إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

وله هيبة في الصّدور ، توفّي سنة (١٣٠٩ ه‍) ، وكان ولده العالم النّاسك المتبتّل عبد الله بن عليّ غائبا بجاوة ، ولكنّه وصل على وشك انقضاء أجل أبيه ، ثمّ عاد إلى جاوة سريعا ، فكأنّما كان على ميعاد من موت والده ، ولمّا فرغ من أمره .. انقلب على إثره.

وقد أحضرني عليه والدي في قدمته تلك فقرأت عليه ، وألبسني ، وشابكني ، وأجازني ، كما قد استجاز لي من والده عليّ بن حسن ، واجتمعت به ـ أعني الحبيب عبد الله ـ بمنزله في جاوة أوائل سنة (١٣٣٠ ه‍) ، وكان صادعا بالحقّ ، شديدا على أهل الجاه والرّئاسة من العلويّين ، وطالما احتجب عنهم وردّهم عن بابه ، توفّي ببانقيل من أرض جاوة في سنة (١٣٣١ ه‍).

وأمّا الّذي خلف على المنصب بعد السّيّد عليّ بن حسن الحدّاد .. فهو السّيّد عبد القادر بن أحمد بن عبد الرّحمن بن أحمد بن حسن بن القطب الحدّاد ، وكان شهما فاضلا عالي الهمّة قويّ النّفس ، توفّي بخلع راشد في القعدة من سنة (١٣١٣ ه‍).

وخلفه الحبيب حسن بن عمر بن حسن بن عبد الله بن أحمد بن حسن بن القطب الحدّاد ، وكان أبيض القلب ، كثير التّواضع ، صادق الإخاء لوالدي ، توفّي في القعدة من سنة (١٣٢٢ ه‍).

وخلفه ولده عليّ بن حسن ، وكان شهما كريما ، فحصلت عليه أذيّة من آل تريم ، فركب إلى جاوة ، وكان آخر العهد به.

وخلفه على المنصب أخوه عبد القادر بن حسن ، وتوفّي في محرّم من سنة (١٣٥٢ ه‍).

وخلفه السّيّد عبد الله بن محمّد بن أبي بكر بن محمّد الحدّاد ، وتوفّي في جمادى الآخرة سنة (١٣٥٣ ه‍).

وخلفه السّيّد عيسى بن عبد القادر بن أحمد بن عبد الرّحمن بن أحمد الحدّاد إلى أن توفّي في رجب من سنة (١٣٥٤ ه‍).

٩٤١

وخلفه أخوه عبد الله ، ثمّ تنازع هو وأبناء أخيه عيسى ، فانفصل عن المنصب وابتنى له دارا في غربيّ خلع راشد ، غرس حولها كثيرا من النّخل وتديّرها مع تردّده إلى الحاوي بتريم.

وخلفه على المنصب الولد حسن بن عليّ بن حسن بن عمر بن حسن الحدّاد ، فهو الّذي عليه اليوم ، ولكنّه مضغوط عليه كسائر المناصب بسبب اشتداد ركن الدّولة الكثيريّة بالإنكليز.

وفي الحاوي جماعة من آل باسالم ، قال الحبيب عمر بن حسن : (كان جدّ عمر بن عبد الله جدّ آل باسالم من المغرب يكاتب الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد ، ثمّ وصل حضرموت وتزوّج بها. وآل باسالم تطول أعمارهم زائدا على النّاس).

ومن كلام الحبيب عمر بن حسن أيضا : (أنّ الحبيب عبد الله الحدّاد عنده ستّة أولاد ، يلازمه منهم اثنان أو ثلاثة ، والباقون يسكن بعضهم الحاوي ، وبعضهم بقي بتريم ، وهو يترك حبالهم على غواربهم ، فيسافرون حيث شاؤوا ، وأكبرهم محمّد. وكلّ من تزوّج من أولاد الحبيب عبد الله .. بنى له دارا لا تصل نفقتها إلى عشرين ريالا ، ويقول له : اسكنها ، وهو يواسيهم) اه

وكذلك كان سيّدي الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر ، إذا زوّج أحد أولاده .. أفرده بدار وأعطاه بقرة وحمارا وسائر آلات الحرث ونفقة خمسة أشهر ، وقال له : أنت بالخيار ؛ إن شئت .. جعلتني أبا ، وإن شئت .. جعلتني أخا ، وإن شئت .. جعلتني كواحد من المسلمين.

وكان الحبيب عمر بن حسن الحدّاد من خيار العلويّين وصلحائهم ، وكان كآبائه وأقربائه يسكن الحاوي ، ثمّ حدث بينه وبين المنصب الحبيب عليّ بن حسن بن حسين شجار على خادمة منعها الحبيب عليّ عن الخدمة في بيت الحبيب عمر ، فانتقل إلى نويدرة تريم ، ولم يزل بها على العلم والعبادة حتّى توفّي ظهر الأربعاء (٢٣) ذي الحجّة الحرام من سنة (١٣٠٨ ه‍) أي : قبل وفاة الحبيب عليّ بن حسن بمديدة قصيرة.

٩٤٢

ومن «المواهب والمنن» : أنّ فساد يافع زاد في سنة (١١٧٩ ه‍).

ومنها : أنّ محسن بن عمر بن جعفر نهب دمّون وضواحي تريم ، فجاء الحبيب طاهر بن محمّد بن هاشم يقول للحسن بن عبد الله الحدّاد : (ما بقي لأحد جاه عند هذا الظّالم غيرك ؛ فإن شفعت في ردّ أموال المساكين ، وإلّا .. فالإثم عليك) ، فتوجّه إليه فيها .. فردّها.

ومنها : عن الحبيب عمر بن زين بن سميط : أنّه سمع بعض السّادة من تريم يفضّل الحسن بن عبد الله على العلّامتين : عبد الرّحمن بن عبد الله بن أحمد بلفقيه وطاهر بن محمّد بن هاشم.

ومنها : أنّ السّلطان صالح بن ناصر بن أحمد الرّصّاص همّ بالخروج إلى حضرموت ، ثمّ انثنى ، ثمّ عزم بعد ، فضلّ في الرّمل عتاده من البارود والرّصاص ، وتفرّق شمل أصحابه وكثر فيهم الموت والمرض ، وعاد خائبا.

ومنها : أنّ الحبيب حسنا خرج هو وأولاده وقرابته وأتباعه إلى بيت جبير فذهب أحد أحفاده ومعه الخدم يأمرهم أن يجمعوا القضب من الآبار الّتي حواليه لمراكيبهم ، والمتبادر أنّهم يأخذونها ـ على عادة المناصب ـ بدون مقابل ، وهو من المشكلات ؛ كمثل ما سبق في المبحث الثّالث من الحسيّسة ، إلّا أن يقال : إنّها مرصودة للمصالح فتلزم مواساتها ؛ بآية أنّهم لا يأخذون إلّا للخيل ، فقد يحتمل ، إلّا أنّه من البعيد أن تكون مراكيب الحسن وأتباعه خيلا كلّها مع كثرة الخيل إذ ذاك بحضرموت ؛ فقد كان السّلطان عيسى بن بدر يزور القطب الحدّاد في أربعين عنانا ، وكان فراش مدرسة القطب الحدّاد بالحاوي حصيرا من دون وسادة ، وأمّا في منزله .. فسجادة عليها وسادة.

