إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

الشّجاعة ، ولكنّه مات بعده وشيكا بسمّ ـ حسبما يقال ـ دسّ إليه ، وبموته انقرضوا عن غير وارث ثابت ، فصارت نقودهم ـ المقدّرة بأكثر من عشرين ألف ألف روبيّة ، فضلا عمّا يناسبها من المجوهرات والعقارات الكثيرة ـ طعمة لبيت المال (١).

وأصبحوا لا ترى إلّا منازلهم

قفرا سوى الذّكر والآثار إن ذكروا (٢)

وسبحان من لا يدوم إلّا ملكه (٣) وما هنا ليس إلّا نموذجا لما في «الأصل» من أخبارهم الشّيّقة ، وكلّه دون ما يستحقّون ؛ لأنّ خبر الأمير عبد الله بن عليّ من أكبر أخباره ، فلو أنّنا كتبنا كلّ ما سمعناه عمّن رآه .. لكان عجبا! وموته من غير وارث قد ينافي كونه من آل عبد الله باحلوان ؛ لأنّهم معروفون في الغرفة بأنسابهم إلى الآن.

الشّحر (٤)

لها عدّة إطلاقات :

الأوّل : أنّها اسم لكلّ ما شمله حدّ حضرموت السّابق ذكره أوائل الكتاب.

الثّاني : أنّها اسم لساحل المشقاص بأسره ، فما كان منه لبني ظنّة .. فهو داخل في

__________________

(١) ولم يكن بالهند آنذاك بيت مال إسلاميّ ، إنّما استولت على التّركة الحكومة الإنكليزيّة ؛ إذ كانت مستعمرة الهند التي كانت تسمى آنذاك : درّة التّاج البريطانيّ.

(٢) البيت من البسيط.

(٣) قال المصنّف رحمه الله في «بضائع التابوت» : (ولقد رأيت قصره الفخم الضخم بحيدرآباد عندما اجتزت بها في سنة (١٣٤٩ ه‍) خرابا يبابا).

(٤) للطيب بامخرمة كلام مفيد عن الشحر في كتابه «نسبة البلدان» سيذكره المصنف في موضع لا حق ، وكان حقه أن يذكر هنا ، وقد كانت الشحر تطلق قديما على المنطقة الساحلية الواقعة ما بين عمان وساحل حضرموت جميعها. أما اليوم .. فهي من أكبر مديريات حضرموت ، وتضم أربعة مراكز متباعدة ومترامية الأطراف وهي : الديس الحامي ، والريدة ، وقصيعر ، وغيل بن يمين. وهي منطقة غنية جدا بتراثها وخيراتها النفطية والسمكية. وهي تقع على سطح متسع من الشاطىء الذي ينحدر تدريجيا إلى البحر ، ولذا ترسو السفن بعيدا عنه لضحالته ، وكان لها قديما سور له بوابتان تعرف إحداهما بسدّة العيدروس ، والأخرى بسدّة الخور ، وقد خرب هذا السور وبقيت سدة العيدروس قائمة كمعلم تاريخي.

١٦١

حدّ حضرموت ، وما كان منه للمهرة كبديعوت .. فهو شحر المهرة.

الثّالث : أنّها اسم لجميع ما بين عدن وعمان ، كما ذكره ياقوت [٣ / ٣٢٧] عن الأصمعيّ.

وكثير من يقول : إنّ ظفار هي قاعدة بلاد الشّحر ، وفي «الأصل» بسط ذلك.

الرّابع : اختصاص الاسم بالمدينة اليوم.

لكن نقل السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد عن الباب السّابع من «نخبة الدّهر» : (إنّ لحضرموت فرضتين (١) على ساحل البحر ، يقال لإحداهما : شرمة ، وهي الآتي ذكرها. وللأخرى : الشّحر ، ولم تكن بمدينة ، وإنّما كانوا ينزلون بها في خصاص (٢) ، حتّى بنى بها الملك المظفّر ـ صاحب اليمن في زماننا هذا (٣) ـ مدينة حصينة بعد سنة سبعين وستّ مئة) اه (٤)

وفي «صبح الأعشى» (٥ / ١٦) : (والشّحر ـ قال ياقوت الحمويّ : هي بليدة صغيرة ـ ولم يزد على ذلك. والّذي يظهر : أنّ لها إقليما ينسب إليها) اه

وما استظهره هو الواقع ، ولا سيّما في الأعراف القديمة ، وكانت وفاة ياقوت في سنة (٦٢٦ ه‍) ؛ أي : قبيل أن يجعلها المظفّر مدينة بمدّة ليست بالطّويلة.

وما جاء في «صبح الأعشى» عن ياقوت لعلّه من غير مادة الشّحر ، أمّا فيها من «معجمه» .. فقد أطال القول عن الشّحر ، وقال : (هو صقع على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن ، وإليه ينسب العنبر الشّحريّ ؛ لأنّه يوجد في سواحله ، وهناك عدّة

__________________

(١) الفرضة : الفتحة الّتي يدخل منها الماء ، وتطلق عرفا على الميناء.

(٢) قوله (خصاص) : الّذي في «الهديّة السّنيّة» و «الشّامل» : أنّها (أخصاص) وهي ـ كما عرّفها الحدّاد ـ : بيوت صغيرة من الخوص والسّعف.

(٣) يعني به القرن السابع ، والمظفر هو الملك يوسف بن عمر بن رسول الرّسولي ، كان تولّيه الملك في اليمن عقب مقتل أبيه سنة (٦٤٩ ه‍) ، وتوفّي هو سنة (٦٩٤ ه‍).

(٤) «الهديّة السّنيّة» للحدّاد (ص ١٦) (مخطوط) ، و «نخبة الدّهر» هو لشيخ الرّبوة محمّد بن أبي طالب الأنصاريّ (٦٥٤ ـ ٧٢٧ ه‍) ، دمشقيّ ، ولي مشيخة الرّبوة وهي من ضواحي دمشق ، وتوفّي بصفد. واسم كتابه كاملا : «نخبة الدّهر في عجائب البرّ والبحر» مطبوع.

١٦٢

مدن يتناولها هذا الاسم ، وإلى الشّحر ينسب جماعة منهم محمّد بن خويّ بن معاذ الشّحري) اه [٣ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨] باختصار.

وفي «مروج الذّهب» ذكر للنّسناس الّذي أفضت القول عنه ب «الأصل» ، ثمّ قال المسعوديّ : ووجدت أهل الشّحر من بلاد حضرموت وساحلها ـ وهي تسعون مدينة على الشّاطىء من أرض الأحقاف ، وهي أرض الرّمل وغيرها ممّا اتّصل بهذي الدّيار من أرض اليمن وغيرها ، من عمان وأرض المهرة ـ يستظرفون أخبار النّسناس إذا ما حدّثوها ، ويتعجّبون من وصفه ، ويتوهّمون أنّه ببعض بقاع الأرض ممّا قد بعد عنهم ؛ كسماع غيرهم من أهل البلاد بذلك عنهم ، وهذا يدلّ على عدم كونه في العالم ، وإنّما هو من هوس العامّة ؛ كما وقع لهم من عنقاء مغرب (١) ، ونحن لا نحيل وجود النّسناس والعنقاء ؛ لأنّ ذلك غير ممتنع في القدرة ، غير أنّه لم يرد خبر قاطع للعذر بصحّة وجود ذلك في العالم .. فهذا داخل في حيّز الممكن الجائز ... إلى آخر ما أطال به.

والذي يعنينا منه كون الشّحر فيما سلف من الزّمان تسعين مدينة ، وكون هذه الأرض تسمّى كلّها أرض الأحقاف ، وهو موافق لكثير ممّا سبق. والله أعلم.

وللشّحر ذكر في شعر سراقة بن مرداس البارقيّ ، وذلك أنّه أخذ أسيرا يوم جبّانة السّبيع ، فقدّم في الأسرى ، فقال ـ كما عند الطّبريّ وغيره (٢) ـ [من الرّجز] :

امنن عليّ اليوم يا خير معدّ

وخير من حلّ بشحر والجند

وخير من لبّى وصلّى وسجد

فعفا عنه المختار في قصّة طويلة تشهد لاستيلائه على الشّحر (٣).

__________________

(١) العنقاء : طائر أسطوري عظيم ، معروف الاسم ، مجهول الجسم. وعنقاء مغرب : أي مبعد في البلاد. وهذا قول من أحد الأقوال فيها ، ومن أراد التوسع .. فليرجع إلى «لسان العرب» (١ / ٦٤١).

