إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

أو قول البحتريّ [في «ديوانه» ١ / ١٠٠ من الطّويل] :

فلا تذكرا عهد التّصابي فإنّه

تقضّى ـ ولم نشعر به ـ ذلك العصر

ومن خير ما في هذا الموضوع قول متمّم [من الطّويل] :

فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

وكنّا كندماني جذيمة برهة

من الدّهر حتّى قيل لن نتصدّعا

ولقد شهد بعض ذلك السّائح الباسقيّ ، فقال : (إنّي لأرثي لمن يفارق هذه الدّيار ، وأتصوّر أنّ حنينه يطول وبكاءه يدوم).

لكنّ الزّمان جفول ؛ فبينما هم في ظلّ عيش غفول .. إذ تضيّفت الشّمس للأفول ، ولم يبق إلّا القليل ، الّذي لا يروي الغليل.

يا منزلا أعنقت فيه الجنوب على

رسم محيل وشعب غير ملتئم

هرمت بعدي والرّبع الّذي أفلت

منه بدورك معذور على الهرم (١)

ولقد وصفته في يوم غام ضحاه ، وأرجف رعده برحاه ، وتخيّلت عهد الأشياخ ، فقلت من مطوّلة [من الخفيف] :

في رياض من النّخيل تلاقى ال

ماء فيها من السّما والسّواني

طبن مرأى ومسمعا ومذاقا

وخيالا بذكريات حسان

ملعب اللهو مسقط الرّأس مأوى ال

غيد من هاشم سباط البنان

سادة يملأ الزّمان سناهم

بهجة من فلانة وفلان

وأسعد ما شهدت من زمانه العام الّذي اخترف بقربه سيّدي وشيخي الأستاذ الأبرّ مسند الدّنيا : عيدروس بن عمر ، وهو عام (١٣٠٧ ه‍) ، فلقد عظمت تلك السّنة المنّة ، حتّى كأنّما استرقت الأيّام من الجنّة ، وكانوا أوّل الخريف في جدب ، فلمّا

__________________

(١) البيتان من البسيط ، وهما لأبي تمّام في «ديوانه» (٢ / ٩٣). أعنقت : سارت مسرعة. الرّسم : ما لصق بالأرض من آثار الدّيار. محيل : دارس.

٧٤١

أوى العلّامة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ إلى فراشه .. ذكر ما النّاس فيه ، فخفّ بلباس النّوم إلى الأستاذ يستشيره في الاستسقاء ، فاهتمّ الأستاذ وبات يلحّ على ربّه في الدّعاء ، فما كاد يبرق الفجر .. إلّا وقد جاءت السّيول ، وامتلأت الحقول ، ثمّ تتابعت حتّى لم يكن انجلاؤها إلّا بعد التّضرّع والابتهال ، فجاء موضع قول البوصيريّ :

 ... فاع

جب لغيث إقلاعه استسقاء

فكيف لا تفيض العبرات ، وتتصاعد الزّفرات ، لتلك الوجوه النّاضرة ، والأيّام الزّاهرة ، واللّيالي العاطرة.

أعزّاي ما أبقوا لعيني قرّة

ولا زوّدوا إلّا الحنين المرجّعا (١)

وكانوا على الأيّام ملهى ومطربا

فقد أصبحوا للقلب مبكى ومجزعا

فما أطول الرّثا ، ولا سيّما إذ لم يبق إلّا الغثا ، فجاء موضع قول الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» ٢ / ٢٦٢ من السّريع] :

كانوا صفاء الكأس ثمّ انجلوا

من البواقي عن قذى ثافل

ومن أواخر رثائي لأولئك قولي [من الطّويل] :

فكم في الحشا من موجعات لسادة

مناط الرّجا كانوا فغطّاهم الرّمل

جبال منيفات من المجد أصبحت

كأن لم تكن لو لا الأحاديث ـ من قبل

أمرّ لنا العيش الرّغيد فراقهم

وأثقلنا من بعد ما أوحشوا الحمل

ولو لا اعتصام بالّذي لم يكن لنا

نعيش فواقا بعد ما انقطع الوصل

ففي كلّ حين يأخذ البين غرّة

تذوب لها أكبادنا ثمّ لا نسلو

فأين المصابيح الّتي كان للهدى

بها في البلاد الشّأن والشّرف الجزل

وأين المراجيح المساميح والألى

بغرّاتهم يستدفع الشّرّ والأزل

__________________

(١) البيتان من الطّويل ، وهما للشريف الرضي في «ديوانه» (١ / ٦٣٩).

٧٤٢

وإن قصرت ذرعان قوم بحادث

تلقّاه من آرائهم كاهل عبل

تلذّ لنا أخبارهم وتذيبنا

فواعجبا منها تمرّ كما تحلو

يذكّرنيهم كلّ ممسى ومصبح

فما زال في خدّي لتذكارهم طلّ

ومن أواخر ما رأيت من بهجة القرن ونضارته : أنّني أصعد ذروة داري بعد المغرب سنة (١٣٥٥ ه‍) ، وهي سطح صغير قاصر الجدار ، يسافر الطّرف من ثلاث نواحيه ، إحاطة ثلثي الدّائرة ، كأنّها الكواكب المنتثرة ، والشّبّان أوزاع ، والفرح مخيّم على سائر البقاع ، فأستغرق في ذلك الجمال الباهر ، واللّذّة الّتي تحمي النّوم عن السّامر والسّاهر ، ثمّ عدت إلى مثل ذلك في سنة (١٣٦٣ ه‍) فكنت كما قال الرّضيّ [في «ديوانه» ١ / ٦٥٤ من الطّويل] :

نظرت الكثيب الأيمن اليوم نظرة

فردّت إليّ الطّرف يدمى ويدمع

إذ قد أدبر العيش ، وكرّ من الإدبار جيش ، وأديل النّور بالظّلام ، فلا سمر ولا غناء ولا سراج ولا كلام ، وكأنّما كلّ ذلك من الأحلام ، وما هو إلّا ببعض ما اكتسبوا ، ويعفو عن كثير والسّلام.

ولّى الزّمان وولّت الأيّام

فعلى المنازل والنزيل سلام (١)

ثمّ إنّي بعد أن خبت المصابيح ، وأوحشت السّطوح والمراويح .. هجرت الذرى ليلا ، وجعلت أتسنّمها غديات الخريف ، وأسرح النّظر من الجهات الثّلاث تاليا ما تعوّدته من الأوراد في الظّلّ الظّليل ، والجوّ البليل ، والرّيح العليل ، والفضاء الرّحب ، والهواء الطّلق الشبيه بنعيم الجنّة ، لا يمتاز به أحد ، وإنّما هو كجمال الأفلاك وأنوارها ، ما يكون منه عند هؤلاء .. يكون عند الآخرين ، ولهذا ينتفي التّحاسد عليه ؛ لأنّ النّاس مشاع فيه ، فأرى النّخيل الباسقة ، والقصور البيضاء الشّاهقة ، فأستغرق في النّعمة ، وأنبسط من البهجة ؛ إذ يظهر حينئذ ما يدهش العقل

__________________

(١) البيت من الكامل ، وهو للإمام عبد الله بن علوي الحداد في «ديوانه» (٤٧٤).

