إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

أهل الاستئناف؟ لقد حفظوا شيئا وغابت عنهم أشياء ، ألم يعلموا أنّه يجب على القاضي الكامل بيان مستنده إذا نقض حكم غيره فضلا عن قضاة الضّرورة؟ وأيّ مستند بيّنه هؤلاء؟! أما كان الواجب عليهم بالتّنزّل وجعل إقرار المرأة أو وكيلها مانعا من سماع الدّعوى الثّانية ـ لغرض أنّه من غير تأويل ـ أن يقولوا : ثبت لدينا بشهادة فلان وفلان ، ويراعوا الأوضاع الشّرعيّة في جميع ذلك ، وينقلوا النّصّ الّذي اعتمدوه بعينه؟!

وإذا لم يكن شيء من ذلك .. فما قولهم إلا هراء ، بينه وبين الصّواب سبل وعرة وأرض عراء. والله أعلم.

كتبه : عبد الرّحمن بن عبيد الله

وبلغني أنّ السّيّد مصطفى ارعوى ورجع عن كلامه ، وأمّا الباقون .. فأصرّوا ، ولكن ألغي كلامهم وأعيد المال إلى رقيّة ، ثمّ فصلوا تماما وأسند الاستئناف إلى جماعة بتريم مدّة قليلة ، ثمّ هو الآن في يد السّيّد عبد الله بن صالح بن هاشم الحبشيّ (١) ، وفّقنا الله وإيّاه للسّداد ، وجعلنا وإيّاه ممّن يؤثر النّصوص المقرّرة في الاعتماد.

وهو مشهور بالنّزاهة ، إلّا أنّ من أصحابه مغرضين يزعم النّاس أنّه قد ينخدع بكلامهم.

ومن العلماء المشهورين والأشخاص الظّاهرين بسيئون : أخونا العلّامة الجليل السّيّد محمّد بن هادي بن حسن بن عبد الرّحمن بن حسن بن سقّاف (٢) ، فلقد شمّر ـ

__________________

(١) ولد بالحوطة ، وتوفي بها سنة (١٣٨٧ ه‍) ، وكان طلب العلم بمكة وكان فقيها عالما ، له اعتناء بعلم الفلك ، وقدم تريم ودرّس في الرباط في حياة الحبيب عبد الله بن عمر الشاطري.

(٢) ولد الحبيب محمد بن هادي بسيئون سنة (١٢٩١ ه‍) ، وتوفي بها في (١٥) رجب (١٣٨٢ ه‍).

نشأ في حجر والده ، وأخذ عن جملة من علماء عصره ؛ منهم : الإمام الأبر ، والحبيب علي الحبشي ، وقرأ على والده الحبيب هادي المتوفى سنة ١٣٢٩ ه‍) ، له رحلة إلى مصر سنة ١٣٤٢ ه‍) دوّن وقائعها مرافقه وتلميذه الشيخ بكران الصبان ، وأخرى إلى الحجاز كتب وقائعها تلميذه السيد محمد شيخ المساوى. وجمع بعضهم كلامه ومواعظه في مجلد. ينظر : «التلخيص» (٩٧ ـ ٩٨) ، «تاريخ الشعراء» (٥ / ١٦٦).

٧٢١

بسائق أبيه من نعومة أظفاره ـ الذّيل ، وواصل في طلاب العلوم بين النّهار واللّيل ، ولم يزل يردّ الضّجر ، ويفترش المدر ، ويدمن السّهر ، ويديم التّحديق ، ويلازم التّحقيق ، حتّى ينعت له الأماني ، واقتطف ثمار التّهاني .. فجاء موضع قول الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» ٢ / ٨ من البسيط] :

لو أنّ عين أبيه اليوم ناظرة

تعجّب الأصل ممّا أثمر الطّرف

وكان أكثر تخصّصه في علم النّحو ، فهو والشّيخ محمّد باكثير فيه فرسا رهان ، ورضيعا لبان ، وربّما اختلفا في بعض المسائل ؛ كما في (منهلّا) من قول ذي الرّمّة [في «ديوانه» ١٠٢ من الطّويل] :

ولا زال منهلّا بجرعائك القطر

ـ فالأوّل يرى أنّ (منهلّا) اسم فاعل ورفع المسألة إلى بعض العلماء بمكّة ، فصوّب كلامه.

ـ والثّاني يرى أنّه اسم مفعول ، وظفر من شرح «المتمّمة» للسّيّد الأهدل بنصّ يوافقه على ذلك.

وعندي : أنّ كلّا منهما مصيب ؛ لأنّ (منهلّا) زنة (معتلّا) ، وهو صالح للاثنين ، كما في «حاشية الصّبان على الأشمونيّ» [٢ / ٤٧٦] ، لا يتميّز أحدهما إلّا بالنّيّة.

خصائص سيئون :

منها : عذوبة الماء ، حتّى إنّ قائلهم يقول : (سيئون والماء ، ولا سمن البقر في شبام).

ومنها : اعتدال هوائها ، وكثرة صفائها ، ولهذا كان لها منظر جذّاب يأخذ بقلوب أهلها فيكثر له حنين الغائبين عنها من أبنائها.

ولأهلها ميل كثير إلى الأنس ، حتّى إنّهم كانوا يخرجون بأهاليهم في فصلي الصّيف

٧٢٢

والخريف كلّ عشيّة إلى الفضاء الرّحب في سفوح يثمه (١) على طبخ القهاوي ، ومناشدة الأشعار ، ومبادلة النّوادر ، ثمّ لا يرجعون إلّا للعشاء ، مع نزاهة وصيانة وتباعد في المجالس ، بحيث لا يبين لأحد لون امرأة لا تحلّ ، إلّا من كانوا من المبرّزين الّذين لا تتحجّب نساؤهم .. فبين ما يفعلون وما يؤثر قديما عن سمر أهل ظفار .. بعد المشرقين.

وهذه السّفوح قاحلة ليس بها شيء من الأعشاب والأشجار إلّا تعاشيب من الإذخر والأشنان وما أشبه ذلك ، وحواليها مجاري السّيول والمطر بها قليلة الهطول ، ولكنّه منظر يجلو الهمّ ، ويفرّج الحزن ، ويجمّ الفؤاد.

ولمّا اشتكى الحبيب عليّ بن عبد الله السّقّاف ما يعتريه من الهمّ إلى الحبيب عبد الله بن علويّ الحدّاد .. أشار عليه بمقابلة وادي يثمه كلّما طرقه ، ففعل فنجح ، ووجد منه أفضل علاج له ولهذا اتّخذ بفناء مسجده مكانا في شرقيّه ينظر منه إليه.