وفي أيّام الحسن فرش منزله الواسع بالسّجّاد الفارسيّ من غير الهنديّ.

وتزوّج القطب الحدّاد بنيّف وثلاثين امرأة ، أربع عشرة من الشّرائف ، والبواقي من غيرهنّ ، وأمّ ولده محمّد من آل كثير.

٩٤٣

ولسيف بن محمّد الكثيريّ كان تأليف «رسالة المريد» ، وعن الأستاذ الأبرّ أنّ سيّدنا الحدّاد يقول : لم نسمّ الّذي ألّفنا له «رسالة المريد» ؛ لأنّه رجع عن الإرادة ، وكثيرا ما يوكّل ابنه الحسن في قبول النّكاح له ، وكان لا يزيد على مسحة واحدة لرأسه ، إلّا أنّه يمسحه كلّه ، وقد سرّني هذا لموافقته لما أنا عليه من زمان قبل أن أعلم به ، وقبل أن أعرف أنّ جدّي المحسن بن علويّ كان على مثله.

وقد لقي القطب الحدّاد أذى كثيرا من إخوانه ، قال الحبيب عمر بن حسن : إنّه اشترى مال أهله ثلاث مرّات ، كلّما اشتراه .. ادّعى عليه بعض إخوانه. قيل له : وكذلك الحبيب حسن بن أحمد العيدروس ، فقال : يرحمه الله رحمة الأبرار.

وأكثر ما وقع الأذى على القطب الحدّاد من أخيه عمر (١) ، حتّى لقد سمعت ـ لكن ممّن لا أثق به ـ أنّه ادّعى عليه بمئة بهار ذهب ، فما زال أهل التّدبير ومحبّو الإصلاح يسفرون بينهم حتّى تمّ الصّلح على مئة بهار تمر من نخيل وادي الذّهب ، والله أعلم بصحّة ذلك.

وقال بعضهم : إنّما كانت الدّعوى في بهار واحد من الذّهب. وهذا هو الأقرب.

ثم ما زالوا به حتّى أبعدوه عنه ، ونقلوه إلى الحاوي الّذي اختطّه في شمال حوطة آل أحمد بن زين.

وفي قضاء الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم باكثير : توجّهت على الحدّاد دعوى لزمته بها اليمين .. فغلّظها عليه ، وجاء معه بمصحف من تريم ، فقال له الحدّاد : (أما عندنا مصاحف؟!) وفي هذه القضيّة فوائد :

__________________

(١) ولد الحبيب عمر بتريم ، ونشأ في كنف والديه ، وتربى بأخيه الإمام ، وله منه وصية طويلة ، قال فيها : (هذه وصيتي لك ، والله خليفتي عليك وهو يتولى الصالحين ، كن صالحا حتى يتولاك ، وإذا تولاك .. فلا تحتاج لأحد من الخلق. أدام الله توفيقك ، وزودك التقوى ، ويسر لك الخير أينما توجهت ، وكان لك حيثما كنت وإيانا وأحبابنا ..) إلخ. أملاها سنة (١١٧٥ ه‍) في شهر الله المحرم بالتماس من أخيه عمر المذكور. وبهذا يتحقق لنا أخذ أخيه عمر عنه وأدبه معه ، وهذا ينافي البتة ما رواه غير الثقة للمؤلف ، والله يتولى الجميع. ينظر للمزيد : «نور الأبصار» للعلامة علوي بن طاهر الحداد : (٣٤ ـ ٣٥).

٩٤٤

منها : أنّ خروج القاضي إلى الحاوي إمّا لتحليف الحدّاد على عين المدّعى به ؛ لاشتباهه وتعذّر نقله ، وإمّا لأنّه لا يليق به الحضور إلى مجلس الحكم.

والمسألة حينئذ خلافيّة ، فبعضهم يلزمه الحضور لأجل اليمين ، وبعض يلزم القاضي إرسال من يحلّفه في مكانه ، وهو الّذي أظنّني رجّحته ، والبحث مستوفى في المسألتين (٥٧٠) و (٩٧٦) من كتابي : «صوب الرّكام في تحقيق الأحكام».

وقد اختلف السّلف في الصّبر لليمين ، فكرهه بعضهم حتّى خرج من المال أنفة ، ولم ير به آخرون بأسا.

وقد ترافع محمّد بن داود الظّاهريّ مع خصم له إلى القاضي إسماعيل بن إسحاق ، ولمّا توجّهت اليمين على ابن داود .. قال له القاضي : أيحلف مثلك يا أبا بكر؟ قال : ما يمنعني وقد أمر الله نبيّه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه؟ قال القاضي : أين ذلك؟!

قال في قوله سبحانه وتعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ) وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) وقوله : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)

والقصّة مبسوطة في كتابي : «بلابل التّغريد».

وفي المسألة (١٣٨١) من «الصّوب» صرّح الإمام في «النّهاية» (١) بأنّ اليمين لا تجب ، وأقرّه الرّافعيّ ، لكن قال ابن عبد السّلام : ليس على إطلاقه :

أمّا يمين المدّعى عليه : فإن كانت كاذبة .. فحرام ، وإن كانت صادقة : فإن كان الحقّ مما يباح بالإباحة ؛ كالمال .. وجبت اليمين دفعا لمفسدة كذب خصمه .. إلى آخر ما أطلت به.

ومنه : أنّ ابن حجر استوجه عدم وجوب اليمين فيما يقبل الإباحة ، ووجوبها فيما لا يقبله إذا تعيّنت. والله أعلم.

__________________

(١) أي إمام الحرمين في «نهاية المطلب».

٩٤٥

ودعوى السّيّد عمر بن علويّ الحدّاد على أخيه بالذّهب المشار إليه ممّا تحيله العادة ، لكن قال فقهاؤنا بوجوب إحضار المدّعى عليه وإن أحالتها العادة ، وهو من البعد بمكان ، لا سيّما مع اتّفاقهم على ردّ كلّ دعوى وكلّ شهادة ، بل وكلّ إقرار يكذّبه الشّرع أو الحسّ. والبحث مستوفى في المسألة (٥٥٩) من «الصّوب».

وبعض النّاس ينتقد فعل الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم ويعدّه من إساءة الأدب ، وليس من ذلك في شيء ، وإنّما هو أداء للواجب ، وبعد عن المحاباة ، مع أنّ القطب الحدّاد لم يلاحظ عليه إلّا استصحاب المصحف من تريم.

