إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

وقد قلت بمناسبة ذلك قصيدة توجد بمحلّها في الجزء الثّالث من «الدّيوان» ، ومنها [من الكامل] :

لا شامت قرّت له عين ولا

تركته يسمع في الطّريق موبّخا

ومنها ما قلته في وصف ذلك الجيش ومعدّاته الهائلة :

جيش تميد به الفلاة ومنظر

منه الرّعان تكاد أن تتفسّخا (١)

هضبات فولاذ تقلّ مدافعا

ملئت وقد سارت قطارا فرسخا

وقذائف لا يستقلّ لرميها

حصن وطيد الرّكن حتّى ينفخا

سلّ الأمير وما بمحجمة دم

يوم الهجوم من البريء توسّخا

يوم أجرّ من المذلّة ألسنا

وأمدّ أخرى بالتّطوّل بذّخا

فيه الشّنافر يضحكون شماتة

وسيجهشون إذا الظّلام تدخدخا (٢)

كم من طويل شامخ عرنينه

لا بدّ بعد اليوم أن يتنخنخا (٣)

وكذلك كان الأمر ، فقد صار الشّنافر بعده أذلّ من أبناء السّبيل ، حتّى لقد منعوا حمل السّلاح ، بل منعوا من إطلاق البنادق في أفراحهم.

ومن الغرائب : أنّ ضبعا وقع في شبكة أحدهم ، فما جسر أن يطلق بندقيّته عليها ، فبقيت تناوص وهو ينظر إليها حتّى هربت.

وما أظنّ الأمر يبلغ إلى ذلك ، ولكنّه من خور العزائم واستيلاء الذّلّ ، وما أجد لصاحب الضّبع مثلا إلّا عليّة بنت المهديّ ، فلقد منعها الرّشيد أن تذكر غلاما كانت تتّهم بهواه ، واسمه طلّ ، فبينما هي تتلو كتاب الله إذ انتهت إلى قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ) فلم تجسر أن تقول (فَطَلٌ) وإنّما قالت : (فإن لم يصبها وابل .. فما

__________________

(١) الرعان : الجبال الطويلة ، تميد : تميل.

(٢) جهش للبكاء : استعدّ له واستعبر. تدخدخ : اختلط ظلامه.

(٣) يتنخنخا : مأخوذ من النّخّ ، وهو بروك الإبل ، وهو هنا كناية عن الذّلّ ، على حدّ قول الشّاعر :

ما طار طير وارتفع

إلّا كما طار وقع

٦٤١

نهى عنه أمير المؤمنين). فظهر عليها وكان ذلك بمسمع من الرّشيد بحيث لا تشعر وقال لها : ولا كلّ ذلك يا أخيّه (١).

أمّا نفقات ذلك الجيش فلا يزال أمرها مجهولا ، وقد أخبرني من لا يتّهم أنّ أحد رؤساء الإنكليز خطب بالمكلّا مع سفره عنها ، وقال في خطبته : إنّ البتّ في نفقات ذلك الجيش مؤخّر إلى الفرصة المناسبة ، ولا شكّ أنّها ستكون باهظة جدّا (٢).

أمّا عبيد صالح .. فقد بقي بعدن موفور الكرامة مدّة من الزّمان ، ثمّ أذن له في السّفر إلى سنغافورة ، وبقي يتردّد بينها وبين بتاوي ، معتمدا على أمواله ، رخيّ البال ، مشروح الصّدر ، قد أراحته الحكومة من الحالة الّتي توغر الصّدر ، وتقبض النّفس ، وتطيل التّعب والعنا في مسايسة من لا بدّ له منهم في الدّفاع عن الغرفة ، من أمثال الحموم الّذين يتجنّون عليه ويملؤون قلبه كلّ يوم قيحا وغيظا ، ويأتي فيهم قول المتنبّي [في «العكبريّ» ١ / ٣٧٥ من الطّويل] :

ومن نكد الدّنيا على الحرّ أن يرى

عدوّا له ما من صداقته بدّ

حصون آل كثير

والغرفة محاطة بحصون آل كثير :

ففي شرقيّها : حصون آل خالد بن عمر ، وفي الرّسالة الّتي طبعها الشّيخ عبيد بن عبدات ووزّعها بين النّاس ، ما يصرّح بأنّ آل خالد بن عمر لم يبنوا ديارهم بذلك المكان إلّا بمخابرة من آل الفاس.

وفيها أيضا : أن ديار آل الفاس كانت بالجانب الغربيّ من السّليل ، في شمال ديار آل فحيثا.

__________________

(١) القصّة في «المستطرف» (١ / ١٠٠).

(٢) لمعرفة نهاية أمر ابن عبدات .. ينظر : «حركة ابن عبدات في الغرفة بحضرموت ١٩٢٤ ـ ١٩٤٥ م» بحث أعده الأستاذ المساعد الدكتور محمد سعيد داود بكلية التربية بالمكلا ، ضمن فعاليات الندوة التاريخية حول «المقاومة الشعبية في حضرموت» المنعقدة في كلية التربية (٢٥ ـ ٢٦) فبراير (١٩٨٩ م).

٦٤٢

وفيها أيضا : أنّ لآل الفاس ذكر في كلام الشّيخ سعد السّوينيّ حيث يقول : (باسير أرض لنفاس من ظلم بلفاس) وهذا يدلّ على تقادم عهدهم.

وفي الصّلح الواقع بين آل خالد وآل الفاس سنة (١٣٣٦ ه‍) .. كان من الشّروط لآل خالد : أن يستقلّوا بولاية الحول.

ومن الشّروط عليهم : أن تهدّم حصونهم تلك ، فهدّمت ، ولكنّ آل الفاس ابتنوا بها مخفرا وسمّوه (خيبر) تشبيها لآل خالد باليهود ، فكانت حزازة في نفس الشّيخ صالح عبيد ، يتحيّن الفرص لأن يثأر بها فمات بحسرته ، ولكنّ ولده عبيدا أثلج خاطره وبلّ غليله ، فتمكّن من استمالة عزّان بن محمّد أحد بلفاس ، حتّى مكّنه من دياره ومن دار محمّد بن شعبان في مثوى آل الفاس ومن ذلك المخفر فهدمه ، ولكنّها لم تطل مدّته من بعد ذلك.

وبينما عزّان بن محمّد راجع من الغرفة ذات يوم ، بعد تسليمه دياره لعبيد صالح .. بصر به آل الفاس ، فأطلقوا عليه الرّصاص حتّى قتلوه ، ورفعوا محمّد بن شعبان إلى الحكومة ، فأخذته إلى المكلّا ، ثمّ ردّته إلى سجن سيئون ، وبه كان هلاكه.