(٢) تاريخ الطبري (٣ / ٤٦٠).

(٣) سيذكر المصنّف عقب ذكره المختار بن أبي عبيد الثّقفيّ .. ما وقف عليه من حوادث في تاريخ الشّحر

١٦٣

__________________

السّياسيّة بدءا من سنة (٥٧٥ ه‍) .. إلّا أنّ صاحب «الشّامل» (١١٠ ـ ١١٥) أورد أخبارا ومعلومات هامّة عن تاريخ الشّحر القديم إلى سنة (٥٤٩ ه‍) ولأنّها أخبار مختصرة ومجملة فنذكرها لفائدة القارىء ؛ قال العلّامة الحدّاد :

(للشّحر تاريخ طويل ، هو جزء من تاريخ حضرموت ، فنذكر هنا كلاما إجماليّا كالمقدمة لما يأتي والتّوطئة. فقد تداولتها أيد كثيرة ، فذكروا أنّها كانت بأيدي سبأ أيّام ملكهم ، ثمّ خلفتهم حضرموت ، فمهرة ، ثمّ تولّاها الفرس وجعلوا (اسبيخت) أي واليا من جهتهم.

ثمّ جاء الإسلام وهي كذلك .. فدخلت تحت حكم الخلفاء الرّاشدين ، ثمّ الملوك من بني صخر بن حرب الأمويّ ، ثمّ دخلت تحت حكم ابن الزّبير حتّى قتل ، فتولّاها ملوك بني مروان الأمويّون ، إلى أن ولي الأمر مروان بن محمّد الملقّب بالحمار ، فظهر في أيّامه عبد الله بن يحيى الكنديّ الإباضيّ وملكها مع سائر حضرموت واليمن ومكّة والمدينة ، ثمّ جاءته جنود بني مروان فقضت عليه ، وعادت إليهم مع سائر حضرموت ، ثمّ عادت إلى الإباضيّة في فترة الحرب بين بني العبّاس وبني مروان إلى سنة (١٤٠ ه‍). فجهز المنصور العباسيّ معن بن زائدة ، وأوعب معه الخيل ، قيل : إنّه جهّز معه أربعين ألف فارس .. فاستباح اليمن وحضرموت ، واستخلف ابنه زائدة بن معن بن زائدة ، فأقام في اليمن ثلاث سنين ، ثمّ توالت الأمراء من بني العبّاس. حتّى كانت سنة (٢٠٦ ه‍) ، فجاء ألف من مسودة خراسان مددا للأمير الّذي ولّاه المأمون العبّاسيّ على اليمن ، وهو محمّد بن زياد من ذرّيّة زياد ابن سميّة ، فعظم أمر ابن زياد وملك إقليم اليمن بأسره ، حضرموت بأسرها ، والشّحر ومرباط وأبين وعدن والتّهائم إلى حلي ابن يعقوب.

وملك من الجبال الجند وأعماله ، ومخلاف جعفر ، ومخلاف المعافر ، وصنعاء وأعمالها ، ونجران وبيحان والحجاز بأسره ، وخلفه بعد وفاته سنة (٢٤٥ ه‍) ابنه إبراهيم بن محمّد ، ثمّ ابنه زياد بن إبراهيم ، ثمّ أخوه أبو الجيش إسحاق بن إبراهيم في حدود سنة (٢٩٠ ه‍) ، فاستولى على ما كان جدّه مستوليا عليه ، ومنه حضرموت بأسرها والشّحر. وطالت ولايته نحو ثمانين سنة ، فتمنّعت عليه أطراف البلاد. واستبدّ عنه أسعد بن أبي يعفر بن عبد الرّحيم الحواليّ ، ثمّ أخوه محمّد بن أبي يعفر ، فغزا حضرموت وأجناحها. ثمّ تولّتها مهرة ؛ منهم أبو ثور المهريّ ، ثمّ عادت إلى أيدي بني زياد ، وكانت الشّحر بيده إلى سنة (٣٦٦ ه‍) كما ذكر ذلك عمارة في «مفيده» ، وتوفّي أبو الجيش الزّياديّ سنة (٣٧١ ه‍) ، ثمّ تولّى بعده ابنه ، ثمّ انقرضوا. فقام بالأمر عبد الحسين بن سلامة ، وكان أميرا نوبيّا كبيرا).

إلى أن قال : (وأقام في الملك ثلاثين سنة ، وتوفّي سنة (٤٠٢ ه‍) ، واضطرب ملك بني زياد بعد وفاته ، واستولى بنو معن من العوالق على عدن وأبين وحضرموت والشّحر. ثمّ ثار الدّاعي أبو الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ الصّليحيّ القائم بدعوة العبيديّين المصريّين ، فطوى اليمن طيّا ، ولكنه أبقى بني معن نوّابا عنه ، فلمّا قتل سنة (٤٥٩ ه‍) .. تغلّب بنو معن على ما بأيديهم من البلاد ، ثمّ

١٦٤

وكانت دولة الشّحر لكندة إلى سنة (٥٧٥ ه‍) (١) .. حيث هجم عليها الزّنجيليّ.

ثمّ تولّاها آل فارس (٢) المختلف في نسبهم : فقيل : إلى الأنصار ، وهو أبعدها.

__________________

قصدهم المكرّم بن عليّ بن محمّد الصّليحيّ إلى عدن ، فأخرجهم منها ، وولّاها العبّاس ومسعود ابني المكرّم الهمدانيّ وتغلّب في هذه الفترة على حضرموت والشّحر أمراء البلاد كما يظهر. ولم نجد تفصيلا في ذلك ؛ فهي فترة مجهولة في تاريخ الشّحر وحضرموت إلى سنة ٥٠٢ ه‍)

(١) بعد أن سردنا أحداث تاريخ الشّحر مجملة من «الشّامل» الّذي انتهى إلى سنة (٤٥٩ ه‍) .. ثمّ ذكر أنّ هناك فترة في التّاريخ الحضرمي مجهولة إلى سنة (٥٠٢ ه‍) أي حوالي بضع وأربعين سنة ، ولما أن المصنف لم يذكر إلا ما بعد سنة (٥٧٥ ه‍) .. فإننا نستأنف الكلام هنا على تاريخ الشّحر وحكم آل فارس بن إقبال ـ وهم من كندة ـ على أوسط الأقوال كما ذكر المصنّف رحمه الله :

دولة آل إقبال في الشحر :

سنة (٥٠٢ ه‍) قتل أبو أحمد بن محمّد بن فارس وابنه مظفّر في الأشحار ، [«شنبل» (ص ٢١)].

سنة (٥٠٩ ه‍) قتل راشد بن إقبال بن فارس بدوعن ، وولد ابن ابنه راشد بن محفوظ بن راشد [«شنبل» (ص ٢٤)].

قال في «الشّامل» : (فمن هاتين الكلمتين وما يأتي يظهر أنّ هذه العشيرة تعرف بآل ابن فارس ، وآل إقبال هي المتولّية على الشّحر والمنازعة في دوعن ؛ فإنّه قال ـ أي شنبل في سنة (٥١٥ ه‍) ـ : (انفرد فارس بن راشد بن إقبال بولاية الأشحار ، وخرج أخوه محفوظ منها) [«شنبل» (ص ٢٦)]. ثمّ سكت عنهم إلى سنة (٥٤٧ ه‍) ، فقال : (وفيها توفّي عبد الباقي بن فارس بن راشد بن إقبال بمأرب) [«شنبل» (ص ٣٧)]. وفي سنة (٥٧٥ ه‍) قتل راشد بن عبد الباقي بن فارس بن إقبال ، قتله الثّعين بعد أن قتل عيسى بن إبراهيم وأخاه أبا بكر [«شنبل» (ص ٤٨)]) اه انتهى كلام الحدّاد ، ثمّ تحدّث عن غزو الغزّ لحضرموت .. كما سيأتي ذكره في تريم.

(٢) الكلام على نسب آل فارس الّذين هم نفسهم آل إقبال ، كما تقدّم. فقول المصنّف : كانت دولة الشّحر لكندة .. إلخ ، ثمّ قوله : (ثمّ تولّاها آل فارس) .. يوهم أنّ الأوّلين غير الآخرين ، وهذا لعلّه سهو منه لما قدّمنا.