وقد أطال الشّيخ عليّ في ترجمة القطب الحدّاد ووفّاه حقّه ؛ لأنّه من كبار مشايخه ، بل أكبرهم ، وكان يخرج إلى الحاوي كلّ يوم بعد الظّهر ، ولمّا حصلت عليه الأذيّة من الدّولة .. لم يعتصم إلّا بالإقامة في الحاوي.

ومن قرى تريم : المحيضرة.

وكانت للسّادة آل سميط ، وهم وآل شبام قبيلة واحدة ، ومنهم القاضي بتريم علويّ بن سميط ، تعمّر كثيرا ، وأضرّ في آخر وقته ، ولكنّها انعمرت الآن. ولها ذكر كثير في حروب يافع وآل كثير.

ومنها : الحيوار (١) ، وقد أدخلت بعض ذبوره في سور تريم ، وعمّرت فيها ديار كثيرة.

ومنها : بريح ، كانت بين دمّون وتريم ، ولا أثر لشيء منها إلّا المقبرة.

أمّا أحوال تريم الدّوليّة : فكما سبق في شبام ذرو منها ، وهي كرسيّ مملكة آل قحطان المتفرّعة ولايتهم على حضرموت عن إمارة الهزيليّ على شبام في حدود سنة (٢٧٠ ه‍) ، وقد قال صاحب «البرد النّعيم» : (إنّ ولايتهم امتدّت إلى أكثر من ثلاث مئة سنة) اه

__________________

(١) وجرى بها في (١٢٦٢ ه‍) وما بعدها إبان حكم غرامة عدة حوادث. ينظر : «العدة المفيدة» (١ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣) وما بعدها.

٩٤٦

والحال أنّها باعتبار أصلها امتدّت إلى أطول من ذلك بكثير.

ومدافنهم بالرّضيمة من تريم ، وكانوا ـ كما في «الأصل» ـ يدفنون هلكاهم بها في صناديق ، وفي كلام القطب الحدّاد أنّ بالرّضيمة صناديق من ذهب ، فلعلّ الصّناديق الّتي كانوا يدفنون موتاهم فيها كانت من الذّهب كما الملوك تفعل ، ومن مأثور الكلام : أنّ أمّ الإسكندر أمسكت على صندوق الذّهب الّذي وضعوا ابنها فيه ليدفن بعد أن قال كلّ من الحكماء كلمته المأثورة ، فقالت : لقد جمعت هذا في حياتك .. فجمعك بعد مماتك.

ثمّ انتهى الأمر إلى آل أحمد والصّبرات ، وجرى بينهم بعضهم بعضا وبينهم وبين غيرهم أمور طويلة عريضة ، فصّلنا منها في «الأصل» ما شاء الله أن نفصّل ، ثمّ صار الأمر لآل كثير ، ثمّ للإمام ، ثمّ ليافع.

وسبب اتّصال يافع بحضرموت : أنّهم زاروا حضرموت في أيّام الشّيخ أبي بكر بن سالم ، وأحبّوه ، واعتقدوا فيه الصّلاح ، ثمّ زاروها في أيّام ابنه الحسين ، كما سيأتي عند ذكره في عينات ، ثمّ خرجوا مع أحد سلاطينهم ـ وهو : السّلطان عمر بن صالح بن الشّيخ عليّ هرهرة ، اليافعيّ وطنا ، الهمدانيّ نسبا ـ نجدة للأمير بدر بن محمّد المردوف (١) ، بإشارة من الحبيب عليّ بن أحمد أو من أخيه شيخ بن أحمد على اختلاف الرّواية ، أو منهما كما هو الأقرب .. وكانت طريقهم بأرض العوالق ، فأكرمهم سلطانها ، ثمّ قدموا على العموديّ بدوعن فأضافهم ، ثمّ التقوا مع سلطان آل كثير عمر بن جعفر في بحران سنة (١١١٧ ه‍) وهناك انهزم آل كثير واستولت يافع على جميع بلدان حضرموت الوسطى والسّفلى ؛ مثل : هينن ، وشبام ، وسيئون ، وتريم.

وبعد أن ضبطها عمر بن صالح .. ركب إلى الشّحر واستولى عليها ، ثمّ بلغه أنّ أهل هينن نكثوا وأخرجوا يافعا منها ، فعاد لهم وأخضعهم ، ورجع إلى يافع وقد

__________________

(١) المتوفى سنة (١١٢٠ ه‍) ، وهو بدر بن محمد المردوف بن عمر بن بدر بوطويرق ، تولى الحكم بعد وفاة والده سنة (١٠٧٣ ه‍). ينظر : «تاريخ الدولة الكثيرية» (٨٩ ـ ٩٤).

٩٤٧

اقتسمت يافع بلاد حضرموت ، فكانت شبام وهينن للموسطه (١) ، وسيئون ومريمه لآل الضّبي (٢) ، وتريم للبعوس (٣) ـ وفوقها بنادق من العلوق الغالية ـ والدولة ، أقام أناس منهم بسيئون ، وناس في باجلحبان ، بحصن بناه آل مطهّر ، فيه بئر عذبة الماء.

وأمّا بنو قاصد اليافعيّون (٤) المرؤوسون بابن عفيف .. فقد كان منهم ناس قليل في هذا التّجهيز ، منهم : آل يزيد ، رئاستهم بحضرموت للبطاطيّ ؛ لأنّهم وإيّاهم شيء واحد ، وكان مسكنهم بالهجرين والقزه ، وفيه ناس أيضا من الكلديين (٥) ، وناس من قبيلة يهر (٦) ، يقال لهم : الشّناظير ، أقاموا بغيل ابن يمين ، فنسبه بعض النّاس إليهم.

وأمّا الكساديّ : فكان من ذي ناخب (٧) ، وجاء بعد ذلك إلى المكلّا. اه من

__________________

(١) الموسطه : حلف قبلي في يافع ، عاصمتهم بلدة القدمة ، حيث مقر شيوخهم آل النقيب .. ومن قبائلهم : آل الخلاقي ، العلسي ، الريوي ، القعيطي ، السعدي ، السعيدي ، الجرادي ، اليسلمي ، الرشيدي ، الحوثري ، العروي ، العيسائي ، الحنشي ، وتفصيل مناطقهم في : «معجم المقحفي» (١٦٨٤).

(٢) قبيلة من يافع العليا ، يمتازون بقوة الشكيمة ، يدينون بالطاعة لآل الشيخ علي.

(٣) لبعوس ـ الأبعوس : قبيلة وجبل في يافع ، ويقال لهم : (مكتب البعسي) ، وجبل لبعوس هو مركز مديرية يافع إحدى كبريات مديريات محافظة لحج ، وللأبعوس فرعان مهمان ؛ هما : الحوري ، والسّيلي.

