إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

ورئيس الصّيعر كلّهم الآن : سعد بن طنّاف بن رميدان (١) ، ورئيس آل عليّ بلّيث منهم ، يقال له : عليّ بن عيضة ، ومقدّم آل يربوع منهم (٢) ، يسلم بن محمّد ، ومقدّم آل عبيدون (٣) : سعيد بالحاشدي.

وكثير منهم من ينتجع وبار ، وبالأخصّ آل عبد الله بن عون (٤) ؛ ففيها منهم نحو مئتي رام.

ووبار : هي الرّمال الّتي من وراء جبلهم ، إلّا أنّ كلّا من أهل النّجد يسمّي ما يجاور نجده باسم غير الّذي يسمّيه الآخر ، فالصّيعر يسمّون ما يلي نجدهم من الغرب إلى الشّرق : (عيوه) بكسر العين وسكون الياء وفتح الواو.

وفي الأخير رعاها آل معروف (٥) منهم ، ثمّ نجعوا إلى مقربة من نجران بسبب الجدب ، وأذن لهم أمير نجران وهو رجل شهم ، وعربيّ قحّ من صميم تميم ، له مروءة وشمم ، يقال له : تركيّ بن محمّد بن ماضي ـ أن يضربوا خيامهم في أطرافها ، كما أذنت الفرس لحاجب بن زرارة.

ثمّ وفد منهم أربعون على أربعين نجيبة ، يرأسهم اثنان ـ يقال لأحدهم : قنيبر ، والآخر هو : عبد الله بن سالم بن معيقل ـ حتّى وصلوا الرّياض ، فتركوهم أربعة

__________________

«تيسيغر» في كتابه «رمال العرب» (ص ٢٠٩). عن المقحفي ، وبابطين.

الذي ذكره غير المؤلف وعليه إجماع المؤرخين الحضارمة ـ فيما اطلعنا عليه ـ أن الصيعر يجتمعون على قبيلتين : الأولى : آل محمد بللّيث ، والثانية : آل علي بلّيث. وأمّا آل حاتم .. فهم من آل محمد ، وأما آل مسلّم .. فهم من آل علي ، وتفاصيل أسرهم وفخائذهم في : «الشامل» (١٢٣) ، و «المقحفي» (١ / ٩٣٠) ، وينظر : «تاريخ البكري» (٢ / ١٠٨ ـ ١٠٩) ، و «الأدوار» (٣٦٠).

(١) آل رميدان : من آل علي بلّيث.

(٢) آل يربوع : من آل علي بن سليمان من آل حاتم من آل محمد بلّيث.

(٣) آل عبيدون : من المسادسة ـ البامسدوس ـ من آل محمد بلّيث.

(٤) آل عبد الله بن عون : من آل معروف ـ سكان عيوه ـ من آل محمد بلّيث.

(٥) هم آل معروف بن معيقل ، من آل محمد بلّيث من الصيعر ، ومن فروعهم : آل ملهي ، وآل عبد الله بن عون.

١٠٤١

أيّام ، وفي الخامس أو السّابع اجتمعوا بملك الحجاز ونجد ورأوا من بشره وإكرامه أكثر ممّا يؤمّلون ، وقدّموا له مطيّة على سبيل الهديّة اشتروها عمّا يقولون بثلاث مئة ريال ، لكنّه بعيد ؛ لأنّ إبلهم لا تبلغ ذلك ولا نصيفه ، وبعد اجتماعهم به أجروا عليهم حكم الضّيافة ، وطلبوا منه أن يديم الإذن لهم بالإقامة في مشارف نجران ، فأحالهم على ما يرى فيه المصلحة أميرها ، ودفع لكلّ من الرّئيسين أربعين ريالا ، ولكلّ واحد ممّن سواهم عشرين ، مع ما يلزم من الزّاد ، ولمّا عادوا إلى نجران .. أبقاهم أميرها مدّة ، ثمّ طردهم ، فعادوا إلى عيوه ، هكذا أخبرني عنهم امبارك بن يسلم بن زيمة بن امبارك العوينيّ.

وكما رفعوا ثمن ناقتهم إلى ما لا يقبله العقل .. كتموا ـ فيما أرى ـ بعض ما أعطاهم الملك ؛ لأنّ ذلك النّزر لا يتّفق مع ما سارت به من سماحته الرّكبان وضربت الأمثال ؛ فهو الّذي :

يهمي النّدى والرّدى في راحتيه فلا

عاصيه ناج ولا راجيه محروم

وعدد الصّيعر لا يزيد عن ألفي رام ، وقد عاهدهم الضّابط السّياسيّ الإنكليزيّ انجرامس منذ أحد عشر عاما معاهدة اعترف لهم باستقلالهم ، وأنّهم ليسوا تبعا لأحد من سلاطين حضرموت ، وعلى أن لا رسوم عليهم في بلادهم ، وعلى أنّ العبر من حدودهم ، كذا أخبرني من اطّلع على المعاهدة (١).

__________________

(١) قام انجرامس بزيارة المناطق الحدودية عام (١٩٣٤ م) تقريبا ، وقام بتحديد القبائل التي تتبع القعيطي والتي تتبع الكثيري ، وقرر أن تكون القبائل القاطنة في المناطق الحدودية تابعة للقعيطي وخاصة قبائل الصيعر والكرب.

والسبب في ذلك : هو اتفاقية عدن عام (١٩١٨ م) ، التي حددت الأراضي التابعة للكثيري بشكل دقيق ، بينما أعطت للقعيطي الحق في التوسع.

وفي تشرين الثاني (نوفمبر) عام (١٩٣٦ م) وجّه انجرامس أنظار السلطان القعيطي إلى أهمية توسيع نفوذه إلى قبائل حضرموت النائية ، كما حضّ حاكم شبام القعيطي للقيام بهذا التوسع ، وناقش معه احتمالات إقامة حامية للقعيطي في حصن العبر.

أما الاتفاقية أو المعاهدة التي أشار إليها المؤلف .. فتعرف باسم : اتفاقية انجرامس للسلام مع قبائل حضرموت كتبت عام (١٩٣٧ م).

١٠٤٢

والجاهليّة عندهم جهلاء ، وشأنهم شأن العرب في السّلب والنّهب ، وكثيرا ما يتناهبون هم والعوامر وآل كثير النّعم بأنواعها ، ولكنّ أولاء لا يقدرون على الانتصاف منهم ، إلّا إذا انضمّوا إلى المهرة والمناهيل ، وتجمّعوا من كلّ صوب ، وأمّا هم ؛ أعني الصّيعر والمناهيل ، والمهرة ، ويام ، ودهم ، والكرب .. فلا يتناهبون إلّا الإبل ؛ لبعد الشّقّة.