وما أشبه حنين آل سيئون إليها .. بما كان من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأصحابه المهاجرين إلى مكّة المشرّفة ، حتّى لقد جاءه أصيل الغفاريّ من مكّة ووصف له خصبها ، وقال : إنّ الإذخر أورق ، والشّجر قد أعذق (٢) ، أو ما يشبه هذا ، فاغرورقت عيناه. وإن كان بلال ليرفع عقيرته إذا أخذته الحمّى ـ مع أنه لم يلاق بمكة إلا كل بلاء ـ ويقول [من الطّويل] :

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوما مياه مجنّة

وهل تبدون لي شامة وطفيل

وفي جنوب تلك السّفوح في شرقيّ سيئون موقع مكاننا علم بدر (٣) ، وكلّما بارحته

__________________

(١) واد من الأودية المشهورة في سيئون. وهو الذي نشأ فيه الحبيب علي بن عبد الله السقاف ـ المتقدم ذكره ـ وبنى فيه مسجده. وهو يقع الآن داخل سيئون.

(٢) أعذق : أخرج ثمره.

(٣) أصل تسميته باسم السلطان علي بن بدر بن عمر بن بدر بوطويرق ، المتوفى بالشحر سنة (١١٠٧ ه‍). «تاريخ الدولة» (٨٦ ـ ٨٨). ولكن لما كثر دوران الاسم على الألسنة .. تحرف

٧٢٣

ـ على ما ألاقي به من الأذايا ـ اشتدّ شوقي إليه ، كما يعرف من «ديواني» المحشوّ به ، من ذلك قولي من قصيدة إماميّة [في «ديوان المؤلّف» ٥٢١ ـ ٥٢٢ من الطّويل] :

شجون أطارت في الظّلام منامي

لتذكار أيّام بسفح يثام

بحيث الفضاء الرّحب والسّدر حوله

منابت نخل باسق وبشام (١)

قليل به الأعشاب لكنّ ماءه

ألذّ وأصفى من سلاف مدام (٢)

وما نزه الدّنيا وجنّات ريفها

بأنفع من بطحائه لسقام

ولن أنس فوق الرّمل فيه مجالسي

شمالي بنتي واليمين غلامي

عشايا على تلك السّفوح تصرّمت

بإثر غدايا في هنا ووئام

بصحبة قوم طاهرين مراجح

ميامين شمّ صادقين كرام

مضوا كلّهم قدما وعاشوا بحمدهم

وإن أعقبوا في عصرنا بلئام

ومن أخرى وداعيّة كان إنشاؤها في سنة (١٣٥٤ ه‍) [في «ديوان المؤلّف» ٥٢٥ ـ ٥٢٦ من الطّويل] :

تذكّرت شرقيّ الحمى منبت الأثل

وماأصعب الذّكرى على ذي الوفامثلي (٣)

مشارف ما فيهنّ للعين منظر

يروق سوى شيء من السّدر والنّخل

فما زرعها زاك ولا ثمّ ساكن

بها غير شاك قلّة الأمن والعدل

ولكنّ فيها نشأتي وولادتي

وخلّفت فيها صبيتي وبها أهلي

فما في بلاد الله أرض كمثلها

لديّ على تلك المخاوف والأزل (٤)

ولم أنس في يوم الوداع مواقفا

لواعجها في القلب أشوى من الثّكل (٥)

__________________

فصار (علم بدر) كما يوردها المؤلف كثيرا في هذا الكتاب.

(١) البشام : نبت طيّب الرّائحة ، يستاك به.

(٢) سلاف المدام : أجودها وأزكاها.

(٣) الأثل : شجر طويل ، يعمّر كثيرا ، جيّد الخشب ، كثير الأغصان متعقّدها ، دقيق الورق.

(٤) الأزل : الشّدّة.

(٥) اللّواعج : الآلام.

٧٢٤

تراجعني فيها الهوى أمّ شادن

وأجفانها تجري وأشجانها تغلي (١)

وتلوي بليّتها مخافة طفلة

ترى ما بها من حسرة البين أو طفل

تصدّ لإيهام الأطيفال تارة

وتقبل أحيانا بفوّارتي وبل (٢)

ويمنعها سوق المقال نشيجها

سوى كلمات ساقطتها على رسل

تقول : إلى أين السّرى بعد ما ترى؟

فليس لنا ذرع على فرقة الشّمل (٣)

فقلت : قريبا تنطوي مدّة النّوى

ويعقبها من فضله الله بالوصل

والشّوط بطين جدّا من أمثال هذا ، ولكن لا حاجة لإثارة الأشواق ، وتجديد الأحزان ، ولقد كانت لي أخت صالحة تجرمت لها الأعوام في الأمراض المزمنة والأوجاع المؤذية ، وعرضنا عليها أن تمرّض في بيتنا .. فامتنع زوجها ، فكانت لا تغبّنا زيارة مع ضعفها ، تستشفي برؤيتنا واستنشاق هوائنا ، حتّى اشتدّ بها المرض وألحّ عليها الألم ، فكانت تأمر أن تحمل لتطلّ من نافذة يتراءى لها منها مكاننا ، فقلت في جملة رثائها [من الطّويل] :

وكم هزّها شوق لمسقط رأسها

فناء بها ضعف فجاش لها وبل

تذوب حشاها حسرة كلّما بدا

مصلّى أخيها أو تراءى لها النّخل

وكان سيّدنا الجدّ سقّاف بن محمّد يحرص كثيرا على سرور أهل بلاده ، حتّى إنّه ليرتقي سطح داره في أيّام الصّيف والخريف فإن لم يسمع غناء ولا طبلا .. تكدّر ؛ لأنّهم لا يخرجون بتركه عن عادتهم في ذلك إلّا لمكدّر عيش ، ومشوّش بال. وكانوا مع فرط الصّفاء وترادف السّرور في فقر مدقع متساوين فيه ، وإن وجد لدى أحد شيء من المال .. لم يعرف أثره في لباسه ، ولا في أثاثه ولا في داره ، وإنّما يظهر أثره في

__________________

(١) الشّادن : ولد الغزال عندما يطلع قرناه ويستغني عن أمّه.

(٢) الفوّارة : العين الّتي يفور ويجري ولا ينقطع ماؤها. الوبل : المطر الشّديد وهو هنا كناية عن فوران العينين بالدموع.

(٣) ذرع : قوّة وطاقة.

٧٢٥

الإحسان ومواساة الأقارب والجيران ؛ كسيّدي جعفر بن شيخ (١) ، والشّيخ عمر دحمي (٢).

وفي أوائل هذا القرن بدأت زهرات ضئيلة من الثّروة ، استفزّت بعض أهل العلم فاستمالوا أهلها وعظّموهم ، وكبّروهم في أنفسهم ، وحملوهم على اقتناء الفراش والأثاث ، وتشييد الدّور ، وزخرفة القصور ، ونهجوا لهم السّبيل إلى اتّباع الشّهوات ، والتّقلّب في اللّذّات ، فأخذ السّرور يغيض (٣) والأحزان تفيض (٤) ، حتّى انحلّ الرّباط ، وطوي البساط ، وتقوّض ذلك الفسطاط ، وأديل الاجتماع بالافتراق ، والاتّحاد بالانشقاق ، وانكسرت خواطر الفقراء ، فاقشعرّ بهم بطن البلاد ، وتوزّعتهم الأقاليم النّائية.