٧٤٣

ويخلب اللّبّ ، وينير الفكر وينعش الرّوح ، ويبعث الذّكريات الجميلة ، ويوحي بالمعاني النّبيلة ، فأكاد أخرج عن جلدي ، وأغيب عن نفسي ، وألامس العالم القدسي ، وأتأكّد أن ليس بين الأدعية وبين سماء القبول حجاب ، وأن قد انفتح من الخير بشهادة القشعريرة وهيمنة الروحنة كلّ باب ، لا أفضل ولا أجمل ولا أروع ولا أبدع عندي من ذلك .. إلّا مجالسة بالروضة الشّريفة تجاه القبر الأعظم ، وقعودي على بطحاء أمّ المناسك عشيّات الأشتية إزاء البيت المعمور ، ثمّ أنثني على كبدي خشية أن تقطّع ، وألوث بردي على صدري حذار أن يتفلّق.

فلو فلق الفؤاد شديد وجد

لهمّ سواد قلبي بانفلاقي (١)

وما أشدّ رقّتي لأولئك الّذين يتشتّتون في البلدان ، ويفارقون هذه الأوطان.

وارحمتا للغريب في البلد النّا

زح ماذا بنفسه صنعا (٢)

فارق أحبابه فما انتفعوا

بالعيش من بعده وما انتفعا

ولو أنّهم جمعوا قناطير الرّقين (٣) .. لما استعاضوا إلّا بتدارك اللّيالي اللّواتي بقين ، وماذا يفيدون وقد رضوا بالدّون ، وأبناؤهم يتامى ، وأزواجهم أيامى.

كم غادة في ظلام اللّيل باكية

على أليف لها يهوي به الطّلب (٤)

فالقلوب تنذاب ، والبين أكبر عذاب ، يبعث الشّجون ، ويكثر الدّجون ، ويشبه السّجون ، وما لي أرى الأحباب والأولاد يذهبون ثمّ لا يجيئون ، وقد قال القطب الحدّاد [في «ديوانه» ٩١ من البسيط] :

مشتّتون بأطراف البلاد على

رغم الأنوف كما تهواه حسّاد

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لأمية بن الأسكر كما في «خزانة الأدب» (٦ / ٢٠).

(٢) البيتان من المنسرح ، وهما لعلي بن الجهم.

(٣) الرّقين : الدراهم.

(٤) البيت من البسيط ، وهو لحافظ إبراهيم في «ديوانه» (١ / ٢٦٩).

٧٤٤

وقال قيس [ابن ذريح في «ديوانه» ٣٣ من الطّويل] :

رأيت مصيبات الزّمان بأسرها

سوى فرقة الأحباب هيّنة الخطب

وقال حبيب [في «ديوانه» ٢ / ٣١ من الكامل] :

لو جاء مرتاد المنيّة لم يجد

إلّا الفراق على النّفوس دليلا

وقال أبو الطّيّب [في «العكبريّ» ٣ / ١٦٣ من البسيط] :

لو لا مفارقة الأحباب ما وجدت

لها المنايا إلى أرواحنا سبلا

وممّا يزيد الأمر عقدة ، والشّوق وقدة : تذكّري قول الجدّ رضوان الله عليه وقد قابل سيئون في مرجعه من فسحة قضاها مع أصحاب له تحت حصاة بحضيض الجبل الشّرقيّ يسمّونها : (الرّضّه) فلقد ملأ صدره ، واستجهر نظره جمال سيئون وصفاؤها ، فقال : ما أحسن هذا المنظر .. وأطنب بوصفه لو لا تشوّشه بظلم يافع ، ثمّ لم يزل يفتل في الذّرى والغارب حتّى أخذ بالثّار ، وارتفع الحقّ وثار ، وأخذت المظالم في الاندثار ، فكيف لو شاهد جدّنا سيئون في ليالي سنة (١٣٥٤ ه‍) ، أو لو أشرف من ذروة دار مخترفي حتّى صبح اليوم .. إذن لرأى ما يملأ صدره نورا ، ويغمره سرورا ، هذا من جهة الجمال والشّارة ؛ إذ لم ير إذ ذاك حتّى معشاره ، وأمّا من جهة انحطاط العلم والدّين ، وظهور أمر الملحدين والمفسدين ، وتجهّم الدّهر الغاشم .. فلا نقول إلّا ما قال عبد المطّلب بن هاشم ، والله المسؤول أن يطوي البين ، ويقرّب الأين ، ويقرّ العين ، ويقضي الدّين.

فكلّ اللّيالي ليلة القدر إن دنت

كما كلّ أيّام اللّقا يوم جمعة (١)

وهو المؤمّل أن يعطينا وإيّاهم عطاء جزيلا ، ويردّهم إلينا مردّا جميلا يدخل تحت قول الوليد [بن عبيد البحتري في «ديوانه» ٢ / ٧٣ من الطّويل] :

ملأت يدي فاشتقت والشّوق عادة

لكلّ غريب زال عن يده الفقر

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لسلطان العاشقين في «ديوانه» (٨٠).

٧٤٥

فإنّ أهاليهم يحنّون إليهم حنين العشار ، وتهتزّ لهم منهم الأشعار والأبشار ، وتتحدّر مدامعهم عندما إليهم يشار ، ومع ذلك فإنّنا نعيذهم بالله من قول بشّار [من الطّويل] :

وأوبة مشتاق بغير دراهم

إلى أهله من أعظم الحدثان

ومما أمرى العيون ، وأشوى الجفون من كتاب سيّره جدّنا المحسن لأحبابه بجاوة من روضة العلوم إذ ذاك مسجد طه حينما أخذه الطّرب ، وملأه الأنس بالرّب ، يصف لهم ما يجنون من المعارف ، ويتمتّعون به في ظلّها الوارف ، يحدوهم لناديهم ، ويشوقهم لواديهم ، ولا بدّ أن يصيب مهزّهم ، ويطبق محزّهم ، ويسيل شؤونهم ، ويرعف عيونهم ، ولئن انتثر الجمان ، وانحطّ الزّمان .. فلا يزال حبّ الأوطان من الإيمان.