ومن اللّطائف : أنّني زرت سيّدي الشّهم الفاضل محمّد ابن سيّدنا وشيخنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر في سنة (١٣١٨ ه‍) .. فألفيت منزله ملآنا برجال آل الفاس ، للتّرضية عن حال صدر عن بعض سفهائهم إزاء بعض أتباعه وخدمه ، وإذا رجال عليهم وسام ، ولهم بسطة في الأجسام ، وغرر باهرة ، ووجوه زاهرة ، ولحى غالية ، وهمم عالية.

إذا لبسوا عمائمهم طووها

على كرم وإن سفروا أناروا (١)

ورئيسهم لذلك العهد الشّيخ صالح بن محمّد بلفاس ، قدّموه عليهم عندما بقل عارضاه ، وما زال على رئاستهم إلى أن مات عن عمر طويل ، وكان جميلا طويلا ، يأتي فيه قول الرّضيّ (٢) :

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لأبي الطمحان القيني.

(٢) البيت من الطويل ، وهو ليس للشريف الرضي ، بل للبحتري في «ديوانه» (١ / ٧٤) ، من قصيدته

٦٤٣

مضى مثل ما يمضي السّنان وأشرقت

به بسطة زادت على بسطة الرّمح

وقول ليلى الأخيليّة [من الطّويل] :

فنعم فتى الدّنيا وإن كان فاجرا

وفوق الفتى لو أنّه غير فاجر

بعد إبدال (فاجر) ب (ظالم) ، وقد ذكرنا هذا البيت لمحسن بن عبد الله بن عليّ العولقيّ ولغيره ، وصالح محمّد هو الأحقّ به.

وقبيل أن يهلك محمّد بن شعبان وردني في جماعة من آل الفاس ـ لا يقلّ عددهم عن عشرة ـ في مسألة ، فتعجّبت من قصر قاماتهم وصغر هامتهم ، ولم أصدّق ـ إلّا بعد الإلحاح في السّؤال ـ أنّهم من سلالة أولئك ، وهكذا يهرم الزّمان ، وتتراذل الأيّام.

وكانت لآل الفاس قبولة حارّة ونجدة قويّة ، ولهم مع آل خالد بن عمر خاصّة ، ومع آل عبدات عامّة حروب لم تضرع فيها خدودهم ، ولا زلّت فيها نعالهم.

وقد بلغ من جرأتهم أنّهم أخفروا آل جعفر بن طالب ، وقتلوا واحدا من آل عبدات في غربّي تريس ، ومعه أحد آل جعفر بن طالب ، فنضخ رشاش دمه في ثيابه ، ولم ينتصفوا منهم.

ولم يبق بحصونهم منهم اليوم إلّا نحو الثّلاثين رجلا ؛ إذ صار مثوى العلويّين وآل كثير اليوم بجاوة.

وحصون آل الفاس : واقعة في شمال حصون آل خالد بن عمر المهدومة. وفي شرقيّ الغرفة متشاملة : حصون آل العاس ، لا يزيدون عن اثني عشر رجلا. ثمّ : حصون آل عون ، وهم نحوهم في العدد. ثمّ : حصون آل مهريّ ، الّتي سكنوا بها بعد جلائهم عن سحيل شبام ، وعددهم بحضرموت نحو العشرين رجلا.

__________________

التي يمدح فيها الفتح بن خاقان ، والتي مطلعها :

هل الفتح إلّا البدر في الأفق المضحي

تجلّى فأجلى اللّيل جنحا على جنح

٦٤٤

يرقق

هو وادي الغرفة في شرقيّها ، وهو واد أنيس ، في أعلاه قلوت كثيرة يتنزّه النّاس فيها بعقب السّيول ، ينهر إليه الماء من النّجد المنبسط من حضرموت إلى ما شاء الله.

وهو نجد واسع تتفرّق مياه الأمطار منه على وادي العين ، ووادي بن عليّ ، ووادي يرقق ـ هذا ـ ووادي شحوح ، ووادي يثمة ، ووادي يثيمة ، ووادي مريمه ، ووادي تاربه.

وليرقق ذكر كثير في «ديوان الشّيخ عمر بن عبد الله بامخرمة».

وكان سيّدي الأستاذ الأبرّ كثير التّحنّث فيه ، وربّما أقام به اللّيالي العديدة في أوائل أمره يتعبّد الله.

وفي منتصف الجبل الّذي بجنوب الغرفة بقايا مخفر يقال له : كوت ابن قملا (١) ، وقد اختلف عليّ المعمّرون في الجواب عنه :

فبعضهم قال : ابن قملا استولى على الغرفة وابتنى ذلك الكوت ليأمن به عادية آل كثير. وقال آخرون : إنّما بناه آل كثير ليكون حاميا لهم من شرّه.

والحقّ أن لا تخالف ؛ لأنّ ابن قملا إنّما يصول في جهة آل كثير بهم .. فهو وإيّاهم ومن تابعه من غيرهم يد واحدة. والله أعلم.

حصون العوانزه

هي واقعة في شرقيّ حصون آل الفاس. والعوانزه من العوامر ، وهم قوم كرام ، وفيهم صالحون فضلاء.

منهم : الشّيخ عوض بن عبد الله بن عانوز ، له مناقب شهيرة ، ومحاسن كثيرة ،

__________________

(١) الكوت : هو كما قال عنه المؤلف يشبه المخفر ، أو مركز مراقبة ، يبنى بأعلى الجبال المطلة على المدن الشهيرة بحضرموت ، ويوجد لهذا الكوت نظائر كثيرة ، منها كوت الخبّة المطل على شبام ، الذي بني سنة (١٣٣٣ ه‍) كما في «مذكرات» الشيخ سالم باسويدان.

٦٤٥

كان سيّدي الأستاذ الأبرّ يزوره ، ويطلب دعاءه ، ويتبرّك بالنّظر إليه.

وكان له الضّلع الأقوى في حادثة المحايل ، ولمّا انتهت بانهزام يافع .. خرج السّلطان غالب بن محسن إلى عند الشّيخ عوض بن عبد الله بن عانوز ، بكثير من الرّصاص والباروت ، مكافأة له على ما أبلى وأنفق ، فردّه وقال : إنّما أردت بمعونتي وجه الله تعالى ، فعرض عليه ولاية تريس .. فلم يقبل ، وقال له : لا أريد منكم إلّا الشّفقة بالّذين يحرثون آبارنا بأعمال تريس.

