠٨] أخرجا عن ابن سيرين أن سحيما قدم على عمر بن الخطّاب .. فأنشده قصيدته الّتي يقول فيها :

كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا

 ...

فقال : لو قدّمت الإسلام على الشّيب .. لأجزتك.

وفي «الصّحيح» [خ ٣٧٥٨] من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : «استقرئوا القرآن من أربعة ؛ من عبد الله بن مسعود ـ فبدأ به ـ وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل».

__________________

(١) حضرموت : بالفتح ثمّ السّكون وفتح الرّاء والميم. ومنهم من يضمّ الميم فيجعلها (حضرموت) ، على وزن : عنكبوت.

(٢) البيت الذي ذكره المؤلف رحمه الله تعالى .. لشاعر هذلي ، وهو عندهم بضمّ ميم (حضرموت) ؛ إذ هي لغة هذيل قبيلة الشاعر ، وذكره في «معجم ما استعجم» (١ / ٤٥٥) شاهدا على ذلك. المزنة : السحابة البيضاء. المريّة : الناقة الغزيرة الدّرّ ؛ من المري وهو الحلب. الضجوج : الناقة التي تضجّ إذا حلبت ، فالشاعر هنا شبه السحابة بالناقة الكثيرة اللبن. المدرّ : التي يدرّ لبنها.

٤١

وفيه أيضا [خ ٣٧٩١] أنّ رجلا من الأنصار قال : يا رسول الله ؛ خيّر دور الأنصار فجعلنا آخرا ، فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : «أوليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار».

ولغة هذيل ضمّ ضاد حضرموت (١).

قال الهمدانيّ : (وحضرموت هي جزء اليمن الأصغر ، نسبت إلى حضرموت بن حمير الأصغر ، فغلب عليها اسم ساكنها ، كما قيل : خيوان ونجران ، والمعنى : بلد حضرموت ، وبلد خيوان ، ووادي نجران ؛ لأنّ هؤلاء رجال نسبت إليهم هذه المواضع) اه (٢)

وقيل في تسميتها غير ذلك.

وهي المنطقة الحارّة على بعد أربع عشرة أو خمس عشرة درجة من خطّ الاستواء ، هواؤها على مقربة من الاعتدال ، وقد يشتدّ الحرّ والبرد فيها ، والغالب أن لا تطول مدّة تلك الشّدّة ، وربّما امتدّ الحرّ من نيسان إلى تشرين الثّاني ، والبرد إلى آذار ، وكثيرا ما يحرق الزّروع وبعض الأشجار ، وعن الشّيخ المؤرّخ سالم بن حميد : أنّ البرد اشتدّ مرّة بحضرموت ، وأحرق في نجم الإكليل ، وهو شيء مخالف للعادة.

وحرّ حضرموت في الأزمنة المتأخّرة أشدّ وأطول من بردها ، وفي مروحة الأستاذ عبد الله بن علويّ الحدّاد [من الوافر] :

ومروحة تذود الحرّ عنّا

ثلاثة أشهر لا بدّ منها

حزيران وتمّوز وآب

وفي أيلول يغني الله عنها

وقد سبق أنّه قد لا يغني الله عنها في أيلول ومدخل حزيران في نحو الثّالث عشر من يوليه ، والتّاسع من نجم القلب.

وحضرموت مظنّة الكنوز والمعادن ، والكتابات بالمسند الحميريّ موجودة بكثرة على حجارة أطلالها من البلدان القديمة ، وفي (ص ١٢٢ ج ٦) من «الحديقة» :

__________________

(١) تقدّم أن لغة هذيل ضم ميم حضرموت لا ضادها. وانظر «معجم ما استعجم» (١ / ٤٥٥).

(٢) صفة جزيرة العرب (١٦٥ ـ ١٦٦).

٤٢

(أنّ مدينة أوفير الّتي جاء في سفر الملوك الثّالث من «التّوراة» أنّ سليمان عليه السّلام جلب منها ستّ مئة وستّة وستين قنطارا من الذّهب في سنة واحدة .. هي في شرقيّ عدن ، على مسافة أربع مئة ميل) اه

وذلك صالح لأن يكون في حضرموت ، وسيأتي ذكر فرط الحميرا في موضعه ، قبيل القارة.

وفي ذلك السّفر أيضا : ذكر الاتّفاق بين ملك أورشليم ـ وهو سليمان عليه السّلام ـ وملك صور ـ وهو حيرومر ـ على إنشاء السّفن لتمخر البحر المحيط الهنديّ وغيره ، وترسو بمراسي الشّحر وظفار ، المسمّاة لذلك العهد بزفز ؛ لأنّها كانت مقرّ ثروة عظيمة ، وواسطة اتّصال بين الشّرق والغرب كما يأتي في موضعه.

ويحدّها شمالا : صحراء الأحقاف. وجنوبا : بحر عمان. وشرقا : سلطنة مسقط. وغربا : ولاية اليمن. وهذا أوسع الحدود عند ياقوت من الجهات الثّلاث ، أمّا من جهة الشّمال .. فلا ؛ لأنّه كالصّريح في إخراج صحراء الأحقاف عن حدّها ، وقيل : إنها ـ أو بعضها ـ منها ، لا سيّما وأنّ الخطّ الّذي يمتدّ من سلطنة مسقط إلى الجهة الغربيّة يشملها ، بل يشمل أكثر منها ، فلئن خرجت في كلام ياقوت من ناحية .. فقد دخلت فيه من النّاحيتين الأخريين (١).

__________________

(١) ومن أدق ما حددت به حضرموت : ما ورد في «الشامل» (٢٦ ـ ٢٧) من بدء الحدود من عين با معبد ، وهي بأعلى حضرموت كما قرره المؤلف ، وتقع عين بامعبد على خط العرض (٢٥ ـ ٢ ـ ١٤) (أربع عشرة درجة ودقيقتين وخمس وعشرين ثانية) من خط العرض الشمالي وهي في الساحل في الجانب الغربي الجنوبي بين حضرموت وأحور ، فتدخل : بير علي وبلحاف. ثم يمتد خط الحدود منها إلى الشمال بخط معترض يزداد ميلا إلى جهة الغرب ، حتى ينتهي إلى البرية عند مخرج وادي جردان إلى الصحراء. وهذا الحد غير مستقيم بل هو متقدم إلى جهة الغرب في جردان وإلى جهة الشرق في عين بامعبد وخط العرض الواقع عليه جردان (١٤ ـ ١٥) (خمس عشرة درجة وأربع عشرة دقيقة) .. فالبعد بينه وبين (العين) نحو (٧٢) ميلا إلا ربعا من جهة خط الاستواء.