بلادي ـ وإن هانت مقاما ـ عزيزة

وأهلي وإن جاروا عليّ كرام (١)

وقال بعض من أغزاه عثمان وجمّره (٢) [من الطّويل] :

بلغنا إلى حلوان والقلب نازع

إلى أهل نجد أين حلوان من نجد

لجثجاث نجد حين يضربه النّدى

أحبّ وأشهى عندنا من جنى الورد (٣)

وغنّت حبابة بقول الأحوص (٤) [من الوافر] :

لعمري إنّني لأحبّ سلعا

ومن قد حلّ في أكناف سلع

حلفت بربّ مكّة والمصلّى

وأيدي السّابحات غداة جمع

لأنت على التّداني والتّنائي

أحبّ إليّ من بصري وسمعي

ثم تأوّهت آهة كادت تقضّب ضلوعها ، فقال لها الوليد : ما هذا؟ وأنا لو شئت حملت إليك سلعا حجرا حجرا ، فقالت : إنّما أحبّ المكان لأجل السّكّان ، وكان لها رباء بالمدينة.

__________________

(١) البيت من الطويل.

(٢) جمّره : حبسه في الثغر ومنعه عن العود إلى أهله.

(٣) الجثجاث : شجر أصفر ، مرّ ، طيب الريح.

(٤) القصة والأبيات في «الأغاني» (١٥ / ١٣٥).

٧٤٦

وقال أبو العلاء [في «سقط الزّند» ٢٣٣ من الطّويل] :

فيا وطني إن فاتني بك سابق

من الدّهر فلينعم لساكنك البال

وإن أستطع آتيك في الحشر زائرا

وهيهات ؛ لي يوم القيامة أشغال

وقال [في «سقط الزّند» ٢٤٧ من الطّويل] :

فيا برق ليس الكرخ داري وإنّما

رماني إليه الدّهر منذ ليالي

فهل فيك من ماء المعرّة قطرة

تبلّ بها ظمآن ليس بسالي

ولشدّ ما أوذي شيخنا العلّامة ابن شهاب في تريم ، ولكنّه لمّا كان كريم المنبت .. لم يسكن حنينه ، فضلا عن أن ينبتّ ، وقد بكى جماعة من شيوخ العلويّين لمّا أنشد بينهم قوله [في «ديوانه» : ١٨٦ ـ ١٨٧ من البسيط] :

يا أيّها الرّاكب الغادي إلى بلد

جرعاؤه خصبة المرعى وأبرقه

ناشدتك الله والودّ القديم إذا

ما بان من بان ذاك السّفح مورقه

أن تستهلّ صريخا بالتّحيّة عن

باك تكاد شؤون الدّمع تغرقه

بالهند ناء أخي وجد يحنّ إلى

أوطانه وسهام البين ترشقه

إلى العرانين من أقرانه وإلى

حديثهم عبرات الشّوق تخنقه

حصن الحوارث

هو ديار في شرقيّ القرن ، كان به أناس من الحوارث لهم ثروة وأعمال خيريّة ، منها مسجد بسيئون يقال له : مسجد الحومرة ، ثمّ اضمحلّوا وتشتّتت أمورهم ، وذهبت أموالهم ضحيّة الفوضويّة في حضرموت ، وخلفهم ناس من آل جعفر بن بدر العوينيّين يقال لهم : آل ريّس.

وحصل فيه فسوق كبير ، حتّى اشترى بعض دياره السّلطان منصور بن غالب ، وأجهز عليهم سوء عملهم ، فقلّوا.

وأخبرني الشّيخ امبارك بن جعفر القحوم بن سعد : أنّ الحومرة ترك امرأة وبنتا ،

٧٤٧

فأمّا البنت .. فتزوّجها ريّس بن عامر الملقّب بالصراح ، من آل سعيد ، وأمّا المرأة .. فلم تكد تحلّ حتّى تزوّجها عليّ بن عوض العوينيّ ، ثمّ تزاحموا على التّركة ، وكان ذلك في أواخر أيّام يافع ، ولم يشعر الصراح وهو في قصر الحومرة بحصن الحوارث .. إلّا وقد دخل عليه جماعة من آل جعفر بن بدر ، فواثبهم ، ولمّا كثروه .. تحاجزوا على أن يخرج بأهله مع الشرف العسكريّ ، وتخلّص منهم أيضا عبده المكين لديه وكان شجاعا لا يطاق واسمه ناصر ، ولمّا استقرّ بجعيمه واستولى آل جعفر بن بدر على حصن الحومرة وأمواله .. ركب الصراح اللّيل في عبديه ناصر وسالمين ونفر من آل سعيد ، وهجموا على دار البيتيّ ، وكان من جملة ما استولى عليه آل جعفر بن بدر من أموال الحومرة ، وكان فيه نحو ستّة فقتلوهم ، واحتلّوا الدّار ، ودامت المناوشات بينهم مدّة ، حدث في أثنائها أن سمع ناصر وسالمين بطلوع عليّ بن عوض العوينيّ من حصن الحومرة إلى سيئون في نفر من أصحابه ، فأخذوا عليهم الطّريق وناشبوهم الحرب وظفر آل عون بعد ذلك بواحد من آل سعيد فقتلوه ، وكان الصراح استولى على تركة عمّ له ، فرضي بعض أبناء عمّه ، وذهب الباقون إلى جفل ، وكان منهم محمّد بن عليّ بن عبود ، فسافر إلى باندوم ، وجمع له من المال ما يسّره الله ، ولمّا عاد إلى حضرموت بعد موت الصراح بدفيقه أيّام حربها .. قصد جفلا ، ووجد جعفر بن عليّ بن سعيد قد استولى على ماله بجعيمة بسبب أنّه تعهّد من بعض إخوانه ، فسار إلى القوز من سحيل جعيمه ، ومعه ناصر وسالمين عبيد الصراح ، فألفوا محمّد بن جعفر بن عليّ بن سعيد يحصد الزروع الذي في مال محمد بن علي بن عبود .. فانقضّ عليه ناصر وقدّ بطنه ، ولم يشتف غيظه بذلك .. فأرسل جماعة من أصحابه إلى قوز سحيل جعيمه فلم يغنوا شيئا ، فتبعهم هو بنفسه وناوش آل محمّد بن عليّ الحرب ، فخرجوا عليهم ، وقتل ناصر ، فجاء جماعة من آل سعيد ليحجزوا بينهم ، فلم يرض محمّد بن عليّ لما اشتدّ عليه من مصرع ناصر حتّى قال له أحدهم : أما علمت أنّ عامر بن سعيد يأكل جلجل في الكوت ، فرضي ، وكان الّذي أصاب ناصرا عليّ بن جعفر بن عليّ بن سعيد فوثب عامر بن سعيد فرآه ناصر وكان فيه رمق

٧٤٨

أمكنه به أن يستلّ خنجره ويوجر (١) به عامرا.

وقوله : (يأكل جلجل) كناية عجيبة عن دخول النّمل إلى فيه وهو مطروح بالكوت.