حكم الغزّ ثمّ عودة آل فارس : قدّمنا أنّه في عام (٥٧٥ ه‍) قتل راشد بن عبد الباقي بن فارس بن إقبال .. إلخ الخبر السابق ، وفي تلك السّنة كان قدوم الزّنجيلي عثمان الّذي عاث في حضرموت الفساد ، ولكنّه هرب من عدن سنة (٥٧٩ ه‍) لمّا جاء طغتكين بن أيّوب من مصر إلى اليمن. ثمّ عادت الشّحر إلى حكم الأهالي حتّى سنة (٦٠٩ ه‍) .. فوصل عبد الباقي بن فارس بن راشد بن عبد الباقي بن فارس بن إقبال ومعه جماعة من الغزّ وأخرجوا الأهالي ، وهرب واليها إلى تريم ، وهو فارس بن راشد ، وتوفّي بها في سنة (٦٠٨ ه‍) ، وبقيت الشّحر تحت إمرتهم إلى سنة (٦١٦ ه‍) ، وفيها خرج ابن مهديّ وطرد آل إقبال .. كما سيذكر المصنّف. ينظر «الشّامل» (١١١) ، والجزء

١٦٥

وقيل : إلى كندة ، وهو أوسطها ، ويؤيّده ما سبق في حجر أن لا تزال به طائفة من آل ابن دغّار الكنديّين ، يقال لهم : آل فارس. وقيل : إلى المهرة ، وهو الّذي رجّحته ودلّلت عليه.

وفي سنة (٦١٦ ه‍) : انقضّ ابن مهديّ (١) ـ وهو من صنائع آل رسول اليمانيّين ـ على آل فارس ، وأخرجهم من الشّحر (٢).

وفي سنة (٦٢١ ه‍) : تولّى عليها عبد الرّحمن بن راشد (٣) ، وكان يؤدّي الخراج لملوك الغزّ ، فعزله نور الدّين الرّسوليّ (٤) برجل من الغزّ ، وأضاف إليه نقيبا ، فقتل الغزّيّ ، واستولى على البلاد ، وكان عبد الرّحمن بن راشد في ضيافة نور الدّين بتعز ، فاستدعاه ، وخلع عليه ، وأمره أن يسير إلى الشّحر ، فضبطها وبقيت تحت حكمه (٥) إلى سنة (٦٧٨ ه‍) حيث دخلت الشّحر وحضرموت تحت حكم المظفّر الرّسوليّ ، ولكنّه أبقى عبد الرّحمن بن راشد عليها نائبا عنه حتّى توفّي في سنة (٦٦٤ ه‍) ، ودفن بين تربة الشّيخ سعد الظّفاريّ وتربة عمرو ، وقبره مشهور بها.

__________________

الثّاني من «جواهر الأحقاف» و «تاريخ الحامد»

(١) ابن مهديّ واسمه : عمر بن مهديّ الحميريّ اليمنيّ ، كان أميرا على جنود الغزّ من قبل الأيّوبيّين.

(٢) ولم تكن هذه هي المرّة الوحيدة أو الأولى لابن مهديّ في فتكه بآل فارس ، بل إنّه بدأ تحرّكاته الواسعة منذ عام (٦١٠ ه‍) ، وله أخبار كثيرة ، وقد قتل بشبام سنة (٦٢١ ه‍) على قول الحامد ، والّذي في «شنبل» أنّه قتل بشحوح ، وهو واد قرب سيئون ، سيأتي ذكره ، وبالتّحديد قتل في (٩) محرم (٦١٠ ه‍) ، قتلته نهد. انظر في أخبار حملات ابن مهديّ : «جواهر الأحقاف» (٢ / ١١٥ ـ ١٢٣) ، «تاريخ الحامد» (٢ / ٤٩٣ ـ ٤٩٧). «الأدوار» (١٨٠).

(٣) هو عبد الرّحمن بن راشد بن إقبال بن فارس الأصغر ابن محفوظ بن راشد بن إقبال بن فارس الأكبر ، وكان حكمه للشّحر من سنة (٦٢١) إلى (٦٦٤ ه‍) حيث توفي فيها. وكان من أمره أنّه اشترى حضرموت كلّها سنة (٦٣٦ ه‍) لكنّها خرجت عن طاعته سنة (٦٣٦ ه‍) على يد ابن شمّاخ.

والتّفاصيل في «تاريخ الحامد» (٢ / ٥٣٨ ـ ٥٤٣).

(٤) نور الدّين المنصور عمر بن عليّ بن رسول ، أوّل من ملك اليمن من آل رسول ، وكان ملكه من سنة (٥٢٥ ه‍) إلى سنة (٦٤٩ ه‍) ؛ إذ قتل فيها.

(٥) أي : حكم آل رسول ؛ وجندهم الغزّ.

١٦٦

وخلفه أخوه راشد بن شجعنة ، فبقي عليها إلى سنة (٦٧٧ ه‍) ، فتغيّر عليه المظفّر واعتقله بزبيد إلى أن مات (١).

وفي سنة (٧٦٧ ه‍) : وصل المظفّر بنفسه إلى الشّحر ، فعمّرها ـ حسبما تقدّم ـ ثمّ لم يزل حكّامها من أسرته تحت أمر آل رسول حتّى ضعف أمرهم.

وصار النّفوذ بحضرموت لآل يمانيّ (٢).

وفي سنة (٨١٢ ه‍) (٣) : استولى دويس بن راصع على الشّحر ، ثمّ عادت لآل فارس (٤) ، حتّى انتزعها منهم آل كثير في سنة (٨٦٧ ه‍) ، وهي أوّل دولتهم بها (٥).

ثمّ استردّها آل فارس منهم في سنة (٨٩٤ ه‍) (٦).

__________________

(١) «الحامد» (٢ / ٥٤٣) ، وبموت راشد هذا انتهت فترة حكم آل إقبال الأخيرة على الشّحر ، ولم يؤرّخ لوفاته.

(٢) انظر تفاصيل فترة حكم آل يمانيّ في : «تاريخ الحامد» (٢ / ٤٩٨ ـ ٥٣٥) ، واستمرّت من سنة (٦٢١ ه‍) إلى سنة (٩٢٦ ه‍) بدءا بالسّلطان سعود بن يمانيّ وانتهاء بمحمّد بن أحمد بن سلطان.

(٣) ما بين عامي (٦٦٧ ه‍) و (٨١٢ ه‍) جرت حوادث كثيرة ، انظرها مجملة في «الشّامل» (١١٢) ، و «تاريخ شنبل» ، و «الحامد».

(٤) لم أجد لهذا القول مؤازرا في المصادر الأخرى ، والّذي اتّفقوا عليه كما تقدّم قريبا أنّ حكم آل فارس بن إقبال انتهى بموت راشد بن شجعنة المتقدّم. لكنّ خبرا في سنة (٨٣٦ ه‍) عند «شنبل» أنّ السّلطان عبد الله عليّ الكثيريّ حاصر الشّحر وفيها ابن فارس ، فقتل فيها جماعة ، وقبله في سنة (٨٣٢ ه‍) ذكر أنّ ابن فارس جمع قومه مرة أخرى!!

سعد بن فارس بادجانة : ثمّ بعد بحث تبيّن أنّ ابن فارس هذا ليس هو من آل إقبال الّذين انتهوا كما ذكرنا ، وإنّما المقصود به سعد بن فارس بادجانة (أبو دجانة) الشّماسيّ الكنديّ من قبيلة التحمت بالمهرة ، وهي كنديّة الأصل ، ولما طلبوا الملك .. ساعدهم أخوالهم من المهرة ، وكان ملك سعد بن فارس قبل سنة (٨٢٠ ه‍) كذا في «الشّامل» (١١٢) ، ولم يجزم به الحامد ، إلّا أنّه قال : حوالي سنة (٨٣٦ ه‍) ، لكن حسبما في «الشامل» أنه في ذلك التاريخ ؛ أي سنة (٨٣٦ ه‍) استولى على حيريج بعد الشحر. وأخبار آل بادجانة عند «الحامد» (٢ / ٥٦٥) وما بعدها ، و «الشّامل» (١١٢ ـ ١١٣).

(٥) وظهر في تلك الأثناء : آل طاهر (الدولة الطاهرية) ، وتدخّلوا في الأحداث السّياسيّة أيضا هم الآخرون.