ومنهم : الشّيخ جعفر بن عليّ بن عانوز ، كان كسابقه ، كثير العبادة ، شديد الورع ، طويل الصّلاة. وكان سيّد الوادي الحسن بن صالح البحر إذا كتب إليه .. يقول له : (الولد جعفر بن عليّ).

وكنت أقول له : هل قتلت أحدا بيدك في واقعة المحايل؟ .. فيقول : إنّهم بغاة.

ولأبيه ذكر كثير في الحروب الواقعة بين يافع وآل كثير ، يدلّ على أنّه صدر من صدور القبائل وأولي رأيها وزعامتها.

وكان العوانزه يسكنون المحترقه ، فتنكّدوا من ملوحة مائها ، ولحقهم من ذلك عناء شديد ، فانتقلوا عنها إلى تلك الحصون الّتي لم يتمكّنوا من بنائها إلّا باجتماع خرق العادة من آل كثير والعوامر ، ورابطوا حواليها إلى أن انتهى بناؤها بالرّغم من معاطس يافع بتريس وغيرها ، وجرت بينهم في ذلك معارك ، وأريقت فيه دماء.

ومع صلاح العوانزه وفضلهم .. فقد كانوا من أشجع النّاس وألدّهم على الأعداء ، ولهم في واقعة المحايل المشهورة اليد البيضاء ، والنّصيب الأوفى.

أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا

وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدّوا (١)

وإن قال مولاهم على جلّ حادث

من الأمر : ردّوا فضل أحلامكم ردّوا

ومنهم قوم منتشرون بوبار وعمان ، ولا يزالون معهم على اتّصال ، وفي الوقت الأخير ـ أي منذ نحو من خمس سنوات ـ زارهم شيخ من العوانزه بعمان ، يظهر على

__________________

(١) البيتان من الطّويل ، وهما للحطيئة في «ديوانه» (٤١).

٦٤٦

وجهه وعينيه أثر الشّهامة والنّجدة ، وقد قضى عندي سحابة يوم حدّثني عن أخبارهم وكثرتهم وعن وبار وخصوبتها .. بالتّعاجيب ، ولكنّي نسيت اسمه حال رقم هذا.

ورجال العوانزه بحصنهم اليوم ، لا يزيدون عن اثني عشر رجلا.

حصون آل جعفر بن بدر

من الفخائذ

هي واقعة بإزاء الغرفة من الجبل النّجديّ في شرقيّ المحترقه ، وهم أهل بساطة وحسن ظنّ وسلامة صدور ، ينتسبون بالخدمة إلى السّادة آل خيله ، ورئيسهم اليوم : محمّد بن سالمين ، على غرار السّابقين في استواء العلانية والسّريرة ، والسّير بسوق الطّبيعة ، والبعد عن الخداع والاحتيال.

وعدد رجالهم اليوم بالتّقريب أربعون.

وأقرب النّاس إليهم : آل منيباري ، ولكن نزغ بينهم الشّيطان في الأخير ، وجرى بينهم من الشّرّ ما أشرنا إلى بعضه في «الأصل».

حصون آل منيباري (١)

وهي من وراء حصون آل جعفر بن بدر. ويقال لمجموعهما : حصن خزام.

وقد ذكرنا في «الأصل» أنّ أوّل من بناه : الشّيخ سعيد بن عامر بن منيباري ، وذكرنا جملة من أخباره ، وأنّه كان بسحيل سيئون فانتقل إلى الحصن لمّا أثرى ، وكان فقيرا مملقا لا يملك غير اثني عشر ريالا ، اشترى بها ثورا في حلقة ، فشكا إلى الحبيب عبد الله بن علويّ العيدروس .. فدعا له ، فابتاع الثّور في يومه بأربعة وعشرين ريالا ، فبارك الله فيها ونمت تجارته كما ينمو الدّود ، فتأثّل الأموال الكثيرة.

__________________

(١) آل منيباري : فخيذة من آل عون من آل كثير الشنافر.

٦٤٧

وكان آل منيباري أهل نجدة ، حتّى إنّه لا يقوم ليافع أحد من آل كثير سواهم ، فكانوا يحسبون لهم ألف حساب.

وإليهم وإلى آل عبد الله بن سعيد بن جعفر بن طالب كان مرجع آل كثير في عظيمات الأمور ، وكانوا كما قال الشّريف الرّضيّ [من الطّويل] :

مليّون في يوم القضاء إذا انتدوا

بجدع القضايا من أنوف المظالم

وإن منعوا النّصف .. اقتضوه وأفضلوا

على النّصف بالأيدي الطّوال الغواشم

وكان لهم حصن في نخيل سيئون في شمالها ، بنوه في أيّام يافع بعكر البارود (١) ، في الوقت الّذي نهضوا فيه ببناء حصن العوانزه ، فآل كثير ساعدوا العوامر على بناء حصن العوانزه ، والعوامر ساعدوا آل كثير في بناء حصن آل منيباري المسمّى حصن العجوز ، وكانت يافع تمنعهم عن بنائه ، حتّى لقد أصلحوا اللّبن لبنائه ، فمرّ عليه أحد آل باعطوه وقال :

يا المدر يا المدر با تبتني وين عادك

تبتني تبتني مالين إلّا سرادك

عادنا انفعك في مضواك ولّا برادك

فهيّج آل كثير بذلك ، فحالفوا العوامر ، وتمّ ما أرادوا.

وكان هذا الحصن بلاء على الدّولة الكثيريّة ؛ إذ لا ينجم بينهم أدنى حادث إلّا رابطوا فيه ، وأطلقوا الرّصاص منه على ضواحي سيئون وجانبها الغربيّ ، فانقطعت الأسباب ، وتعطّلت المعايش.

وكان السّيّد حسين بن حامد حريصا على محالفتهم ؛ لقبضهم بالمخنق في سيئون ، وما زال يكاتبهم ويخاطبهم في ذلك حتّى استقدمهم هم وآل جعفر بن بدر إلى المكلّا ، وهناك تمّ الحلف بينهم ، وفي وثيقته المحرّرة بتاريخ (١٢) محرّم سنة (١٣٣٣ ه‍) ، عاهد آل منيباري وآل جعفر بن بدر على أنّهم عيال الدّولة وأولاده ،

__________________

(١) هي كلمة تقال لغرض الأمر بالقوة ؛ أي : ابتنوه على الرغم من يافع .. فهو مدح لهم بالشجاعة.