ثمّ عاد محمّد بن عليّ بن عبود إلى باندوم ، وكان مقصدا فيها للضّيفان ، وقد تلقّاني إلى المحطّة لمّا اجتزت باندوم سنة (١٣٣٠ ه‍) ، وبتّ عنده على أرغد عيش ، إلّا أنّه كان عنده ليلتئذ رجل من السّادة نفس عليّ تخصيصه بالمنزل والمبالغة في التّحفّي فقاتل الله الحسد الّذي لا يؤذي إلّا صاحبه.

وفي حدود سنة (١٣٢٦ ه‍) حضر بعض ورثة الحوارث فادّعى على السّيّد محمّد بن حامد بن عمر السّقّاف بحصّته من البير المسمّاة (الحضيره) في شمال حصن الحوارث إلى الجهة الشّرقية ، وكانت من جملة أموالهم فانتهت إلى السّيّد محمّد بن حامد فيما توزّع من تراثهم ، ولم يعدم المدّعي بيّنات كثيرة بأنّها ملك مورّثه إلى أن مات ، وكان على القضاء إذ ذاك سيّدي علويّ بن عبد الرّحمن السّقّاف ، وهو أخو السّيّد محمّد بن حامد من الأمّ ، فتوقّف عن الحكم في القضيّة خشية أن يحابي أخاه فلا يستوفي حقّ المدّعي بأجمعه ، فأمر السّلطان بنفوذ الطّرفين إلى تريم للتّحاكم عند قاضيها.

ولمّا هبّوا للسّير وأحضر المدّعي بيّناته وعرف السّيّد شيخ بن محمّد الحبشيّ حقّ المعرفة توجّه القضاء على السّيّد محمّد بن حامد ـ وكان له صديقا ومحبّا ـ أنقذ الموقف ، وطلب سحب المسألة من القضاء ، وتفويض الأمر إلى أربعة نفر هو أحدهم ، وأنا الثّاني ، والثّالث الأخ عبد الله بن حسين ، والرّابع هو السّيّد سقّاف بن عبد الله بن عمر شهيد الهدم ، فخلّصنا السّيّد محمّد بن حامد من الأحمال الفادحة الّتي لا محيص له عنها لو انبرم القضاء بشيء من الدّراهم حوالي الأربع مئة ريال عن حصّة ذلك الوارث من الحظيره ، وعمّا كان استغلّه السّيّد محمّد بن حامد من ثمراتها طوال السّنين ـ وبرضا الطّرفين تمّ استحلالها عن طيبة نفس ـ أبرمنا الصّلح على ذلك بعد الإقرار الصّريح بالعقد الصحيح ، ولو لم يكن إقرار .. لما صحّ الصّلحّ ، وبقي المدّعي على دعواه ، فسرّ به سيّدي العلّامة القاضي علويّ بن عبد الرّحمن سرورا كثيرا.

__________________

(١) يوجر : يطعن.

٧٤٩

وما أظنّ سعي الفاضل السّيّد شيخ بن محمّد الحبشيّ في ذلك الأمر إلّا عن إشارة أخيه العلّامة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ لأنّ السّيّد محمّد بن حامد من أخصّ تلاميذه ، وقد نشرت القضّية في جريدة الإصلاح الّتي كان يصدرها الشّيخ كرامة بلّدرم في سنغافورة لذلك العهد ، ولم يستطع أن يكذّبها أحد ببنت شفة ، على أنّه جاء عنها : هذا حاصل قضّية البيّر بتلطيف وتصغير. وكان ذلك من إنشاء العلّامة الجليل السّيّد محمّد بن عقيل.

وحصن الحوارث اليوم موضع لعسكر البادية الّذي تجلبه الحكومة الإنكليزيّة لتأمين الطّرق بأسفل حضرموت ، قد قلّ سكّانه قبل سكنى العسكر حتّى انتهوا إلى أقلّ من عشرين.

مريمه (١)

قال في «التّاج» : (مريمة ـ بكسر الرّاء ـ بلدة بحضرموت ، وبها سكن السّادة آل باعلويّ الآن) ، وفيه خطأ من جهتين :

الأولى : من جهة الضّبط ، فالرّاء فيها ساكنة ، والميمان والياء مفتوحات ـ كما عليه الاستعمال ـ وبذلك صرّح السّيّد عمر بن عبد الرّحمن صاحب الحمراء في كتابه «فتح الرّحيم الرّحمن».

والثّانية : قوله : (إنّها مسكن العلويّين الآن) مع أنّه لم يكن بها أحد منهم لعهده ، وإنّما كان بها منهم السّيّد أحمد بن علويّ بن عبد الرّحمن السّقّاف ، وله ابنان :

أحدهما : عمر (٢) ، وذرّيّته بدثينة.

والآخر : علويّ ، له ابنان :

__________________

(١) مريمه : تقع جنوب شرق سيئون ، وتبعد عنها نحو (٨ كم).

(٢) عمر هذا هو الملقب بالمكنون ، كما لقّب بنفس اللقب ابن عم أبيه السيد علوي بن عبد الله بن عبد الرحمن السقاف ، وآل مكنون لهم انتشار في الحامي والشحر ونواحيها ، ومنهم جماعة بالمكلا ، توفي عمر المكنون سنة (٩٧٤ ه‍) ، وهو صاحب الحوطة بالشعب بين مشطة وروغه ، وذريته من ابنه أحمد بن عمر المكنون.

٧٥٠

ـ أحدهما : عليّ ، وعقبه آل قيسيه (١) ، كانوا بسيئون ثمّ نجعوا إلى جاوة.

ـ والثّاني : عبد الرّحمن (٢) ، له ثلاثة أولاد :

أحدهم : أحمد ، توفّي بمريمه ، ودفن بتريم ، وعقبه آل أحمد بن علويّ بسيئون ، ومنهم : الشّيخ الصّالح شيخ بن سقّاف ، توفّي بسيئون سنة (١٣٢٢ ه‍) (٣) ، وله أولاد ؛ أكبرهم : جعفر ، كان على رئاسة العرب في فلمبان.

ومنهم : السّيّد حسين بن علويّ ، مثر متواضع ، يحسبه النّاس فقيرا ، ولطالما أراده السّيّد الشّهير عليّ بن محمّد الحبشيّ على تبديل داره وأثاثه ليكثر المجيء إليه والتّردّد عليه ؛ لأنّ بنته كانت تحت أحد أولاده فلم يفعل ، توفّي بسيئون حدود سنة (١٣٢٦ ه‍) ، وخلفه ولده محمّد على مثل حاله من التّواضع ، وزاد عليه بالعبادة ؛ فلقد أقام نحو أربعين سنة يحيي ثلث اللّيل الآخر كلّه بالتّهجّد. ويقال : إنّ له صدقات سريّة ، والله أعلم بذلك. توفّي سنة (١٣٦٠ ه‍) عن عمر يناهز الثمانين.

