إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

في سنة (١٠٥٨ ه‍) على عمّه بدر بن عمر ـ وكان طغى وبغى ـ فجاءت نجدة الإمام المتوكّل على الله إسماعيل فهزمته ، وردّت الملك لعمّه ، وألقى هو بنفسه في أحضان قائد الجيوش المتوكليّة الصّفيّ أحمد بن الحسن ، فأرسله إلى صنعاء ، فعفا عنه الإمام ، ثمّ عاد وأقام بسيئون إلى أن مات في سنة (١٠٧٥ ه‍) ، كذا ب «الأصل».

والّذي يظهر من هذا : أنّه بعد رجوعه من صنعاء .. لم تطب نفسه بالمقام في سيئون على الذّلّة والمهانة بعد الملك والعزّة ، وعزّ عليه أن يتوجّع له صديق أو يشمت به عدوّ .. فابتنى له دارا بهذا السّحيل ، ولم يقم بسيئون إلّا ريثما عمّر الدّار ، ثمّ عمّر بشماله مسجدا لا يزال معمورا إلى اليوم ، وهو خارج عن سور السّحيل القبليّ ، ومع ذلك فإنّهم يجمّعون فيه (١).

وحصن بدر ومسجده ـ حسبما يقول الشّيخ المعمّر أحمد بن عبود الزّبيديّ ـ أوّل ما بني بتاربه ، وما كانت قبل ذلك ـ إذا استثنينا سمل حسبما يعرف ممّا يأتي فيها ـ إلّا مرعى وبعض خيام ينتجعها العوامر إذا أجدب نجدهم وقلّ عليهم الماء فيه.

أمّا في وقت الخصب .. فإنّهم لا يقنعون بتاربه في جنب خيراته الفائضة وأراضيه الخصبة وكان للعوامر ـ في حاضرهم وباديهم ـ شهامة كما يقول حسّان [في «ديوانه» ٤٢٣ من الطّويل] :

لنا حاضر فعم وباد كأنّه

شماريخ رضوى عزّة وتكرّما (٢)

ومن سكّان السّحيل هذا جماعة من ذرّيّة السّيّد عيدروس بن سالم بن عمر بن الحامد ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم ؛ منهم :

السّيّد صالح بن أحمد بن صالح. وأخوه سالم بن أحمد بن صالح.

فأمّا سالم .. فبقي بالسّحيل إلى أن مات ، وخلّف أولادا ؛ منهم : السّيّد

__________________

(١) يجمعون فيه : يصلّون فيه الجمعة.

(٢) فعم : كثير. شماريخ رضوى : أعاليه.

٨٠١

عبد الله بن سالم ، بقي بمكان أبيه ، إلّا أنّه يكثر التّردّد إلى سيئون. وفي سنة (١٣٦٤ ه‍) توفّي بها لعشر من رمضان.

وأمّا السّيّد صالح بن أحمد : فقد انتقل إلى سيئون ، وكانت له يد في خدمة الدّولة الكثيريّة ، وجلب العسكر لهم من الصّيعر ضدّ يافع. توفّي بسيئون (١) ، وله بها أولاد.

أكبرهم وأغناهم : الشّهم الغيور الفاضل ، السّيّد عليّ بن صالح بن أحمد ، جمع ثروة من جاوة فوصل فيها الأرحام ، وأطعم الطّعام ، وأقرض المحتاجين ، وأعان على نوائب الحقّ ، وأوصى بما يغلّ نحو ثمان مئة وخمسين ربّيّة لمثل ما كان يفعله من الضّيافة والمعروف في حياته ، وكان ينكر الخرافات والدّعاوي الكاذبة ، ولمّا واظب على حضور دروسي في «الشّمائل النّبويّة» .. تأكّد ما بخاطره من ذلك ، فوافقني على إنكارها وصارح بذلك ، فلحقه شيء يسير من فضول ما لحقني من تعصّب عشّاق الجاه المنفوخ ، والولاية المزيّفة ، منها أنّه من المشار إليهم بقول العلّامة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ [من الكامل] :

حجبوا وحسبهم الحجاب عذاب

ياليتهم سمعوا النّدا فأجابوا

والقياس : نصب (العذاب) ولكنّه ارتفع.

ولو لا اعتصامه بالثّروة ـ وهي الشّافع المقبول في بلادنا ـ .. لناله ما نالني أو أكثر.

توفّي بسيئون سنة (١٣٤٩ ه‍) (٢) ، ورثاه جماعة من أدباء سيئون وشعرائها ؛ منهم : ولده النّجيب صالح (٣) ، والسّيّد عيدروس بن سالم السّوم ، والسّيّد محمّد بن شيخ المساوى.