ونجمت المنافسات والمزاحمات ـ العائد كثير من شرّها إلى بدعة طائفة باطويح ، فهم ومن على شاكلتهم الّذين بذروا بذور التّحاسد ، وأثاروا الأحقاد ـ وما كان آل سيئون قبل ظهور الثّروة والجاه ونجوم هذه البدعة إلّا إخوانا على سرر الصّفاء متقابلين ، وكان الدّرسة أحرارا ، والأوقات موزّعة ، لكلّ وقت شيخ يدرّس العلم ويحضر عليه الطّالبون ، فيبثّ فيهم الحبّ ، ويؤكّد الإخاء ، ويثني بينهم على أقرانه ، ويغريهم بالأخذ عنهم. لا يمتاز شيخ بأحد ، بل كلّهم شرع فيهم.

وقد قال النّوويّ في مقدّمة «المجموع» [٦١] : (ومن أهمّ ما يؤمر به العالم : أن لا يتأذّى ممّن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره ، وهذه مصيبة يبتلى بها جهلة المعلّمين ، وهو من الدّلائل الصّريحة على عدم إرادتهم وجه الله ، وقد قدّمنا عن عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ ما فيه من الإغلاظ) اه

فعند نجوم الجاه ، وتفشّي المال ، وظهور البدعة.

غاض السّرور وفاض الهمّ واتّسعت

مسافة الخلف بين القول والعمل (٥)

__________________

(١) هو السيد جعفر بن شيخ بن عبد الرحمن بن سقاف توفي سنة (١٢٩٥ ه‍). «التلخيص» (٥٤ ـ ٥٥).

(٢) وعمر دحمي من آل السبايا ، تنظر أخباره في : «العدة المفيدة».

(٣) يغيض : يذهب ، ويقلّ.

(٤) يفيض : يزداد.

(٥) البيت من البسيط ، وهو للطّغرائيّ في «ديوانه».

٧٢٦

ثمّ جاءت الطّامّة الكبرى وكانت الحرب الطّاحنة ، وانقطعت صلات جاوة وسنغافورة عن حضرموت ، فوقع الحضارم ـ ولا سيّما من نزل عن شبام ـ في أضيق من حلقة الميم ، وأشدّ من صمّاء الغبر (١) ، ورماهم الله بسبع كسبع يوسف (٢) ، يكفي لوصفها ما جاء في قصيدتي المستهلّة بقولي [من الكامل] :

عبر يلين بها الغليظ الجافي

ويحسّ منها القلب وخز أشافي (٣)

وقد طبعت مرّات ، وأشرت إلى شيء من ذلك في قصيدة أخرى ، مطلعها [من الكامل] :

يا ليت شعري هل يساغ الرّيق

ويدال بالإفراج هذا الضّيق

ولو أنّ سيئون عادت بالفقر الأخير سيرتها الأولى من الأنس والصّفاء ، وكثرة السّرور وسلامة الصّدور .. لكان الأمر هيّنا ، بل ممدوحا ، فلا مرحبا بالمال إن لم يكشف البؤس ، ويؤنس النّفوس ، ولكن .. لا ذا تأتّى ولا ذا حصل (٤) ، وما أتوا إلّا من قبل نفوسهم ، وسوء أعمالهم ، ونغل قلوبهم ، وفساد نيّاتهم ، فكان الأمر كما قال القطب الحدّاد [في «ديوانه» ١٢٦ من الرّمل] :

آية الأنفال والرّعد مع النّ

حل لمّا غيّروها .. غيّرت (٥)

__________________

(١) الصّمّاء : الحيّة. الغبر : الأرض الّتي لا يهتدى فيها ، يضرب مثلا للداهية العظيمة.

(٢) المجاعة الكبرى في حضرموت : بدأت من حدود (١٣٦٢ ه‍) إلى سنة (١٣٦٦ ه‍) إبان الحرب العالمية الثانية ، وقد مات أثناءها أمم لا تحصى ، وقد كانت من أسباب الهجرة إلى الحجاز ونواحي الجزيرة ، والبعض إلى الحبشة وأرتيريا ، ومؤخرا إلى السعودية وبلدان الخليج.

(٣) الأشافي : الإبر.

(٤) أخذا من البيتين المشهورين في التحذير من التقليد الأعمى :

غراب تعلم مشي القطا

وقد كان يحسن مشي الحجل

فهرول ما بين هذا وذا

فلا ذا تأتى ولا ذا حصل

(٥) آية الأنفال : هي قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

آية الرعد : هي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)

آية النحل : هي قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ)

٧٢٧

ومن خصائص سيئون : ملاحة نسائها ، حتّى جاء في أمثالهم : (مصباة في سيئون .. خير من حرمة في مدوده). والمصباة هي : الأثافيّ إزاء المنصّة الّتي تطبخ عليها الملاح القهوة.

ففيها الملاح الهيف يلعبن بالنّهى

ويقتلن من لم يعرف العشق قلبه (١)

وهنّ كما يقول شيخنا العلّامة ابن شهاب عن نساء عدن [في «ديوانه» ٢٣٦ من الطّويل] :

حواضر آدابا ولطفا ورقّة

أعاريب إن حاورن نطقا وتبيانا

معاطير لا من مسّ جام لطيمة

وأذكى شذا من مسك دارين أردانا (٢)

وكم لأخي علويّ ولأبي ريّا من التّغزّلات السّائقة بغواني سيئون الفائقة.

ومن خصائصها : لين الطّباع ، حتّى لقد رووا أنّ أميرين ببور اختلفا وطال بينهما النّزاع ، فأشار بعض أهل الفراسة بطين من سيئون فرشّوه تحت قطيفة أحدهما ، فلان وبخع للآخر بما يريد ، وسوّيت المسألة في دمائهم.

أمّا أحوال سيئون السّياسيّة :

ـ فقد مرّ في هذه المسوّدة أنّها كانت سنة (٦٠١ ه‍) لظبيان وبني سعد ، والمقصود نخيلها ، أمّا ديارها .. فإنّها خراب لذلك العهد.

ـ وفي سنة (٨٤٢ ه‍) أخذها السّلطان الكثيريّ كما عند شنبل [ص ١٧٦].

ـ وفي سنة (٨٥٤ ه‍) كانت سيئون والغرفة وجفل ملك الكثيريّ ، ولكنّ آل يمانيّ وآل ثعلب يغزونهم ويحاربونهم ، ثمّ تقلّبت بها الأحوال الّتي تقلّبت بسائر بلاد حضرموت ، حسبما يفهم ممّا مرّ في شبام.