ومنهم : السّيّد هود بن أحمد السّقّاف ، له وجاهة عند آل كثير ، أكتسبها بإكرامهم وفتح داره لهم ، وبذله الجهد في مداراتهم وإرضاء من يغضب عليه منهم ـ والمتعزّز بهم ذليل ـ فمرّت حياته معهم في عناء ، وأشدّ منه محاولته إخفاء إساءاتهم وتجنّيهم عليه ، وإن كان الاثنان منهم أو من عبيد الدّولة ليتواضعان على أن يدّعي أحدهما على الآخر بشيء ؛ فيترافعان إليه ؛ فيصلح بينهم ، ويتحمّل المبلغ .. فيقتسمانه. توفّي بسيئون سنة (١٣٥٢ ه‍).

والثّاني : علويّ (٤) ، عقبه بالهند وجفل وسيئون.

__________________

(١) آل قيسيه (من الأمر قيسي) وهم ذرية السيد علي بن علوي بن أحمد بن علوي المذكور هنا ، وهم بجاوة ، ومنهم السادة آل المعلم عبده بسيئون وسمارانغ.

(٢) ويعرف بالمفقود.

(٣) هو السيد شيخ بن سقاف ـ الملقب فرقز ـ ابن أحمد بن عبد الله بن علوي بن عبد الله بن أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن علوي بن أحمد صاحب (مريمه). ولد بسيئون سنة (١٢٥١ ه‍) ، وتوفي بها في (٢٠) جمادى الأولى (١٣٢٢ ه‍).

(٤) توفي بتريم وقبر شرقيّ العيدروس.

٧٥١

والثّالث : شيخ المجذوب ، عقبه بحوطة الزّبيديّ ، كذا في «شمس الظّهيرة» ، ولكنّه لا ذكر لهم الآن بالحوطة ، فلعلّهم تحوّلوا ، أو انقرضوا ؛ فما بالحوطة الآن نافخ نار من العلويّين.

وممّن تديّر مريمه : العلّامة السّيّد يوسف بن عابد الحسنيّ الفاسيّ (١) ، جاء في أواخر أيّام سيّدنا الشّيخ أبي بكر بن سالم وأخذ عنه ، وسكن مريمه ، وكان يتردّد بينها وبين الحزمة بمأرب ، وله في كلّ أهل.

وفي سنة (٩٩٣ ه‍) اقترن ببنت أحمد بن عمر بن عبد الله بن عليّ بن عمر الحارثيّ ، قال : وحضر عقد النّكاح جماعة من العلويّين ، منهم : الشّيخ أحمد بن محمّد الحبشيّ ، وجماعة من الفقراء الزّبدة أهل الرّباط (٢) ، وكثير من بني حارثة (٣).

ثمّ تزوّج على ابنة عمّ هذه كما فصّل ذلك في «رحلته» (٤).

وكان تولّى القضاء بمريمه ، وكان يزوّج الشّرائف من غير الأكفاء فلا ينكر عليه.

وجاء في «مجموع الأجداد : طه بن عمر وعليّ بن عمر» ، عن الفقيه عبد الرّحمن بن أحمد حنبل (٥) ، قال : (لمّا طلب السّلطان عبد الله الزّواج من بنت

__________________

(١) ولد السيد يوسف سنة (٩٦٥ ه‍) أو (٩٦٦ ه‍) بالمغرب ، ببلدة الفيضة بالفاء أو الغين ، من بلاد أنقاد الواقعة بين فاس وتلمسان التي فيها جبال زناته. وكان والده مات سنة (٩٧٥ ه‍) وهو في نحو العاشرة ، فدخل فاس واجتمع بسلطانها مولاي إسماعيل العلوي ، وبعدها هاجر وطوف كثيرا من البلدان ، وكان وصوله عينات واجتماعه بالشيخ أبي بكر في (١٢) ربيع الثاني سنة (٩٩٢ ه‍) ، وكانت وفاته بمريمه سنة (١٠٤٨ ه‍).

وله عقب كثير ؛ إذ تزوج مرارا ، وبلغ عدد زوجاته اللاتي دخل بهن بحضرموت فقط سبع زوجات من عدة نواحي.

وعرفت ذريته بآل بن يوسف ، وآل الحسني ـ بسكون السين ـ وآل مشهور.

(٢) الرباط : يقصد به رباط الشيخة سلطانة ، الآتي ذكره عقب مريمه.

(٣) وحضر هذا النكاح من الأعيان أيضا : الشيخ عبد القادر بن إبراهيم باكثير ، والشيخ عبد الله بن عمر باجمال ، والفقيه محمد بن عبد الرحمن سراج باجمال ، والشيخ نادر باحميد ، وعبد الكبير باحميد ، ومحمد بن عبد الرؤوف باحميد .. إلخ. «الرحلة» (ص ١٠٩).

(٤) وهي الرحلة التي دوّن أحداثها سنة (١٠٣٦ ه‍) ، وتعرف باسم «رحلة يوسف بن عابد».

(٥) آل حنبل هؤلاء من آل بارجاء ، ولهم مسجد يعرف بمسجد حنبل بسيئون ، ومنهم الشيخ الفاضل

٧٥٢

الملكانيّ وأحد أخويها غائب .. قلت له : لا يجوز إلّا بالتّقليد. فأمر به ، فعقدت له.

ثمّ اجتمعت بالسّيّد يوسف بن عابد ، فقال لي : عقدت للسّلطان؟ قلت : نعم.

قال : أصبت ، هو مذهب مالك. وقال لي : إنّ السّيّد عبد الرّحمن بن شهاب أرسل إليّ بشريفة وليّها غائب فزوّجتها من باحنّان من غير ضرورة. وذكر والدي أنّ الشّيخ أبا بكر بن عبد الله العيدروس العدنيّ خرج إلى تريم فزوّج الشّرائف من آل بافضل) اه

وقول السّيّد يوسف بن عابد : (أصبت هو مذهب مالك) أي : بقطع النّظر عن أمر السّلطان بتقليده ، أمّا مع أمره به .. فيصير مذهبا للشّافعيّ ، كما قرّره ابن حجر وبامخرمة في «فتاويهما».

وقد مرّ في حوره أنّ آل الملكاني ـ بفتحات ـ من مسلمة الرّوم ، وما أدري ما سبب انحطاط السّلطان عنهم في الكفاءة حتّى لم يصحّ اقترانه ببنتهم إلّا بالتّقليد.

ثمّ عرفت أنّ آل الملكاني سادة كانوا بسيئون من بني الحسن بن عليّ ، ومنهم الشّريفة علويّة بنت حسين الملكانيّ الحسنيّ ، لها ذكر في أدعية مسجد الجدّ طه بن عمر لمن تصدّق عليه.