__________________

(١) سنة (١٢٩٩ ه‍).

(٢) وصدر كتيب صغير بعنوان : «فقيد سيئون» ، طبع بجاوة ، اشتمل على نبذة عن حياته والمراثي التي قيلت فيه.

(٣) صالح بن علي بن صالح الحامد (١٣٤٢ ـ ١٣٨٧ ه‍) ، ولد بسيئون ، وتربى في حجر والده ، وقرأ القرآن عند الشيخ عبد القادر باحميد ، وتفقه على السيد العلامة محمد بن هادي السقاف ، وتتلمذ

٨٠٢

وفي «مجموعة مراثيه» : أنّ له اتّصالا بالعلّامة السّيّد شيخان بن محمّد الحبشيّ.

وما أراه إلّا وهما ؛ لأنّ السّيّد شيخان توفّي في رجب من سنة (١٣١٣ ه‍) ، والسّيّد عليّ بن صالح لم يعد من جاوة إلّا بعد ذلك بأكثر من سنتين عن غيبة طويلة ، كان في أثنائها اتّصال السّيّد شيخان بسيئون.

وبالسّحيل جماعة من آل الحبشيّ ؛ من أواخرهم : السّيّد محمّد بن عبد الله الحبشيّ ، وأخوه عبد الرّحمن ـ أصحاب بير المير الواقعة في شرقيّ هذا السّحيل وغربيّ باعبد الله ـ وطه بن عليّ ، وأخوه عبد القادر ، وكانت للثّاني ثروة جمعها من سنغافورة ، ولكنّها تلاشت أو كادت ، وكان وصل إلى حضرموت ، وجرى بينه وبين السّيّد أحمد بن سالم بو فطيم شجار ، فشجّه حسين بن أحمد بو فطيم في رأسه شجّة منكرة ، فذهب يستنجد بالعلّامة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ وآل أحمد بن زين الحبشيّ .. فلم ينفعه أحد ، ولكنّ ولده محمّد بن عبد القادر استعان ببعض العوامر ، فتسوّر ـ وهم معه ـ ذات ليلة على حسين بن أحمد وضربه ضربا مبرّحا وهو إلى جانب امرأته وكانت حاملا فأجهضت ولم تطل مدّتها.

وسافر السّيّد عبد القادر وولده محمّد إلى سنغافورة.

ثمّ عاد السّيّد عبد القادر بن عليّ في حدود سنة (١٣٣٠ ه‍) إلى تريم ومعه أهل وأولاد صغار ، فتوفّي وشيكا ، ووصل ولده محمّد إلى تريم أيضا فأوذي بها ، فعاد إلى سنغافورة ، واستولى على مال أبيه فيها ، وتدخّل آل الكاف ـ بتوكيل من الأولاد الصّغار وبعض النّساء ـ وسعوا في حبس محمّد ، فحبسته حكومة سنغافورة مدّة ، ثمّ أطلقته ، وصاح الشّيطان في تلك التّركة ، فهلكت وهلك الأبناء كلّهم إلّا محمّدا ،

__________________

للمؤلف ، وأخذ في مهجره عن العلامة الإمام علوي بن طاهر الحداد. تردد على بلدان جاوة ومصر والحرمين ، وكان أديبا مطبوعا ، نشرت له الصحف المصرية عددا من أشعاره ، ومقالاته التاريخية القيمة ، له مؤلفات قيمة تقلد عددا من المناصب الكبيرة في حضرموت ؛ منها : منصب مفتش المحاكم الشرعية ، وعضوا في محكمة الاستثناف العليا ، فمفتيا رسميا للدولة الكثيرية. وكانت وفاته في (٦) ربيع الأول (١٣٨٧ ه‍) بسيئون ، رحمه الله.

٨٠٣

وهو أكبرهم ؛ فإنّه لا يزال بسنغافورة إلى الآن.

ومنهم : العلّامة السّيّد عليّ بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن محمّد بن حسين الحبشيّ ، يجتمع مع السّيّد عبد القادر بن عليّ في محمّد بن حسين الحبشيّ وجد بجاوة في حدود سنة (١٢٨٦ ه‍) ، وخرج إلى حضرموت سنة (١٢٩٨ ه‍) ، وأخذ عن أراكينها ، وأقام مدّة خمس سنوات ببور يطلب العلم ويتردّد إلى مدائن حضرموت للأخذ والتّلقّي ، ثمّ عاد إلى جاوة وحجّ أربع مرّات : الأولى سنة (١٣١١ ه‍) ، والثّانية سنة (١٣٤٨ ه‍) ، والثّالثة سنة (١٣٥٤ ه‍) ، والرّابعة سنة (١٣٦٧ ه‍).