وفي الشّتاء من هذه السّنة غزت آل حاتم إلى بعض البوادي الدّاخلة في الحدود السّعوديّة ، فغنموا إبلا كثيرا ، فاحتجّت عليهم حكومة عدن ، فقيل : إنّهم أرجعوها كلّها أو بعضها ، وقيل : لم يردّوا شيئا.

وفي جمادى الآخرة من هذه السّنة غزت طائفة من قبيلة يقال لهم : (القحطانيّون) مكانا في شرقيّ العبر وشماله ، يقال له : (شمال) ، وفيه أخبية لكثير من الصّيعر والكرب ونهد ، فالتحم القتال ودام نحو ثلاث ساعات ، وأنجدهم عسكر البادية المحافظ على الأمن بطرف حضرموت من جهة الحكومة الإنكليزيّة ، ولكنّه قليل جدّا ، فلم ينجه مع ألفافه إلّا الهرب بعد أن قتل منهم ثمانية عشر ، ونهبت إبلهم وسائر ما معهم ، وبيان القتلى : سبعة من الكرب ، وسبعة من الصّيعر ، واثنان من نهد ، واثنان من العسكر ، ويزعم المنهوبون أنّهم ومن لفّهم قتلوا ثلاثة من القحطانيّين ، ولكنّه زعم بدون تعيّن ، وعلى هذه .. فقس ما سواها.

وعن امبارك بن يسلم العوينيّ عن صالح بالخليس الصّيعريّ الكسيليّ قال : غزوت على ظهر الجبل من نجدنا إلى نجد المهرة ، فلمّا قارب الجبل الانتهاء .. استدقّ حتّى صار مثل السّيف ، فنزلنا عنه ونحن ستّة على ستّ من المطايا ، فلاقانا سوماليّ (١) على جمل في طلب اللّبان ، فهابنا ، فآمنّاه ، وسألناه : من أين أقبلت؟

قال : من عيان ، وهو موضع قريب من سيحوت ، يجري فيه غيل ، تقام فيه الأسواق.

__________________

باختصار من كتاب : «سياسة بريطانيا تجاه حضرموت» رسالة ماجستير بجامعة بغداد ، للسيد صادق عمر مكنون (١٢١ ـ ١٢٥).

(١) أي : صومالي ، ولا يزال كثير من الناس ينطقونها بالسين.

١٠٤٣

قلنا له : من هناك؟ قال : تجّار ببضائعهم يتأهّبون لقيام السّوق.

فأبقيناه مع أحدنا عند المطايا ، ولمّا قاربناهم .. ألفينا عندهم مهريا يحلب ناقة له ، فأرديناه وانتهبنا ستّين مطيّة مع ما قدرنا عليه من خفيف البضائع ، وضربنا آباط الإبل مساءها واليوم الثّاني وردهة من اللّيلة الثّانية ، فكلّ أصحابي وأرادوا التّعريس ، فنهيتهم فلم يسمعوا ، فأكلوا وأغفوا ، ولم يكد يطرقني النّوم من الذّعر حتّى انتبهت فقمت أعسّ (١) فشممت رائحة الوزيف (٢) من عرق جمال النّجدة ؛ لأنّها تأكل منه ، فأقبلت على أصحابي فسبقتني إليهم البنادق ، واعتصمت بأكمة ، وناديت القوم في أن يعود كلّ بحلاله ، فأجابني الشّوص أحد آل عليّ بن كثير وكان معهم فقال : انتظر حتّى نتشاور ، ولمّا ناديته مرّة أخرى .. قال : إنّ الّذين قتلتم أخاهم بالأمس وهو يحلب ناقته أبوا ؛ فجاء موضع قول أبي مكعب [من البسيط] :

إنّ الّذين قتلتم أمس سيّدهم

لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما

ولهذا البيت قصّة جاءت في (ج ١٠ ص ٢٥٠) من «خزانة الأدب».

وأمر جماعة أن يكمنوا لي على الطّريق ، وكان أحد أصحابي نجا براحلتين من النّهب ، فاقتعدناهما ، فلم يقدر علينا الكمين ؛ لأنّهما كما قال القطاميّ [من البسيط] :

يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة

ولا الصّدور على الأعجاز تتّكل

وكانت هذه القضيّة في حدود سنة (١٣٥٠ ه‍) ، وآثار الصّدق لائحة عليها.

وفيها فوائد كثيرة ؛ أهمّها : أنّ الجبل لا ينتهي إلّا على قرب سيحوت حسبما قدّمنا ، وقد نقلنا في شرح البيت (٣٦) في الجزء الأوّل من «الأصل» عن أبي شكيل : (أنّ مدينة تريم في شمال لسعا ، وجبالها اثنان ممتدّان من الشّرق إلى الغرب ، فيها قوم من المهرة كالوحوش ، يتكلّمون بلغة عاد ، وإليهم تنسب الإبل المهريّة) اه

__________________

(١) أعسّ : أسير في الظلام أترقب المارة.

(٢) صغار السمك بعد تجفيفه.

١٠٤٤

وما كان الخليسيّ مع أصحابه في المراجعة إلّا كدريد بن الصّمّة (١) في الحادثة الّتي غزا فيها بني كعب بن الحارث بنجران فتبعوهم وقتلوا أخاه عبد الله (٢) في حبونن (٣) واستردّوا منهم ما أخذوا ، وفي ذلك يقول قصيدته الّتي منها [من الطّويل] :

بذلت لهم نصحي بمنعرج اللّوى

فلم يستبينوا النّصح إلّا ضحى الغد

وما أنا إلّا من غزيّة إن غوت

غويت ، وإن ترشد غزيّة أرشد

تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا

فقلت أعبد الله ذلكم الرّدي؟!

لئن كان عبد الله خلّى مكانه

فلا طائشا خلو الجنان ولا اليد

وفي أرض الصّيعر بئر يقال لها : منوخ ، فيها ماء ، إلّا أنّه ينضب عند قلّة الأمطار (٤) ، وهذه البئر في منطقة يقال لها : منوخ.

__________________

(١) هو دريد بن الصمّة الجشمي البكري ، من هوازن ، من الأبطال الشعراء ، عمر في الجاهلية ، قتل يوم حنين على جاهليته سنة (٨ ه‍) ، ولم يسلم ، وكانت هوازن خرجت به معها لقتال المسلمين ، وكان قد عمي ، فأدركه ربيعة بن رفيع السلمي فقتله ، وأخباره كثيرة. «الأعلام» (٢ / ٣٣٩).