(٤) بنو قاصد : قبيلة من يافع السفلى (والمقصود بالسفلى : مديريات رصد وجعار في أبين) ، من قبائلهم : آل يزيد ، آل البطاطي ، آل الذبياني ، آل العرمي ، آل طاهر.

(٥) الكلدي : نسبة إلى كلد ، بطن من قبائل يافع السفلى ، ديارهم في القارة من أعمال أبين مديرية رصد.

ومن فروعها : ١ ـ الجلادي : وهم : هويدي ، وعطوي ، ومعليسي ، وهيثمي. ٢ ـ منصّري : بركاني ، عياشي ، جدسي. ٣ ـ يوسفي. ٤ ـ ساعدي. ٥ ـ جريدي. ٦ ـ باقري. ٧ ـ داودي .. وغيرهم.

(٦) يهر : قبيلة حميرية يافعية كبيرة ، سكنت بلاد يافع ، ونسب إليها وادي يهر ، وهو واد خصيب يلتقي مسيله مع وادي بنا جوار قرية العسكرية ، ويشكل مركزا إداريا مع مديريات يافع : أعمال محافظة لحج. وترتبط يهر المنطقة بمنطقة المفلحي بطريق إسفلتية طولها (١١ كم).

(٧) وذو ناخب هذا هو واد فسيح في أعالي مرتفعات يافع العليا ، تحدث عنه الشيخ الناخبي في : «رحلة إلى يافع» (٢٧ ، ٢٩).

٩٤٨

«بستان العجائب» للسّيّد محمّد بن سقّاف بن الشّيخ أبي بكر بن سالم.

وفيه مخالفة لما سبق في المكلّا عن سبب اتّصال الكساديّ بالمكلّا ، ولبعض ما في «الأصل» ، إلّا أنّه خلاف يسير ، لا يضرّ بأصل الخبر ، بل يتيسّر الجمع للنّاظر بينهما بأدنى تأمّل.

ومن (يهر) رئيس الحضارم بالسومال الإيطاليّ الحاجّ محمّد عبادي بن عاطف بن عبيد بن جبران الأرّجانيّ ، وفي «إكليل الهمدانيّ» : أنّ ذا يهر أحد أذواء حمير ، وهو ابن الحارث بن سعد بن مالك بن زيد بن سدد بن زرعة بن سبأ الأصغر ، وفيه يقول أسعد بن تبّع [من المتقارب] :

وقد كان ذو يهر في الأمو

ر يأمر من شاء لا يؤمر

وقصر ذي يهر على بعض يوم من صنعاء بموضع في بيت حنبص ، وهو قصر جاهليّ يسكنه في عهدنا أبو نصر الحنبصيّ نسبة إليه ، وهو من أوعية العلم ، وفيه يقول بعض أهل عصره [من الطّويل] :

لعمرك ما الكلبيّ إن عدّ علمه

وعلم جبير والإمام أبي بكر

ودغفل في شجّيرة وابن شرية

بأعرف فيما حاولوا من أبي نصر

وهو محمّد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن محمّد بن وهب بن شرحبيل بن عريب بن زيد بن وهب بن يعفر بن زيد بن شمر بن شرحبيل بن أشمر بن زرعة بن شرحبيل بن وهب بن نوف بن يعفر بن الحارث بن شرح بن يعفر ذي يهر. اه باختصار لفظ

ومنه تعرف أنّ الشّناظير ليسوا من يافع أنفسهم ، ولكن قد آختهم.

وقد انقسمت لبعوس في تريم وأرباضها إلى فرق متعدّدة ، أقواهم آل غرامة ، ورئيسهم سالم بن غرامة صاحب حصن الدّكين الواقع في شرقيّ دمّون ، وكان ابن أخيه عبد الله عوض غرامة ينازعه ، ولمّا مات في حدود سنة (١٢٢٦ ه‍) .. صفا لعبد الله الجوّ ، وكان شهما شجاعا ، لا يملأ الهول صدره قبل موقعه ، ولا يضيق به ذرعا إذا

٩٤٩

وقع ، ولا يقتضي حاجاته من حملة السّلاح إلّا بالسّيف ، وقد قال المتنبّي [في «العكبريّ» ٤ / ١٦٠ من البسيط] :

من اقتضى بسوى الهنديّ حاجته

أجاب كلّ سؤال عن هل بلم (١)

وكان ينكر بطبعه غلوّ القبوريّين فوافقته آراء الوهّابيّة ، وأكثر التّعلّق بوحيد عصره ، وفريد دهره ، مقدّم الجماعة ، وشيخ الصّناعة ، الّذي انتهت إليه رياسة العلم بتريم ، العلّامة الجليل السّيّد أبي بكر بن عبد الله الهندوان (٢) ، المتوفّى بتريم سنة (١٢٤٨ ه‍) ، وقد اتّهمه العلويّون بأنّه هو الّذي يعلّم عبد الله عوض غرامة آراء الوهّابيّة ، ويحثّه على الإلزام بها ومؤاخذة النّاس بمقتضاها ، فتآمروا على قتله ، فهرب إلى بيت جبير ، ولم يقدر عبد الله غرامة على حمايته بتريم ؛ لأنّه لا يملكها كلّها.

وفي أيّامه كان وصول الوهّابيّة إلى تريم سنة (١٢٢٤ ه‍) ، بقيادة الأمير عليّ بن قملا ، فطوى بهم حضرموت ، ولم يفسد حرثا ولا أهلك نسلا ، وإنّما هدم القباب ، وسوّى القبور المشرفة ، وألقى القبض على المناصب آل عينات وآل تاربه وأهانهم ، وأتلف قليلا من الكتب كثّره بعض العلويّين ـ كصاحبنا الفاضل السّيّد عليّ بن عبد الرّحمن بن سهل ـ بدون مبرّر من الدّليل (٣) ، وأقاموا بتريم نحوا من أربعين يوما ، وعاهده عبد الله عوض غرامة وعبد الله بن أحمد بن يمانيّ على أن يكفّ الأذى عن بلاديهما على شرط أن يقوما بنشر دعوته الّتي لاقت هوى من نفوسهم ، وقبولا من خواطرهم.

ووجدت أيضا معاهدة بتاريخ سنة (١٢٢٢ ه‍) بين عليّ بن صالح بن ثابت ،

__________________

(١) المعنى ـ كما في «العكبريّ» ـ : من طلب حاجته بغير السّيف .. أجاب سائله عن قوله : هل أدركت حاجتك؟ بقوله : لم أدرك.

(٢) هو حفيد العلامة أحمد بن عمر الهندوان ، المتوفى سنة (١١٢٢ ه‍) ، أحد أقران الإمام الحداد ومن تربطهم به صحبة ومحبة.

(٣) ومثله جاء في بعض أعداد مجلة «الرابطة».