٦٤٨

ومنه وإليه ، وأرضهم ومثاويهم أرض الدّولة ومثاويه ، وأرض الدّولة كذلك لهم المنافع مثل أرضهم ، وهم تبعة وسمعة للدّولة القعيطيّة مثل أمثالهم من الحلفاء ، ولا يعتذرون عن داعي الدّولة عند الحاجة ، والدّولة كذلك لهم منه المنفعة ؛ بحيث يصل نفعه قريب أو بعيد.

وعليهم للدّولة أن يقوموا حسب طاقتهم وقدرتهم ، بكلّ ما يجلب للدّولة الصّلاح ويبعد عنه الضّرر ، وكذلك الدّولة من جانبه.

وشلّوا وبدّوا بوجوههم (١) أنّ كلّ ما يشوم ويلوم الدّولة ويعلق بوجهه .. فهو بوجههم ، من حال ومال ، وطارفة عسكريّ أو رعويّ ، أو غيرهما .. يتعلّق بالدّولة فعليهم إذا علموا بخلاف على الدّولة أن يقوموا فيه حسب طاقتهم.

وقد كتب بينهم وثر بتاريخ هذا الحلف على شروط عليهم للدّولة ، وشروط لهم من الدّولة ، وأقرّ المذكورون بالسّيادة للدّولة القعيطيّة في الجهة الحضرميّة الجميع ، وبالله الاعتماد.

وعليه إمضاء السّلطان غالب بن عوض ، وشهادة السّيّد محمّد بن سقّاف ، والسّيّد حسين بن حامد وغيرهم.

ولكنّه لم ينّفذ منه شيء ؛ لأنّ السّيّد حسين رغب فيما بعد ذلك إلى مصالحة الدّولة الكثيريّة ، ولمّا تمّت .. استغنى بها عن حلفهم وحلف آل جعفر بن بدر ـ الّذي لم يجعله إلّا تمهيدا لحمل الدّولة على المصالحة ـ ولكنّ حلف الدّولتين لا يزال على دخن إلى اليوم.

وبإثر جلاء عبيد صالح بن عبدات وهن جانب آل كثير ، واستنهر فتقهم (٢) ، وانهار ركنهم ، فتوسّعت مملكة الدّولة الكثيريّة على حساب النّفوذ الإنكليزي ، وجاءها القوس بلا ثمن ، واستولت على حصن بئر العجوز صفوا عفوا ، وجرى أخيرا على

__________________

(١) هذه من عبارات تلك المعاهدة ، وشلّ فلان بوجهه وبدّى ، أي : التزم بالعهد.

(٢) استنهر النّهر : حفر لمجراه موضعا مكينا ، واستنهر الفتق : كناية عن تأصّله وتمكّنه وتوسعه.

٦٤٩

رئيس آل منيباري ـ وهو الشّابّ الشّهم النّشيط محمّد عامر بن محمّد بن منيباري ـ نوع من الضّغط بسيئون ، ثمّ سوّيت المسائل بالحسنى.

وعدد آل منيباري اليوم لا يزيد مع عبيدهم عن خمسة وأربعين رجلا.

تريس (١)

هي من قدامى البلدان ، ولم يذكرها ياقوت ، ولم يزد الطيّب بامخرمة على قوله : (تريس : قرية من قرى حضرموت ، شرقيّ محلّة المشايخ آل باعبّاد المعروفة بالغرفة ، ذكرها القاضي مسعود) اه (٢)

وفي موضع من «صفة حزيرة العرب» للهمدانيّ [ص ٢٩٣] : (تريم من ديار تميم ، وتريس بحضرموت) اه

ولعلّ تريسا فيه محرّفة عن تريم ؛ لأنّه الأليق بالسّياق.

وفي «الأصل» عن صاحب «معجم البلدان» عن «معجم البكريّ» أنّها : (سمّيت باسم تريس بن خوالي بن الصّدف بن مرتع الكنديّ) اه

ثمّ رأيت «معجم البكريّ» فإذا النّقل صحيح ، وفيه : أنّ لتريس أخا اسمه مديس ، وما ذكره من سبب التّسمية معقول ؛ فإن أغلب سكّانها من أعقاب الصّدف ، ففيها مثرى المشايخ آل باكثير ، وقد سبق في شبام أنّ منهم الشّيخ عبد الله بن أحمد بن محمّد ، أحد أصحاب الإمام البخاريّ.

ولكنّه جاء في «الضّوء اللّامع» [٥ / ١١] للسخاوي ذكر : عبد الله بن أحمد باكثير هذا ، وقال : إنّه أخذ عنه ، فتبيّن به أنّ البخاريّ في «التّاج» [١٤ / ٢١] مصحّف تصحيفا مطبعيّا عن السّخاويّ ، وقد ترجم السّيّد عبد القادر العيدروس في «النّور السّافر» [١٧٨] للشّيخ عبد الله بن أحمد باكثير هذا ، وذكر أنّ وفاته سنة (٩٢٥ ه‍) ،

__________________

(١) تبعد عن سيئون (٣) أميال إلى جهة الغرب.

(٢) نسبة البلدان (ق ٦٠).

٦٥٠

وولادته بحضرموت ، وطلبه للعلم بغيل باوزير. وكانت وفاة السّخاويّ بالمدينة المشرّفة سنة (٩٠٢ ه‍).

ولا بأس بعلامة الدّرك بعد الفوت أن نتمثّل بقولهم : (إن ذهب عير .. فعير في الرّباط) ؛ لأنّه إن فاتنا الشّيخ عبد الله بن أحمد باكثير .. ففي أيدينا من هو أقدم وأولى بالذّكر منه وهو الشّيخ عبد الله الحضرميّ الّذي كان يخطّىء الفرزدق في أشعاره ، فهجاه فخطّأه في نفس هجائه .. جاء في «خزانة الأدب» [١ / ٢٣٧] بعد ذكره لذلك ما نصّه : (وعبد الله هذا هو عبد الله بن أبي إسحاق الزّياديّ الحضرميّ ، قال الواحديّ في كتاب «الإغراب في علم الإعراب» كان عبد الله من تلامذة عتبة بن سفيان ، وهو من تلامذة أبي الأسود الدؤليّ واضع النّحو ، وليس في أصحاب عتبة مثل عبد الله ... إلى أن قال : وكان يقال : عبد الله أعلم أهل البصرة وأعقلهم ، وفرّع النّحو وقاسه ، وكان أبو عمرو بن العلاء قد أخذ عنه النّحو ، ومن أصحابه الّذين أخذوا عنه النّحو : عيسى بن عمر الثّقفيّ ، ويونس بن حبيب ، وأبو الخطّاب الأخفش) اه

توفي سنة (١١٧ ه‍) ، وهو ابن ثمان وثمانين سنة ، وصلّى عليه بلال بن أبي بردة ، وقد ذكرناه هنا عن غير كبير مناسبة ؛ لأنّ فيه تعزية عن باكثير. قال شنبل : وفي سنة (٩١٢ ه‍) توفّي الفقيه القاضي شجاع الدّين محمّد بن أحمد باكثير في سيئون ، ودفن بها.