وفي النّسخ الصّحيحة من «مجموع الجدّ» أنّ السّلطان عبد الله طلب الزّواج من بنت الملطاني بالطّاء لا بالكاف ، وبهذا ينكشف الإشكال.

وفي الحكاية (٣٨٠) من «الجوهر الشّفّاف» [٢ / ١٣٢] : (أنّ يمانيّ بن فاضل مرّ هو وأخوه فتفرّس الشّيخ أبو بكر السّكران المتوفّى سنة (٨٢١ ه‍) أنّ يمانيّ سيلحق الأذى بأبيه ظلما ، فلمّا كان بعد سنين .. اعتدى على أبيه فاضل وأخرجه من مريمه ، وبقي هو عليها إلى أن مات أبوه) اه

__________________

النساخ شيخ بن عبد الله بن حنبل بارجاء ، من مجالسي المؤلف ، ونسخ له بعض مؤلفاته ، كان حيا سنة (١٣٦٢ ه‍).

٧٥٣

ومنه تعرف أنّ دولة مريمه كانت للحوارث ؛ لأنّ هؤلاء كانوا منهم ، ويتأكّد ذلك بما ذكره «شنبل» في أخبار سنة (٩١٤ ه‍) أنّ : (مجلّب بن عقيل الأظلفيّ تسوّر على السّلطان محمّد بن جعفر بن عبد الله بن عليّ الكثيريّ ليلة النّصف من صفر من تلك السّنة وهو بمصنعة مريمه ، فقتله وهو راقد بجانب زوجته بنت محمّد بن جميل الحارثيّ) اه

وما كان السّلطان متملّكا على مريمه وإنّما جاءها زائرا ، وبلغني أنّ بعض سلاطين آل كثير حاصر الحارثيّ بمصنعة مريمه سنة ، ثمّ ولدت للكثيريّ فرس بعد انتهاء السّنة ، فأدلى له حزمة من القضب من رأس المصنعة (١) ، فقال : (من لا يعوزه القضب مع هذا الحصار .. فلن يعوزه غيره) فارتحل عنه.

وآثار النّقب في أسافل هذه القارة ظاهرة إلى اليوم ، وكأنّ ذلك المحاصر أو غيره أرادوا حفرها ليمنعوه الماء فلم يقدروا.

وبلغنا عن بعض المشايخ : أنّ القطب الحدّاد زار بعض صلحاء مريمه وكان مقعدا ، وسأله أن يدعو له بحسن الخاتمة ، فحمي الشّيخ وأخذه حال واهتزّ ، وقال : حولها ندندن ، وأنشأ الرّجل يقول [من المجتثّ] :

قد استعنتك ربّي

على مداواة قلبي

وحلّ عقدة كربي

فاختم بالايمان الاجال (٢)

وأخذته حالة شريفة جرى من حرارتها في عروقه الدّم ، وقام سويّا كأن لم يكن به ألم ، وقد استحسن القطب الحدّاد هذا الكلام فأدرجه في قصيدة له بناها عليه ، وبعض هذه القصّة موجود في «كلام سيّدنا عمر بن حسن الحدّاد».

ولم تزل ذرّيّة السّيّد يوسف بن عابد بمريمه إلى الآن.

ومنهم : السّيّد حسين بن محمّد بن عبد الله بن شيخ بن إبراهيم الحسني ، المتوفّى بها سنة (١٣٤٠ ه‍) ، وكان مكثرا من البنين والبنات ، له منهم فوق الخمسين ،

__________________

(١) القضب : البرسيم (دارجة).

(٢) انظر البيتين والقصة في «ديوان الإمام الحدّاد» (٤٤١ ـ ٤٤٥).

٧٥٤

ولكن لم يبارك الله فيهم ولا في أعقابهم ، وكان بينهم وبين بعض المشايخ الزّبيديّين آل الحوطة نزاع وضراب ، حتّى لقد شجّوا مرّة رأس السّيّد حسين بن محمّد الحسنيّ هذا ، وتمغثوه ، فلم يثأر له أولاده على وفرة عددهم وقوّة أجسام بعضهم ، ولم تغنه كثرتهم.

ومن ذرّيّة السّيّد يوسف بن عابد : العارف الكامل والسّالك الواصل يوسف بن عبد الله الفاسيّ ، وقد انتقل من مريمه إلى سيئون وتديّرها. أثنى عليه سيّدي الأستاذ الأبرّ في (ص ٥٨ ج ٢) من «عقده» ثناء جميلا.

وفي كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط أنّه أفضل من الأوّل ، ومن أعقابه بسيئون : الشّهم الجواد السّيّد عبد الله بن علويّ المشهور ، سكن سيئون وكانت له ثروة ينفق منها في سبيل الخيرات بسرور نفس ، وطيبة خاطر ، يصحّ فيه قول ابن جدّه الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» ٢ / ٤٠٣ من الطّويل] :

كثير ارتياح القلب في عقب جوده

إذا جائد ألقى يدا في التّندّم

توفّي بسيئون سنة (١٣٢٩ ه‍) ، وترك ولدين لم يحسنا سياسة تلك الثّروة ، ثمّ تأكّلها القضاة والأوصياء ، فاضمحلّت أو كادت.

وقد مرّ قبيل القطن أنّ إمارة مريمه كانت لبني بكر من يافع ، ثمّ أجلتهم الدّولة منها في سنة (١٢٨٤ ه‍) ، واستولت على أموالهم بها ، وكانت لهم ذمّة من آل زيمة الكثيريّين فلم تبال بهم ، وعيّرهم النّاس حتّى الصّبيان فصبروا.

وفي شمال تربة مريمة كان مدفن السّلطان عبد الله بن راشد (١) ؛ لأنّه كان قتل على مقربة منها.

__________________

(١) السلطان الصالح العالم عبد الله بن راشد بن شجعنه بن فهد بن أحمد بن قحطان .. ولد سنة (٥٥٣ ه‍) ، وتوفي مقتولا سنة (٦١٦ ه‍) ، ولي الحكم عام (٥٩٣ ه‍) عقب مقتل أخيه شجعنه.

وكان عصره أحسن عصور حضرموت التاريخية ؛ إذ كان فقيها محدثا عالما ، طلب العلم بمكة وغيرها ، فجمع الحديث على ابن أبي الصيف والحافظ عبد الغني المقدسي والحافظ ابن عساكر ، وقرأ «صحيح البخاري» على الفقيه محمد بن أحمد بن أبي النعمان الهجريني .. وإليه ينسب وادي حضرموت ، ويقال : وادي ابن راشد. ينظر : «الأدوار» (١١٠) ، «الحامد» (٢ / ٤١١).