ثم الحد الثاني : من عين بامعبد إلى مخرج وادي المسيلة ، بين سيحوت ودرفوت ، وطول هذا الخط الممتد : (٢١٠) أميال.

والحد الثالث : خط هلالي غير منتظم التقويس ، يبتدىء من سيحوت ويمتد إلى البر في نحو نصف

٤٣

وفي تواريخ حضرموت أنّ حدّها : من جهة السّاحل : عين بامعبد ، وبروم ، والشّحر ونواحيها ، إلى أرض المهرة شرقا. ومن جردان ونواحيها الغربيّة إلى أرض المهرة أيضا شرقا (١).

وعلى هذا .. فلا تدخل فيها ظفار الحبوظيّ ، وجزم كثيرون بدخولها في حدّها ، وتفصيل ذلك في «الأصل» (٢).

__________________

دائرة ، فيمر بخط يقطع بين الرمل والنجد ، حتى يصير أعظم تقويسه أمام ريدة الصيعر ، ثم ينعطف على الجبل الأبتر ، فرمال شبوة ، حتى ينحط قرب مخرج وادي جردان.

هل حضرموت هي الأحقاف؟

صنيع المؤلف هنا قاض بأن صحراء الأحقاف هي الواقعة في شمال حضرموت ، وهذا هو الواقع ، وإن كان بعض المتأخرين يدعون وادي حضرموت بوادي الأحقاف.

قال العلامة الحداد في «الشامل» (١٨ ـ ١٩) (وادي الأحقاف : هذا الاسم اشهر في الزمن الأخير ، وأما الأحقاف .. فقد قال الله تعالى : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) والمراد بالأحقاف : جبال الرمل الموجودة في الرمل المعروف بالبحر السّافي ـ هو الربع الخالي ـ شماليّ حضرموت ، أضيف وادي حضرموت إليها لقربه منها ، وليس في حضرموت أحقاف رمل كما يتوهم ذلك من لا يعرفها ؛ فإن حضرموت جبل متصل بجبال اليمن الجنوبية ، يشرف جنوبيّة الغربيّ على البحر ، وشماليّه وغربيّه الشمالي على رمل الأحقاف.

... ولا يتوهمنّ أحد أن منازل عاد كانت رملا ؛ فإن الرمل لا تكون فيه عيون جارية ، ولا جنات ، ولا مصانع ، وإنما طغى عليها الرمل بعد ذلك ، وكانت قبل ذلك أرضا متسعة طيبة ، ذات عيون جارية ، وجنات وخصب ، كما أخبرنا الله في كتابه) اه

وقال ياقوت (١ / ١١٥): (والأحقاف المذكورة في الكتاب العزيز : واد بين عمان وأرض مهرة ؛ عن ابن عبّاس. قال ابن إسحاق : الأحقاف رمل فيما بين عمان إلى حضرموت. وقال قتادة : الأحقاف رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن وهذه ثلاثة أقوال غير مختلفة في المعنى) اه.

قال في «الشامل» (ص ١٩) عقب هذا : (وهذا هو الذي يطلق عليه علماء العرب لفظ : (أرض وبار) غالبا) اه

(١) مما اعتمد عليه الشيخ المؤلف رحمه الله تعالى في ذكر حدود حضرموت كتاب : «الهديّة السّنية» للعلامة أحمد بن حسن الحداد وهو بدوره اعتمد على : «النّور السّافر» ، و «المشرع الرّويّ» ، وغيرهما ؛ ك «مناقب آل باقشير» ، ذكر ذلك في «بضائع التابوت» (١ / ٩٨).

(٢) حاصل ما أحال عليه من تفصيل : أنّ مؤلف «الهدية» أطال التّردّد في دخول ظفار ومشقاص المهرة في

٤٤

والأقرب : أنّ حدّها المصغّر هو : حدّها الدّوليّ في أيّام بني قحطان ؛ بأمارة أنّهم يسمّون ذلك : وادي بن راشد ؛ يعنون : عبد الله بن راشد القحطانيّ المشهور.

وحدّها المكبّر هو : حدّها الطّبيعيّ.

وقال الطّيّب بامخرمة في كتابه «نسبة البلدان» (١) [٩١ خ] : (قال القاضي مسعود : هي من قبر هود عليه السّلام إلى القطن. وعرضها من الشّمال : الصّيعر وبنو عكير والشّمّاخ وتميم ، إلى ريف البصرة وعمان. وعرضها من الجنوب : الغيل الأعلى والغيل الأسفل إلى حدّ سيبان ، والحموم والمهرة) اه

وفي هذا الكلام خبط كثير ؛ لأنّه يضيّقها من الحدود الثّلاثة ومن الشّمال بإيهامه خروج أرض الصّيعر عنها ، وهي ـ كما يأتي آخر الكتاب ـ كنجد آل كثير والعوامر والمناهيل : نجود حضرموت.

ويوسّعها من هذا الحدّ بقوله : (إلى ريف البصرة) وليس الأمر كذلك.

وللحضارمة اصطلاح أخير مصغّر في حدّها ، فيجعلونها من العقّاد ؛ وهو مكان يقرب من شبام في غربيّها إلى قبر نبيّ الله هود عليه السّلام ، لكنّ المعتبر في الأيمان والنّذور والوصايا .. الأوسع ، كما قرّرته في «الأصل» (٢).

__________________

حدود حضرموت ، ونقل عن بعض مصادره ما يفيد دخول ظفار والمشقاص كله في الحدّ الحضرميّ. ثم قال : وظاهره دخول ظفار والمشقاص كلّه فيه ، لكن مؤلف «الهدية» تردّد في ظفار ـ كما قدّمنا ـ نفيا وإثباتا ، وتوسّط في المشقاص ؛ فقال بدخول مشقاص الظّني ، وخروج مشقاص المهري الّذي أوّله بديعوت ، واستقرب بعد ذلك خروج ظفار .. إلخ. من «بضائع التابوت» (١ / ٩٨ ـ ٩٩).

والمشقاص الظّنّي : أي الذّي يسكنه بنو ظنّة التّميميّون ، وهو بمحاذاة الموضع المسمّى (بديعوت) في ساحل المهرة.

(١) أي : كتاب «النسبة إلى المواضع والبلدان».