(٦) وذلك على يد سعد بن مبارك بادجانة. «شنبل» (٢٠٦) ، و «الشّامل» (١١٧) ، و «الحامد» (٢ / ٨٦).

١٦٧

ثمّ استرجعها آل كثير في سنة (٩٠١ ه‍) (١) ، وما زالت في أيديهم على مناوشات بينهم وبين أمراء العشائر حتّى استولى الإمام (المتوكّل على الله) على حضرموت وعليها في سنة (١٠٧٠ ه‍) (٢).

__________________

(١) دخلت الشّحر تحت حكم آل كثير في ذلك التّاريخ على يد السّلطان بدر بن محمّد بن عبد الله بن عليّ الكثيريّ ، وبقيت في حكمهم حتّى سنة (١٠٧٠ ه‍) ؛ إذ قدم الزّيديّة وحكموها إلى سنة (١٠٩٣ ه‍) ؛ إذ خرج عليه حسن بن عبد الله بن عمر الكثيريّ واستولى عليها. ثمّ خرجت عليهم يافع واضطربت أمور آل كثير ، حتّى قام جعفر بن عمر سنة (١١٢٩ ه‍) فشدّ مئزره واستردّها ، وهو القائل :

قال الكثيري بن عمر بن جعفر

لي ناد راسي يالشّوامخ نودي

(الشّحر) خذناها قد الله قدّر

عاد عا (المكلا) باتحنّ رعودي

ملخّصا من «تاريخ الدّولة الكثيرية» .. عدة مواضع.

(٢) حكم أئمّة اليمن لحضرموت : كانت البداية في عهد السّلطان بدر بن عمر بن بوطويرق الّذي ولي الحكم بإشارة الإمام الحسين ابن الشّيخ أبي بكر سنة (١٠٢٤ ه‍) ، ولكن قام عليه ابن أخيه بدر بن عبد الله بن عمر وصار يكيد له ، فلجأ إلى موالاة أئمّة اليمن وأخذ يكاتبهم ويستنجد بهم .. فنفر الشّعب منه.

ثمّ وثب بدر بن عبد الله على عمّه السّلطان بدر بن عمر وابنه محمّد المردوف وكبّلهما وسجنهما في حصن مريمة. ولما علم إمام اليمن ، وهو في ذلك الوقت المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم بن محمد ، الذي حكم في الفترة ما بين (١٠٥٤ ه‍) و (١٠٨٧ ه‍) ، أرسل ابن أخيه الصفي أحمد بن الحسن بن القاسم إلى حضرموت.

وكان النّداء بالنفير في صنعاء والدّعوة إلى الجهاد ثمّ التحرّك من الغراس يوم الخميس (١٨) شوّال (١٠٦٩ ه‍). ثمّ كان وصولهم إلى حضرموت آخر رجب (١٠٧٠ ه‍) ، واتّجهوا إلى العوالق وابن عبد الواحد ، وتلقّاهم العموديّ إلى جردان ، ثمّ ساروا طريق حجر ، وطلعوا عقبة المدلاة على السّوط ، وخرجوا بعقبة باعقبة ، ونصبوا خيامهم بجدفرة بيضان ، ثمّ انتهوا إلى الهجرين ، وكان أهلها طلبوا الأمان ، فأمّنهم ، ونهبت حورة وسدبة في الطّريق ، وسلّمت له مصنعة هينن ثمّ بقيّة المصانع.

ومنعوا الأذكار في المساجد ، لا سيّما راتب الإمام الحدّاد ، ونودي ب (حيّ على خير العمل) ، ولم يمانع إلّا مؤذّن مسجد باعلوي بتريم .. فلم يؤذّن به. وبدخول الجيوش الزّيديّة إلى حضرموت ..

انتهت السّلطة الكثيريّة تماما ، وأصبح السّلطان عديم القوّة حتّى جاءت سنة (١١١٣ ه‍) وفيها قدمت يافع ، أقدمهم السّلطان بدر بن محمّد المردوف بن بدر بن عمر .. وستأتي أخبارهم. ثمّ كانت وفاة السّلطان بدر بن عمر بالمدينة المنوّرة سنة «١٠٧٢ ه‍» بعد أن مكث في السّلطنة قرير العين ، ومات بدر بن عبد الله في سيئون سنة (١٠٧٥ ه‍). ينظر : «تاريخ الدّولة الكثيريّة» (٦٩ ـ ٨٣).

١٦٨

وقال السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد : (كان خروج الإمام أحمد بن حسن سنة «١٠٧٢ ه‍» ، وأقام بجيشه في حضرموت نصف شهر ، ثمّ عاد طريق البحر من بندر الشّحر ، واستخلف السّلطان بدر بن عمر الكثيريّ ، وترك عنده جملة من عسكره الزيديّة ، واستمرّ أمرهم نحو خمسين سنة إلى خروج يافع من الجبل سنة ١١١٧ ه‍) اه (١)

وقال السّيّد محمّد بن إسماعيل الكبسيّ (٢) في كتابه «المسالك اليمنيّة» : (وفي سنة «١٠٦٤ ه‍» : خطب بدر بن عمر الكثيريّ للإمام ، فقبض عليه ابن أخيه بدر بن عبد الله ، فهمّ الإمام بالتّجهيز ، وأمر بحشد الجنود إلى بني أرض ، ومنعت بلاد الرّصّاص ويافع والعوالق والجرش والواحديّ والفضليّ عن المرور فيها ، فجدّ الإمام (٣) في جهادهم ، واجتمع لأولاد إخوته زهاء عشرة آلاف راجل وألف عنان ، واشتدّ القتال بينهم وبين حسين الرّصّاصيّ حتّى قتل ، وانهزم أخوه صالح إلى البيضاء ، وانتهب العسكر جميع ما في مخيّمهم.

وكان محمّد بن الحسين (٤) لم يشهد الوقعة ، ولكنّه حضر بعدها ، فتقدّم إلى يافع يوم الإثنين (١٩) جمادى الآخرة من السّنة إلى ذيل جبل العرّ ، فاستولى على الجبل ، وعادوا إلى عند الإمام.

ولمّا انتهى خبر هذا النّصر العظيم إلى بدر بن عبد الله الكثيريّ .. أطلق عمّه ، وخطب للإمام ، فأرسل الإمام صالح بن حسين الجوفيّ إلى حضرموت ، فألفى الأمر على حقيقته ، فوجّه بدر بن عمر إلى ظفار واليا عليها.

__________________

(١) الهدية السنية (٣٨) خ.

(٢) العلامة المؤرخ السيد محمد بن إسماعيل الكبسي ، مولده بهجرة الكبس سنة (١٢٢١ ه‍) ، عاصر الشّوكاني ، وولي قضاء ذمار للمتوكّل محسن بن أحمد (١٢٩٥ ه‍) ، وتوفّي بالكبس سنة (١٣٠٨ ه‍).

(٣) هو المتوكّل على الله إسماعيل ابن المنصور بالله القاسم بن محمّد ، المتوفّى سنة (١٠٨٧ ه‍).

(٤) هو محمّد بن الحسين بن القاسم .. العالم المفسّر المحدّث ، كان نحويّا أصوليّا بارعا ، وكان من أكابر الأمراء وقوّاد الجيوش في دولة عمّه المتوكّل ، مات بصنعاء (٨) شوّال (١٠٦٧ ه‍).

١٦٩

وفي سنة «١٠٦٨ ه‍» : غدر بدر بن عبد الله بعمّه بدر بن عمر ، وأخرجه عن ظفار (١) ، فقدم على الإمام فأكرمه (٢).

وفي جمادى الأوّلى من سنة «١٠٦٩ ه‍» : اختار المتوكل الصّفيّ أحمد بن حسن (٣) لفتح حضرموت والشّحر وظفار.

وفي شعبان : توجّه الصّفيّ إلى وادي السّرّ (٤) بمخلاف خولان (٥) ، ثمّ إلى فحوان ورغوان (٦) ، ثمّ إلى مأرب (٧) وحبّان ، ثمّ دخل أطراف بلاد العوالق فوصل بلدة واسط ، ثمّ سار إلى وادي حجر ، ثمّ تجرّد منها تجرّد الحسام.

وكان سلطان حضرموت قدّم عساكره إلى أعلى عقبة حجر فانهزموا من أحمد بن

__________________

(١) قصّة غدر بدر بن عبد الله بعمّه كانت بمساعدة أخيه جعفر بن عبد الله. ينظر : «تاريخ الدّولة الكثيريّة» (٧٠ ـ ٧١).