وهنا نلخّص شيئا من أحوال الدّولة الأخيرة عن «الأصل» : ففي سنة (١٢٦٤ ه‍) أخذها نوّاب السّلطان غالب بن محسن الكثيريّ من أيدي آل الظّبي اليافعيّين (٣) ، يرجع

__________________

(١) البيت من الطّويل.

(٢) اللّطيمة : وعاء العطر.

(٣) ينظر «العدة المفيدة» (١ / ٤٠٠) وما بعدها.

٧٢٨

نسبهم إلى يافع بن زيد بن مالك بن زيد بن ذي رعين ، وكان لجلائهم منها رنّات حزن مؤثّرة ، كما قال أبو عبادة [في «ديوانه» ٢ / ٣٦٣ من الكامل] :

كانوا جميعا ثمّ فرّق بينهم

بين كتقويض الجهام المقلع (١)

ووراءهم صعداء أنفاس إذا

ذكروا الفراق .. أقمن عوج الأضلع

لأنّ لفراق الأوطان مطلقا عبرات تنقضب (٢) لها الضّلوع ، فكيف بسيئون الّذي مرّ بك من وصفها ما يشعر بتزيّدها في هذا الشّأن؟ ولذا لم تزل يافع تتحرّق حتّى ظفرت بالمساعدة من الأمير عمر بن عوض القعيطيّ ، فاستردّتها في سنة (١٢٦٥ ه‍) ، ولكنّهم لم يقيموا بها إلّا سبعين يوما ، والفتنة ذاك أوارها ، مترام شرارها.

وفي يوم الخميس غرّة جمادى الأولى من سنة (١٢٧٢ ه‍) .. وصل السّلطان غالب بن محسن (٣) من الهند إلى ريدة ابن حمدات ـ السّابق ذكرها في المراسي ـ ونزل عند أصحابه آل عبد الودود ، ثمّ إلى تاربه ، ثمّ إلى تريم ، ثمّ إلى سيئون.

وفي ثاني يوم وصوله إلى سيئون خفّ إلى ذي أصبح لزيارة وحيد حضرموت ،

__________________

(١) تقويض : تفريق. الجهام : السحاب.

(٢) تنقضب : تنقطع.

(٣) هو غالب بن محسن بن أحمد بن محمد بن عبد الله ، المنتهي نسبه إلى عبد الله بن بدر بوطويرق الكثيري ، ولد سنة (١٢٢٤ ه‍) أو (١٢٢٣ ه‍) في قرية غنيمة بوادي تاربة ، وسافر سنة (١٢٤٦ ه‍) إلى الهند ، والتحق بالجيش النظامي ، وترقى إلى رتبة جمعدار بمعونة الجمعدار عبد الله بن علي العولقي.

وكانت عودته لإقامة دولة آل عبد الله الأخيرة بمعونة بني عمومته : علي بن أحمد ، وعبود بن سالم آل كثير ، وكان ابن أخته عبود بن سالم قد ورد إلى حضرموت سنة (١٢٦١ ه‍) وبدأ في التمهيد ، وأخذ يجوب حضرموت شرقا وغربا يأخذ العهود والمواثيق من القبائل ، وكان السلطان غالب يمده من الهند بالأموال اللازمة ، ولم يأت إلى حضرموت إلا وقد ملأ اسمه وصيته الأسماع. ينظر : «الصفحات» لباوزير (١٩٠ ـ ٢٠٠).

أما دولة آل كثير الأولى .. فقد انتهت في عام (١٢٢٣ ه‍) بعد هزيمة يافع للأمير جعفر بن علي بن عمر بن جعفر ، وبوفاته انحصرت سلطة أبنائه على شبام فقط ، وقامت بها دويلة آل عيسى بن بدر سنة (١٢٣٩ ه‍) ، وانتهت بمقتل السلطان منصور بن عمر في شبام سنة (١٢٧٤ ه‍) على يد السلطان عوض بن عمر القعيطي.

٧٢٩

الإمام : حسن بن صالح البحر وطلب دعاءه ، وكان السّلطان غالب صالحا عادلا ، أبيض السّريرة ، غير أنّ وزيره عبود بن سالم ـ وهو ابن أخته ـ لم يكن هناك ، وقد استولى على خواطره ، فكانت تتّجه إليه ملاوم أهل الحقّ من هذه النّاحية من حين إلى آخر ، ولم يزل على السّلطنة إلى أن توفّي فجأة في (٢١) رجب ، سنة (١٢٨٧ ه‍) ، ودفن من اليوم الثّاني في جمع عظيم أمّ النّاس فيه سيّدي الجدّ محسن بن علويّ ، وخطب خطبة وجلت لها القلوب ، وذرفت العيون.

وقد طمع في الإمارة بعده كلّ من : أخيه عبد الله بن محسن ، وابن أخته عبود بن سالم ، وابن عمّه عبد الله بن صالح. وكان أشدّهم طمعا عبود ؛ لأنّ خاله تهيّأ قبيل وفاته للتّنازل عنها له تأثّما من التّبعات ، غير أنّ الجدّ محسنا بحكمته وشهامته وصرامته وضع عمامته على رأس ولده منصور ، فكمّت الأفواه وكان إذ ذاك أوان البلوغ ، وكان ذلك الصّنيع فلتة ، إلّا أنّ الله وقى شرّها.

وكان السّلطان محسن بن غالب صغيرا يوم مات أبوه ، ولمّا شبّ .. ساهم أخاه (١) ، فتناصفا الملك عن طيبة خاطر.

وفي سنة (١٣٣٤ ه‍) وصلني كتاب من قائد الجيوش العثمانيّة بلحج ، وهو علي سعيد باشا ، يطلب اعتراف سلاطين حضرموت بأنّهم تبع الدّولة العليّة ، فما زلت بالسّلطانين حتّى وقّعا على الوثيقة المكتوبة في ذلك المعنى بإمضائهما ومهريهما ، إلّا أنّ مهر (٢) السّلطان محسن كان مع الاستعجال منكوسا ، فتشاءمنا من ذلك.

ووقّع عليها السّلطان عليّ بن منصور بصفته وليّ عهد أبيه ، والقاضي (٣) لذلك العهد.

وأرسلتها إليه فلم يكتف بها حتّى طلب إمضاء المناصب والرّؤساء ، فما زلت بهم حتّى أمضى أكثرهم على مثلها ، وسيّرتها إليه. وغضبت لها حكومة عدن ، وتوعّدني

__________________

(١) ساهم أخاه : أعطاه سهمه وحصّته ، وكان لمحسن وأولاده تريم ونواحيها.

(٢) المهر ـ بضم الميم ـ الختم.