(٢) كان مقتل عبد الله بن الصمة بخليف دكم بأعلى حبونن ، قتله بنو الحارث بن كعب ، وفيه يقول أخوه دريد

تنادوا فقالوا : أردت الخيل فارسا

فقلت : أعبد الله ذلكم الردي؟

وقتل به أخوه دريد : ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب ، وقال :

قتلت بعبد الله خير لداته

ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب

«الصفة» (٣٠٥) ، «الاشتقاق» (٢٩٢).

(٣) حبونن : قال الهمداني : (وهو واد يغيب من بلد يام من سنحان (سمنان) ، وهي كثيرة الأرطى ، وبه بئر زياد الحارثي ، جاهلية). وقال الحجري : (بلدة في نجران يسكنها قبائل من يام ثم من مواجد ، وفيها حصن العان من حصون نجران أيضا). وهو عند ياقوت بلفظ : حبونى ، بألف مقصورة. «الصفة» (٣٠٥) ، «البلدان اليمانية عند ياقوت» (٨٨).

(٤) تقع بئر منوخ في منطقة منوخ الواقعة في الجنوب الشرقي لوادي عيوه.

وفي غربي هذه المنطقة على بعد (٥٥) ميلا تقع منطقة زمخ ، وبها بئر ، وبها مركز حربي بنته الحكومة القعيطية يبعد عن مركز العبر نحو (٣٧) ميلا ، وفي شمال زمخ رمال الدهناء أو الربع الخالي.

وقد كانت زمخ ومنوخ وثمود تشكل مركزا تجاريا مرموقا ، ولكن أفناها ما أفنى القرون الماضية. يراجع «الشامل» (١٢١ ـ ١٢٣).

١٠٤٥

وقد بنت فيه الحكومة مركزا على أكمة صخريّة عالية ، وهي في الجنوب الشّرقيّ لوادي عيوه.

وفي غربيّ هذه المنطقة على بعد خمسة وخمسين ميلا : منطقة زمخ ، وفيها بئر مهمّة يستقي منها الغزاة القادمون من بوادي نجران ، ويحملون ما يكفيهم من الماء في غزوهم للصّيعر ، وآل كثير والعوامر والمناهيل والمهرة ، وكذلك هؤلاء يتزوّدون منها لغزو يام والقبائل السّعوديّة وغيرهم.

ومركز زمخ يبعد عن مركز العبر بسبعة وثلاثين ميلا.

وعن قرية الحجر بريدة الصّيعر نحوا من أربعين ميلا.

وفي شمالها : رمال الدّهناء ، أو الرّبع الخالي.

وموقع زمخ بمكان كبير من الأهمّيّة ، ولذا بنت فيه الحكومة الإنكليزيّة على حساب الحكومة القعيطيّة مركزا لصدّ عوادي الغزاة أو تخفيفها.

وأمّا بير ثمود ـ الآتي ذكرها ـ فتبعد عن منطقة زمخ بمئتين وثلاثة وسبعين ميلا في جهة الشّرق.

وسكّان منطقة زمخ : آل عبد الله بن عون من الصّيعر ، وهم بدو رحّل.

وفي وادي دهر مكان يسمّى : زمخا ، وبئر تسمّى : ببئر زمخ ، ولكنّها أقلّ شهرة من المكان الّذي نحن بسبيله.

وسكّان منطقة منوخ : آل عليّ بلّيث من الصّيعر ، وسيأتي في وبار أنّها تمتّعت بالثّروة زمانا طويلا ، وأنّها كانت طريق التّجارة الأهمّ بين الشّرق والغرب. وقد كانت كلّ من منطقة ثمود ومنوخ وزمخ مدنا عظيمة للتّجارة ؛ ولكن أفناها ما أفنى القرون الماضية ، ولا شكّ أنّ آثارها مطمورة بالرّمال.

ومنذ أربعين يوما غزت يام وقتلت ثلاثة من الكرب ، وغنمت مئة راحلة ، ولم يقتل منها إلّا واحد ، ولم يصب إلّا اثنان.

وفي مكان المحارقة من أرض الصّيعر شيء من النّخل ، ولا نخل في سواها من

١٠٤٦

أرضهم ، والطّرق من ريدة الصّيعر مفتوحة إلى كلّ مكان ، ومن أقربها طريق وادي هينن ، ومن سرّ إلى مكان آل عليّ بلّيث في الرّيدة مسير يوم ونصف.

ومنذ ثمان سنوات تقريبا أمطرت الطّائرات الإنكليزيّة نارها على حصن يسلم بن يربوع ملهيّ ، وحصن عبد الله بن عون فهدمتهما ، ثمّ سوّيت القضيّة على ما تريد الحكومة من الموافقة على الحلف السّابق ذكره عمّا قريب.

وبلغني أنّ الحكومة جعلتهم بالآخرة تبعا للقعيطيّ برغم الاستقلال الّتي اعترفت لهم به في ذلك الحلف.

نجد آل كثير

هو من وراء نجد الصّيعر إلى المشرق (١) ، وفيه سعة وأودية ؛ منها : فرع ، والقويع ، وظيلم ، والحوياه ، ونخط ، وطرون ، وفيه من آل عامر : آل كدّه ، وآل دويس ، وآل عبدات .. ما يبلغ مجموعهم مئة رام.

وفيه من آل عمر : آل الشّين ، وآل بدر بن عبد الله .. نحو ستّين راميا. وفيه من الفخائذ آل الصّقير ، وآل زيمه ، وآل عليّ بن سعيد .. نحو أربعين راميا ، ولو لا أنّ بقيّة السيف أبقت عددا .. لأتت عليهم المغازي واستأصلتهم الحروب.

وفي أرضهم تنمو العلوب نماء عجيبا ، ومنها تجلب الأخشاب للعمارة إلى شبام وسيئون وتريم وما بينهنّ. وعود العلوب ـ أي : شجر السّدر ـ إذا نضج واصفرّ لا تقدر عليه دابّة الأرض.

وفي أخبار بدر بوطويرق : ما يفهم منه أنّ كثيرا من أسرتهم ـ لعهده ـ كانوا بهذا النّجد.

وفي أخبار بدر بن عبد الله : أنّه لمّا انكسر من جيش الإمام ولّى منهزما إلى جبال أخواله ؛ ففيه دلالة على أنّ مثرى آل كثير كان بادية لذلك العهد بهذا النّجد.

__________________

(١) نجد آل كثير : يحده شمالا : الرمال ، وجنوبا : وادي حضرموت الأكبر ، وشرقا : نجد العوامر ، وغربا : ريدة الصيعر. وتسيل منه إلى الجنوب : وادي جعيمه ، ووادي نعام ، ووادي يبهوض.