(٢) وحاصل قصته وخبره أنه هرب من ظفار ووصل إلى عدن ، وكان قد وجّه ولديه محمّدا وعليّا إلى الإمام ، فتلقّاه والي عدن من قبل الصّفيّ مبعوث الإمام ، وجهّزه إلى ذمار ، فأرسل الإمام ولديه لاستقباله ومعهما الأكسية الفاخرة ، والخيل المحلّاة والنّقود الكثيرة ، ولمّا وصل إلى ذمار ، أمر الإمام أنجاله الكرام ومن بحضرته من العلماء أن يتلقّوه بالجنود ، حتّى وصلوا به إلى حضرته «الدّولة الكثيريّة» (٧١).

(٣) صفيّ الإسلام أحمد بن الحسن بن القاسم المهدي لدين الله (١٠٢٩ ـ ١٠٩٢ ه‍) ، كان من شجعان الزّيديّة ، بويع له بالخلافة بعد عمّه إسماعيل المتوكّل سنة (١٠٨٧ ه‍) ، وكان غزير العلم ، له مؤلّفات ، قال الشّوكاني : وهو من أعظم الأئمّة المجاهدين. وهو الّذي أخرج اليهود الّذين كانت بيوتهم بصنعاء ، وسمّر كنيستهم ، ثمّ هدمها وعمّر مكانها المسجد المعروف بمسجد الجلاء ، قال العرشيّ : كان أشجع أهل زمانه .. حتّى سمّوه «سيل الليل».

«الأعلام» (١ / ١١٢) ، و «بدر الطّالع» (١ / ٢٤٣) ، و «بلوغ المرام» (٢٦٨) ، و «خلاصة الأثر» (١ / ١٨٠).

(٤) واد مشهور في ناحية بني حشيش ، كان يسمّى : سرّ ابن الرويّة يبعد عن صنعاء (٢٥ كم) إلى الشّمال الشّرقيّ.

(٥) هي بلاد خولان العالية المعروفة بخولان الطّيال المجاورة لصنعاء.

(٦) رغوان : بلدة تقع في سهل الجوف من الجدعان وأعمال نهم ، شمال شرقيّ صنعاء ، ورد في شعر أعشى باهلة حيث قال :

وأقبل الخيل من تثليث مصغية

أو ضم أعينها رغوان أو حضر

(٧) مأرب شرق صنعاء على مسافة (١٧٠ كم).

١٧٠

الحسن ، وبانهزامهم .. انهزم من بعدهم ، وهذا المحلّ يقال له : ريدة بامسدوس ، ثمّ تقدّم إلى الهجرين ، ثمّ التقوا بعسكر سلطان حضرموت فهزموهم واستولوا على حضرموت ، وعاد الصّفيّ إلى حضرة الإمام بضوران (١) ، في أبّهة فاخرة ، ودولة قاهرة ، وفتح قريب ، ونصر عجيب) اه باختصار.

وإنّما استوفيته مع عدم ملاءمته للإيجاز ؛ لأنّ فيه ما ليس في «الأصل» ، على أنّ في «الأصل» ما ليس فيه ، فليضمّ إلى كلّ ما نقص.

أمّا استيلاء يافع على الشّحر وحضرموت : فكما ذكر السّيّد أحمد بن حسن الحدّاد : كان في سنة (١١١٧ ه‍) ، وقد سبق في المكلّا أنّ الشّيخ عمر بن صالح هرهرة أمير ذلك الجيش أقام بالشّحر ثلاثة أشهر ، جبى فيها منها خمسة وثلاثين ألف ريال (٣٥٠٠٠).

وكان من يافع طائفة يقال لهم : آل عيّاش ، سكن رئيسهم بحصن الشّحر الّذي كان يقال له : المصبّح ، فأطلق عليه من ذلك اليوم : حصن ابن عيّاش.

وما زالت يافع على الشّحر حتّى أخذها الإمام المهديّ (٢) بالمهرة ، ومعهم الأمير سعيد بن عليّ بن مطران ، وحصل النّداء بالشّحر أنّ النّاس في أمان المهديّ.

واشترط يافع لأنفسهم أن يغادروا الشّحر بسلاحهم بعد ثمانية أيّام ، فخرجوا منها إلى حضرموت ، وانضمّوا إلى عسكر عمر بن جعفر (٣).

وفي سنة (١١١٨ ه‍) : وصل السّلطان عمر بن جعفر من اليمن إلى الشّحر ،

__________________

(١) ضوران : قرية وحصن في مخلاف دايان من بني مطهّر ، غرب صنعاء ، وأصل التّسمية هي لجبل بهذه النّاحية فوقها سمّيت به. وأيضا : هو جبل كبير ويسمّى الدّافع تقع في سفحه الشّماليّ بلدة ضوران ، وقد تهدّمت بفعل زلزال في (٢٧) صفر (١٤٠٣ ه‍) «البلدان اليمانيّة عند ياقوت» للأكوع (١٨٨).

(٢) هو الصّفيّ أحمد بن الحسن ، السّابق ذكره ، تلقّب بالمهديّ بعدما ملك.

(٣) هو السّلطان عمر بن جعفر بن عليّ بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق ، ترتيبه (٣١) الحادي والثلاثون بين سلاطين آل كثير. تولّى السّلطنة حدود سنة (١١١٦ ه‍) ، إلى وفاته بعد (١١٣٠ ه‍) ، وكانت وفاته بمسقط في عمان. «تاريخ الدّولة» (٩٦ ـ ١٠٥).

١٧١

وسلّمه النّقيب والعسكر حصن الشّحر ، ونادى بالأمان ، ثمّ كتب للعسكر بحضرموت : (إنّ سيّدي الإمام المهديّ وجّهني إلى حضرموت ، فإن كنتم في الطّاعة .. سلّمتم النّاس من الضّرر ، وإلّا .. فنحن واصلون بالجيش المنصور ، وهو مؤلّف من ثلاث مئة من حاشد وبكيل (١) ، ونحو مئة من سائر عسكر الإمام ، ونحو مئة من الحجاز ، ونحو مئة وخمسين أخلاط من الخلق).

وكان السّلطان عيسى (٢) على سيئون وحضرموت ، فانهزم.

ثمّ تغلّبت يافع على عمر بن جعفر ، وعاد الأمر إليهم بالشّحر ، إلى أن اختلفوا ، فغلبهم آل بريك ، وكانوا ولّوا رئيسهم بعض الأمر بالنّيابة عنهم ، فلمّا اختلفوا .. استبدّ عليهم.

وأصل آل بريك من حريضة ، وهم إمّا من بقايا بني ناعب الآتي ذكرهم في التّعريف بوادي عمد ، وإمّا من بني جبر ؛ قبيلة من يافع يسكنون جبلا في سرو حمير ، يقال له : ذو ناخب ، كما في «صفة جزيرة العرب» لابن الحائك الهمدانيّ [١٧٣].

وأوّل ما ابتدأ به آل بريك المصالحة بين الحموم (٣) ، والتّحالف معهم ، حتّى قرّبوا النّاس وعاملوهم بالإحسان حتّى أحبّوهم.

__________________

(١) حاشد وبكيل : قبيلتان من كبريات قبائل همدان ، وهما أخوان ، قال الهمدانيّ : (حاشد وبكيل قبيلا همدان بن جشم بن حبران بن نوف بن همدان بن مالك بن زيد بن أوسله بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ) اه

حاشد : تنقسم إلى أربعة أقسام : صريميّ ، وخارفيّ ، وعصيميّ ، وعذريّ ، وأراضيهم من صنعاء شمالا إلى بلاد صعدة ، وتشمل جبال لاعة ، والأهنوم ، وظليمة ، وعذر ، وخارف ، والعمشيّة ، وتنتظم حاليّا تحت مسمّى : محافظة عمران.

بكيل : وهي أيضا أربعة أقسام : أرحب ، ونهم ، ومرهبه ، وشاكر ، وتمتدّ ديارهم من شمال صنعاء الشّرقيّ إلى بلاد صعدة ، وتشمل : أرحب ، وبره ، والجوف ، ونهم ، وعيال سريع ، وجبل عيال يزيد ، وريده ، ثمّ مرهبه ، وشاطب من مديريّة ذي بين ، ومديرية سفيان بن أرحب ، وهمدان الشّام في صعدة ، وبلاد وائلة والعمالسة ، وآل سالم ، وآل عمّار بن شاكر بن بكيل.