(٣) أي ووقّع معهم القاضي ، وحكمته : ليعلم أن السلاطين يحكّمون الشريعة.

٧٣٠

السّيّد حسين بن حامد المحضار ظاهرا ، ولكنّه كان يغريني في السّرّ على توثيق العلائق بيني وبين علي سعيد باشا ، ومواصلة الكتب إليه ، وقد تبودلت بيننا كثير من الكتب والقصائد توجد بمحلّها من «الأصل» و «الدّيوان».

وبإثر ذلك كانت حروب صوريّة بين القعيطيّ وآل كثير ، وهي المسمّاة : حرب قسبل ، وكان الضّلع الأقوى فيها الشّيخ طالب بن جعفر من آل كثير.

وأكثر النّاس يتفرّس أنّ السّيّد حسين بن حامد كان يتعلّل بتلك المناوشات مع آل كثير عمّا تطالبه به حكومة عدن من الاشتراك في مباشرة الحرب مع علي سعيد باشا.

ولمّا شعر بانتهاء الحرب العظمى .. أشار على حكومة عدن بإيقاف حرب حضرموت ، وطلب المتحاربين إلى عدن ، ففعلت ، وسار هو بالنّيابة عن السّلطان غالب بن عوض ، وجاء الشّيخ سالم بن محمّد بن طالب ، والشّيخ سالم بن جعفر ، والشّيخ ناصر بن عمر بن يمانيّ بصفة النّيابة عن آل كثير ، وهناك تواضعوا على المعاهدة ذات الإحدى عشرة مادّة ، المحرّرة في (٢٧) شعبان سنة (١٣٣٦ ه‍) ، وقد حدّدوا فيها نفوذ سلاطين آل كثير في ستّ نقط ، وهي : تريم ، والغرف ، وسيئون ، ومريمه ، وتريس ، وغيل ابن يمين.

قالوا : وصار الاعتراف : أنّ الشّنافر تابعون لسلاطين آل عبد الله ، وهم : آل عمر وآل عامر (١) ، والفخائذ : آل كثير والعوامر ، وآل جابر ، وآل باجري وما شملته حدودهم.

فمن هذه الجملة وجدوا السبيل إلى توسيع منطقتهم ؛ إذ لم يكن عند القعيطيّ كفيّ بقرع هذه الحجّة بمثلها.

وبإثر ذلك وصل السّيّد حسين بن حامد إلى حضرموت ، واستقبل استقبالا مهيبا عظيما ، وفي اليوم الثّاني من وصوله إلى سيئون زارني بمكاني علم بدر ، وحضر

__________________

(١) هذه هي المعاهدة الثانية وهي معاهدة صلح ، أما الأولى .. فكانت : معاهدة الحماية ، والثالثة : معاهدة الاستشارة وتقدمتا. ينظر : «الأدوار» (٤١٤).

٧٣١

بحضوره زهاء ألف وخمس مئة من العلويّين ، والسّلاطين ، ويافع ، وآل كثير ، والعوامر ، وآل باجري ، وآل تميم ، وغيرهم ، وهناك أنشدت قصيدة مطوّلة ، أقول فيها للسّيّد حسين [في «ديوان المؤلّف» ق : ١٣٦ ـ ١٣٨ من البسيط] :

أدركت بالجدّ والتّشمير ما عجزت

عنه الملوك بجلب الخيل والإبل

ملكت قسرا قلوب النّاس قاطبة

بخفّة الرّوح والأخلاق والحيل

لا شكّ أنّك ذو سحر وشعوذة

أو ذو مقام لدى البرّ اللّطيف علي

واليوم أتممت عقد الصّلح محتسبا

هذا الصّنيع فقرّت أعين الدّول

عسى تكون لنا عقباه صالحة

فما علمنا بتفصيل ولا جمل

تخالف النّاس في الأخبار عنه ولم

أعرف حقيقته ماذا عليّ ولي

هل فيه للنّاس والإسلام فائدة

أم لا؟ فإنّ رواة القول في جدل

ومنها :

يا ربّ وانصر جيوش التّرك دولتنا

واملأ قلوب العدى بالخوف والوجل

واحم الشّريعة في شبه الجزيرة بال

مولى الإمام من الآفات والعلل

وقولي : (لم أعرف حقيقته) هو الواقع يومئذ ؛ لأنّ سلاطين آل كثير ومن على رأيهم من الأغنياء بعد أن علموا غضب حكومة عدن من تلك الوثيقة ، وعلموا انهزام الأتراك .. تجافوا عنّي ، وكتموني أخبارهم ؛ لأنّني لا أرضى انسحاب حكم الحماية الإنكليزيّة على بلادنا ، لأنّ الحماية مظنّة الجور الفاحش ، ولا سيّما لو سلّمت الأمور إلى غير أهلها ـ كما هو الأغلب ـ فهي إذن شرّ من الاستعمار ؛ بشهادة الفروق الشّاسعة بين إدارة عدن وإدارات حضرموت الّتي لا أثر لشيء فيها من عدالة الدّين القيّم.

أمّا في بلادهم .. فإنّ العدل فيها ـ حسبما بلغني ـ أشبه به عندنا في خير العصور ؛ لأنّهم أخذوا عنّا ما أعانهم على ذلك ، وبالغت جهدي في عرقلة ذلك ، والتّحذير من سوء مغبّته بما نشرت بعضه في «الأصل» .. فكان أوّل ما زيّن لهم محبّوها الابتعاد عنّي ، وما زالوا على ذلك إلى اليوم ، وقد خار الله لي في ذلك ، وما زلّ نعلي ،

٧٣٢

ولا خوى نجمي ، ولا تغيّر رأيي ، وأنا الّذي أقول [من الطّويل] :

وقد أحسن الحسّاد بي حيث كايدوا

مكاني من السّلطان حتّى تغيّرا

لأنّي لو قاربته في مشورة

لأتعبت نفسي أو لكنت مقصّرا

وأنّى يحابي من بناه إلهه

على الصّدق والتّصريح من يوم أثغرا

صفا لهم جوّ السّياسة فانتهوا

إلى ما اشتهوا والحال يكفيك مخبرا

فقد طوّقوا أعناقهم بملاوم

تدوم إلى أن يبعث الخالق الورى

وقد أنشبوا أوطانهم في معاطب

تطيل لذي اللّبّ البكا والتّحسّرا

وتكثر للوالي النّدامة والأسى

لو انتبهت أفكاره وتدبّرا

وقد خار لي الرّحمن في البعد عنهم

فلا ذنب لي إذ لا حضرت ولا أرى

وفي جمادى الآخرة من سنة (١٣٣٧ ه‍) توجّه الأمير عليّ بن منصور بن غالب يحمل توكيلا من والده بإمضاء تلك المعاهدة بدار الاعتماد في عدن ، وتوجّه الأمير سالم بن عبود بن سالم يحمل توكيلا من السّلطان محسن بن غالب بإمضائها ، ونزلا بالمكلّا على ضيافة السّلطان غالب بن عوض القعيطيّ ، وسارا بمعيّته إلى عدن حيث وقّعوا عليها هناك.