(٢) هذا الحدّ هو ما قرّره الشّيخ أبو بكر باشراحيل ـ من أهل القرن العاشر ـ في «مفتاح السّنّة» كما نقل نصّ عبارته في «بضائع التّابوت» (١ / ١٠١) وهي : (حضرموت بلاد مشهورة متّسعة ، من بلاد اليمن ، تجمع أودية كثيرة ، وقد اختصّ بهذا الاسم وادي ابن راشد ، طوله نحو مرحلتين أو ثلاث من العقّاد إلى قبر هود عليه السلام ، ويطلق على بلاد كثيرة) اه

وكذلك قرّره الإمام أحمد بن حسن الحدّاد في «الهديّة السّنيّة» ، وعبارته : (لا يطلق لفظ

٤٥

إلّا أنّه نجم إشكال ذكرته مع جوابه في قيدون .. فانتظره ؛ فكلّ آت قريب.

وفي مادّتي : (عبد) و (عبدل) من «التّاج» (١) : أنّ اسم حضرموت الأوّل هو : عبدل.

وقال بعضهم : إنّ حضرموت كانت تسمّى وبار ، ثمّ سمّيت : وادي الأحقاف ، ثمّ سمّيت : حضرموت.

ولاحظت عليه تأخّر حضرموت بن حمير الأصغر ووبار عن هود والأحقاف كما يشهد لذلك ذكره في كتاب الله القديم ، ويأتي في الشّحر أنّها تسمّى : الأحقاف ، وفي «التاج» عن «المعجم» [١ / ١١٥] : (روي عن ابن عبّاس أنّها واد بين عمان وأرض المهرة. وقال ابن إسحاق : الأحقاف رمل فيما بين عمان وحضرموت. وقال قتادة : الأحقاف رمال مشرفة على هجر بالشّحر من أرض اليمن. قال ياقوت : فهذه ثلاثة أقوال غير مختلفة في المعنى) اه

__________________

حضرموت الآن ـ بل ومن زمان ـ إلّا على وادي ابن راشد فقط ، وحدّه : من العقّاد إلى قبر نبيّ الله هود عليه السلام) اه «بضائع التابوت» (١ / ٩٩). أمّا ما يتعلّق بالوصايا والأيمان والنّذور .. فهي مسألة عرضت للمصنّف أثناء بحثه موضوع حدود حضرموت. قال في «بضائع التّابوت» (١ / ٩٩ ـ ١٠٠): (وتعترضنا في طريق الموضوع مسألة لها أهميّتها الكبرى ، وهي : ما الّذي يعتبر من حدّي حضرموت للأيمان والطّلاق والنّذور وما أشبه ذلك؟ وساق الجواب على هذه المسألة أو الاستشكال في أكثر من ثلاث صفحات .. نقل فيها كلاما عن الشّيخ ابن حجر في «التحفة» في تخصيص اللّفظ العامّ بالعرف الخاصّ ، وهل العرف ينقل اللّفظ عن مدلوله اللّغوي إلى ما هو أخصّ منه .. وخلص كلام الشّيخ ابن حجر إلى أنّ الأصل أنّ العمل يكون باللّغة (قبل تخصيصها بالعرف) متى شملت واشتهرت ولم يعارضها عرف أشهر منها .. فإن اختلّ أحدهما .. اتّبع العرف إن اشتهر واطّرد .. إلخ.

وبنى على هذا : أنّ حدّ حضرموت الأصغر الّذي تقدّم آنفا نقله عن باشراحيل والحدّاد .. إنّما هو من باب اطّراد العرف لغلبة الشّهرة به على شهرته اللّغوية بالحدّ الأوّل الأوسع ، وعليه : فالاعتبار في الأبواب الفقهيّة المذكورة إنّما هو بالوضع اللّغويّ الأصليّ لا الوضع العرفيّ الطارىء ، وأيّده بكلام ابن حجر في «الفتاوى الكبرى» (٤ / ١٥٨) و (٤ / ٢٦٤).

(١) أي : كتاب «تاج العروس في شرح القاموس» للإمام الحافظ محمد مرتضى الزبيدي الحسيني ، مطبوع في (٤٠) مجلدا.

٤٦

وفيه أيضا : أنّ الحقف أصل الجبل ، ومن الشّحر إلى الدّهناء سلسلة جبال تخللها الأودية.

وفيه عن «اللسان» : (أنّ كلّ ما طال واعوجّ .. فقد احقوقف) اه

وكذلك حضرموت جبالا ورمالا ، وكثرة أحقاف الرّمل بالدّهناء في شمال حضرموت لا يغبّر على إطلاقه على البلاد بأسرها ، لا مجازا فقط من إطلاق الجزء على الكلّ كما في قوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) .. بل حقيقة ؛ لما علمت أنّ حضرموت سلاسل جبال ورمال .. فالأحقاف اسم لجميع حضرموت ، لا للرّمال الّتي في شمالها فقط.

وقال الشّيخ أبو بكر بن عبد الله باشراحيل الحضرميّ الشّباميّ في كتابه : «مفتاح السّنة» : حضرموت بلاد مشهورة متّسعة من بلاد اليمن ، تجمع أودية كثيرة ، وقد اختصّ بهذا الاسم وادي ابن راشد ، وساحلها : العين وبروم إلى الشّحر ونواحيها ، والأحقاف بلاد عاد.

وفي «سيرة ابن هشام» : بلاد عاد بين حضرموت وعمان ، وقيل : الأحقاف رملة الشّحر ، وليس بشيء .. إلّا أن يراد بالرّملة ماوراء جبل الشّحر الّذي عند ظفار الحبوظيّ ؛ فثمّ رملة متّصلة بطرف عمان ، وهذا لا يغبّر على إطلاق الأحقاف على سائر بلاد حضرموت ؛ لأنّ الأمر كما سبق ، ولأنّ مثاني أودية الأحقاف رمالا كثيرة ؛ منها : الّتي في جنوب بور ، والّتي ما بين السّوم وقسم ، ويتأكّد بما سيأتي في الشّحر عن «مروج الّذهب» للمسعوديّ.

وفي (ص ٥٧ ج ٥) من «صبح الأعشى» عن «العبر» : أن عمانا كانت في القديم لعاد مع الشّحر وحضرموت وما والاهما.

فالشّحر وحضرموت : بلاد عاد ، وبلاد عاد هي الأحقاف .. فلا مشاحّة في شيء ، وفي وجود قبر نبيّ الله هود عليه السّلام بآخر حضرموت .. أقوى تأكيد لذلك.