٩٥٠

وعبد الله بن سلطان بن ثابت ، ومنصّر بن محمّد ، وناجي بن محمّد آل قملا ، وجعلا عبد الله بن سلطان أميرا من قبلهما على الكسر.

ووجدت أيضا معاهدة بينهما وآل العطّاس بحريضة وأمّرا من قبلهما عليها السّيّد عليّ بن أحمد العطّاس كما يروي جميع ذلك شيخنا العلّامة أحمد بن حسن العطّاس.

وكذلك توجد معاهدة بين آل قملا والسّادة آل المسيله.

وقال السّيّد علويّ بن أحمد بن حسن في مقدّمته ل «ديوان جدّه» : (وذكر الشّيخ عقيل بن دغمش أنّهم خرجوا إلى حضرموت ثلاث مرّات.

فالأولى : سنة (١٢١٨ ه‍) ، وردّهم جعفر بن عليّ لمّا ملك شبام.

والثانية : سنة (١٢٢٤ ه‍) ، وجرى منهم ما تقدّم في تريم ، وأخذوا نحوا من أربعين يوما ، ثمّ ساروا منها كلّهم.

والثّالثة : خرجوا سنة (١٢٢٦ ه‍) ، ووصلوا قريبا من شبام وفازوا بالقتل والانهزام ، ورجع منهم من رجع شذر مذر) اه

وقد سبقت الإشارة في تريس وغيرها إلى ميل الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه إلى بعض آراء الوهّابيّة ، ومن أدلّة ذلك : أنّه أثنى على قسم وأهلها بقصيدة استهلّها بقوله : (لنا بمغنى قسم أهل وإخوان) انتهى بها إلى مدح آل تميم عموما ، والمقدّم عبد الله بن أحمد خصوصا ، فقال [من البسيط] :

لا تنس أولاد روح هم قبائلها

قد هدّمت للأعادي منهم اركان

فابن يمانيّهم رأس الأسود له

في الحرب صيت وفي الإحسان عنوان

كم من فتى منهم عند اللّقا فرح

كأنّ أعداه إذ يغشاهم ضان

كم كسّروا للأعادي منهم قمما

حتّى غدا حدّهم بالأمن ملآن

جيرانهم في محلّ العزّ عندهم

كأنّهم في ربوع القوم ضيفان

أقول حقّا بأنّ الله ناصرهم

لأنّهم لأهيل البيت أعوان

وفي سنة (١٢٢٩ ه‍) أرسل الأمير عبد الله عوض غرامة ثلّة من جنده للتّحرّش بأهل المسيله فلم يجرؤوا ، وعند انصرافهم التقوا بجماعة من السّادة عسكر الحبيب

٩٥١

طاهر ، إمّا مصادفة ، وإمّا طمعوا فيهم لمّا رأوهم انقلبوا بدون طائل ، ومعهم العلّامة السّيّد سالم بن أبي بكر عيديد ، فانهزم السّادة بمجرّد ما سمعوا إطلاق الرّصاص ، مع أنّ جند غرامة لم يتعمّدوا إصابتهم ، وإنّما أرادوا كفّهم وتخويفهم ، فانهزموا هزيمة فاحشة ، حتّى لقد سقط إزار أحدهم فهرب عريانا! فقالت إحدى شواعر تريم :

إذا اقبلوا يافع المثقلين

تقعون ساده حتّى حزمكم تلين

أخبرني بهذا الثّقة الثّبت السّيّد أحمد بن عمر بن عوض الشّاطريّ ، عن جدّه لأمّه شيخنا ابن شهاب. ولم يتبعهم جند عبد الله عوض ، غير أنّ رصاصة أصابت السّيّد سالم عيديد (١) فسقط ميّتا مع البارود ، وفي اليوم الثّاني أرسل إليهم الأمير عبد الله عوض بتعزية يقول فيها : (إنّنا لا نريد ذلك ولا نحبّه ، وإنّما كان قتله على غير اختيار منّا ، لكنّ شؤم أعمالكم ، والتفاتكم إلى غير الله ، وعبادتكم للأموات والقبور .. هو الّذي جرّ عليكم المصائب ، وسيجرّ عليكم ما هو أعظم) اه

ويقال : إنّ هذه المكاتبة كانت من إنشاء إمام تريم لذلك العهد ـ المتقدّم ذكره ـ السّيّد أبي بكر بن عبد الله الهندوان ، والله أعلم.

وحصلت من عبد الله عوض غرامة مساعدات ماليّة للأمير عليّ بن قملا كلّف بها الرّعايا ، حتّى لقد رأيت وثيقة فيها أنّ نوّاب وقف المحضار باعوا بئرين له ببيت جبير بثلاث مئة وعشرين ريالا على سبيل العهدة ، في دفع ضرر ابن قملا وعبد الله عوض عن مال المحضار ، وعليها إمضاء القاضي حسين بن علويّ مديحج (٢) ، وتاريخها سنة (١٢٦٣ ه‍) ، ولعلّه كان غلطا ؛ إذ تاريخ وصول ابن قملا إلى تريم إنّما كان سنة (١٢٢٤ ه‍) ، أو سنة (١٢٢٦ ه‍) على اختلاف القول في ذلك ، وأمّا سنة (١٢٦٣ ه‍) .. فبعد وفاة عبد الله غرامة بمدّة ، ما لم يكونوا استدانوا ذلك القدر ثمّ لم تسنح الفرصة للتّعهّد إلّا بعد ، وفيه فائدتان :

__________________

(١) كان موته صريعا في محرم (١٢٢٩ ه‍) ، وقد كان عالما عاملا ذكيا نبيها وليا صالحا.

(٢) هو السيد حسين بن علوي بن عبد الله بن سالم عقيل مديحج ، كان سيدا فاضلا فقيها ، تولى القضاء بتريم ، توفي بها في صفر (١٢٦٨ ه‍).

٩٥٢

الأولى : التّوسّع ببيع الموقوف ، إلّا أنّه قد يجاب بأنّ الأصل في أموال المساجد الملك.

والثّانية : بيعه عهدة والأغلب أنّها إنّما تكون بدون ثمن المثل ، وهو ممتنع في مال المسجد ، وقد صرّحوا بامتناع بيع مال المحجور عهدة مطلقا ، والمسجد مثله ففي هذا الصنيع فسحة وتسامح.