٧٥٥

وبين مريمه هذه ومريمه الشّرقيّة : قارة فاردة عالية الذّروة ، وفيها بئر عذبة ، وهي الّتي كانت عليها مصنعة مريمة السّابقة الذّكر.

ولا تزال آثار مريمة الشّرقيّة ظاهرة ولكنّها كلّها غامرة ، وهي إسلاميّة ، وفيها عدّة مساجد.

وكانت مدينة كبرى في سابق الأيّام ، ولا أدري من هدمها. وسيأتي في قارة العر أنّ عمر بن مهديّ أعاد بناء العرّ حوالي سنة (٦١٩ ه‍) ، فيحتمل أن يكون الّذي هدم العرّ هو الّذي هدم مريمه الشّرقيّة ، ويحتمل غير ذلك.

وفي مريمة ناس من آل باجبير ، فيهم علماء ؛ منهم : شيخ صاحب «المشرع» بتريم الشّيخ محمّد بن أحمد باجبير.

وفي سنة (١٣٢١ ه‍) هجم العوامر على مريمه ، واستولوا عليها ، ونهبوا ما فيها ، ثمّ تقدّموا إلى منتصف الطّريق بينها وبين القرن فلاقتهم عبيد الدّولة أثناء الطّريق ، والتحم القتال بينهم ، ولكنّ العوامر كاثروا العبيد وأحاطوا بهم ، ولو لا أنّ الله أدركهم بالمنصب السّيّد عيدروس بن عبد القادر العيدروس ـ حداثة وفاة أبيه ـ فحجز بينهم .. لا ستأصلوهم قتلا.

جذع

هو اسم لعدّ ماء (١) لا يزول شتاء ولا صيفا في أثناء جبل عن جنوب مريمه ، يمتدّ طولا ينهر إليه بعض ماء الجبال الّتي تدفع إلى تاربه ويثمه وشحوح.

وتشرع منه مجاري ماء مجصّصة لا تزال آثارها ظاهرة تدلّ على أنّ ماءه كان جاريا يسقي النّخيل والمزارع الّتي حواليه ، والناس يقصدون ذلك المكان للاغتسال والتنزه فيه.

وفي «فتح الرّحيم الرّحمن» : (أنّ السّيّد عبد الله بن أبي بكر العيدروس دخل

__________________

(١) الماء العدّ : الذي يجري بدون انقطاع.

٧٥٦

هو وجماعة من أهل مريمه غديرا يغتسلون فيه ، فقال لهم الشّيخ : هلمّوا نتغاطس) اه

وما أظنّه إلّا هذا الغدير.

وبه ذكرت ما جاء في (ص ٢٠٩) من «القرى لقاصد أم القرى» : أنّ عاصم بن عمر وعبد الرّحمن بن زيد تماقلا في البحر وهما محرمان ، يغيّب كلّ واحد منهما رأس صاحبه ، وعمر رضي الله عنه جالس على شاطىء البحر لا ينكر ذلك. أخرجه أبو ذرّ الهرويّ بلفظه ، والشّافعيّ بمعناه (١) ، ومعنى : تماقلا : تغاطسا كما فسّر به في السّياق.

حوطة سلطانة (٢)

بين مريمه الشّرقيّة وقارة العر فضاء فيه نخيل ، وله واد مخصوص ، سكن فيه آل الزبيديّ ، ثمّ اشتهر بحوطة سلطانة بنت عليّ الزّبيديّ ، وهي من أكابر الصّالحين ، لها عبادات وأحوال تشبه أحوال رابعة العدويّة.

قيل : إنّ بعض أهل الفضل قال لها : (والبكرة يومها ناقه تماري الجمال).

فقالت : (الحمل بالحمل والزايد لبن والعيال) قال الشّيخ محمّد بن أبي بكر عبّاد في «ترجمته» للشّيخ عبد الله بن محمّد القديم (٣) : (كان الشّيخ عمر الزّبيديّ الحارثيّ من الصّالحين ، وكانت له أخت اسمها سلطانة ، لها أحوال عظيمة ، وقد تحكّمت للشّيخ محمّد بن عبد الله القديم هي وإخوانها ورجعوا عن طريق العوامّ ، وكان الشّيخ عبد الرّحمن السّقّاف وأولاده أبو بكر وعمر يزورونها ، وقد بنت رباطا بالعرّ) اه

ومنه يتأكّد ما ارتأيناه في مريمه الشّرقيّة من أنّ العرّ اسم شامل لذلك الفضاء بأسره ، وأنّ القارة ليست إلّا منسوبة إليه.

__________________

(١) انظر : «الأم» (٢ / ٢٠٥).

(٢) الشيخة سلطانة إحدى كبريات وشهيرات النساء بحضرموت ، بلغت جاها وعلما وصلاحا شهد به القريب والبعيد.

(٣) المسماة : «المنهاج القويم» (خ).

٧٥٧

ولرباط الشّيخة سلطانة ذكر كثير في كتب التّراجم الحضرميّة (١).

أمّا كون الشّيخة سلطانة تحكّمت هي وأخوها للشّيخ محمّد باعبّاد .. فلا يخالفه ما جاء في «مفتاح السّعادة والخير» لمؤلّف صاحب «القلائد» من قوله : (أخبرني من أعرفه وأشكّ في عينه ، وأظنّه عليّ بن عثمان الزّبيديّ : أنّ سبب رجوع جدّهم عمر الزّبيديّ عن طريق الجهالة إلى طريق الفقر أنّه كمن ومعه غيره بطريق كحلان ، فمرّ بهم بعير للفقيه محمّد بن حكم باقشير ، فأخذوه ولم يعرفوا أنّه له ، فأخبر الشّيخ محمّد بن حكم بذلك ، فقال : إن كان أخذوه من حاجة وفاقة .. تاب الله عليهم. وكذلك كان ، فحصل له رجوع صادق وتاب في الحال) اه لأنّه لو جاء إلى الشّيخ محمّد بن حكم وتاب على يده ، وتحكّم له .. لذكر ذلك ، ولكنّه لم يذهب إلّا إلى عند الشّيخ محمّد بن عبد الله باعبّاد بشبام ، مع أنّ التّوبة لا تصحّ إلّا بالاستحلال وردّ المظلمة ، وكيف يقبله الشّيخ محمّد باعبّاد من دونها ، ولعلّه لم يعلم بذلك ، أو لعلّه بلغه أنّ الشّيخ محمّد بن حكم حلّله ، غير أنّ التّحليل المذكور في كلام باقشير لم يستوف الشّرائط. والله أعلم.