وفي «الرّياض المؤنقة» للعلّامة الجليل السّيّد عليّ بن حسن العطّاس : (الأرض

٤٧

الجرز المذكورة في قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) .. هي حضرموت ، يحدّها المشقاص إلى عين بامعبد ، إلى الشّحر ، إلى مأرب ، وليست غيرها ، وذلك لما ذكره الإمام البخاريّ في «صحيحه» في تفسير سورة الجرز : أنّها الّتي لا يصلها من الماء إلّا دون كفايتها.

ولا نعلم أرضا أولى بهذا من هذه الجهة الحضرميّة ، ولا أجرز ولا أسنت (١) ، ولا أغلى أسعارا ، ولا أقلّ ثمارا) اه

ومنه (٢) : مثل غالب أهل حضرموت ، من السّاحل إلى مأرب ، ومن عين بامعبد إلى سيحوت ، في السعي الممقوت ، وضعف البخوت .. كمثل العنكبوت اتّخذت بيتا ، وإنّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت ... إلى آخر ما أطال به في ذمّ أهلها. ونقله الشّيخ عبد الله باسودان في كتابه الّذي ترجم به للعلّامة السّيّد عليّ بن حسن ووسمه ب : «جواهر الأنفاس» ، وقال : (وتحديد حضرموت في العرف العامّ ـ كما حقّقه شيخنا عليّ بن شهاب في رسالة مختصرة ـ : من مرباط الحبوظيّ إلى حبّان ، فيدخل مرباط الحبوظيّ دون حبّان. وأمّا العرف الخاصّ : فمن شبام إلى تريم) اه

واسم حضرموت في التّوراة كما نقله ياقوت [٢ / ٢٧٠] عن ابن الكلبيّ (٣) : حاضر ميت.

وكان يقال لها : وادي سكاك أيضا.

وأنشد ياقوت [٢ / ٢٧٠] لبعض شعراء الحضارم [من البسيط] :

جاب التّنائف من وادي سكاك إلى

وادي الأراك إلى بطحاء أجياد (٤)

__________________

(١) قوله : أسنت : أجدب.

(٢) أي : كتاب «الرياض المؤنقة».

(٣) ابن الكلبي هو : هشام بن محمد بن السائب الكلبي الكوفي ، أبو المنذر ، المتوفى سنة (٢٠٤ ه‍) ، مؤرخ نسابة كأبيه ، له مصنفات كثيرة ؛ منها : «جمهرة الأنساب» (خ) ، و «ملوك كندة» ، و «بيوتات اليمن» ، و «تسمية من بالحجاز من أحياء العرب».

(٤) التّنائف : الصّحراء. والبيت عند ياقوت :

جاب التّنائف من (وادي سكاك) إلى

(ذات الأماحل) من (بطحاء أجياد)

٤٨

وهو في عدّة أبيات لها قصّة طويلة ، أوردها الهمدانيّ في «الإكليل» [٨ / ١٣١] وغيره (١).

__________________

(١) والقصّة كما في «الإكليل» : قال هشام بن محمّد قال : أبو يحيى السجستانيّ عن مرّة بن عمر الأيليّ عن الإصبغ بن نباتة قال : إنّا لجلوس عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في مدّة أبي بكر رضي الله عنه .. إذ أقبل رجل حضرميّ من بلاد حضرموت لم أر أطول منه ، فاستشرفه النّاس وراعهم منظره ، وأقبل جوادا حتّى وقف وسلّم وجاء ثمّ جلس ، فكثر إدناء النّاس منه مجلسا ، فقال : من عميدكم؟

فأشاروا إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

فقال : أهذا ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعالم النّاس المأخوذ عنه؟

قيل : نعم.

فقال الحضرميّ :

أبلغ كلامي هداك الله من هاد

وافرج بعلمك عن ذي غلّة صاد

جاب التّنائف من وادي سكاك إلى

ذات الأماحل من بطحاء أجياد

تلفّه الدّمنة البوغاء معتمدا

إلى السّداد وتعليم بإرشاد

سمعت بالدّين دين الحقّ جاء به

محمّد وهو قرم الحضر والبادي

فجئت منتقلا من دين طاغية

ومن عبادة أوثان وأنداد

ومن ذبائح أعياد مضلّلة

نسيكها خائب ذو لوثة عاد

فادلل على القصد واجل الرّيب عن خلدي

بشرعة ذات إيضاح وإرشاد

والمم بهدي هداك الله من شعثي

وإهدني إنّك المشهور بالنّادي

إنّ الهداية للإيمان نائبة

عن العمى والتّقى من خير أزواد

وليس يفرج ريب الكفر عن خلد

أقضّه الجهل إلّا حيّة الوادي

قال : فأعجب عليّا شعره ، وقال له : لله درّك ما أرصن شعرك!! ممّن أنت؟

قال : أنا من حضرموت. قال : فسرّ به علي رضي الله عنه وشرع عليه الإسلام .. فأسلم على يديه ، ثمّ أتى أبا بكر وأسمعه شعره .. فأعجبه وحسن إسلام الرّجل.

ثمّ أتى عليّا رضي الله عنه يسأله ذات يوم ونحن مجتمعون للحديث ، فقال : أعالم أنت بحضرموت. قال : إذا جهلتها .. فما أعلم غيرها. قال : أتعرف موضع الأحقاف؟ قال : كأنّك تسأل عن قبر هود. قال عليّ : لله درّك! ما أخطأت. قال : نعم ، خرجت وأنا في عنفوان الشباب في أغلمة من الحيّ ونحن نريد أن نأتي قبره لبعد صوته فينا ، وكثرة من ينكره.

فسرنا في وادي الأحقاف أيّاما ، وفينا رجل قد عرف الموضع حتّى انتهينا إلى كثيب أحمر فيه كهوف مشرفة .. فانتهى بنا ذلك الرّجل إلى كهف منها ، فدخلناه ، فأمعنّا فيه ، فانتهينا إلى حجرين قد

٤٩

ثمّ قال ياقوت [٣ / ٢٢٩] : وسكاك موضع بحضرموت.

وقال بعضهم : إنّ من أسمائها : برك الغماد.