وكان السّلطان المنصور بن غالب ، وأخوه السّلطان المحسن بن غالب تقاسما الممالك بوثيقة محرّرة بينهم لتاريخ فاتحة رجب من سنة (١٣٣٦ ه‍) ، فكانت سيئون ومريمه وتريس وأعمالها للمنصور ولأولاده من بعده ، وكانت تريم والغرف للمحسن بن غالب ولأولاده من بعده.

وفي (١٢) من جمادى الأولى سنة (١٣٤٣ ه‍) توفّي السّلطان محسن بن غالب بسيئون ، وخلفه ولده السّلطان عبد الله بن محسن ، وكان رحيب الصّدر ، طويل الباع ، رخيّ البال ، رقيق الطّبع ، مأمون الغضب ، جميل الأخلاق ، خبيرا بالأمور ، خليقا بالملك ، إلّا أنّه لا ينجو من بيت ليلى الأخيليّة ـ الّذي تمثّلنا به في

٧٣٣

(الحزم وصداع) (١) ، لمحسن بن عبد الله العولقيّ ـ ويشاركه في الأمر أخوه السّلطان محمّد بن محسن.

وفي اليوم الثّامن من الحجّة سنة (١٣٤٧ ه‍) توفّي السّلطان المنصور بن غالب الكثيريّ بعرفة ، وخلفه ولده السّلطان عليّ بن منصور.

وفي ليلة الخميس (١٨) شعبان سنة (١٣٥٧ ه‍) توفّي فجأة بسيئون (٢) ، ودفن بها من اليوم الثّاني. وكان ذكيّا نبيها ، مشاركا في الأدب والعلم ؛ إذ كان يحضر مجالسي ويكثر المكوث عندي فتثقّف بذلك لا بغيره. وخلفه أخوه السّلطان جعفر بن منصور (٣) وكان يحضر مع أبيه وأخيه عندي ، ويتولّى طبخ الشّاي بيده ، وكان الغالب عليه السّكوت ، ولهذا أخفي حاله عنّا ؛ لأنّ المرء مخبوء تحت لسانه ، وكثيرا ما أسأل أباه عن حاله فيقول : لا أعرف عنه إلّا ما تعرف ، ولكن كان منصّر بن عبود خصيصا به ، فلمّا أحفيناه السّؤال .. أشار إلى أنّه حقود ، وله من الشّجاعة نصيب لا ينكر.

وفي محرّم سنة (١٣٥٨ ه‍) أبرمت بينه وبين الحكومة الإنكليزيّة معاهدة رضي

__________________

(١) والبيت هو :

فنعم فتى الدّنيا وإن كان فاجرا

وفوق الفتى إن كان ليس بفاجر

(٢) علي بن منصور كان مولده بسيئون سنة (١٢٩٨ ه‍) ، وهو الذي أقام السور المحيط بمدينة سيئون ، وفرغ منه سنة (١٣٥٢ ه‍) ، وفي عهده دخلت البلاد تحت الاستشارة ، وكان من مناقبه أنه : يعيد المسروقات إلى أربابها ليلا ويؤدب السارق سرا حفاظا على السمعة والكرامة ، وقمع شوكة العبيد عند ما بدؤوا بالأعمال الفوضوية بأن أجلى رأسهم بخيت عبد الخير ، وهدم داره عام (١٣٤٤ ه‍).

(٣) السلطان جعفر بن منصور بن غالب .. خلف أخاه عليا في الحكم من سنة (١٣٥٧ ه‍) ، إلى وفاته في سنة (١٣٦٨ ه‍) ، وفي أيامه ترسّمت الحدود بين دولته ودولة القعيطي ، وعاصر حركة ابن عبدات وقمعها بواسطة الإنكليز كما سبق في الغرفة.

ولما توفي .. خلفه ابن أخيه السلطان حسين بن علي بن منصور ، الذي تولى الحكم سنة (١٣٦٨ ه‍) وهو في ريعان شبابه ، وظل في الحكم نحو (٢٠) عاما ، إلى أن أزاحه الحكم الشيوعي على إثر استقلال المنطقة من الاستعمار البريطاني عام (١٣٨٧ ه‍ ـ ١٩٦٧ م).

وهاجر السلطان حسين إلى السعودية ، وتوفي بجدة سنة (١٣٩٦ ه‍ ـ ١٩٧٦ م) ودفن في مكة المكرمة. وانتهى بتنحيته تاريخ الدولة الكثيرية في حضرموت ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

٧٣٤

فيها بأن يكون له منها مستشار يقبل نصيحته في جميع الأمور ، ما عدا المسائل المتعلّقة بالدّيانة والعادة الإسلاميّة (١). وكان تمنّع الإمضاء على تلك المعاهدة زمانا طويلا ، ولكنّ الضّابط السيّاسيّ بمساعدة السّيّد أبي بكر بن شيخ الكاف أحفاه السّؤال حتّى رضي على شرط أن يكون الأمر سرّا ، فأمضى على وثيقة مكتوبة بالإنكليزيّة ، ولكنّهم أعلنوها في جريدة محميّة عدن ، ومنها نقلت نصّها المنشور ب «الأصل».

وفي يوم الخميس (١١) جمادى الأولى من سنة (١٣٦٦ ه‍) قرّرت الحكومة الكثيريّة مكوسا جائرة ـ لا تتحمّلها الجبال فضلا عن الرّجال ـ على كلّ ما يرد إلى منطقتها ، فوقع النّاس ـ ولا سيّما الضّعفاء ـ في شرّ ممّا كانوا أنكروه على ابن عبدات ، وضجّوا منه.

أمّا الأقوياء : فإنّ العمّال في أيديهم ، والتّهريب أيسر شيء عليهم ، فالظّلم ـ كما قال العلّامة ابن تيمية ـ مكرّر.