ولعبد الله عوض أخبار عجيبة ذكرنا منها نتفا ب «الأصل» ؛ ومنها : أنّ بعض أعيان السّادة ركب إلى زيارة نبيّ الله هود عليه السّلام ، وبينا هو خارج من تريم وأمامه خشارة (١) من الحاكة ومن لفّهم يرتجزون بمثل قولهم : يا شيخنا يا محضار .. إذ غضب غرامة واستلّ سيفه ليغمده بطلى زعيم الحاكة وانتصب لمساورته بعض السّادة آل ابن إبراهيم ، لو لا أنّ شيخ مشايخنا ـ وهو الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه ـ تدارك الأمر وقال لهم : (قولوا : سبحان من لا يفنى ولا يزول ملكه) ، فارتجزوا بها ، فسرّ عبد الله غرامة وقال : (أستغفر الله) وهي كلمته الّتي يوشّح بها كلامه ، ولا يزال الأكرة يتغنّون بها إلى اليوم.

وبه ذكرت قول العلّامة ابن حجر : (فائدة : أحدث المؤذّنون الصّلاة والسّلام على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عقب الأذان للفرائض ، ما عدا الصّبح والجمعة ؛ فإنّهم يقدّمون ذلك فيهما على الأذان ، وإلّا المغرب ، لضيق وقتها ، وسببه : أنّ الحاكم (٢) لمّا قتل .. أمرت أخته المؤذّنين أن يقولوا في حقّ ولده : السّلام على الإمام الطّاهر ، ثمّ استمرّ السّلام بعده على الخلفاء حتّى أبطله صلاح الدّين ، وجعل محلّه الصّلاة والسّلام عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فجزاه الله خيرا ، ونعمّا

__________________

(١) الخشارة : الرّديء من كلّ شيء ، والمقصود هنا غوغاء النّاس.

(٢) هو السلطان العبيدي الحاكم بأمر نفسه ، فرعون زمانه ، الذي جعل الناس يسجدون له ويسبحون بحمده من دون الله .. مات لعنه الله سنة (٤١١ ه‍) ، واسمه منصور بن نزار. ينظر : «الأعلام» (٧ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦)

٩٥٣

فعل. وقد أفتى مشايخنا وغيرهم بأنّ الأصل سنّة ، والكيفيّة بدعة ، وهو ظاهر) اه بنوع اختصار

ولا يبعد عنه ما كان من عمر بن عبد العزيز من إبداله ما اعتاده بنو أميّة بآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) إلى آخرها.

وكان عبد الله غرامة شديدا على الأعداء ، ليّن العريكة للضّعفاء ، سهل الجانب لهم ، وله أصحاب من الحاكة والأراذل يتنادرون عليه كأنّه أحدهم ، وهو يجرّئهم على نفسه ليأنس بهم ، وتسقط كلفة التّحفّظ فيما بينهم ، فهو :

ممقر مرّ على أعدائه

ولدى الأدنين حلو كالعسل (١)

عاش وسيفه يقطر مهجا ، ويسيل دما ، من آل تميم وغيرهم من حملة السّلاح ، وكان لا يأخذ صلحا فيمن يقتله من آل تميم قطّ ، توفّي بتريم سنة (١٢٥٥ ه‍) بعد أن خبط الزّمان خبطا ، وضبط الرّجال ضبطا ، وكان كما قال بشّار [في «ديوانه» ١٤٥ ـ ١٤٦ من المتقارب] :

فتى لا يبيت على دمنة

ولا يشرب الماء إلّا بدم

يحبّ العطاء وسفك الدّما

فيغدو على نعم أو نقم

وتلقّى راية مجده باليمين ولده عبد القويّ وهو في إبّان البلوغ ، فكان كما قالت الخنساء [في «ديوانها» ٧١ من المتقارب] :

طويل النّجاد رفيع العما

د ساد عشيرته أمردا

وكما قال الرّضيّ [في «ديوانه» ١ / ٤٦٤ من البسيط] :

متيّم بالعلا والمجد يألفه

وما مشى في نواحي خدّه الشّعر

وقد برز به على قول المتنبّي [في «العكبريّ» ٢ / ٨ من الطّويل] :

أرى القمر ابن الشّمس قد لبس العلا

رويدك حتّى يلبس الشّعر الخدّ

__________________

(١) البيت من الرّمل ، وهو للبيد في «ديوانه» (١٣٣). ممقر : شديد المرارة.

٩٥٤

وقد ذكرنا في «الأصل» أنّ بعض أعدائه ألقى زاملا بين يديه ، منه قوله :

منّي سلام الفين يا عبد القوي

يا شيخ يافع يا عريض السّاعدين

وهو مثل قول السّيّد الحميريّ يمدح قاتل طلحة بن عبيد الله [من الكامل] :

واعترّ طلحة عند مشتجر القنا

عبل الذّراع شديد أصل المنكب

ثمّ إنّي بعد أن افتتنت زمانا ببيت الشّريف الرّضيّ السّابق .. عرفت أنّه نظر فيه إلى قول أبي عبادة [في «ديوانه» ٢ / ٣٠٨ من البسيط] :

وللفتى مهلة في الحبّ واسعة

ما لم يمت في نواحي خدّه الشّعر

وفي سنة (١٢٦١ ه‍) اشترى آل عبد الله الكثيريّون ناصفة الخليف من آل همّام اليافعيّين بنحو من ألفي ريال ، وأدخلوا إليه بعض عبيدهم ، وبقوا هم وإيّاهم على التّناصف بالتّصافي.

وفي سنة (١٢٦٢ ه‍) باع عبد القويّ غرامة على آل عبد الله ناصفة ما تحت يده بتريم ، وتمّت الصّفقة بالمسيله بمحضر العلّامة عبد الله بن عمر بن يحيى ، والسّيّد الجواد حسين بن عبد الرّحمن بن سهل ، على نحو أربعة آلاف ريال فرانصة ـ أو ستّة آلاف ، لا نحفظ تحقيق ذلك (١) ـ وعلى أن تكون الماليّة كلّها في أيدي آل عبد الله ، بشرط أن يدفعوا لعبد القويّ ثمانية ريالات يوميّا إزاء دخل النّاصفة الباقية له.

ولمّا دخل آل عبد الله في رمضان من نفس السّنة .. عظم الأمر على عبد القويّ ؛ لأنّهم دخلوها على غير الصّفة المشروطة بينهم من امتناع المظاهرات والزّوامل ، وبعد المراجعات والأخذ والرّدّ .. أذكى عليهم نار الحرب ، وكان عبود بن سالم يضمر الغدر لعبد القويّ ، فركب إلى الجهات القبليّة في شعبان قبل أن يدخلوا إلى تريم أصلا ، وأقبل في ربيع الأوّل من سنة (١٢٦٣ ه‍) بنحو ألفين والحرب قائمة ، فكثروا عبد القويّ وضايقوه ، ولكنّه ثبت ثبات الرّواسي ، ثمّ تواضعوا قريبا ممّا تمّ الأمر عليه

__________________

(١) الذي في «العدة» (١ / ٣٤١) : أنها (٤٠٠٠) أربعة آلاف ريال فرانصة.