(٢) هو عيسى بن بدر بن عليّ بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق ، سلطان عاثر المجدسيّء الحظّ ، جاء في وقت عصيب .. غادر حضرموت سنة (١١١٦ ه‍) ومعه حاشيته ، ومات بالمخا شمال اليمن.

(٣) الحموم : قبيلة كبيرة من قبائل بادية حضرموت.

١٧٢

وأوّل أمير لهم (١) هو : ناجي بن عمر ، وكانت يافع جعلت إليه الماليّة في أيّام نفوذها ؛ لأنّهم تنازعوها وكادوا أن يقتتلوا عليها ، ولمّا استقلّ شيئا فشيئا على حساب اختلافهم وتفرّق آرائهم .. أفاقوا ، فناوشهم ، ولكنّه انتصر عليهم لأنّهم كانوا متحاسدين.

ولمّا مات ناجي بن عمر في سنة (١١٩٣ ه‍) .. خلفه ولده عليّ بن ناجي بن عمر بن بريك ، فخالفه محسن بن جابر بن همّام ، وانضمّ إليه آل عمر باعمر ، فجهز عليهم عليّ ناجي وأجلى آل همّام إلى المكلّا ، وآل عمر باعمر إلى الرّيدة ، واستنجد آل همّام بعبد الرّبّ بن صلاح الكساديّ ، ولكنّه انهزم هو وإيّاهم كما سبق في المكلّا.

وفي أيّام عليّ ناجي هذا : ظهر أنّ القاضي سعيد بن عمر بن طاهر كان يعمل الأسحار ، فأغرقه في بالوعة الأقذار ، وكان آخر العهد به.

ولمّا مات عليّ بن ناجي سنة (١٢٢٠ ه‍) .. خلفه أخوه حسين بن ناجي ، ثمّ ولده ناجي بن عليّ بن ناجي.

وفي أيّامه جاءت الوهّابيّة (٢) في خمس وعشرين سفينة تحت قيادة ابن قملة ، بأمر الملك عبد العزيز بن سعود آل سعود (٣) ، الّذي استفحل سلطانه لذلك العهد ، فافتتح نجدا والحسا والعروض والقطيف والحجاز وغيرها ، وكان أكثر فتوحه على يد القائد

__________________

(١) أي : لآل بريك.

(٢) الوهّابيّة : هم أتباع الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب المولود بالدرعيّة سنة (١١١٥ ه‍) والمتوفّى سنة (١٢٠٦ ه‍) ، اصطلح المؤرّخون على تسميتهم بالوهّابيّة نسبة لوالد شيخهم ، وكان قدومهم سنة (١٢٢٤ ه‍) في عهد السّلطان عليّ بن بدر بن عليّ بن عمر بن جعفر الكثيريّ ، وأقاموا بحضرموت (٤٠) يوما جرت خلالها وقائع بينهم وبين الحضارمة ، تفصيلها في : «العدّة المفيدة» (١ / ٣٢١) ، و «تاريخ الدّولة الكثيريّة» (١٢٢).

(٣) هو عبد العزيز بن محمد بن سعود ، من أمراء آل سعود في دولتهم الأولى ، كانت عاصمته الدرعية ، ولي بعد وفاة أبيه سنة (١١٧٩ ه‍) كان شديد البأس ، يباشر الملاحم بنفسه ، قتل غيلة في جامع الدرعية سنة (١٢١٨ ه‍) «الأعلام» (٤ / ٢٧).

١٧٣

العظيم ابنه سعود (١) المتوفّى سنة (١٢٢٩ ه‍) .. فامتلكوا البلاد ، ولم يؤذوا أحدا في حال ولا مال ، ولم يهلكوا حرثا ولا نسلا ، وإنّما أخربوا القباب ، وأبعدوا التّوابيت ـ وقد قرّرت في «الأصل» ما ذكره ابن قاسم العبّاديّ من حرمة التّوابيت.

وأمّا القباب : فإن كانت في مسبّلة (٢) .. فحرام ، وإلّا .. فلا ، بشرطه (٣) ، ولم يعترضهم آل بريك.

وأقاموا بالشّحر أربعين يوما ، ثمّ ركبوا سفائنهم وعادوا لطيّتهم (٤).

وفي سنة (١٢٢٧ ه‍) : نشب الشّرّ ما بين الكساديّ ـ صاحب المكلّا ـ وآل بريك ، وامتدّت المناوشات بينهم زمانا طويلا في البحر والبرّ.

وفي سنة (١٢٤٢ ه‍) : توفّي ناجي بن عليّ ؛ وكان خادما للدّين ، شديد الغيرة على شعائره ، لا يخرج عن رأي الإمام الحبيب حسن بن صالح البحر في ذلك ، حتّى لقد أمره أن لا يمكّن أحدا من البادية يدخل الشّحر ليمتار (٥) إلّا بعد أن يحلف اليمين على أن لا يقصّر في الصّلاة ، فحصل بذلك نفع عظيم ، وصلاح كبير ، حتّى جاء العوابثة في قطار لهم ، فلمّا أرادوا أن يدخلوا من سدّة العيدروس وهي باب الشّحر الشّماليّ .. عرضوهم على العهد ، فأبوا ، وصرفوا وجوه إبلهم إلى الغيل عند رفاقهم آل عمر باعمر ، وارتجزوا بقول شاعرهم :

قولوا لناجي بن عليّ

كلّين يوخذ له ملاه

ماراس بن عوبث غلب

ما بايعاهد عالصّلاه

واختلفوا في تفسير هذا : فقوم يحملونه على العناد والمجاهرة بالفساد.

__________________

(١) هو سعود بن عبد العزيز بن محمد ، ولد سنة (١١٦٣ ه‍) ، وهو المعروف بسعود الكبير ، ولي الحكم بعد مقتل أبيه ، وكان على جانب من العلم ، مات سنة (١٢٢٩ ه‍) «الأعلام» (٣ / ٩٠).

(٢) المسبّلة : المقبرة الّتي جعلت سبيلا لعامّة النّاس.

(٣) أي : يحرم بناؤها إن كانت المقبرة مسبّلة ، ولا يحرم ذلك إذا كانت ملكا خاصا أو غير مسبّلة.

(٤) الطّيّة : الناحية.

(٥) يمتار : يأخذ الطّعام لأهله.

١٧٤

وآخرون يحملونه على أنّ الدّاعي إلى الصّلاة من الدّين ، والسّائق لها من الضّمير ، فلا تحتاج إلى عهد ولا إلى يمين. ولمّا مات ناجي بن عليّ .. خلفه ولده عليّ ناجي الثّاني.

وفي سنة (١٢٦٧ ه‍) : كانت حادثة مرير (١) ، وحاصلها : أنّ آل كثير أغاروا على الشّحر بعسكر مجر (٢) ، وجاءتهم نجدة من الأتراك في البحر من مكّة المشرّفة ، على رأسها شيخ العلويّين ، السّيّد إسحاق بن عقيل بن يحيى ، مؤلّفة تلك النّجدة من نحو خمس مئة جنديّ بعدّتهم وعتادهم ، فبلغت العساكر البحريّة والبريّة نحوا من خمسة آلاف ، إلّا أنّه لم يصحبها رفيق من التّوفيق ، فكان عاقبتها الانهزام الشّامل ، والفشل الشّائن ، كما هو مفصّل ب «الأصل» [٣ / ٩ ـ ١٦].

وبعضهم يعلّل ذلك الانهزام بخيانة من سيبان الموجودين بكثرة في الجيش الكثيريّ ؛ لأنّهم كانوا في طليعة الجيش المرابط بمرير ، فلمّا هاجمتهم فرقة من عسكر الكساديّ جاءت من المكلّا لمساعدة آل بريك .. انهزموا وذهبوا بها عريضة وأكثروا من الأراجيف (٣) ، فخلعوا قلوب الجيش الكثيريّ وملؤوا صدورهم رعبا ، فركب كلّ منهم رأسه ، وذهبوا عباديد (٤) لا يلوي أحدهم على شيء قطّ ، وعادت النّجدة التّركيّة إلى أسطولها الرّاسي بشرمة ؛ لأنّ مرسى الشّحر كان مكشوفا ؛ وكان البحر هائجا ، والوقت خريفا ، وتفرّق الجيش الكثيريّ أيدي سبأ (٥) ، وعاد بخيبة الرّجاء ، ولم يبق بالمعسكر في اليوم الثّاني نافخ ضرم (٦).