وفي سنة (٩١٣ ه‍) : توفّي الرّجل الصّالح عتيق بن أحمد باكثير ، وهذا هو جدّ آل بن عتيق أصحاب مدوده.

وقد ألّف العلّامة الجليل ، شيخنا الشّيخ محمّد بن محمّد باكثير كتابا سمّاه «البنان المشير إلى علماء وفضلاء آل باكثير» (١).

وممّن بتريس منهم : الشّيخ أبو بكر بن عمر ، عنده حظّ وافر من الفقه ، قال الشّيخ عليّ بن عبد الرّحيم : (ولم أعلم له مشاركة في غيره ، ولي قضاء شبام بعد والدي

__________________

(١) طبع هذا «البنان» في حياة ابن المؤلف الشيخ عمر المتوفى سنة (١٤٠٥ ه‍) ، وقام بتحقيق الكتاب السيد عبد الله الحبشي.

٦٥١

وولي قضاء الغرفة وقضاء هينن ، وإليه المرجع عند المنازعات بين الدّرسة) اه

قال الشّيخ محمّد باكثير : (وكانت وفاته في حدود سنة ١٠٨٣ ه‍) (١).

ومنهم : الشّيخ عبد الرّحيم بن محمّد بن عبد الله المعلّم بن عمر بن قاضي باكثير (٢) ، وإنّما قيل لجدّهم : (قاضي) ، ولم يكن به ؛ لأنّه حضر نزاعا في مشكل فحلّه بفهمه ، فقيل له : إنّك لقاضي ، فلزمه ، تولّى الشّيخ عبد الرّحيم القضاء ببور نحوا من سنتين ، ثمّ حصلت عليه شدّة من بعض الظّلمة فعزل نفسه وعاد إلى بلده تريس ، ثمّ طلبه السّلطان لقضاء شبام ، ففعل وأقام سنتين وخمسة أشهر ، ثمّ تعصّب عليه الحسّاد فعزل ، وعاد إلى تريس ، واشتغل بالمطالعة ، ثمّ تولّى قضاء تريم في سنة (١٠٩٤ ه‍).

وفي سنة (١٠٩٦ ه‍) تنازع هو وآل تريم في قضيّة الهلال ، وردّ على جواب في القضيّة للشّيخ محمّد بن عبد الله باعليّ برسالة سمّاها : «المنهل الزّلال في مسألة الهلال» ، فوافقه السّيّد علويّ بن عبد الله باحسن ـ مع أنّه كان من منابذيه ـ ، والشّيخ عبد الله بن محمّد بن قطنة (٣) ، والشّيخ عبد الله قدريّ باشعيب.

وفيه يقول عبد الله قدريّ [من السّريع] :

فتريم قاضيها التّريسي غدا

يقوّم الدّين لتهنا تري

فبالحري من بعد عري أتت

تريم تزهو في ثياب الحري

وفي البيتين الاكتفاء (٤) ، وأمّا حذف الهمزة من (تهنا) للجزم .. فكما جاء في

__________________

(١) «البنان» (٧٤).

(٢) كان طلبه للعلم على يد والده ؛ إذ علمه القرآن العظيم ورباه ، وتفقه بالشيخ الفقيه النحوي عامر بن أحمد بن طاهر الخولاني ، والشيخ علي بن حسين بامهير. ورحل إلى مكة المكرمة وطلب العلم على الشيخ عبد الله بن أبي بكر القدري باشعيب وغيره.

(٣) هو الشيخ الفقيه عبد الله بن محمد بن عوض بن قطنة الشبامي. كان عالما فقيها ، له مصنفات ، عاصر الإمام الحداد ، وله ذكر في «مناقبه» ، وكان معدودا من أصحابه ، وله آثار علمية.

(٤) الاكتفاء من أبواب البديع ، وهو في قوله في البيتين : (تري) أي تريم ، و (الحري) أي (الحرير) ، وتعريف الاكتفاء وما إلى ذلك يؤخذ من كتب البلاغة.

٦٥٢

حديث توبة كعب بن مالك : «لتهنك توبة الله عليك» (١). ولم يعلم بموته ولا قبره (٢)

ومنهم : الشّيخ أبو بكر بن عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن عمر باكثير (٣) ، ولم يعلم وقت وفاته ، ولكنّه من تلاميذ السّيّد أحمد بن محمّد الحبشيّ ، المتوفّى بالحسيّسة سنة (١٠٣٨ ه‍) ، والسّيّد عبد الرّحمن الجفريّ مولى العرشة ، المتوفّى بتريس سنة (١٠٣٧ ه‍).

ومنهم : الشّيخ أبو بكر بن عثمان باكثير ، له ذكر في «مجموع الأجداد».

ومنهم : الشّيخ عبد القادر بن إبراهيم بن عبد القادر باكثير ، توفّي بتريس (٤).

ومنهم : الشّيخ إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم باكثير (٥) ، توفّي بتريس.

ومنهم : الشّيخ أبو بكر بن أحمد بن محمّد باكثير (٦) ، له مسجد بتريس.

ومنهم : الفاضل الجليل عليّ بن عبد الرّحيم بن محمّد بن عبد الله بن محمّد بن قاضي ، ولد بتريس سنة (١٠٨١ ه‍) ، له ترجمة طويلة بلا ذكر وقت الوفاة (٧) وقد ترجم لنفسه ، وذكر جماعة من آل باكثير ، ومنهم الشّيخ عبد الصّمد باكثير ، بينه وبين العلّامة أحمد بن حسن الحدّاد مساجلات شعريّة ؛ منها أنّ عبد الصّمد أرّخ ميلاد السّيّد حامد بن أحمد بن حسن بأبيات جاء فيها قوله :

__________________

(١) الحديث أخرجه البخاريّ (٤١٥٦) ، ومسلم (٢٧٦٩) بلفظ : (لتهنئك توبة الله عليك) في حديث طويل وشيّق .. فليراجع منهما. والله أعلم.

(٢) ترجمته في «البنان» : (٧٦ ـ ٨٠) ، ومن الآخذين عنه : السيد علوي باحسن ، والحبيب أحمد بن زين الحبشي.

(٣) «البنان» (ص ٨٠).

(٤) ترجمته في «البنان» (٣٣ ـ ٣٥).