«الشامل» (١٢١). وهو نجد قليل الخير كنجد العوامر.

١٠٤٧

نجد العوامر

هو في شرقيّ نجد آل كثير ، ومن أوديته : يبا ، والدّخان ، وامباركه ، والعرج ، وغيرهنّ (١) ، ورجالهم لا يزيدون عن مئة وخمسين ، وفي أرضهم بئر يقال لها : تميس ، لكنّها بعيدة عن أماكنهم لا تنفعهم أيّام الظّمأ ، فيفضّلون عليها الانتقال إلى تاربه.

وفي نجد العوامر يزكو النّخل كثيرا ، غير أنّه يذوي ويموت إذا تتابعت عليه الجدوب ، ولأوّليهم في تعهّده اعتناء أكثر من متأخّريهم ، وإلّا .. فنخل تاربه لا يعدّ في جانبه شيئا مذكورا.

ولسيّدي الفاضل علويّ بن عبد الرّحمن المشهور ـ السّابق ذكره في تريم ـ رحلات إلى النّجدين لنشر الدّعوة الدّينيّة والإرشاد إلى طريق الحقّ ، غير أنّ المادّة لا تساعده ، وما أشدّ اهتمامه بحفر الآبار وبناية الأحواض والصّهاريج ؛ لأنّها ضروريّة هناك لو ساعدته القدرة ، لكنّ الأمر كما قال أبو الطّيّب [في العكبريّ» ٢ / ٣٧٠ من الخفيف] :

والغنى في يد اللّئيم قبيح

قدر قبح الكريم في الإملاق

وبناء على هذا تكلّمت مع سماحة الملك ابن السّعود في ذلك أواخر سنة (١٣٥٤ ه‍) ؛ إذ كانت حضرموت تمتّ إليه بحرمة وذمام بما كان بها لأوّليه من الإلمام ؛ إذ هتف بهم منها صريخ في حدود سنة (١٢١٧ ه‍) ، فإذا هم لذلك العهد كما قال الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» ٢ / ٤٢١ ـ ٤٢٢ من الطّويل] :

من القوم ما زرّوا الجيوب على الخنا

ولا قرعت أسماعهم بملام

__________________

(١) ومن أودية العوامر : وادي القيلة وهذبيل ، بهما : آل وعيل. ووادي جبا ، به آل عبد الباقي ، ووادي العري ، وإليه تفيض وديان النجد ، ثم يفضي إلى وادي الخون. ووادي الذهب ، به آل براهم من آل جعفر بن عمر. وحصون السلاسل لآل كليلة. «الشامل» (١٢٠). وتقدم الكلام على العوامر في (تاربه) ، ومن أراد المزيد .. فعليه «بالشامل» (١٢٠ ـ ١٢١).

١٠٤٨

سريعون إن نودوا ليوم كريهة

جريئون إن قيدوا ليوم خصام

يهاب بهم مستلئمين إلى الرّدى

على عارفات بالطّعان دوام

عناجيج قد طوّحن كلّ حقيبة

من الرّكض واستهلكن كلّ لجام

نزائع ما تنفكّ تطري صدورها

جيوب ظلام ، أو ذيول قتام

يخالطن بالفرسان كلّ طريدة

ويبلغن بالأرماح كلّ مرام

تلك هي حالهم قبل أن ينغمسوا في التّرف ، أمّا بعده .. فما أراهم يقدرون على مثل ذلك الشّرف ، سنّة الله في خلقه.

وقد قرّرت في «بلابل التّغريد» ما ينشأ عن التّرف من الأضرار وما ينجرّ به من المصايب ، ودلّلت عليه بما لا يوجد في سواه.

تكلّمت مع الملك في بناية الأحواض والصّهاريج بذلك النّجد فوعد ، غير أنّ الظّروف والاستعجال حالا عن استنجاز ذلك (١) ؛ إذ لا بدّ وأن تقوم دونه عقاب كأداء من الماليّة المعروفة بذلك ، وهي تطلب من الانتظار ما لا يقدر عليه أمثالي من الأحرار ، ولقد أخبرني غير واحد ممّن لا أشكّ فيهم عن الأمير الخطير الثّقة عبد الله بن عبد الرّحمن بأنّ أخاه الملك أمر لي عامئذ بمئة دينار من الذّهب .. فاختانها وزير الماليّة ، وما أدري هل الفرصة باقية لبناء الخزّانات إلى اليوم أم قد فاتت ؛ فإنّ جمعيّة الأخوّة والمعاونة أرادت أن تبني مسجدا بالعبر ـ وهو نظير تلك النّاحية ـ فلم يسمح لها.

نجد المناهيل (٢)

هو في شرق نجد العوامر ، وقد اختلفت عليّ رواة البادية في بير ثمود ، وجبل ـ أو قارّة ـ حبشيّة ؛ فمنهم من يجعلهما من أواخر نجد العوامر ، ومنهم من يجعلهما من

__________________

(١) كان ذلك في حج عام (١٣٥٤ ه‍).

(٢) نجد المناهيل : يقع بين وادي المسيله عند حدود المهرة في الجنوب ، وبين قبر هود عليه الصلاة والسّلام شمالا. وتصب منه إلى وادي حضرموت الكبير هذه الأودية : وادي يشحر ، ووادي فغمه ،

١٠٤٩

أوائل نجد المناهيل أمّا جبل حبشيّة (١) ـ بفتح الحاء المهملة وسكون الباء وكسر الشّين المعجمة وتشديد الياء المثنّاة من تحت المفتوحة ـ فعلى مقربة من بير ثمود.

ويقولون : إنّهم يسمعون دويّا منه يدلّ على وجود شيء من المخزونات نارا أو غازات أو غيرها.

وأمّا بير ثمود .. فإنّها ـ كما سبق ـ في جانب ذلك النّجد الشّماليّ الّذي يقصر ارتفاعه جدّا إلى الدّهناء ، فهي في أطرافها. وبقاؤها بهذا الاسم من قديم الزّمان إلى الآن يؤكّد ما تقدّم في وادي سر ونبيّ الله صالح عليه السلام.

ويشاع أنّ حواليها منابع غزيرة للبترول ، يتأيّد بتردّد رجال الحكومة الإنكليزيّة إلى ذلك المكان ، وشدّة اهتمامهم به ، وتكتّمهم بعمليّاتهم وحفريّاتهم فيه.