٩٥٥

أوّلا ، وأراد السّيّد حسين بن سهل تأطيد الصّلح ، فسعى ليمثّل حال خالد بن يزيد مع رملة بنت الزّبير حتّى صهر الأمير عبود بن سالم إلى آل غرامة ، فاقترن بأخت عبد القويّ (١) ، وجرت أمور طويلة عريضة مستوفاة ب «الأصل» ، ولكنّ سكنى تريم لم تطب لنفس عبد القويّ وأصحابه اللبعوسيّين ؛ إذ كانت تلك الأسرة لذلك العهد حقيقة بقول المعريّ [من البسيط] :

كانت تضمّ رجالا بين أعينهم

معاطس لم تذلّل عزّها الخطم (٢)

فبارح تريما إلى المكلّا ، وأودع بعض سلاحه من العلوق الغوالي السّابق ذكر وقوعها للبعوس ، مع اقتسام يافع بلاد حضرموت عند زعيم آل عامر الكثيريّين محمّد بن عزّان بن عبدات ، فلم يردّها عليه ؛ لنفاستها.

وتتابع بعد عبد القويّ غرامة جلاء آل لبعوس من تريم إلى عند آل الظّبي بسيئون ، وهكذا قضي على دولة غرامة ، وسبحان من لا يدوم إلّا ملكه (٣).

ودولة تريم اليوم للسّلطان عبد الله بن محسن بن غالب وأخيه السّلطان محمّد ، حسبما مرّ في سيئون.

والحكومة الإنكليزيّة تحاولهم على الاعتراف بقيادة السّلطنة لأمير سيئون لتتوحّد الدّولة الكثيريّة مع بقاء حقّهم من الاستقلال في حدودهم ، وهم من ذلك في شماس شديد ، ولكنّه لا يستغرب أن يعود إلى المياسرة.

وقولنا : إنّ آل همّام يافعيّون .. هو المشهور ، ولا ينافيه ما يوجد في كلام الحبيب علويّ بن أحمد الحدّاد ممّا يوهم خلافه ؛ كقوله : إنّ بين عسكر تريم آل همّام ويافع كلّ من لقي خادم أحد قبضه ؛ لأنّ بعض البيوت قد يختصّ بالاسم ؛ مثل آل السّقّاف.

__________________

(١) في «العدة» (١ / ٣٤٤) : أنه بنى بابنة عبد القوي.

(٢) الخطم ـ جمع خطام ـ : كالزّمام ، وهو هنا كناية على أنّهم لا يخضعون ولا يذلّون لأحد ؛ كما أنّ الحيوان أو الفرس الوحشيّ الّذي لا يقبل الزّمام لا يخضع لأحد.

(٣) لمعرفة المزيد من تفاصيل هذه الأخبار .. ينظر : «العدة» (١ / ٣٤١ ـ ٣٥٤).

٩٥٦

المسنّده

وما وراءها إلى عينات

إذا خرج الخارج من تريم وذهب شرقا .. فأوّل ما يكون عن يمينه : المسنده ، وإليها تنسب الحرب التّميميّة الكثيريّة ، فيقال : (حرب المسنّدة) ، ومن حديثها بالاختصار :

أنّه لمّا استقرّ عبود بن سالم في تريم .. طمع في مثاوي آل تميم ، وكان يتوهّم سهولة إخضاعهم ؛ لما كان يسمع به من غطرسة عبد الله عوض غرامة عليهم واحتمالهم إيّاها ، ولمّا قرع النّبع بالنّبع .. أبت عيدانه أن تكسر ، ودامت الحرب بينهم سبع سنين ـ وقد سبق في سيئون أنّ السّلطان غالب بن محسن قدم من الهند إلى تاربه غرّة جمادى الثّانية من سنة (١٢٧٢ ه‍) ، وبقيت تلك الفتنة إلى سنة (١٢٧٤ ه‍) ، حيث انعقد الصّلح لمدّة سبع سنين على شروط ؛ منها : أن يدفع السّلطان غالب بن محسن عشرة آلاف ريال فرانصة (١) غرامة الحرب للمقدّم أحمد بن عبد الله بن يمانيّ قائد رئاسة آل تميم.

وحدّدت بينهم يومئذ الحدود ، ومن ذلك اليوم تحرّر آل تميم ، وامتدّ سلطان المقدّم من شرقيّ تريم إلى ما وراء قبر نبيّ الله هود عليه السّلام ، وتمرّن آل تميم على الحرب والضّرب ، ونجّذهم عليها اختلاطهم بيافع ؛ فكثيرا ما يهزّ آل كثير بالحملة في تلك الفتنة على آل تميم فينهزمون ، ولكن متى حضر عندهم آل الظّبي من سيئون فهزّوا عليهم بالحملة سمعوا صليل سيوف آل الظّبي عند سلّها .. أحجموا وقالوا : إنّ في المكان غير أهله.

ولبس التّميميّون من بعد ذلك جلود النّمور ، وعادوا أبطالا لا يهابون الموت ،

__________________

(١) الريالات الفرانصة التي كان الناس يتعاملون بها آنذاك هي ريالات نمساوية من الفضة الخالصة ، ويسميها البعض قروش فرانصة ، وهي المضروبة باسم القدّيسة المسيحية ماريا تيريزا ، راهبة عاشت في النمسا ـ فيينّا ـ في العصور الوسطى ، وقد انتهى عهد التعامل بها في حضرموت في وقت ليس بالبعيد.

٩٥٧

ولا تتخاذل أرجلهم عند الصّوت ، وصار أكثر أهل تريم تحت رحمة آل تميم ؛ لأنّ أكثر أموالهم (١) تحت سيطرتهم ، وكانوا يأخذون منها الشّيء الكثير ، حتّى تواضعوا هم وإيّاهم بواسطة السّيّد حسين بن حامد المحضار وزير القعيطيّ على الخمس ، وكتبت بينهم الوثائق بذلك.

ولمّا انبسط نفوذ آل عبد الله بواسطة الحكومة الإنكليزيّة وساعدهم القعيطيّ (٢) .. منعوا آل تميم من ذلك الرّسم ، وحرّرت في ذلك فتوى من الشّيخ فضل بن عبد الله عرفان ، وصادق عليها الجمّاء الغفير ، وكنت ممّن صادق عليها عن غير تروّ ولا يزال ذلك مشكلا عليّ ؛ لأنّني إذا رأيت ما جاء في غير موضع من «مجموع الأجداد» : (أنّ رجلا بيده نخل يقاسم آخر في ثمرته سنين ، ثمّ امتنع بالآخرة وقال : لا أعطيك شيئا من ثمرته إذ لا حقّ لك فيها ولا في النّخل ، فأقام المدّعي بيّنة بأنّه يقاسمه سنينا عديدة على الرّبع مثلا .. كان القول قول صاحب النّخل بيمينه ، وإقامة البيّنة من المدّعي بمجرّد المقاسمة غير مسموعة ، فلا يحكم له بشيء من النّخل ولا من ثمرته) اه بمعناه.