وبدلا من الاحتجاج عليه .. قام آل تريم يهيّجون الشّعب الميت للاحتجاج على الحكومة القعيطيّة فيما تأخذه من الرّسوم على البضائع الواردة إلى المنطقة الكثيريّة ، وما أظنّهم ينجحون في هذا الاحتجاج مع تفارط الأيّام ومرور نحو المئة عام ، وما تلك إلّا أعمال من رضي بهذه المكوس الباهظة ، وأراد خدعة الصّبيّ عن اللّبن بتلك الاحتجاجات الآيلة إلى الفشل لا محالة الّتي ليست من اختصاصات الرّعيّة ، وإنّما واجبهم أن يحتجّوا على ما نزل بهم ، ولكنّ الشّعب ميّت ، يشكر على الإساءة ، ويثني على الجناية ، ويتهافت في تولّي من يمكّن الأجانب من ناصيته ، ويوطّىء لهم مناكبه لسلطة موهومة ، ورئاسة مزعومة ، وإلّا .. فأيّ معنى لهذه

__________________

(١) وهي معاهدة الاستشارة السابق ذكرها .. وبنودها اثنان فقط ، وهما :

البند الأول : تقبل حكومة جلالة الملك في المملكة المتحدة أن تعين مستشارا مقيما للسلطان ، والسلطان يرتضي أن يجهز بيتا لائقا للمستشار المقيم المذكور ، ولأجل سعادة مملكته ، يقبل نصيحته في جميع الأمور عدا المسائل المتعلقة بالديانة المحمدية والعادة.

أما البند الثاني : فمتعلق بتعيين الخلفاء للسلطان. وكان توقيعها في عدن بنظر المستر رايلي والي عدن ، والمستر انجرامس.

٧٣٥

الرّسوم الغاشمة مع تصريح المعاهدات بأنّ السّاحل وسائر حضرموت إقليم واحد ، بل بلغني عن جريدة الحكومة الرّسميّة بعدن إطلاق لفظ عدن على الجميع ، فلو رأيت ما يصنع بمنكوبي جاوة الّذين وصلوا حضرموت من التّفتيش والإرهاق .. لرأيت ما يكمد النّفوس ، ويذيب القلوب إن كان فيها إسلام وإيمان ، ومعاذ الله أن نبرّي جمارك السّاحل من الظّلم الفاحش ، والجور الفادح ، لكنّ البراءة بالأولى ألزم ، والأخذ من الأطراف أحزم.

ضواحي سيئون :

هي محاطة بالنّخيل فيما عدا جنوبها ، وفي جانبها الشّماليّ إلى جهة الشّرق على أكثر من ميل منها قرية يقال لها : الفجير ، يسكنها أعقاب الإمام السّيّد عبد الرّحمن (١) ابن عبد الله بن علويّ مولى الدّويلة (٢) ترجم له في «المشرع» ولحفيده عبد الله بن سالم بن سهل بن عبد الرّحمن.

ومنهم العلّامة سالم ، وفي «المواهب والمنن» : أنّ الحبيبين محمّد بن علويّ خيله ، ومحمّد بن حسن خيله ممّن انتفع بالحبيب أحمد بن حسن الحدّاد.

وعلى الجملة .. فقد كان فيهم العلماء والصّلحاء ، وأطال سيّدي حسن بن سقّاف في ترجمة السّابق الذّكر ؛ منهم : السّيّد الشّريف محمّد بن علويّ بن محمّد ، المتوفّى بالفجير سنة (١٢٦٧ ه‍) ومنهم : السّيّد حسن بن حسين ، كان أغزرهم جودا في أهله وغير أهله ، قال عمّه محمّد بن علويّ على من عابه بذلك : (ماحد عرف قدر الدّنيا إلّا حسين) ، فهو في فرط بذله محتاج إلى زيادة عن قول أبي عبادة [في «ديوانه» ٢ / ٣٣٩ من الطّويل] :

تغطرس جود لم يملّكه وقفة

فيختار فيها للصّنيعة موضعا

__________________

(١) مولى خيله.

(٢) آل مولى الدويلة هم ذرية السيد الإمام محمد مولى الدويلة بن علي بن علوي بن الفقيه ، توفي بتريم سنة (٧٦٥ ه‍). «المعجم» (٨٧).

٧٣٦

وقد ذكرنا في «الأصل» سيّدنا العارف علويّ بن سهل مولى خيله ، وولده فضلا ، وفصّلنا أخبار دولته بظفار ، وأشرنا إلى أنّ السّيّد محمّد بن أحمد السّقّاف أودعه جارية ، ثمّ اتّهم بها ، ثمّ أخبرني الثّقات عن الفاضل الجليل الأخ عيدروس بن سالم البارّ أن ليس الأمر كذلك ، ولكن للأمير فضل كثير من المنافسين ؛ لشريف منزلته عند السّلطان عبد الحميد ، فكانوا يتطلّبون له العيوب لما أحرقهم من سؤدده ، ولمّا اتّهموه بذلك .. جاء أمير الإحسان السّيّد محمّد بن أحمد السّقّاف لخصوص تبرئته من التّهمة ، وأعلن للسّلطان وللخاصّ والعامّ أنّه لم يودعه الجارية .. بل وهبها له .. فشرق الحسدة بريقهم ، ورجموا بحجرهم ، ولله الحمد على هذه الرّواية الصّحيحة الّتي بلغ بي السّرور إلى ما لا نهاية له ، ولم أذكر تلك التّهمة ب «الأصل» إلّا أداء للأمانة ، وكشفا للحقيقة ؛ لأنّ السّيّد أمير ، يحتاج بيان حاله ، فلله الحمد على السّلامة ، وكان من كبار رجالات الصّوفيّة العارفين ، ولكن قد سئل الجنيد : أيزني العارف .. فقال : وكان أمر الله قدرا مقدورا.

ومنهم : جدّي لأمّي ، المنوّر البال ، السّيّد محمّد بن سقّاف مولى خيله ، المتوفّى بها سنة (١٣١٦ ه‍) وحدّث عن آل خيله بلا حرج ؛ فإنّهم مذكورون في خباب الشّرف بلا عرج.

وأمّا الجود وكرم الضّيافة .. فبيت قصيدهم ، وخاصّيّتهم الّتي بسطت ذراعيها بوصيدهم (١) لا يجزر لهم مدّ ، ولا يقف سماحهم عند حدّ.

وتأخذهم في ساعة الجود هزّة

كما خايل المطراب من نشوة الخمر (٢)

فتحسبهم فيها نشاوى من الغنى

وهم في جلابيب الخصاصة والفقر

عظيم عليهم أن يبيتوا بلا يد

وهين عليهم أن يبيتوا بلا وفر

إذا نزل الحيّ الغريب تقارعوا

عليه فلم يدر المقلّ من المثري

__________________

(١) الوصيد : الفناء.

(٢) الأبيات من الطويل ، وهي للشريف الرضي في «ديوانه» (١ / ٥٠٥).

٧٣٧

لقد كانت بهم الفجير موضع العجّ والثّجّ (١) لا يشبهها إلّا منى في أيّام الحج ، فالشّفار من الذّبائح تسيل ، والطّهاة من المطابخ لا تميل.

يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم

لا يسألون عن السّواد المقبل (٢)

لا تخبو مصابيحهم طول اللّيل ، ثمّ بين ديارهم رباط الخيل ، أخبرني محفوظ هو يديّ بأنّه رأى ليلة الشّعبانيّة فيهم ثمانية عشر عنانا من جياد الصّافنات كلّهم بيض كرام ، لا يسودّ بينهم إلّا المطابخ والبرام (٣) ، ولا يعابون إلّا بمثل قول أبي هفّان [من المنسرح] :

عيب بني مخلد سماحتهم

وأنّهم يتلفون ما ملكوا (٤)

فلقد أطلق الجود ما بأيديهم ، حتّى صوّح ناديهم ، وأسرفوا في المكارم ، حتّى أثقلتهم المغارم.

كانت لهم همم فرّقن بينهم

إذا القعايد عن أمثالها قعدوا (٥)

فعل الجميل وتفريج الجليل وإع

طاء الجزيل الّذي لم يعطه أحد

__________________

(١) العجّ : رفع الأصوات. الثّجّ : سيلان دماء الذّبائح.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لسيّدنا حسّان بن ثابت رضي الله عنه في «ديوانه» (٣٦٢). يغشون : يزارون ولا تخلو منازلهم من الأضياف. والمعنى : هم قوم كرام ، دائم الدّوم عندهم ضيوف ، فألفت كلابهم منظر الضّيفان وما عادت تنبح على أحد.

(٣) البرام : القدور ، جمع : (برمة).

(٤) ما أجمل العيوب إذا كانت هكذا ، وهذا ما يسمّيه علماء البلاغة ب (المدح بما يشبه الذّمّ) ؛ كقول الشاعر :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

فأنت عندما تسمع (ولا عيب فيهم غير أنّ) تظنّ أنّه سيذكر بعد هذا صفة من الصّفات المعيبة ، ولكنّك تفاجأ بقوله : (إنّ سيوفهم قد تكسّرت والتوت من كثرة قتالهم الأعداء). وهذه صفة مدح ، فتعلم أنّه لم يذكر صفة مشينة بل ذكر صفة مدح بأسلوب عربيّ جميل وهو : أسلوب المدح بما يشبه الذّمّ.

(٥) البيتان من البسيط.

٧٣٨

فاقشعرّت قريتهم ، وتفرّقت فتيتهم ، وقد قال محمّد بن عليّ بن خلف البيرمانيّ [من الطّويل] :

يقيم الرّجال الموسرون بأرضهم

وترمي النّوى بالمقترين المراميا

ولم تبق إلّا الدّيار الخاوية ، والكلاب العاوية ، يستمري العيون بومها ، وتفتّت الأكباد رسومها.

أو ما رأيت منازل ابنة مالك

رسمت له ـ كيف الزّفير ـ رسومها (١)

آناؤها وطلولها ونجادها

ووهادها وحديثها وقديمها (٢)

تغدو الرّياح سوافيا وعوافيا

فتضيم مغناها وليس تضيمها (٣)

وكأنّما ألقى عصاه بها البلى

من شقّة قذف فليس يريمها (٤)

وفي المفاضلة بينها وبين ذي أصبح وأهليهما .. لي ولأمّ أولادي كلام طويل ؛ إذ أهل الفجير أخوالي ، وأهل ذي أصبح أهلها ، والحقّ أن ليس لسيّد الوادي الحسن بن صالح ثمّ لولده عبد الله مثيل ، وكلّ كفّة بهما تشيل ، وفيهما يأتي موضع قول الأوّل [من الطّويل] :

أبونا أب لو كان للنّاس كلّهم

أب مثله أغناهم بالمناقب

أمّا بقيّة آل البحر .. فآل خيله خير منهم ، إلّا من سقط من محلّهم عن عناقيد العزّ ؛ إذ لا مدفع لهم عن قول الأوّل [من الطّويل] :

وليس لنا عيب سوى أنّ جودنا

أضرّ بنا ، والبأس من كلّ جانب

وقد هلك ـ أو كاد ـ كلّ من القريتين ، نسأل الله أن يقيّض لكسرهما جبره ، وأن يديل عبرتهما حبره.

__________________

(١) الأبيات من الكامل ، وهي لأبي تمّام في «ديوانه» (٢ / ١٤٣).

(٢) آناؤها : أطرافها. نجادها : مرتفعاتها. وهادها : منخفضاتها.

(٣) سوافيا : تسفي التّراب ، وتذريه. عوافيا : ماحية.

(٤) الشّقّة : الوجهة. قذف : بعيدة. يريمها : يفارقها.

٧٣٩

وفي غربيّ الفجير ، قرية للحوارث ، يقال لها : ملفوق ، شملها الاندثار ، ولم يبق منها إلّا آثار.

وفي شرقيّها قرية كان يسكنها السّادة آل بامزروع من آل الحبشيّ ، منهم أمّ جدّي المحسن ، لم يبق منها إلّا مسجد صغير ، كثير الأنوار ، مشهور بالأسرار ، يقال له : مسجد باسكن.

القرن : هو مخترف السّادة آل طه بن عمر ، في شرقيّ سيئون على نصف ميل منها ، وكان قرية صغيرة يسكنها الفلّاحون ، ثمّ بنى به جدّنا محمّد بن عمر بن طه بن عمر بن طه بن عمر مسجده الّذي بحضيض الجبل الجنوبيّ ، ثمّ تتابعت البنايات بعد ذلك في البساتين ، ولهذا لا تصحّ ولا تنعقد الجمعة فيها على ما في «مجموع الجدّ طه بن عمر» عن الشّيخ عبد الله بن أحمد بامخرمة ؛ لأنّها لم تخطّ بلدا من البدء.

كان منفصلا عن سيئون في القديم ، ثمّ اتّصلت العمائر. وكانت لهم فيه الدّيار العامرة ، والأفراح الغامرة ، وكانت أيّامه لديهم أعيادا زاهرة ، وقد سبق ذكر ما امتازت به سيئون من الأنس والصّفاء ، ولكنّه لا يعدّ شيئا بالنّسبة لأيّام القرن ولياليها ، فلو شهدتها والبرد (١) ماطرة بالأوراق ، وجاوة دارّة بالأرزاق ، وسمعت طبول الغواني بشجيّات المغاني ، ورأيت الشّبّان متوزّعين على بطحائه ليالي القمر الأضحيان على الشّاهي اللّذيذ ، والشّواء الغريض (٢) ، بالأحاديث الجنيّة ، والأشعار الشّهيّة ، كلّ فرقة على قدر ما عندها .. لما خرج عن لسانك قول الصّمّة بن عبيد الله القشيريّ [من الوافر] :

شهور ينقضين وما شعرنا

بأنصاف لهنّ ولا سرار (٣)

فأمّا ليلهنّ فخير ليل

وأقصر ما يكون من النّهار

__________________

(١) البرد : جمع بريد ، وهو ما يأتي من رسائل.

(٢) الغريض : الطريّ من اللحم.

(٣) السّرار : آخر ليلة من الشّهر.

٧٤٠