وذكر لي الولد الفقيه عبد القادر الرّوش أنّه رأى بمكّة سنة (١٣٦٤ ه‍) عددا ثامنا من الجريدة المسمّاة ب : (العالم العربيّ) ـ الّتي لم يصدر منها إلّا سبعة أعداد ـ جاء فيه : (أنّ من أغزر منابع بترول العالم : منابع اليمن ، ثمّ حضرموت ، ثمّ الظّهران) اه

وأمرت الولد النّبيل سالم خرد أن يراجع لي مسألة أذكرها عن القطب الحدّاد ،

__________________

ووادي ينحب ، ووادي عنح ، ووادي عصم ، ووادي عرده ، ووادي فغمه.

ونجد المناهيل نجد قليل الخير ؛ لقلة مياهه ، ويرعى سكانه جمالهم بالرمل ، ويوردون مورد المهرة ، وينتهي حد هذا النجد تقريبا عند خط الطول : (٥٠ ـ ١٢ ـ ٤٩) ، وسوق المناهيل : سيحوت ، يتوصلون إليها عن طريق وادي المسيله.

وفي الوديان المذكورة تنمو الأعشاب بوفرة ، وترعى العنوز والنعاج والجمال ، وتوجد قرى المناهيل وهي مكونة من بيوت وأكواخ مبنية من الطين ، ويسكن البعض منهم في كهوف الجبال.

ينظر : «الشامل» (١٢٠) ، «البكري» (٢ / ١٠٦).

(١) قال صاحب «الشامل» (١٧): (بلغنا أنه يوجد في القارة المسمّاة : حبشية فوق صيقة سنا بطرف غيل بن يمين بناء بحجارة فيها كتابات ، وعندها كهيئة البئر .. فربما أن يكون ذلك فوق فوهة بركان) اه ويقال : إن اسم الحبشة الذي سميت به إثيوبيا جاءها من اسم قبيلة حبشات ، إحدى بطون الأجاعز التي هاجرت إلى إثيوبيا من منطقة جبل حبشية بحضرموت. «الهجرة اليمنية» لبامطرف (٩).

١٠٥٠

فراجع «تثبيت الفؤاد» فتعسّرت عليه ؛ لعدم ترتيبه ، ولكنّه وقع على أهمّ منها ، وذلك أنّه جاء فيه [١ / ٧٢ ـ ٧٣] ما يأتي :

لو لا أنّ هذه ـ يعني تريم ـ دار هجرتنا .. لخرجنا منها ، ولا موضع لهجرتنا إلّا مرباط ، غير أنّه لا يمكننا ذلك لثقل الكلفة في التّحمّل بالنّساء والصّغار والولدان.

ثمّ قال : نحفظ عن بعض جدّاتنا عن أبيها ـ وهو من أهل الكشف ـ أنّه أغمي عليه عند موته بحضورها ، ثمّ أفاق فقال : عادكم تقولون : يا حيّا دولة الكثيريّ ، ثمّ أغمي عليه ، ثمّ أفاق فقال : يأتي على النّاس زمان ما لهم مفرّ إلا ثمود ، ثمّ مات على إثر ذلك.

وقال الحدّاد ـ أيضا بإثر ذلك ـ :

ما في تريم إلّا الوطن

إنّ الإبل تهوى العطن

وقد سبق في صيف من أرض دوعن أنّ القطب الحدّاد كان يذكر الانتقال إليها أيضا.

وما جاء من ذكر المفرّ إلى ثمود عن ذلك الرّجل الصّالح في الحالة الّتي لا يتّهم فيها الكاذب .. يبشّر بمستقبل ضخم لتلك النّواحي ، بدأت تتمخّض به الأيّام. والله العالم وحده ماذا يكون الحال عند الأولاد فيما بعده ، جعل الله العاقبة إلى خير.

وغير بعيد أن يأتي هنا موضع ما سبق في ميفع.

وقد ظهر تصديق فراسة ذلك الرّجل الصّالح الأولى : بتمنّي النّاس أيّام الدّولة الكثيريّة الّتي تضعضعت ثمّ بادت بيافع ، وما تصديق الفراسة الثّانية ببعيد.

وفي نجد المناهيل : وادي قتاب ، وهو واسع جدّا ، حتّى لقد قيل : إنّه أوسع من وادي حضرموت على العرف المصغّر مرّات (١).

وفيه أيضا : وادي قيصوم ، وهو واسع أيضا ، واقع في جهة الشّمال إلى الشّرق من وادي عيوه ـ بكسر العين المهملة وسكون الياء المثنّاة من تحت وفتح الواو ـ زنة عيوه الصّيعريّة.

__________________

(١) أي : في تحديد حضرموت السابق أول الكتاب.

١٠٥١

ومن بعدها : رماه ، على وزن قطاه.

والمناهيل فرقتان : آل بن معشني وعددهم نحو ثمان مئة رام ، وآل كزيم وعددهم نحو سبع مئة ، وكان على رئاستهم البخيت بن اللويطيّ ، وهو ممّن أمضى على نسخة من الوثيقة الّتي أرسلت لعليّ سعيد باشا.

ومع توقيعه على تلك الوثيقة .. أمضى لي على ما هذا نصّه :

الحمد لله ، وبتاريخ عشر جمادى الأولى سنة (١٣٣٥ ه‍) فقد شلّ وتحمّل بخيت بن اللّويطيّ عن نفسه وعن كافّة المناهيل لله ولرسوله وللعلم الشّريف بكلّ منفعة يقدر عليها للحبيب عبد الرّحمن بن عبيد الله السّقّاف ، وأن يوالي من والاه ويعادي من عاداه ، ويسمع نصيحته وشفاعته ، ويقوم معه ومع عياله من بعده بالحقّ والشّريعة وينصرهم على من تعدّى عليهم بدّا بوفا ما ذكر فترث عليه وعلى من بعده إلى أن يرث الأرض وراثها ، والله شهيد بدّا بما ذكر البخيت بن اللّويطيّ.

وكتب بأمره وشهد به عبد الله بن عمر بن سلمة وقد قتل البخيت المذكور في حربه مع أمير قسم.

ورئيس جميع المناهيل الآن عيضه بن الحريز بن طناف.

وفي الأخير غزتهم قبائل الجهة الغربيّة فأخذوا عليهم كثيرا من الإبل ، فجمعوا جموعهم من أنفسهم ومن المهرة والعوامر وغيرهم .. فانهزموا وكانوا كالضّبع ذهبت تطلب لها قرنا .. فعادت بلا أذنين.

وأكثر المناهيل والعوامر وآل كثير والصّيعر من سكّان هذه النّجود .. قبائل رحّل ، يتتبّعون مواقع القطر ، لا بيوت لهم إلّا الخيام غالبا ، ولكنّهم يصدحون (١) الأمطار عن أغنامهم ونعمهم وأنفسهم ، وإلّا .. للاقوا منها أتعابا وأنكالا.