وكان للسّيّد الفاضل ، الكثير الإحسان ، طه بن عبد القادر بن عمر السّقّاف (٢) ، المتوفّى بسيئون في سنة (١٣٢٠ ه‍) تعلّق كثير بحوطة سلطانة وتردّد إليها ، وقد ابتنى بها دارا واسعة للمنصب هي الّتي يسكنها الآن. وأكثر نفقاتها ممّا كان يرسله إليه الشّيخ زين بن عبد القادر بن أحمد بن عمر الزّبيديّ أخو المنصب لذلك العهد ـ الشّيخ كرامة بن عبد القادر ـ وكان الشّيخ زين هذا وقف حياته على خدمة الحبيب طه بن عبد القادر .. فكان يسافر السّفرات الطّويلة إلى جاوة ، وكلّما عاد .. دفع جميع

__________________

(١) في «الأدوار» (٣١٠): (وللشيخة سلطانة رباط تردد ذكره في بعض الكتب والأمالي الحضرمية ، بنته بالعر وهو العراء الممتد شرقي مريمه إلى نهاية حوطتها.

ولكن تلك الكتب لم تشرح لنا شيئا عن الرباط المذكور ولا عن مريديه ولا عن العلوم التي تدرّس فيه ، وهل تباشر هي بنفسها تطبيق شيء من الرياضات أو الدروس فيه أم هو أشبه بخان صوفية لتنزيل الضيوف منهم ومن أتباعهم فيه ، ولعل هذا هو الأقرب) اه

(٢) ترجمته في «التلخيص» (٢٨).

٧٥٨

ما يأتي به من المال للحبيب طه. وكان هذا السّيّد آية من آيات الله في رقّة القلب ، والانفعال عند سماع القرآن ، وكان مطبوعا على الجود ، حتّى إنّه ليستدين ويتصدّق ، إلى أن بلغ دينه يوم مات خمسة عشر ألفا من الرّيالات ، لم ينفقه إلّا في هذه السّبيل ، فقضاه الله لصحّة قصده وإخلاص نيّته (١).

وولده أبو بكر بن طه (٢) من أهل العلم والأدب ، والشّهامة والفضل ، وهو الآن منذ زمان بسنغافورة ، وله بها ابن ذكيّ نبيه ، يحرّر صحيفة عربيّة تظهر تارة وتغيب أخرى (٣).

وللزّبدة بلدان كثيرة ذاهبة في الوادي حفافي مسيال عدم ، ما بين ساه والغرف ومسيلة آل شيخ ؛ منها : الرّدود ، وسونه ، وتمران ، وشريوف.

وللشّيخ سعيد بن محمّد الزّبيديّ نهضة أخضع بها آل جابر وآل تميم ، وحرّر بها بيت مسلمة من أخذ الشّراحة منه بدون رضى من أرباب الأموال ، وكانت تلك النّهضة في حدود سنة (١٢٣٠ ه‍) ، وقد استوفيناها ب «الأصل».

ومنصب الزّبدة اليوم العامّ هو : الشّيخ محمّد بن كرامة الزّبيديّ ، من أكثر المناصب رمادا ، وأوسعهم صدرا ، وأكثرهم ضيفانا ، وهو من التّواضع في الاعتبار الأوّل ، لا تدلّ عليه هيئته الرّثّة ، ولا يعرف إلّا بالتّعريف ، وقد لدغته حيّة يعاوده سمّها في كثير من الأوقات ، كما قال شاعر المعرّة [في «سقط الزند» ١٦١ من الوافر] :

ومن تعلق به حمة الأفاعي

يعش ـ إن فاته أجل ـ عليلا

__________________

(١) كان قضاء دينه على يد ربيبه السيد محمد بن عبد الله بن جعفر بن شيخ بن عبد الرحمن بن سقاف.

«التلخيص» (٢٩).

(٢) مولده بسيئون ، ووفاته بسنغافورة سنة (١٣٧٥ ه‍) ، وعند تأسيس مدرسة النهضة بسيئون على يد السيد سقاف بن محمد بن عبد الرحمن بن علوي السقاف سنة (١٣٣٩ ه‍) .. قام بمساعدته فيها ..

رحم الله الجميع.

(٣) وهو السيد الأديب الفاضل طه بن أبي بكر بن طه. ولد بسيئون ، ودرس بمدرسة النهضة ، ثم هاجر إلى إندونيسيا وسنغافورة ، وعمل بها تارة مدرسا وتارة مديرا لبعض المدارس ، ثم أصدر صحيفتين عربيتين ، فيهما مرتع خصب للباحثين والكتاب.

٧٥٩

ومن فحول الزّبدة : الشّيخ أبو بكر بن سعيد الزّبيديّ ، ممدوح شيخنا العلّامة ابن شهاب. وهو صاحب القصّة السّابقة في شبام وإلى رأيه يرجع كثير من العظماء عند المهمّات.

ومنهم : الولد النّجيب عبد الله بن أبي بكر بن أحمد الزّبيديّ.

ومرجعهم في النّسب إلى مذحج ، وقيل : إلى بني أميّة ، ويؤكّده أنّهم يتّفقون مع آل سند ، وقد مرّ في الدّحقه الّتي إلى جنب الحزم : أنّهم من بني أميّة.

ومن النّاس من ينسب بني حارثة إلى كندة ، والزّبدة مصفقون على أنّهم من بني أميّة ، والنّاس مأمونون على أنسابهم.

قارة الحبوظيّ وقارة العرّ (١)

ـ أمّا قارة الحبوظيّ : ففي سفح الجبل الشّماليّ ، غربيّ صليلة ، وشرقيّ حصون آل الصّقير. وفيها آثار عمارات قديمة ، وبئر في أعلاها.

والحبوظيّ هو : صاحب ظفار ، وقد استولى على حضرموت بأسرها في سنة (٦٧٣ ه‍) ، وله بها آثار ومنازل كثيرة للضّيفان ، وصدقات جمّة تكرّر ذكرها في أعالي حضرموت (٢) ، وأمّا في أسفلها .. فذكرها قليل إذا استثنينا : مسجد الحبوظيّ بتريم (٣) ، وهذه القارة ، ومكانا آخر بين العجز وتريم.

وما قلّة ذكر صدقات الحبوظيّ بأسفل حضرموت ـ فيما أراه ـ إلّا لكثرة خيانة النّظّار به أكثر ممّا بأعلاها.

وبنو حارثة ينقسمون إلى فرقتين :

الأولى : بنو حارثة الحبوظيّ ، وسكناهم بهذه القارة وما يليها من الدّيار ،

__________________

(١) العر ـ تضبط بعين وراء مهملتين ـ : وهي غير حصن العز بالعين المهملة والزاي المعجمة الآتي ذكره قبيل تريم ، فليعلم ؛ فإن هذه قارة وذاك حصن.

(٢) في وادي عمد ونواحيه.

(٣) وهو الكائن في حافة السوق قريبا من الجامع.

٧٦٠