(٥) ترجمته في «البنان» (٨٢).

(٦) «البنان» (٨٥).

(٧) في «البنان» (٩١ ـ ١١١) ، وفي النسخة المطبوعة التي نعزو إليها أن وفاته سنة (١١٤٥ ه‍) ، فلعل المؤلف اطلع على نسخة خطية لم تكمل. وللشيخ علي مصنفات كثيرة ، تفوق العشرين مصنفا.

٦٥٣

وقد أرّخت مولده بقولي :

(شريف عارف حبر أديب)

(٥٩٠) + (٣٥١) + (٢١٠) + (١٧) ـ

سنة (١١٦٨ ه‍)

فأجابه الحبيب أحمد بقصيدة من بحره وقافيته.

ومنهم : صاحب التّصانيف الكثيرة ، الشّيخ عليّ بن عمر بن قاضي (١) ، توفّي حوالي سنة (١٢٣٠ ه‍).

ومنهم : الخطّاط الشّيخ أحمد بن عمر بن محمّد بن عمر بن عبد الرّحيم (٢) ، توفّي بتريس سنة (١٢٤٧ ه‍). وغيرهم.

ومرجع أكثر آل باكثير في النّسب إلى الشّيخ محمّد بن سلمة بن عيسى بن سلمة الكنديّ (٣) ، تلميذ الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ المتوفّى بقيدون سنة (٦٧١ ه‍).

وقال الملك الأشرف المتوفّى سنة (٦٩٦ ه‍) : (وجدّ بني شهاب الّذين ينسبون إليه هو : محمّد بن سلمة الكنديّ ، وهو الّذي انتجع من حضرموت ، وسكن بالبلاد الشّهابيّة من أعمال صنعاء ، وله ثلاثة أولاد : حاجب وعطوة ودغفان ، ولكلّ منهم أولاد) اه (٤)

ولكن لا يمكن أن يكون هذا هو المراد ؛ لأنّ قوله : (وجدّ بني شهاب .. إلخ) يدلّ على تقدّم زمانه ، ولم يذكر من أولاده من اسمه أحمد ، ولكنّه لا يبعد أن يكون محمّد بن سلمة المذكور في كلام الأشرف هو جدّ محمّد بن سلمة المذكور في نسب آل باكثير ، والمدار في ذلك على النّقل ، فعسى أن يوجد ما يوافق هذا.

__________________

(١) «البنان» (١٢٨ ـ ١٣٤) ، وتأريخ وفاته بسنة (١٢٣٠ ه‍) يحل إشكالا سببه ما ذكره صاحب «تاريخ الشعراء» من كون وفاته سنة (١٢١٠ ه‍) ؛ لأنّ أحد أولاده وهو الشيخ عمر بن علي ولد سنة (١٢١٢ ه‍). له مصنفات كثيرة.

(٢) «البنان» (١٣٤ ـ ١٣٦).

(٣) ترجمته في «البنان» (١٣ ـ ١٤).

(٤) «الطرفة» (١٢٥) ، وقد فصّل فخائذهم فيما تلاها من الصفحات.

٦٥٤

وفي تريس خاصّة وحضرموت عامّة كثير من آل باعطوة ، فيهم الشّعراء والشّحّاذون ، فلا يبعد أن يكونوا من ذرّيّة عطوة بن محمّد بن سلمة جدّ بني شهاب (١) ، بل إنّ الأمر قريب من بعضه جدّا.

ومن أهل تريس : آل ابن حميد الصّدفيّون ، منهم : القاضي الفاضل ، الفقيه الصّالح المؤرّخ الشيخ : سالم بن محمّد بن سالم بن حميد (٢) ، توفّي بتريس في حدود سنة (١٣١٤ ه‍) عن عمر ناهز المئة ، قضاه في أعمال البرّ. وقد أحضرني والدي إليه ، فألبسني ، وأجازني ، وبارك عليّ.

أمّا السّادة العلويّون الّذين بتريس .. فقد سبق منهم ذكر السّيّد عبد الرّحمن الجفريّ ، وهو المعروف بصاحب العرشة (٣) ، ومن خطّ سيّدي عبد الرّحمن بن عليّ السّقّاف : أنّ الأستاذ الحدّاد ذكر من أمر ونهى في القرون الماضية حتى وصل إلى ذكر القرن العاشر فذكر عن الشيخ عبد الرّحمن بن محمّد الجفريّ صاحب تريس فقال : إنّه كان قد طلب العلم وعمل وسلك ولقي المشايخ ، وكان إذا أمر ونهى .. لا يبالي بمن يأمره كائنا من كان ، وإنّه رأى رجلا في المسجد يقرأ القرآن وهو لا يحسن القراءة ، فبعد الصّلاة سأل عنه؟ قال له رجل من أصحاب الدّولة : إنّه ألثغ ، وهذا مقدوره .. فقال له : وأنت يوم تصلّي ولا تطمئنّ يا فاعل يا تارك ، وبقي يصيح عليه حتّى انهزموا من المسجد ، وكان يكتب إلى بعض سلاطين الجهة : (إلى فليّن ، مردم جهنّم) اه

وقوله : فليّن : تصغير فلان.

__________________

(١) «الطرفة» (١٢٨).

(٢) ولد بتريس سنة (١٢١٧ ه‍) ، وهو مؤلف كتاب «العدة المفيدة من تواريخ قديمة وحديثة» في مجلدين وقد طبع بتحقيق السيد عبد الله الحبشي عام (١٤١١ ه‍) عن مكتبة الإرشاد بصنعاء ، وقد استقى المؤلف منه كثيرا. ينظر المقدمة التي كتبها السيد عبد الله الحبشي (١ / ٥ ـ ١٩).

وللفائدة .. فآل بن حميد هؤلاء من كندة ، وهم غير آل حميد شراحيل سكان شبام والشحر. وغير آل باحميد سكان مدوده وسيئون ، وكلهم بضم الحاء وفتح الميم ـ تصغير حمد.

(٣) المتوفى سنة (١٠٣٧ ه‍) ، ترجمته في «المشرع» (٢ / ٣٢٠ ـ ٣٢١).

٦٥٥

وقد كان جدّه عبد الله من أهل تريس (١) ، ومن ذرّيّته السّيّد علويّ بن عمر بن سالم (٢) ، تولّى القضاء بشبام.

وعيدروس وعبد الله ابنا أحمد أخيار فقهاء ، توفّي الأخير منهما بتريس سنة (١٢٦٤ ه‍).