__________________

(١) يصدحون : من الصّدحة ؛ وهي : رقية تزعم العرب أنها تمنع المطر أن يصيب مكانا وقد أصاب كل ما حوله من الأرض.

١٠٥٢

وذكر لي من طالع «الصّبح المنبي عن حيثيّة المتنبّي» (١) [٥٢ ـ ٥٤] : (أنّ فيه قصّة طويلة ؛ فيها : أنّ المتنبّي خدع واحدا بما أراه من نتيجة الصّدحة ، فآمن بنبوّته ، وذلك شيء يسير تعمله العرب بأصغر حيلة ، وقد رأيت كثيرا منهم بالسّكون وحضرموت والسّكاسك يفعلون هذا ، حتّى إن أحدهم ليصدح عن غنمه ، وعن إبله ، وعن القرية ، فلا يصيبها شيء من المطر ، وهو ضرب من السّحر) اه

والأقرب أنّه من آثار إجابة الدّعاء ومن أسرار الحروف ، فلا يلزم أن يكون سحرا (٢) ، لا سيّما وأنّ له حقيقة ظاهرة.

وبار

ومن وراء هذا الجبل الضّارب بجرانه من نحو العبر إلى مشارف سيحوت : صيهد حضرموت ، أو وبار ، أو رمل عالج ، أو الدّهناء ، أو البحر السّافي ، أو الرّبع الخالي ؛ فكلّ ذلك يقال عليها ـ كما أشرنا إلى بعضه في «الأصل» ـ ولا عبرة بما طرأ من تخصيص الدّهناء بما جاور نجدا من رمالها ؛ قال ياقوت في (ص ٤٤٢) من الجزء الأخير : (وكانت منازل عبيل يثرب ، ومساكن أميم برمل عالج ـ وهي أرض وبار ـ ومساكن جرهم بتهائم اليمن ، ثمّ لحقوا بمكّة ...) ، وأطال في ذلك بما تكفي الإحالة عليه.

وكان الحبيب أحمد بن حسن العطّاس يقول : (إنّها تصل ما بين البصرة ونجد وأرض العوامر والمناهيل وجبال حضرموت النّجديّة الشّرقيّة ، وأقرب المنازل إليها من جهة الإحساء رملة يبرين) اه

وقوله : (النّجديّة) ؛ يعني : الشّماليّة ، ولعلّ يبرين هذه الّتي يعنيها الشّمردل

__________________

(١) اسم كتاب من تأليف العلامة يوسف البديعي الحلبي الأديب ، المتوفى سنة (١٠٧٣ ه‍) ، وهو دمشقي الأصل ، تولى قضاء الموصل. ترجم له المحبي في «الخلاصة» (٤ / ٥١٠).

(٢) لأن السحر إنما هو تخييل ووهم يضرب على الأعين قال تعالى : (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ)

١٠٥٣

في بيته السّابق في المقدّمة (١) ، وسبط ابن التّعاويذيّ بقوله [من الكامل] :

إن كان دينك في الصّبابة ديني

فقف المطيّ برملتي يبرين

وهو من قصيدة شاعرة يمدح بها صلاح الدّين ، ويعارض بها قصيدة صرذر المستهلّة بقوله :

أكذا يجازى ودّ كلّ قرين

وفي الجزء الأوّل [ص ٢١٩] من «الإكليل» : (أنّ معدا كانت بتهامة ، فلمّا قاربت بلد حكم ابن سعد بن مذحج .. حاربتهم سعد العشيرة وأخرجتهم إلى الحجاز ، وفي ذلك يقول عامر ابن الظّرب العدوانيّ [من الوافر] :

فسعد أرحلت منها معدّا

وكيف تصاقب الدّاء الدّفينا (٢)

وممّا ينسب إلى تبّع في ذلك قوله [من البسيط] :

عطفت خيلي على عيلان إذ قفلت

فأنزلتهم بدار الجوع يبرينا

أرحلتهم من بلاد الرّزق كلّهم

فما يذوقون رمّانا ولا تينا

وبطون قيس تنجع في البلاد شرقا وغربا ، وتوغّل في بلدان الأعاجم ، وفيهم السّلطان ، وما تحدّث نفوسها بمأرب أن تطرّفها (٣) إلى غيرها ؛ فضلا عن النّزول بها) اه باختصار.

وقد ذكرنا في غير هذا الموضع : أنّ اليمن ما زالت قاهرة لعدنان حتّى كان يوم حزاز وعلى عدنان وائل ، فقهروا اليمن ، ثمّ اتّصل ذلك بعد عدنان في الإسلام ؛ فإن أراد الهمدانيّ ما قبل ، وإلّا .. فكلامه مردود ، وهو لم يكن إلّا في القرن الرّابع وحمير مقهورة لا قاهرة ، ومرؤوسة لا رئيسة ، وهذا جاء في البين لمناسبتين مارّتين .. فلنعد لما نحن فيه.

__________________

(١) والبيت هو :

بلغن أقصى الرمل من يبرينا

وحضرموت وبلغن الصينا

(٢) تصاقب : تجاور وتلتصق.

(٣) أي : تنزل بأطرافها.

١٠٥٤

وقال البكريّ في «معجمه» [٤ / ١٣٦٦] : قال أبو عمرو : وبار بالدّهناء ، بها إبل وحوشيّة (١) ، وبها نخل كثير ، لا يرده أحد ولا يجذّه ، وزعم أنّ رجلا وقع إلى تلك الأرض .. فإذا تلك الإبل تأكل من التّمر ، وترد ماء هناك ، فركب منها فحلا فتبعته تلك الإبل على توحّشها ، فذهب بها إلى أهله.

وقال الخليل : إنّها كانت مساكن عاد ، ولمّا أهلكهم الله .. ورثها الجنّ ، وهي الأرض الّتي ذكرها الله في قوله : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)

وقال إسحاق بن إبراهيم الموصليّ : كان من شأن دعيميص الرّمل : أنّه لم يكد يدخل أحد أرض وبار غيره ، ولمّا انصرف عنها .. وقف بالموسم يقول [من الطّويل] :

فمن يعطني تسعا وتسعين نعجة

هجانا وأدما أهدها لوبار

فلم يلتفت له أحد من أهل الموسم سوى رجل من مهرة أعطاه ما سأل وتحمّل معه في جماعة من قومه بأهليهم وأموالهم ، فلمّا توسّطوا الرّمل .. طمست الجنّ بصر دعيميص ، واعترته الصرفة ، وهلك هو ومن معه جميعا) اه

وهذا من الخرافات ؛ فإنّ النّاس اليوم لها فيه جيئة وذهاب ، وما بأحد بأس.