وكان من نتيجة ذلك الفشل : أنّ السّلطان عبد المجيد العثمانيّ (٧) أقال السّيّد

__________________

(١) مرير : موضع بين الشّحر وزغفة ، نسبت إليه تلك الحادثة التّاريخيّة ؛ لأنّ فيه كان مبدأ فشل المحادثات بين السّيّد إسحاق بن عقيل وسلاطين حضرموت.

(٢) المجر : الكثير العظيم.

(٣) الأراجيف ـ جمع إرجاف ـ وهو : الخوض في الكلام.

(٤) عباديد : فرقا متبدّدين.

(٥) تفرّقوا أيدي سبأ : كلمة تقولها العرب كناية عن تفرّق الشّمل.

(٦) نافخ ضرم : موقد نار.

(٧) السّلطان عبد المجيد خان بن محمود خان العثمانيّ (١٢٣٧ ـ ١٢٧٧ ه‍) ، له مبرّات ، من أجلّها

١٧٥

إسحاق من مشيخة العلويّين بمكّة (١) ، وأبدله بالسّيّد محمّد بن محمّد السّقّاف (٢).

وفي سنة (١٢٨٣ ه‍) : جهّز السّلطان غالب بن محسن الكثيريّ على الشّحر ، فاستولى عليها ، وهرب عليّ ناجي بمن معه وما قدر عليه ، في خمس من السّفن أعدّها لذلك من يوم علم بالغزو ، وكان هربه إلى المكلّا فلم يمكّنه الكساديّ من النّزول بها ؛ معتذرا بأنّه لا يصلح سيفان في جفير (٣) ، فأبحر إلى يشبم (٤) ، وأذن له النّقيب أن يبقي نساءه وصغاره في خلف ، ومات كثير منهم بالبرد .. فانتقل بعضهم إلى الحرشيات ، أمّا المكلّا .. فلم يمكّنهم من دخولها ، وأقام عليّ ناجي عند الشّيخ فريد بن محسن العولقيّ عاما ، ثمّ ركب إلى عدن ، وعاد منها إلى الشّحر.

وكان عليها الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ بعد جلاء غالب بن محسن عنها (٥) ، فأكرم وفادته ، وتحفّى به (٦) حتّى لقد دخل بين البحّارة الّذين حملوه من القارب إلى السّاحل ، وأحسن مثواه ، إلّا أنّ فكرة الإمارة عادت تتحرّك في صدره ، وكلّما ذكر أيّامه عليها بالشّحر .. قال بلسان حاله :

فوالهفة كم لي على الملك شهقة

تذوب عليها قطعة من فؤاديا

__________________

تجديده عمارة الحرم النّبويّ الشّريف سنة (١٢٧٠ ه‍). «حلية البشر» (١٠٣٠ ـ ١٠٣٦).

(١) توفّي السّيّد إسحاق سنة (١٢٧١ ه‍) ، وتقدّم ذكر شيء من ترجمته ، ولوالده ترجمة حافلة في «عقد اليواقيت».

(٢) السّيّد محمّد بن محمّد بن محمّد السّقّاف ، توفّي بمكّة سنة (١٢٨٣ ه‍) ، كان عالما فاضلا ، جمع مكتبة خطّيّة ضخمة ، تفرّقت بعد موته ، وهو من آل باعقيل السّقّاف. وتولّى مشيخة السّادة بمكّة بعده ابن أخيه السّيّد محضار بن عبد الله بن محمّد السّقّاف.

(٣) الجفير : الكنانة ، والمعنى : لا يصلح سلطانان في موضع واحد.

(٤) يشبم : بلدة كبيرة في محافظة شبوة ، تقع إلى الجنوب من عتق بنحو (٤٠ كم) ، وكانت في السابق عاصمة للعوالق العليا ، قبل أن تصبح الصعيد عاصمة لها.

(٥) كان جلاء غالب بن محسن الكثيريّ عن الشّحر في (٢٤) ذي الحجّة (١٢٨٣ ه‍) ، بعد أن أغار عليه القعيطيّ بجيش يقدّر عدد رجاله بثلاثة آلاف مقاتل ، قاوم جيش السّلطان غالب ، ثمّ استسلم بعد يومين فقط من المقاومة ، تاركا وراءه (٤٠) قتيلا.

(٦) تحفّى به : بالغ في إكرامه.

١٧٦

فعزم إلى الآستانة (١) ؛ ليستنجد بالخليفة العثمانيّ على الكساديّ بالمكلّا وعلى القعيطيّ بالشّحر ، فسافر إلى عدن ، ثمّ خرج إلى لحج ، وبها فاجأته المنيّة (٢) ، وعاد كثير من أعقابه إلى الشّحر ، ولا يزال بها ناس منهم إلى اليوم (٣).

أمّا غالب بن محسن : فلو قنع بالشّحر كما أشار عليه المخلصون .. لأوشك أن تطول بها مدّته ، لكنّه طمع في أخذ المكلّا من الكساديّ ، فانكسر دونها.

وفي آخر ذي الحجّة من نفس السّنة الّتي أخذ فيها الشّحر ـ أعني سنة (١٢٨٣ ه‍) ـ : جهز القعيطيّ بمساعدة الكساديّ على الشّحر ، وافتتحها بأسرع وقت ، وتفرّق عسكر السّلطان غالب شذر مذر (٤) ، بعدها أخذت السّيوف منهم كلّ مأخذ ولو لا أنّ أحد عبيده ـ وهو صنقور سليمان ، وكان من أهل القوّة والأيد (٥) ـ احتمله على ظهره .. لذهب مع شفرات يافع ، فما نجا إلّا بجريعة الذّقن (٦) وخيط الرّقبة.

وفي رجب من سنة (١٢٨٤ ه‍) : استأنف السّلطان غالب بن محسن التّجهيز على الشّحر ؛ إذ بقي قلبه بحسرة عليها ، ودخل أكثر جيشه من كوّة فتحوها في سور البلد ، فانحصروا وانقطع عليهم خطّ الرّجعة ، وأصلتهم يافع ومن لفّهم من عسكر القعيطيّ نارا حامية ، فأثخنوا فيهم قتلا ، وخرج الباقون لا يلوي آخرهم على أوّلهم (٧).

__________________

(١) الآستانة : هي القسطنطينيّة ، وهي استانبول.

(٢) توفّي بعد صلاة الجمعة ، ودفن صباح السّبت (٢١) ربيع الأوّل سنة (١٢٩٣ ه‍).

(٣) وهم المعروفون بآل بن بريك.

(٤) شذر مذر : أي مذاهب مختلفة ، ولا يقال ذلك في الإقبال.

(٥) الأيد : القوّة ، وهذا من عطف المترادفات على بعضها.

(٦) جريعة الذّقن : يقال في المثل العربي : أفلت فلان جريعة الذّقن ؛ أي : أفلت قاذفا جريعة ، وهو كناية عمّا بقي من روحه ، يريد أنّ نفسه صارت في فيه ، وقريبا منه كقرب الجرعة ـ وهي جرعة الماء ـ من الذّقن.

(٧) كانت خسائر جيش غالب بن محسن : (١٢٠) قتيلا و (٦٠) جريحا و (٢٠) أسيرا ، وعاد غالب بن محسن بعد هزيمته إلى سيئون ، وجرت له وقائع أخرى ، حتّى مات سنة (١٢٨٧ ه‍) ، وسيأتي ذكره لاحقا في سيئون.

١٧٧

ورسخت أقدام القعيطيّ بالشّحر ، وجلس عليها الأمير عبد الله بن عمر القعيطيّ ، كما عرف ممّا سبق.

وبعد وفاته في سنة (١٣٠٦ ه‍) : خلفه عليها ولده حسين بن عبد الله ؛ لأنّ أكثر إقامة السّلطان عوض بن عمر كانت بحيدرآباد الدّكن في خدمة النّظام الآصفي ، ثمّ نزغ (١) الشّيطان بين السّلطان عوض وأولاد أخيه عبد الله ، وهما : منصّر وحسين ، وجرى بينهم ما فصّلناه ب «الأصل» (٢).