ومن ذرّيّة شيخان بن علويّ بن عبد الله التّريسيّ (٣) : العلّامة الجليل علويّ بن سقّاف بن محمّد بن عيدروس بن سالم بن حسين بن عبد الله بن شيخان المذكور ، وهو الشّيخ الخامس عشر من مشايخ سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر (٤) ، كان واسع العلم والرّواية ، متفنّنا ، وله رحلات إلى اليمن وغيرها.

وكان هو وسيّدي الجدّ محسن بن علويّ أخصّ تلاميذ سيّدنا الحسن بن صالح البحر ، وكان الحقّ عنده فوق كلّ عاطفة ، من ذلك :

أنّ بعض الوهّابيّة أنكر على آل حضرموت جعلهم ختم المجالس بالفاتحة على الكيفيّة المعلومة سنّة مطّردة ، مع أنّه لا دليل على ذلك ، فردّ عليه سيّدنا طاهر بن حسين بردّ خرج مخرج الخطابة والوعظ (٥) ، فنقضه الحبيب علويّ بن سقّاف الجفريّ هذا برسالة سمّاها «الدّلائل الواضحة في الرّدّ على رسالة الفاتحة» ، ترجم فيها لابن تيمية ، وتلميذه ابن القيّم ، وللشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب صاحب الدّعوة المشهورة ، وأطنب في الثّناء عليهم.

__________________

(١) وهو الملقب بالتريسي ، وأخواله هم آل بادبّاه من قوم الشيخ عمر المتقدم ذكره في صداع.

(٢) ذكره الحبيب عيدروس في «العقد» ، عاش في القرن الثالث عشر ، وهو من شيوخ العلامة علوي بن سقاف الجفري.

(٣) قال في «شمس الظهيرة» (٢ / ٤٢٤): (وأما شيخان بن علوي بن عبد الله التريسي .. فعقبه آل الجفري بجاوة بسورابايا ، وقدح ، وبهان ، والمدينة ، وتريس) اه ومنهم : آل الصافي الجفري بدوعن ومصوّع وسواكن وعدن ، وغيرها.

وقوله : قدح وبهان ينطقان الآن (كده) و (فاهانغ) وهما في جمهورية ماليزيا حاليا.

(٤) ترجمته في «عقد اليواقيت» : (٢ / ١٩ ـ ٢٤).

(٥) وهو المسمّى : «المقالة الواضحة».

٦٥٦

ولمّا اطّلع عليها الحبيب عبد الله بن حسين .. كتب عليها بخطّه : (علويّ بن سقّاف يقول الحقّ ولو كان مرّا)!!

غير أنّني تحيّرت زمانا في الحبيب عبد الله بن حسين هذا المقرّض ، أهو بلفقيه أم ابن طاهر؟ حتّى تذكّرت ما جاء في خطّ السّقّاف الّذي سيّره للسّيّد أحمد بن جعفر الحبشيّ ـ حسبما سبق في الحوطة ـ من قوله : (وأذعن لمصنّفه من لا يحبّه) ، فعرفت أنّ المراد بلفقيه ؛ لأنّه هو الّذي لا يحبّ مؤلّف «الدّلائل الواضحة» ؛ لاتّساع شقّة الخلاف بينهما في عدّة مسائل فروعيّة ، تبودلت بينهما في بعضها الرّدود اللّاذعة من الطّرفين.

وكانت «الدّلائل الواضحة» عندي .. فاستعارها منّي الفاضل الأديب السّيّد حسن بن عبد الله الكاف ، ثمّ لم يردّها وأحالني إلى عدن بعدّة كتب قياضا عنها ، فلم تدفع الحوالة ، وأخاف أن يكون أعدمها ؛ فإنّه بخوف شديد من أن يطّلع عليها الإرشاديّون فيجمعوا منها أيديهم على حجّة ضدّ العلويّين فيما هم فيه مختلفون.

ومن هذا ومن أخذ الجماعة كلّهم عن السّيّد أبي بكر بن عبد الله الهندوان (١) ـ وهو وهّابيّ قحّ ـ تبيّنت أنّ عند مولانا شيخ الوادي الحسن بن صالح مسحة من تلك الآراء بغاية الاعتدال ؛ لموافقتها لما هو فيه من الاستغراق في تجريد التّوحيد ، وعدم التفاته إلى غير الحميد المجيد.

ولا يشكل ـ على هذا ما في «بغية المسترشدين» عن فتاوى الحبيب علويّ بن سقّاف الجفريّ هذا .. من جواز التّوسّل ؛ لأنّه إنّما يبيح منه ما لا يوهم القدح في التّوحيد ، كما لا يشكل ما يوجد في بعض مكاتبات الحبيب عبد الله بن حسين بلفقيه ـ مع توهيبه ـ من الإنكار على بعض المتشدّدين في ذلك ؛ لأنّ ذلك الإنكار إنّما كان للتّهوّر وفرط الغلوّ اللّذين اشتطّ فيهما الرّجل ، وظنّي أنّه السّيّد جعفر السّالف الذّكر عمّا قريب.

__________________

(١) المتوفى بتريم سنة (١٢٤٨ ه‍) ، وهو حفيد العلامة أحمد بن عمر الهندوان ، وله ذكر في «عقد اليواقيت».

٦٥٧

وقد قال أبو سليمان الخطّابيّ ـ وهو أحمد بن محمّد بن إبراهيم ـ [من الطّويل] :

ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد

كلا طرفي كلّ الأمور ذميم

ومعاذ الله أن يخرج مولانا البحر ومن على طريقه عن حدّ الاعتدال ، ويقول بتكفير أحد من المسلمين ، إلّا بعد ثبوت المكفّر والإصرار عليه بعد الاستتابة ، وقد قال العلّامة ابن تيميّة في (ص ٢٥٨) من ردّه على البكريّ : (فلهذا كان أهل العلم والسّنّة لا يكفّرون من خالفهم) اه

مع أنّ هؤلاء ينكرون إنكارا شديدا على القبوريّين وجهّالهم ـ حسبما قاله لسان حالهم الشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان في غير موضع من كتبه ـ ولم يكونوا في ذلك بمقلّدين ، بل كما قال سيّدي عبد الله بن حسين بلفقيه حين رمى كتاب غرامة : (نحن وهّابيّون من أيّام محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الّذي جاء بتكسير الأوثان ، والحنيفيّة البيضاء).