وكانت حضرموت أرض خصب ورخاء بما كانت تشرب من فضول مياه مأرب حسبما يأتي في المبحث الخامس من الحسيّسة وغيره ، وبما فيها من العيون السّائحة على الأرض ، والمنبثقة من الجبال .. إلى أن سدّها معن بن زائدة ؛ إذ فعل فعلته الّتي فعل بأهل حضرموت بعد أن قتلوا أخاه ، كما أشار إلى ذلك مروان بن أبي حفصة في قوله له [من الطّويل] :

وطئت خدود الحضرميّين وطأة

بها ما بنوا من عزّة قد تضعضعا

فأقعوا على الأستاه إقعاء معشر

يرون اتّباع الذّلّ أحرى وأنفعا

فلو مدّت الأيدي إلى الحرب كلّها

لأقعوا وما مدّوا إلى الحرب إصبعا

وفي «النّور السّافر» و «المشرع الرويّ» و «الفوائد السّنيّة» : أنّ بعض المغاربة جاء في أيّام بدر بو طويرق ، وتعهّد بفتحها ، ولكنّ بدرا خاف من رغبة الأتراك فيها ، ويتأكّد ما ذكر بما جاء في (ص ٦٣) و (ص ٦٤) من «تاريخ المستبصر» لابن المجاور : (أنّ موضع زبيد كان حمى لكليب وائل وأخيه مهلهل ، وكان ريفا واسعا ، به ستّ مئة ، أو ستّون عينا سائحة لم تزل كذلك حتى ردمها بعض الملوك ، ولا شكّ أنّه معن بن زائدة الشّيبانيّ) اه

ولا يحصى ما أنجبت حضرموت من رجال العلم والمجد والشّرف والزّعامة

__________________

أطبق أحدهما دون الآخر ، وبينهما خلل يدخل فيه النّحيف متجانفا .. فدخلته.

فرأيت رجلا على سرير شديد الأدمة ، طويل الوجه ، كثّ اللّحية ، قد يبس على سريره ، وإذا مسست شيئا من جسده .. أصبته صلبا لم يتغيّر.

ورأيت عند رأسه كتابا بالعربيّة : (أنا هود الّذي آمنت بالله ، وأسفت على عاد وكفرها ، وما كان لأمر الله من مردّ). وسيأتي للحديث شواهد في مبحث قبر نبي الله هود عليه السلام في آخر الكتاب.

٥٠

والعروبة قديما وحديثا ، كما تشهد معاجم الرّجال وكتب التّاريخ ، وفي هذه المجموعة و «أصلها» الكثير الطّيّب من ذلك.

وممّا يؤكّد تسميتها ببرك الغماد : أنّها مضرب المثل في البعد.

وقد قال المقداد ـ وهو حضرميّ ـ للنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم : فو الّذي بعثك بالحقّ ، لو سرت بنا إلى برك الغماد. لجالدنا معك من دونه (١).

وقال الشّمردل بن شريك يصف الرّياح [من الرّجز] :

بلغن أقصى الرّمل من يبرينا

وحضرموت ، وبلغن الصّينا (٢)

وقال قيس [في «ديوانه» ٢٢٧ من الطّويل] :

ولو أنّ واش باليمامة داره

وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا

وبعضهم يرويه : (أقصى حضرموت) وهو أنسب.

وقيل : إنّ برك الغماد واد مخصوص منها فقط ، وهو الّذي فيه بئر برهوت.

قال ابن دريد [من مجزوء الكامل] :

وإذا تنكّرت البلا

د فأولها كنف البعاد

واجعل مقامك أو مقرّ

ك جانبي برك الغماد

وفي «الصّحيح» [خ ٣٩٠٥] أنّ أبا بكر هاجر إلى الحبشة ، حتّى إذا بلغ برك الغماد .. لقيه ابن الدّغنة ... إلى آخر الحديث ، وذكر الشّرّاح فيه أقوالا ؛ أحدها : أنّه بحضرموت.

__________________

(١) أخرجه مسلم (١٧٧٩) عن سعد بن عبادة لا عن المقداد رضي الله عنهم.

(٢) وأصل الأبيات كما وردت :

حيث يقال للرّياح اسفينا

هوج يصبّحن فلا ينبينا

وكلّ وجه للسّرى يسرينا

بلغن أقصى الرّمل من (يبرينا)

و (حضرموت) وبلغن (الصّينا)

٥١

وكما كانت حضرموت مضرب المثل في البعد .. فكذلك كانت مضربه في أمور كثيرة ، منها كما في «الأصل» :

ـ الجمال.

وحسبك شاهدا عليه ما جاء في كتابه صلّى الله عليه وآله وسلّم لوائل بن حجر من وصف أقيال حضرموت بالمشابيب (١) ، ومعناه كما في «التّاج» وغيره : الرّؤوس الزّهر الألوان (٢) ، كأنّما أوقدت وجوههم بالنّار ؛ لحسنها وإشراقها.

ومعلوم أنّ وفد كندة استجهروا النّاس بجمالهم وحسن شارتهم ، وأنّ عليهم من الحبرات ما شبّب ألوانهم (٣).

وذكر المبرّد : أنّ الأشعث بن قيس من النّفر الّذين فرعوا (٤) النّاس طولا وجمالا ، وكان من مقبّلي الظّعن (٥).

وذكر أيضا قول أبي دهبل [من مجزوء الكامل] :

أعرفت رسما بالنّجي

ر عفا لزينب أو لساره

لعزيزة من حضرمو

ت على محيّاها النّضاره

وروى الجاحظ : أنّ حضرميّة ـ وكانت من آيات الله جمالا ـ تجرّدت أمام زوجها ، وقالت : ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت ، فقال لها : أرى فطورا ، فاستحيت.

وقال امرؤ القيس [في «ديوانه» ١٤١ من الطّويل] :

تنوّرتها من أذرعات وأهلها

بيترب أدنى دارها نظر عالي

__________________

(١) عند ما أسلم وائل بن حجر .. كتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم عدّة كتب ، فكتب كتابا إلى أقيال ـ ملوك ـ حضرموت ، فقال صلى الله عليه وسلم : «اكتب يا معاوية ، إلى الأقيال العباهلة ، والأرواع المشابيب».

(٢) في المخطوط : (الرؤوس الأعيان). والتصحيح من «تاج العروس».

(٣) أي : زادها حسنا. والحبرات : ثياب وبرد معروفة.

(٤) فرعوا : علوا.

(٥) الظّعن ـ جمع ظعينة ـ يقال : فلان مقبّل الظعينة ؛ أي المرأة في هودجها وجملها قائم ، وهذا يعني أنه فارع الطول ، وقد نعت بذلك جماعة في الجاهلية وصدر الإسلام.

٥٢

ويترب ـ بالمثنّاة الفوقيّة ـ : مدينة بحضرموت ـ كما قال الهمدانيّ ـ نزلتها كندة (١) ، وإيّاها يعني الأعشى بقوله [في «ديوانه» ١١٧ من الكامل] :

 ...