وكانت النّهاية تحكيم المنصب السّيّد أحمد بن سالم بن سقّاف ، فحكم بأن لا حظّ لهم في الإمارة ، وتمّ جلاؤهم عن الشّحر والغيل بمساعدة الحكومة الإنكليزيّة في سنة (١٣٢٠ ه‍).

ومن العجب أنّ التّحكيم كان خاصّا بما بينهم من الدّعاوى الماليّة ، ومع ذلك فقد كان الحكم شاملا للإمارة!!.

واستتبّ الأمر للسّلطان عوض بن عمر القعيطيّ ، فحل حضرموت ، وطلّاع نجادها ، ومزلزل أوتادها.

مدبّر ملك أيّ رأييه صارعوا

به الخطب ردّ الخطب يدمى ويكلم

وظلّام أعداء إذا بدىء اعتدى

بموجزة يرفضّ من وقعها الدّم (٣)

ولو بلغ الجاني أقاصي حلمه

لأعقب بعد الحلم منه التّحلّم (٤)

__________________

(١) نزغ : أفسد وأغرى.

(٢) حاصل ما جرى : أنّ منصّرا وحسينا ابنا عبد الله بن عمر قاما بتقسيم السّلطنة إلى نصفين : لهما نصف ، ولعمّهما عوض نصف ، فعرض عليهم السّلطان عوض كلّ الإغراءات والتّنازلات ليكسبهما ويقنعهما بعدم التّقسيم بدون فائدة. وانقسم الجيش والحاشية إلى قسمين ، وكلّ قسم يؤيّد صاحبه على السّلطة ، وكادت هذه الخلافات أن تعصف بالإمارة ، لكن تدخّل الوسطاء ، وبعد رأي .. قبلت الوساطة من الطّرفين ، وحكّموا منصب عينات ، ووقّعوا على التّحكيم ، وقضى المنصب لعوض بن عمر بالإمارة ، ممّا جعل الأميرين يرفضان التّحكيم ويتوجّهان إلى سبل العناد والعصيان ، وانتهى الخلاف بإقصاء حسين ومنصّر من حضرموت ، ومنصر هذا هو باني الحصن المشهور باسمه الكائن في غيل باوزير والقائم بناؤه إلى الآن.

(٣) الموجزة : الضّربة الّتي تختصر العمر ، فيترشرش الدّم من وقعها.

(٤) الأبيات من الطّويل ، وهي للبحتري في «ديوانه» (١ / ١١٣).

١٧٨

وقد أطلقنا عليه لقب السّلطان ؛ لأنّه به حقيق في اتّساع ملكه ، وامتداد نفوذه ، وفي «الأصل» بسط الكلام عمّن يسمّى سلطانا ومن لا يسمّى.

ونزيد هنا قول الإمام الرّازيّ في تفسير قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) وهو أنّ : (من ملك بلدا صغيرا لا يحسن فيه أن يقال فيه : جلس على العرش ، وإنّما يحسن ذلك فيمن ملك البلاد الشّاسعة ، والأقطار الواسعة. فالعرش والكرسيّ لا يكونان إلّا عند عظمة الملك) اه

وهو لا يخرج عمّا هناك.

وللسّلطان عوض محاسن جمّة ، ومناقب مهمّة ، وقد حجّ في سنة (١٣١٧ ه‍) ، وأظهر من التّواضع والخضوع ما يدلّ على قوّة دين ، وصحّة إيمان ، وأكرمه الشّريف عون الرّفيق (١) ، وأعاد له الزّيارة ، فأدركته عنده نوبة صرع ، فانزعج القعيطيّ ، وظنّها القاضية ، حتّى هدّأه أصحاب الشّريف ، وقالوا له : إنّما هي عادة تعتاده من زمن قديم ، وقدّم للشّريف هدايا طائلة.

ومع قرب سفره .. طلبوا منه معونة لإجراء سكّة الحديد بين الشّام والمدينة ، فدفع لهم ثلاثين ألف ربيّة ، فأرجعوها إليه استقلالا لها ، فركب إلى المدينة على وعد الرّجوع إلى جدّة ، ثمّ سار إلى الشّام ، وكان آخر العهد به ، وسلمت الثّلاثون ألف.

وقد سبق في حجر أنّه تعلّق بأستار الكعبة وتاب من كلّ سيّئة إلّا من فتح حجر وحضرموت.

__________________

(١) عون الرّفيق باشا بن محمّد بن عبد المعين الحسنيّ ، شريف مكّة (١٢٥٦ ـ ١٣٢٣ ه‍) ، ولد بمكّة ، وناب في إمارتها عن أخيه الشّريف حسين ، ولي مكّة سنة (١٢٩٩ ه‍) ، وكان جبّارا طاغية ، وتنتابه نوبات صرع ، صنّف فيه بعض السّادة رسالة سمّاها «ضجيج الكون من فظائع عون» سنة (١٣١٦ ه‍) ، ولأحمد شوقي فيه قصيدة أنشأها سنة (١٣٢٢ ه‍) ؛ في حادثة جرت آنذاك ؛ مطلعها :

ضجّ الحجيج وضجّ البيت والحرم

واستصرخت ربّها في (مكّة) الأمم

«خلاصة الكلام» (٣٢٧) ، «مرآة الحرمين» (١ / ٣٦٦) ، «الأعلام» (٥ / ٩٨).

١٧٩

توفّي بالهند آخر سنة (١٣٢٨ ه‍) (١) ، ورثاه شيخنا العلّامة أبو بكر ابن شهاب بقصيدة حمينيّة ولكنّها مؤثّرة (٢).

ووقع رداؤه على ولده السّلطان غالب بن عوض (٣) ، وكان شهما كريما ليّن الجانب ، دمث الشّمائل ، وديع القلب ، شريف الطّبع ، وافر الحرمة ، سعيد الحظّ ، ميمون النّقيبة (٤) ، مبسوط الكفّ ، ينطبق عليه قول الطّائيّ [أبي تمّام في «ديوانه» ٢ / ٣١٧ من الطّويل] :

فتى سيط حبّ المكرمات بلحمه

وخامره حقّ السّماح وباطله (٥)

وقوله [في «ديوانه» ١ / ٣١٦ من الوافر] :

له خلق نهى القرآن عنه

وذاك عطاؤه السّرف البدار (٦)

__________________

(١) وفاة السّلطان عوض مختلف فيها ، فقيل : سنة (١٣٢٥ ه‍) ، وقيل : (١٣٢٦ ه‍) ، وقيل : (١٣٢٧ ه‍). ومدّة ولايته حوالي ثلث قرن من الزّمن ، أمضى معظمها بحضرموت في حروب ونزاع مع آل عبد الله ، ومع غيرهم من القبائل والشّيوخ. «الأدوار» (٤٠٧) ، وفي «بضائع التابوت» : أنّه دفن بمقبرة أكبر شاه بحيدر آباد.

(٢) طبعت هذه المرثيّة على حدة ، قال في «الأصل» (٢ / ٢٧٣): (ورثاه شيخنا العلّامة أبو بكر بن شهاب بمرثية شاعرة من الشّعر الحمينيّ العذب الفخم ، ولو لا أنّها مطبوعة على حدة .. لذكرتها ؛ لأنّ بمثلها يتزيّن الكتاب ؛ لأنّها وقائلها والمعنيّ بها : جمال في جمال من جمال ..) اه ومطلعها :

سبحانك الله يا قيوم يا كافي

يا المنفرد بالبقا يا دايم السلطان

حكمت بالموت ما في وعدك اخلاف

وكل من هو عليها غير وجهك فان

ساويت بين الخلايق ناعل وحافي

ما باقي إلا انت وحدك يا عظيم الشان

إلى آخرها.

(٣) غالب بن عوض ؛ كان النّاس يلقّبونه : (أبونا آدم) ، وأطلق عليه أيضا لقب : (غالب السّادات) ؛ لشدّة محبّته في السّادة العلويّين آل البيت النّبويّ .. يقول هذا السلطان في رسالة منه للمصنّف ، مؤرّخة جمادى الأولى (١٣٣٧ ه‍): (ومحبّة أهل البيت لا تزول من قلوبنا ، بل تزداد ، بل تزداد) .. إلخ.

(٤) النقيبة : النفس.

(٥) سيط : خلط. خامره : خالطه.

(٦) عطاؤه السّرف البدار ؛ أي : عطاؤه المسرف فيه ، المبادر إليه.

١٨٠