ورأيت للسّيّد محمّد بن أحمد الأهدل سياقة توافق ما هم عليه ؛ منها : أنّ طلب التّوجّه إلى الله في المهمّات من الأولياء ـ مع اعتقاد براءتهم من الحول والقوّة والاتّصاف بالعبوديّة المحضة ـ جائز ، وهو معنى التّوسّل. ولكنّه لا يكون إلّا عند ضعف اليقين ، والأولى للمؤمن القويّ الإيمان أن لا يجعل بينه وبين الله واسطة ؛ فقد قال تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ)

وقد كان صلّى الله عليه وآله وسلّم لا يستعين إلّا بالصّبر والصّلاة ، ومتى حزبه أمر .. فزع إلى الصّلاة.

أمّا الأولياء .. فإنّهم ـ مع وجاهتهم وقرب دعائهم من القبول ـ ضعفاء فقراء لا يملكون لأنفسهم ـ فضلا عن غيرهم ـ نفعا ولا ضرّا ، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا. والمكفّرات مقرّرة حتّى في المتون ، والاستتابة واجبة ، والكلام في العلل والأسباب معروف ، والتّوسّلات من جملة ذلك .. فلا حاجة إلى الشّغب فيما الاتّفاق على أصله حاصل.

٦٥٨

وذكر البرزالي وغيره أنّ شيخ الصّوفيّة كريم الأبليّ وابن عطاء جاءا ومعهم جماعة نحو من خمس مئة يشتكون إلى الدّولة من تقيّ الدّين ابن تيميّة .. فعقد له مجلس قال فيه أن لا يستغاث إلّا بالله ، حتّى لا يستغاث بالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ الاستغاثة بمعنى العبادة ـ ولكنّه يتوسّل ويتشفّع به إلى الله .. فبعض الحاضرين قال : ليس في هذا شيء ، ورأى قاضي القضاة أنّ فيه قلّة أدب ؛ فالأمر لو لا الحسد والمنافسات الحزبيّة .. أدنى إلى الوفاق.

وما أكثر ما يوجد التّوسّل في شعري بالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أصلا وببقيّة الخمسة الأرواح تبعا ، مع فرط تكيّفي بما في السّياق السّابق من أنّ التّوسّل به صلّى الله عليه وآله وسلّم ليس كغيره ، كما نقله ابن القيّم وغيره عن ابن عبد السّلام ؛ لحديث الأعمى ، وهو مرويّ عند أحمد [٤ / ١٣٨] والبيهقيّ ، والتّرمذيّ [٣٥٧٨] ، والنّسائيّ [في «الكبرى» ٦ / ١٦٩] ، وابن ماجه [١٣٨٥] ، والحاكم [١ / ٧٠٧] ، وغيرهم.

وذكره ابن تيميّة في «القاعدة الجليلة في التّوسّل والوسيلة» ، ولم يقدر على تضعيفه بحال ، بل ولا على إنكار الزّيادة المشهورة فيه عند الطّبرانيّ [طب ٩ / ٣٠] والبيهقيّ ، وقال في تلك الرّسالة : (إذا كان التّوسّل بالإيمان بالنّبيّ عليه السّلام ومحبّته جائزا بلا نزاع .. فلم لا يحمل التّوسّل به على ذلك ، قيل : من أراد هذا المعنى .. فهو مصيب في ذلك بلا نزاع) اه

ومن هنا يكثر التّوسل في أشعاري ، ويشتدّ على القبوريّين إنكاري ؛ لأنّهم لا يقصدون ما أقصده ، وإنّما يأتون بصريح الإشراك والجهل ، فالقرائن محكمة ، والعلاقات معتبرة ، والفروق بين الحقيقة والمجاز مرعيّة ، وكلا جانبي الإفراط والتّفريط مردود.

ورأيت العلّامة ابن تيميّة في (ص ٢٥١) من ردّه على البكريّ يعذر الشّيخ يحيى الصّرصريّ الشّاعر المشهور في سؤال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد وفاته ما كان يسأل فيه أيّام حياته ؛ حيث يقول : (وهذا ـ مشيرا إلى التّسوية ما بين المحيا والممات ـ ما علمته ينقل عن أحد من العلماء ، لكنّه موجود في كلام بعض النّاس

٦٥٩

مثل الشّيخ يحيى الصّرصريّ ؛ ففي شعره قطعة منه ، والشّيخ محمّد بن النّعمان كان له كتاب «المستغيثين بالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في اليقظة والمنام» ، وهذا الرّجل قد نقل منه فيما يغلب على ظنّي ، وهؤلاء لهم صلاح ودين ، ولكنّهم ليسوا من أهل العلم) اه

وحسبنا منه عذرهم ، وبه يتبيّن أنّ ابن تيميّة لم يثبت في إنكاره الاستغاثة والتّوسّل على حال واحد ، بل يقول تارة : إنّه شرك ، وأخرى : إنّه بدعة ، والثّالثة : إنّه يعذر من يفعله من أهل الدّين والصّلاح ، وكلامه الّذي يوافق الجمهور أحبّ إلينا من كلامه الّذي ينفرد به ، وقد قال الإمام عليّ بن أبي طالب في أمّهات الأولاد قولا غير الّذي قاله بموافقة عمر ، فقال له قاضيه : رأيك مع عمر أحبّ إلينا من رأيك في الفرقة. وحسب ابن تيميّة من منصفيه أن يقولوا هكذا. والله أعلم.

رأيت في «مجلّة الفتح» أنّ أشدّ ما يتألّم منه ملك الحجاز ونجد : أن يشيع المرجفون عنه أو عن قومه أنّهم يكفّرون المسلمين أو يخرجونهم عن دائرة الدّين .. إذن فنحن وإيّاهم من المتّفقين ، وما ذكره العلّامة ابن تيميّة عن الصّرصريّ موجود بكثرة عند أهل العلم ؛ كالحافظ ابن حجر ، وابن الزّملكانيّ ، وابن دقيق العيد ... وغيرهم ، وحسبنا بهم أسوة.

ورأيت ابن القيّم في «الزّاد» يعتبر كلام الصّرصريّ في زمن ولادة النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويعدّ قوله في شعره عنها من الأقوال الّتي تذكر ، ومعاذ الله أن يثني العلّامة السّيّد علويّ بن سقّاف الجفريّ على الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب وهو يعلم أنّه يكفّر أحدا من المسلمين بمجرّد التّوسّل والاستغاثة القابلين الاحتمال ، وكان العلّامة السّيّد محمّد بن إسماعيل الأمير امتدح الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب بقصيدة تستهلّ بقوله :

سلام على نجد ومن حلّ في نجد

ولمّا بلغه عن قومه ما لا يرضاه من الغلوّ .. أنشأ قصيدته المستهلّة بقوله :

رجعت عن القول الّذي قلت في النّجدي

٦٦٠