بسهام يترب أو سهام الوادي

وقال ابن عبيد الأشجعيّ [من الطّويل] :

وعدت وكان الخلف منك سجيّة

مواعيد عرقوب أخاه بيترب

وقد أجمعوا على روايته بالتّاء المثنّاة ، ولئن كان الأكثر يزعمون أنّ يثرب الحضرميّة بالثّاء المثلّثة أيضا ، ويتأكّد ذلك بوجود طائفة من الحضارم يقال لهم : (آل يثرب) لا يزال منهم ناس حتّى اليوم يحترفون بالحدادة.

وقد وصفت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم امرأة من كندة بالجمال .. فرغب فيها ، ولمّا قال له أبوها : وأزيدك أنّها لم تتّجع قطّ في عمرها .. رغب عنها (٢) ، وهي غير الجونيّة (٣) ، وغير أخت الأشعث الّتي حرمت السّعادة بامتناعها من الارتحال إلى المدينة (٤) ، وهي الّتي اقترنت بعد بعكرمة بن أبي جهل ، وجرى لها مع أبي بكر شأن.

ـ ومنها : حسن النّسج.

ففي حديث الهجرة : (أنّ عليّا تسجّى ببرد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الحضرميّ الأخضر) (٥).

وأخرج ابن سعد بسنده إلى عروة بن الزّبير : أنّ ثوب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الّذي كان يخرج فيه إلى الوفد ورداءه : حضرميّ ، طوله : أربعة أذرع ،

__________________

(١) صفة جزيرة العرب (١٧٠).

(٢) ذكر ذلك ابن طاهر المقدسي في «البدء والتاريخ» (٥ / ٩).

(٣) واسمها : أسماء بنت كعب الجونية ، لم يدخل بها النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلقها ، قال الزهري : استعاذت منه .. فقال : «لقد عذت معاذا ، الحقي بأهلك». «السير» (٢ / ٢٥٥).

(٤) واسمها : قتيلة بنت الأشعث بن قيس.

(٥) الخبر في «دلائل النّبوّة» لأبي نعيم (١ / ٢٦١) ، و «دلائل» البيهقيّ (٢ / ٤٦٨) ، وفي «عيون الأثر» (١ / ١٧٨) ، والطّبريّ (١ / ٥٦٧).

٥٣

وعرضه : ذراعان وشبر ، فهو عند الخلفاء ، قد خلّقوه (١) وطووه بثوب يلبسونه يوم الأضحى والفطر (٢).

وقال النّابغة الجعديّ في مشوبته [في «ديوانه» ٧٩ من الطّويل] :

يدير علينا كأسه وشواءه

مناصفه والحضرميّ المحبّرا

و (المناصف) : هم الخدم.

وقال ذو الرّمّة [في «ديوانه» ١٩١ من الطّويل] :

كأنّ عليها سحق لفق تنوّقت

به حضرميّات الأكفّ الحوائك (٣)

وقال جرير [في «ديوانه» ١٣٤ من الكامل] :

وطوى الطّراد مع القياد بطونها

طيّ التّجار بحضرموت برودا (٤)

وقال كثير [في «ديوانه» ١٢٥ من الطّويل] :

رأيت ثياب العصب مختلط السّدى

بنا وبهم والحضرميّ المخصّرا (٥)

وقال حبيب (٦) [في «ديوانه» ١ / ٢٢٤ من الكامل] :

كشقيقة البرد المسهّم وشيه

في أرض مهرة أو بلاد تزيد (٧)

__________________

(١) خلّقوه : طيّبوه.

(٢) الطبقات (١ / ٤٥٨).

(٣) السّحق : الثوب البالي. اللّفق : الثوب الذي ضمّ شقّاه إلى بعضهما وخيّطا. تنوّقت : ترفّقت.

(٤) الطّراد : المطاردة والجري خلف العدوّ. القياد : الحبل الّذي يساق به الدّابة. التّجار : كرجال ، جمع تاجر. «القاموس».

(٥) البيت في «الدّيوان» و «الأغاني» على الشّكل التّالي :

لبسنا ثياب العصب فاختلط السّدى

بنا وبهم والحضرميّ المخصّرا

العصب : ضرب من برود اليمن. السّدى : الخيوط الطوليّة الّتي يتكوّن منها النسيج. وعكسها : اللّحمة ، وهي الخيوط العرضيّة. الحضرميّ : النّعل المنسوبة إلى حضرموت. المخصّر : ما قطع خصراه حتى صارا مستدقّين.

(٦) هو حبيب بن أوس أبو تمّام ، الشّاعر المعروف.

(٧) كشقيقة : جار ومجرور متعلّق بحال محذوف من الفعل (خذها) في الأبيات قبله ، وهو :

٥٤

وتزيد ـ زنة جميل ـ هو كما في «التّاج» : (ابن حيدان بن عمران بن الحاف بن قضاعة ، وهم الّذين تنسب إليهم البرود التّزيديّة).

قال أبو ذؤيب [من الكامل] :

يعثرن في حدّ الظّباة كأنّما

كسيت برود بني تزيد الأذرع

وقال علقمة [من الكامل] :

ردّ القيان جمال الحيّ فاحتملوا

فكلّها بالتّزيديّات معكوم (١)

وكانت حضرموت تفيض بالأكسية إلى صنعاء فما دونها من بلاد اليمن. وفي «مجموع كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط» أنّ بعض أهل شبام يستحيك شياذر فيذهب بهنّ بعض أولاده إلى صنعاء فيبيعهّن على الإمام أو بعض حاشيته من ثمانين ريالا ومئة ريال.

ولم يزل أمراء لحج إلى عهد السّلطان أحمد فضل العبدليّ يستحيكون الشياذر التّريميّة ، وإلى تزيين حواشيها بخيوط الحرير الأبيض ، أو المقصّب المتخالف النّسيج .. يشير ذو الرّمّة بقوله [في «ديوانه» ١٦٤ من الطّويل] :

به ملعب من معصفات نسجنه

كنسج اليماني بردة بالوشائع (٢)

إذ الوشائع : الطّرائق المختلفة ؛ من : (وشعت المرأة الغزل على يدها) ؛ أي : خالفته ، وتوشّعت الغنم في الجبل .. اختلفت.