ويؤيّده ما في فقه السّادة الزّيديّة من أنّ الحقّ لا يثبت بالبيّنة باليد كما في (ص ١٣٥ ج ٤) من «شرح الأزهار» ، ويزيده قوّة قول جدّي علّامة وادي الأحقاف علويّ بن سقّاف : (وليس لشارح (٣) ولا لحرّاث ولا لمفخّط (٤) يد).

إذا رأيت مثل هذا .. سكن خاطري ، ولكن يختلجني الشّكّ إذا رأيت قول «التّحفة» في (زكاة النّبات) [٣ / ٢٤٣] : (وصرّح أئمّتنا بأنّ النّواحي الّتي يؤخذ الخراج من أراضيها ولا يعلم أصله .. يحكم بجواز أخذه ؛ لأنّ الظّاهر أنّه بحقّ). ونحوه في (البيع). ونحوه قولها في مبحث (أحكام الذّمّة) : (والأراضي الّتي

__________________

(١) المقصود بالمال هنا : الأحجال والأراضي الزراعية ـ الجروب ـ وما أشبهها.

(٢) وذلك في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري.

(٣) الشّارح : الحافظ الّذي يحفظ الزّرع.

(٤) المفخّط ـ الملقّح : وهو الذي يقوم بتأبير النخل وتلقيحها بيده.

٩٥٨

عليها خراج لا يعرف أصله .. يحكم بحلّ أخذه ؛ لاحتمال أنّه وضع بحقّ).

وما جاء في «النّهاية» و «فتاوى ابن حجر» من قولهما : (إنّه لا يجوز لمالك جدار هدمه وفيه كوّة ينزل منها الضّوء إلى دار جاره ؛ لاحتمال أنّ فتحها كان له بحقّ) اه .. فإنّها كالصّريح في خلاف الأوّل ، لا سيّما وقد رأيت في بعض الوثائق القديمة أنّها مشتراة من باب السّلطنة ، فدلّ ذلك على أنّه خراج سلطانيّ يباع ويشترى.

وفي «بستان العجائب» للسّيّد محمّد بن سقّاف ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم أنّه : (كان لآل بن يحيى مال بالعجز ، ساوم فيه الحبيب شيخ بن أحمد ، فقالت له الشّريفة علويّة بنت الشّيخ عليّ بن أحمد : يا عمّ شيخ ، لا تشتر مال الدّيوان لآل أحمد بن عليّ.

قال : إنّه مال واسع رخيص الثّمن. قالت له : لا تطفىء نورنا بنار الدّيوان. فترك ذلك ولم يشتره) اه

وفيه قيام الشّبهة مع اطّراد العادة ببيعه وشرائه.

فإن قيل : هلّا يكون ما اشتهر من انبناء اليد على الشّراحة (١) كافيا في عدم اعتبار ترتّب اليد؟ قلت : غاية ما يمكن من ذلك الاشتهار بالتّرك أن يكون بمثابة الخبر الصّحيح ، وقد صرّح ابن حجر بأنّه لا يرفع اليد الّتي لا يعرف أصلها ما لم يكن معه إقرار أو بيّنة ، وقد بسطت القول على هذا في المسألتين (١٤١٨) و (١٤٧٤) من «صوب الرّكام».

ثمّ رأيت الكبسيّ نقل في «تاريخه» عن كلّ من الخزرجيّ والجنديّ : أنّ طغتكين بن أيوب لمّا استولى على اليمن .. دعته نفسه إلى شراء أرضهم بأسرها ، وأمر المثمّنين أن يثمّنوها لتكون الأرض كلّها للحكومة بعد دفع ثمنها ، ومن أراد حرث شيء منها .. فليصل إلى الدّيوان ، وليستأجر من وكلاء الحكومة ، ولكن عاجلته المنيّة دون تنفيذ ذلك باليمن ، ومعلوم أنّه وصل إلى حضرموت.

__________________

(١) جاء في هامش المخطوط : (لعل سيّدي مفتي حضرموت لم يبلغه أنّ هؤلاء مقرّين بالحقّ لأهل المال ، وإنّما الّذي يأخذونه من المال هو مجرّد حقّ الشّراحة).

٩٥٩

وأنّ موته لم يكن إلّا بعد رجوعه عنها ، فلعلّه قد نفّذ فيها هذه الفكرة ؛ لأنّ أهلها عبيد من غلبهم من غيرهم ، فلن يمتنعوا من شيء ، تصداق قول مروان بن أبي حفصة يخاطب معنا [في «ديوانه» ٧٥ من الطّويل] :

وطئت خدود الحضرميّين وطأة

بها ما بنو من عزّة قد تضعضعا

فأقعوا على الأستاه إقعاء معشر

يرون اتّباع الذّلّ أولى وأنفعا

فلو مدّت الأيدي إلى الحرب كلّها

لكفّوا وما مدّوا إلى الحرب إصبعا

وأخرى : وهي أنّ النّجير وخبايه وأعمالهما فتحتا عنوة ، فيأتي فيهما ما يأتي في سواد العراق (١).

ومن وراء المسنّده إلى الشّرق : خبايه

وفيها كانت رياض القطا ، بشهادة قول ياقوت [٣ / ١٠٩] : (والرّياض علم لأرض باليمن ، كانت بها واقعة للبيد بن زياد البياضيّ بردّة كندة أيّام أبي بكر رضي الله عنه).

وقال الشّاعر [من المتقارب] :

فما روضة من رياض القطا

ألمّ بها عارض ممطر

ومع هذا فقد تشكّك في [٣ / ٩٣ ـ ٩٤] في موضع روض القطا ، وذكر قول الأخطل [في «ديوانه» ٢٣٠ من الطّويل] :

وبالمعرسانيّات حلّ وأرزمت

بروض القطا منه مطافيل حفّل (٢)

__________________

(١) سواد العراق : هو رستاق العراق ، أي : قراه ومزارعه وضياعه التي فتحها المسلمون في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، سمّي بذلك لسواده بالزروع والنخيل والأشجار لأنه تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر ، كانوا إذا خرجوا من أرضهم .. ظهرت لهم خضرة الزروع والأشجار فيسمونه سوادا. وهو في العرف : من حديثة الموصل طولا إلى عبادان ، وعرضا : من العذيب بالقادسية إلى حلوان ، فيكون طوله : (١٦٠) فرسخا. وينظر : «معجم البلدان» مادة (سواد) ليعلم كم كان المسلمون يجبون من هذا السواد ، إذ بلغ في عهد أمير المؤمنين عمر إلى مئة وثمانية وعشرين مليون درهم.

(٢) المعرسانيّات : اسم موضع. أرزمت : حنّت. المطافيل : الظّباء القريبة العهد بالنّتاج. الحفّل : المجتمعة.

٩٦٠