والنّحاة على اختلاف في إعراب وبار ؛ فمنهم من يبنيها على الكسر ؛ لأنّه المطّرد فيما كان آخره راء وزن فعال ، ومنهم من يعربها إعراب الممنوع من الصّرف.

والطّرق مفتوحة للسّيّارات في هذه الرّملة من غير تعبيد إلى كلّ مكان ، ومنه تعرف خطأ الفرزدق إذ ضرب المثل بخفاء طريقها في قوله [في «ديوانه» ١ / ٣٩٥ من الكامل]

ولقد ضللت أباك يطلب دارما

كضلال ملتمس طريق وبار

وقد يجاب بأن ليس المراد قلّة السّالكين ، ولكن قلّما تثبت الآثار على الرّمال ،

__________________

(١) بمعنى وحشية غير أليفة.

١٠٥٥

وإلّا .. فهي مسلوكة من قديم الزّمان إلى الآن ، وقد سلكها العلاء ابن الحضرميّ في قتال المرتدّين ، وندّت (١) إبلهم وهم نزول ، وأصابهم من الكرب والعطش أمر عظيم ، ثمّ ظهر لهم ماء فمشوا إليه ، وعادت إبلهم وعليها أزوادهم ، فامتطى كلّ بعيره ، وكتب إلى أبي بكر ـ كما عند الطبري [في «تاريخه» ٣ / ٣١٣] ـ يقول له : (أما بعد : فإنّ الله تبارك وتعالى فجّر لنا الدّهناء فيضا لا ترى غواربه (٢) ، وأرانا آية وعبرة بعد همّ وكرب ؛ لنحمد الله ونمجّده).

فلا يتعذّر سلوك السّيّارات بها من حضرموت إلى العبر ، ولا من العبر إلى نجران ، وقد سلكها المستشرق فلبي.

ولمّا اجتمعت بملك الحجاز ونجد في سنة (١٣٥٤ ه‍) .. قال لي : إنّ الحكومة الإنكليزيّة أرسلت إليّ وفدا في رمضان من هذا العام يقول لي : لا بدّ من إصلاح حضرموت ، وتمّ الكلام على إرسال وفد من عندي ومن عند الأخ يحيى ومن عندهم للاستفتاء ؛ فإن اختاروا الأخ يحيى .. فبها ، وإن اختاروني .. فعلي أن أذبّ عنهم بما أذبّ به عن أهلي وولدي ، وإن اختاروا الإنكليز .. فشأنهم وأنفسهم.

هذا معنى ما قاله لي يومئذ ؛ إن لم يكن بلفظه.

وكم كان سرور النّاس بذلك لمّا خابرتهم به مرجعي من الحجّ ، ثمّ لم يكن إلّا أن جاء فلبي وكان يتقمّص الإسلام ، ولا ينبغي إلّا أن نحمل باطنه على ظاهره ، فكان الكلّ في الكلّ.

وسبق في المقدّمة ما يقرب من كلام الحبيب أحمد بن حسن العطّاس عن الطّيّب بامخرمة عن القاضي مسعود.

وقال الهمدانيّ : وفي شعر الأخنس بن شهاب التّغلبيّ الّذي يذكر فيه منازل العرب [من الطويل] :

__________________

(١) ندّت : تفلّتت وشردت.

(٢) غوارب الماء : أعالي موجه.

١٠٥٦

وصارت تميم بين قفّ ورملة

لها من جبال منتأى ومذانب

وكلب لها خبت فرملة عالج

إلى الحرّة الرّجلاء حيث تحارب

والرّجلاء : هي الّتي ترجل صاحبها فلا يقدر على الرّكوب فيها.

وأمّا ما يزعمه كثير من النّاس من فرط نعومة رمل بعضها بحيث يغرق من يقع فيه .. فقد أشرت في «الأصل» إلى استحالته ، غير أنّ الأخبار كثرت بالآخرة عنه.

ويزعم بعضهم أنّ في هذه الفلاة بحرا ، ومع اتّساعها وكثرة أعاجيبها وغرائبها ... فإنّه لا يبعد ؛ لأنّ البدو والسّيّاح قد قتلوها علما ، ولم يذكروه ، ولكنّهم ذكروا أمّ الصّميم.

أم الصميم

وهو موضع في الرّبع الخالي ، قريب من مسقط ، يرى مثل التّراب ، وهو ماء إذا وقع فيه الإنسان .. غرق ، ولكنّه ليس بواسع ، وزعم بعض سيّاح الأجانب ممّن يدّعي أنّه قتلها علما : أنّها تسع مئة ميل في مثلها ، لا تزيد على ذلك ، وأورد الطّائيّ في المراثي من «حماسته» [١ / ٣٩٨] أربعة أبيات لابن رواحة السّبنسيّ منها [من الطّويل] :

وما زال من قتلى رزاح بعالج

دم ناقع أو جاسد غير ماصح (١)

وفي مضرب المثل بسعتها يقول البحتريّ [في «ديوانه» ٢ / ٣٧٠ من الكامل] :

ليس الّتي ضلّت تميم وسطها الدّ

هناء لا بل صدرك الدّهناء

وقال الهمدانيّ في موضع آخر من «الصّفة» بعد أن ذكر أودية كثيرة : (وكلّ هذه الأودية فيها نخل ومساكن وزروع ؛ وهي تسمّى الثّنايا ؛ ثنايا العارض وهو قفّ

__________________

(١) قال شارح «ديوان الحماسة» : رزاح : اسم قبيلة من خولان. ورمل عالج : اسم موضع. والنّاقع : الثّابت. والماصح : الذّاهب. والجاسد : الجامد. والمعنى : أنّ دماء قتلى رزاح بعالج لم تزل طريّة أو جامدة غير ذاهبة ؛ أي : باقية على حالها فلا تغسل إلّا بأخذ الثّأر من أعدائها.

١٠٥٧

مستطيل ، أدناه بحضرموت وأقصاه بالجزائر) اه (١)

وقد أطلت القول عن وبار هذه ب «الأصل» ، ومنه : أنّها تمتّعت بالشّرف قرونا طويلة ، واستثمرت توسّط موقعها بين الشّرق والغرب ، فكانت مركز التّجارة العظيمة ، ومخزن البضائع الأهمّ ؛ إذ كانت السّفن تقصد سواحلها ـ ومنها : إلى عمان وظفار وسيحوت الشّحر ـ من السّند والهند والصّين وجاوة وأفريقيا وغيرها من الجهات الغربيّة ؛ كما أشار إليه صاحب «الشّهاب الرّاصد» وغيره.