وكان بصنعاء دلّالون مخصوصون بالبزّ الحضرميّ (٣) ، يرجع نسبهم إلى آل

__________________

خذها مثقّفة القوافي ربّها

لسوابغ النّعماء غير كنود

حذّاء تملأ كلّ أذن حكمة

وبلاغة وتدرّ كلّ وريد

والمعنى : خذها قصيدة مرتّبة منقّحة كالبرود الجميلة الأنيقة الّتي تنسج في اليمن وبلاد تزيد.

و (بلاد تزيد) : قبيلة تنسب إليها البرود الفاخرة ، وهي على أحد الأقوال : قبيلة للجنّ.

(١) معكوم : مربوط ومشدود.

(٢) المعصفات : الريح العاصفة.

(٣) دلّالون ـ جمع دلّال ـ وهو : الّذي يجمع بين البائع والمشتري ، يقال له : سمسار.

٥٥

السّقّاف بسيئون ، ولمّا انقطع البزّ الحضرميّ منذ نحو من نصف قرن .. ساءت أحوالهم.

وكان الحضارمة في عهد الشّيخ عبد الله باعلويّ يجلبون الخيل من حضرموت إلى ظفار كما يعرف من الحكاية (١٥٦) من «الجوهر الشّفّاف» للخطيب [١ / ١٨٢ خ].

وسيأتي عند ذكر آل باماجد في تريم : أنّ ملاحة البحر الهنديّ بأسره كانت للحضارم من القرن الثّاني الهجريّ.

ـ ومنها : جودة الإبل.

قال البعيث الحنفيّ يمدح ناقته [في «ديوان الحماسة» ٢ / ٣٨٠ من الطّويل] :

مفرّجة منفوجة حضرميّة

مساندة سرّ المهارى انتقيتها (١)

وقال ذو الرّمّة [من الطّويل] :

حراجيج ممّا ذمّرت في نتاجها

بناحية الشّحر الغرير وشدقم (٢)

ويدخل فيه كلّ ما جاء في مدح الإبل المهريّة بما لا يضبطه الحصر ؛ لأنّ مهرة داخل حضرموت على كثير من الأقوال (٣).

ـ ومنها : فراهة الحمر (٤).

فقد جاء في «صفة جزيرة العرب» للهمدانيّ : إنّ أحسن الحمير : الحضرميّة.

__________________

(١) مفرجة : الّتي بعدت مرافقها واتّسعت آباطها ، يريد أنّها فتلاء المرافق. المنفوجة : الواسعة الجنبين.

الحضرميّة : من نسل إبل حضرموت. المساندة : القويّة الظّهر. سرّ المهارى : خيارها.

والمهارى : نسبة إلى مهرة بن حيدان.

(٢) حراجيج ـ جمع حرجوج ـ وهي : النّاقة الضّامرة القويّة القلب. ذمّرت : أدخل المذمّر يده في رحمها ليرى الجنين أذكر هو أم أنثى. الغرير وشدقم : اسما قبيلتين. والمعنى : أنها من إبل هؤلاء القوم فهم يذمّرونها.

(٣) ينظر تفصيل طويل ، وعرض موسّع حول المهرة في «الشّامل» (٢٢ ـ ٢٤).

(٤) الفراهة : جودة السّير.

٥٦

ـ ومنها : جودة الخمر.

فقد جاء في مادة (بنى) من «التّاج» قوله [من الوافر] :

سبته معصر من حضرموت

بناة اللّحم جمّاء العظام (١)

 ـ ومنها : جدل النّوق (٢).

فقد جاء في آخر مادة (ثنى) من «التّاج» قول شاعر [من الطّويل] :

تلاعب مثنى حضرميّ كأنّه

تعمّج شيطان بذي خروع قفر (٣)

 ـ ومنها : جودة النّعال.

وهو الباب الواسع الّذي لا يضبطه عدّ ، ومنه ما سبق من قول كثيّر :

رأيت ثياب العصب مختلط السّدى

بنا وبهم والحضرميّ المخصّرا

وقوله أيضا [في «ديوانه» ٣٣٩ من الطّويل] :

لهم أزر حمر الحواشي يطونها

بأقدامهم في الحضرميّ الملسّن (٤)

وقول مروان بن أبي حفصة [من الطّويل] :

كما قاس نعلا حضرميّ فقدّها

على أختها لم يأن أن يتجرّدا

__________________

(١) يرحم الله المؤلّف ؛ فقد ظنّ أنّ (المعصر) الخمر ، وليس كذلك .. بل المعصر : الفتاة أوّل ما تحيض ، وكأنّ رحمها يعتصر.

ومنه قول عمر بن أبي ربيعة من الطّويل :

فكان مجنّي دون من كنت أتّقي

ثلاث شخوص كاعبان ومعصر

بناة اللحم : طيّبة رائحة اللّحم. جمّاء العظام : ليّنة كأن ليس لها عظام. والله أعلم.

(٢) الجدل : جمع جديل ، وهو حبل مفتول من أدم أو شعر ، يكون في عنق البعير أو النّاقة.

(٣) المثنى : زمام النّاقة. التّعمّج : التّلوّي في السّير والاعوجاج. شيطان : نوع من أنواع الحيّات.

الخروع : كلّ نبت ضعيف يتثنّى. والمعنى : أنّ ناقته تلاعب حبلها الّذي يشبه في تثنّيه الحيّة الّتي تطوف بين الزّرع الطّري. والله أعلم.

(٤) يطونها : يطؤونها.

٥٧

وقول حبيب [في «ديوانه» ٢ / ١٧ من الكامل] :

حذيت حذاء الحضرميّة أرهفت

وأجادها التّخصير والتّلسين (١)

وقول الرضيّ [في «ديوانه» ٢ / ١٧٧ من الوافر] :

وتمّ علاؤكم بي بعد نقص

تمام الحضرميّة بالقبال (٢)

وكما يضرب المثل بالسّيوف اليمانيّة .. فإنّ أهل اليمن يضربون المثل بالجنابي ؛ أي : الخناجر الحضرميّة ، ويتنافسون في اقتنائها ، ويتمدّحون بها في أشعارهم.

وسيأتي في وبار من آخر الكتاب مضرب المثل بنخيلها ، ولا جرم ؛ فإنّه كثير ، معتدل الحلاوة ، رقيق القشرة ، كثير اللّبّ ، رقيق النّوى .. فله أن يتفضّل بحقّ عن سائر التّمور (٣).

ونقلوا عن الصّاغانيّ أنّ ذا النّخيل يطلق على بقاع ؛ منها : واحد دوين حضرموت ، وهو المراد من قول أبي حرب الأعلم ، أحد بني عقيل ، أو ليلى الأخيليّة [من الرّجز]

نحن اللّذون صبّحوا الصّباحا

يوم النّخيل غارة ملحاحا

مذحج فاجتحناهم اجتياحا

ولم ندع لسارح مراحا

__________________

(١) حذيت : قيست. حذاء : قياس. أرهفت : لطفت ورقّت. التّلسين : خرط صدر النّعل ، وجعل شيء له يشبه اللّسان.

(٢) الحضرمية هنا : النعل. القبال : الزمام الذي بين الإصبع الوسطى والتي تليها.

(٣) وكذلك من الأمور التي اشتهرت بها حضرموت ما يلي : غزارة المياه وعذوبتها ؛ فإن مياه حضرموت الجوفية غزيرة ، وقد اكتشفت بها كميات كبيرة. وكما أن النفط اكتشف أيضا في وادي المسيلة بكميات تجارية كبيرة. وكذلك العسل الحضرمي ، الذي تغني شهرته عن التعريف به. واشتهار أهلها بعلم الفقه ، وخدمتهم لمذهب الإمام الشافعي مما لا يخفى على أحد. ودخول كثير من الأمم في الإسلام على أيدي علماء وتجار حضرموت الصالحين الدعاة إلى الله ، وهذا كالتاج على هامة كل حضرمي. وشهرة أهلها بالأمانة ، وحسن سياستهم للأمور ، ونجاحهم في أمور التجارة مع النزاهة والعصامية ؛ حتى إنّ بعضهم اليوم يعد من أغنى رجالات العالم.

٥٨

وذكر مذحج يؤكّد ذلك ؛ لأنّها بلادهم ، وفي [٦ / ٢٣] من «خزانة الأدب» عن ابن الأثير (١) : أنّ ذا النّخيل ـ بضمّ النّون وفتح الخاء ـ : عين قرب المدينة ، وأخرى قرب مكّة ، وموضع دوين حضرموت. ومثله في (ص ٥٠٧).

ومن قصيدة هائيّة لصخر بن العود الحضرميّ يذكرها النّحاة في ذكر لنخل حضرموت في قوله [في «الأغاني» ٢٢ / ٣٩ من الطّويل] :

تذكّرت كأسا إذ سمعت حمامة

بكت في ذرى نخل طوال جريدها (٢)

وروى الهمدانيّ : عن أبي الحسن الخزاعيّ ـ وكان يسكن بأرض نجد العليا ـ : أنّه أصاب النّاس أزمة شديدة ، فأقبلوا من نجد إلى مكّة ، وكان فيهم شاعر يقال له : الحزارة العامريّ ، فأنشد شعرا يذكر فيه ما كان من رحمة الله عندهم ، فقال التّهاميّون لشاعرهم أبي الجيّاش : قل مثله.

فأنشد شعرا ؛ منه [من الخفيف] :

سقيت حضرموت منها مع الأح

قاف ريّا وعلّت الأسعاء (٣)

طبّقت بالسّيول أبين حتّى

(لحجها) فهي والسّماء سواء (٤)

تنبيه : إنّما قلت سابقا : إنّ الأنسب في بيت قيس أن يقال : (بأقصى حضرموت) ؛ لأنّ أعلاها يقرب من نجد .. فلا يليق أن يكون غاية للبعد ، وعاصمة نجد : اليمامة الآتي ذكرها في حجر ، وكان اسمها جوّا في الزّمان الأوّل.

قال الأعشى من قصيدة عذبة يمدح هوذة بن عليّ بن ثمامة الحنفيّ [في «ديوانه» ٢٤١ من الطّويل] :

فلمّا أتت آطام جوّ وأهله

أنيخت فألقى رحلها في فنائكا

__________________

(١) لكنه غير ناقل عن ابن الأثير فيها.

(٢) كأس : اسم محبوبته ، واسمها كاملا : كأس بنت بجير بن جندب.

(٣) الأسعاء : اسم من أسماء مدينة الشحر ، وقد يخفف فيقال : لسعاء.

(٤) صفة جزيرة العرب (٣٣٣ ـ ٣٣٦).

٥٩

وقال من أخرى [في «ديوانه» ٣٢٣ من الوافر] :

عرفت اليوم من تيّا مقاما

بجوّ أو عرفت لها خياما

وقال أيضا يمدح هوذة ، ويذم الحارث بن وعلة [في «ديوانه» ٩٨ من الطّويل]

وإنّ امرأ قد زرته قبل هذه

بجوّ لخير منك نفسا ووالدا

ولمّا صلبت اليمامة على بابها .. سمّيت باسمها ، والّذي سمّاها بذلك الاسم : هو تبّع الحميريّ قاتل اليمامة ، وقال [من الطّويل] :

وقلنا فسمّوها اليمامة باسمها

وسرنا وقلنا لا نريد إقامة

واليمامة امرأة تبصر من ثلاث ، وحديثها مشهور ، وإليها الإشارة بقول أبي الطّيّب [في «العكبريّ» ٤ / ١٥ من الطّويل] :

وأبصر من زرقاء جوّ لأنّني

إذا نظرت عيناي شاءهما علمي (١)

وقبله يقول النّمر بن تولب [من الكامل] :

وفتاتهم عنز عشيّة أبصرت

من بعد مرأى في الفضاء ومسمع

قالت : أرى رجلا يقلّب نعله

أصلا وجوّ آمن لم ينزع

فكأنّ صالح أهل جوّ غدوة

صبحوا بذيفان السّمام المنقع

و (أصلا) : جمع أصيل. و (الذيفان) : أقتل السّموم.

وكانت بلد اليمامة لأمّتين ؛ إحداهما طسم بن لاوذ بن سام بن نوح ، والأخرى جديس بن عابر بن إرم بن سام بن نوح.

ومن قربها إلى نوح يضعف القول بأنّ الّذي أهلك جديسا حسّان بن تبّع ؛ لتأخّره ، والكلام منتشر في ذلك ، حتّى لقد قيل : إنّ هودا عليه السّلام من ولد إسماعيل ، وإنّه وعشيرته من عاد الثّانية ، وهو غير المعروف المشهور. قال ابن هشام : (وبعض أهل اليمن يقول : إنّ قحطان من ولد إسماعيل ، وإنّ إسماعيل أبو العرب كلّها).

__________________

(١) أبصر : معطوف بالنصب على البيت السابق. شاءهما : سبقهما. وللبيت روايات أخرى.

٦٠