وأكثر الدّهناء لتميم ، ولهم إقطاع من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حسبما أظنّني ذكرته في «الأصل».

وقال الفرزدق في هجائه لعمرو بن عفراء [في «ديوانه» ١ / ٥٩ من الطّويل] :

ولمّا رأى الدّهنا رمته جبالها

وقالت : ديافيّ مع الشّأم جانبه (٢)

فإن تغضب الدّهنا عليك فما بها

طريق لزيّات تقاد ركائبه (٣)

ومعناه : أنّ الدّهناء لا تقبل زياتا مثلك.

وقلّما ذكرت الدّهناء في «خزانة الأدب» .. إلّا وقال صاحبها : وهو موضع ببلاد تميم ، كما في شرح هذه الأبيات [٥ / ٢٣٧] منها ، وشرح قول أبي زبيد الطّائيّ [من الخفيف] :

فلحا الله طالب الصّلح منّا

ما أطاف المبسّ بالدّهناء

في (ص ١٥٥) منه : والمبسّ : حادي الإبل ، وفيه تكثير لسالكيها ؛ إذ جعله مضرب مثل على عكس ما سبق.

وقال عن الفرزدق ذو الرّمّة [في «ديوانه» ٧٢ من البسيط] :

حنّت إلى نعم الدّهنا فقلت لها

أمّي بلالا على التّوفيق والرّشد

__________________

(١) صفة جزيرة العرب (٢٥٣).

(٢) ديافيّ : منسوب إلى بلدة في الشّام ؛ اسمها : دياف ، وأهلها نبط الشام ، وإذا أرادوا التّعريض برجل أنّه نبطيّ نسبوه إليها.

(٣) الزّيّات : بائع الزّيت.

١٠٥٨

وقد شرحها صاحب «الخزانة» في [٩ / ٤٢٤] ، وقال : (والدّهنا : موضع ببلاد تميم ، يمدّ ويقصر).

وقد اعترف كثير من الإفرنج أنّ المحيط الهنديّ كان بحيرة عربيّة من القرن الثّامن إلى نهاية القرن الخامس عشر كما سبق في تريم بمناسبة ذكر الملّاح العظيم أحمد بن ماجد عندما ذكرنا علماء آل باماجد.

ولوبار هذه ذكر كثير من الأشعار ؛ منها قول النّابغة [من الكامل] :

فتحمّلوا رحلا كأنّ حمولهم

دوم ببيشة أو نخيل وبار (١)

وفي مضرب المثل بنخلها ما يؤكّد قولنا بغزارة خيراتها ، وكثرة بركاتها ، وقد أطال ياقوت فيها بما لا حاجة إلى ذكره ؛ لأنّ الكتاب موجود ، ولأنّ بعضه ممّا يشكّ فيه العاقل ، ويحتاج في تصديقه إلى سذاجة وافرة.

وممّن نصّ على أنّها هي رمال عالج : ياقوت وابن خلدون وغيرهما.

وفي «شرح ديوان الحماسة» [١ / ٢٤٢] : أنّ مروان الحمار آخر ملوك بني مروان كتب لمعدان بن عبيد بن عديّ : ثمّ والله لأبيلنّ الخيل في عرصاتك. فقال معدان للرّسول : قل له : تبيل الخيل في عرصاتي وبيني وبينك رمل عالج ، وحولي عديد طيّء ، وخلف ظهري الجبلان؟!! فاجهد جهدك ؛ فلا أبقى الله عليك إن أبقيت. في حديث طويل.

وقال ذو الرّمّة [في «ديوانه» ٤٥ من الطّويل] :

أبيت على ميّ كئيبا وبعلها

على كالنّقا من عالج يتبطّح

وقال ابن الأشعث الجنبيّ يصف صيهد حضرموت هذه ـ وكان سلكها إلى وادي نجران كما فعل فلبي ـ [من الكامل] :

هلّا أرقت لبارق متهجّد

برق تولّع في حبيّ منجد

__________________

(١) بيشة : واد بطريق اليمامة.

١٠٥٩

برق يذكّرك الجريدة أنّها

علقت علائقها طوال المسند

فلقد ذكرتك ثمّ راجعت الهوى

يوم الشّرى ودعوت أن لا تقعدي

منها :

فإذا مفازة صيهد بتنوفة

تيه تظلّ رياحها لا تهتدي

وتظلّ كدر من قطاها ولّها

وتروح من دون المياه وتغتدي

بلد تخال بها الغراب إذا بدا

ملكا يسربل في الرّياط ويرتدي

فسألت حين تغيّبت أعلامنا

من حضرموت بأيّ نجم نهتدي؟

قالوا : المجرّة أو سهيل باديا

ثمّ اهتدوا لقفولكم بالفرقد

نتجشّم الأهوال نبغي عامرا

متحزّنين عليه أن لم يوجد

وقال الهمدانيّ في الجزء الأوّل [ص ١٩٥ ـ ١٩٧] من «الإكليل» : (ذهب في الدّهناء بعهدنا قطار فيه سبعون محملا من حاجّ الحضارم ، صادرين من نجران ، لحق هذا القطار في أعقاب النّاس ، ولم يكن فيه دليل ، فساروا ليلة وأصبحوا وقد تياسروا عن الطّريق ، وتمادى بهم الحور حتّى انقطعوا في الدّهناء ، فلم يدر ما خبرهم ؛ لأنّ أحدا لا يدخل ذلك المكان ، ولو دخله .. لم يظفر بموضعهم ؛ لسعة ذلك الخرق .. فهي فلاة واسعة جدّا ، وفيها بقايا قصور في جانبها الغربيّ ممّا يصله العمران ، يعدّنها النّاس في زماننا .. فيجدون فيها الذّهب وما لم يسرع إليه أكل التّراب من الفضّة) اه

وفيه كثرة حاجّ الحضارم لذلك العهد ؛ لأنّه إذا كان اللّاحق سبعين محملا .. فما بالك بالسّابقين؟

ويشبه أن تكون هذه القصّة هي بنفسها الّتي سمعتها عن شيخنا العلّامة أحمد بن حسن العطّاس ، وذكرتها في «الأصل» ، وهي : أنّ مئة وأربعين دخلوا الدّهناء مردفين على سبعين مطيّة ، كلّ اثنين على واحدة ، فغرقوا في بحر الرّمل ما عدا واحدا تخلّف لقضاء حاجته ، وانتظره صاحبه على مطيّته ، فجاءت حيّة هائلة والتهمت الجمل وراكبه ولم ينج إلا قاضي الحاجة.

١٠٦٠