وبيني وبينه ودّ وإخاء ، ولبس منّي ولبست منه ، ولا يزال له بجاوة شأن عظيم ، وله لسان في الوعظ باللّغة الجاويّة ، وانتفع به خلائق ، وأسلم على يده كثير ، ولا يزال ناشرا الدّعوة إلى الله ، وأهل الرّابطة العلويّة ينتفعون بجاهه ، ويأخذون به إلى مساعدتهم بالحياء ، وإلّا .. فإنّه لم يسلك فجّهم في التّفرقة بين الحضارم ، وله تواضع وخلق حسن ، ودمعة غزيرة ، مدّ الله في حياته على خير.

وبالسّحيل أيضا جماعة من المشايخ الزّبيديّين ، منهم : الشّيخ أحمد بن عبود بن عيسى بن عبد الله بن تميم الزّبيديّ ، كان عاقلا ، أصيل الرّأي ، له يد في الطّبّ الحضرميّ ، يوافقه التّوفيق في كثير من المعالجات ، توفّي سنة (١٣٢٥ ه‍).

وأصلهم من حوطة سلطانة ، فانتقل جدّهم عبد الله بن تميم ـ من جور حصل عليه من يافع ـ إلى عرض عبد الله ببور ، ثمّ انتقل إلى تاربه ، وحفر بها مئة وستّين بئرا ، غرسها بالنّخيل ، والوثائق الموجودة بين آل تاربه ناطقة ـ حسبما يقال ـ بأنّ تلك الآبار لم تنتقل إلى ملّاكها إلّا بالشّراء منه ، أو من ورثته. وكان انتقاله إلى تاربه في حدود سنة (١٠٩٠ ه‍).

وبالسّحيل مسجد صغير ، بناه السّيّد عبد الله بن سالم بن أحمد الحامد في جانبه الجنوبيّ ـ وهو غير جامع بدر الّذي بالشّمال ـ وفيه جماعة من العوامر آل خميس ، كان بينهم في الوقت الأخير رجل له نجدة ووفاء ، يقال له : سالم بن عويّض ، قتل غيلة في حدود سنة (١٣٣٣ ه‍).

٨٠٤

وفي جنوب السّحيل : حراد ، وهو موضع بسفح جبل ، فيه قرية صغيرة ، وأكثر أرضه إلى الآن لمقام الشّيخة سلطانة بنت عليّ الزّبيديّة.

وسكّانه : آل سيف من العوامر ، ينتسبون إليها بالخدمة ، وكان فيهم رجال يهابون العار ، ولا يبالون طعن الشّفار ، لا تحلّ حباهم الخطوب ، ولا تعرف وجوههم القطوب ؛ مثل الشّيخ هادي بن سيف ، فلقد كان ينطبق عليه قول لقيط الإياديّ [من البسيط] :

لا يملأ الهول قلبي قبل موقعه

ولا أضيق به صدرا إذا وقعا

وله ولابنه عليّ بن هادي ذكر كثير في حروب الدّولة آل عبد الله مع القعيطيّ ويافع.

وفيها ناس من الحرّاثين آل عبد الشّيخ المنتشرين بقرى تاربة ونخيلها ؛ ومنهم الرّجل الصّالح سالم عبد الشّيخ ، له عمل مبرور ، وسعي مشكور ، وتواضع جمّ مذكور.

وفي جنوب حراد : وادي عبد الله بن سلمان ، سكّانه حرّاثون. ثمّ : حصن الدّولة آل جعفر بن أحمد.

ثمّ : غنيمه ، وهي مسكن آل أحمد بن محمّد بن عليّ بن بدر بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق ، ولأحمد بن محمّد هذا أربعة أولاد : جعفر ، وعبد الله انقرضا عن الذّكور. ومحسن بن أحمد ، وهو والد السّلطان غالب بن محسن ، وأخيه عبد الله. وعليّ بن أحمد والد أصحاب قيطع.

ولأحمد بن محمّد هذا إخوان أربعة : يقال لأحدهم : صالح بن محمّد ، وله أولاد ؛ منهم : السّلطان عبد الله بن صالح ، الشّجاع الموفّق المشهور. وللثّاني : سالم بن محمّد ، والد عبود بن سالم. وللثّالث : حسن بن محمّد ، وهو جدّ حسن بن عمر بن حسن بن محمّد. وللرّابع : جعفر بن محمّد ، وهو أبو سعيد بن جعفر ، والد أحمد بن سعيد ، وعليّ بن جعفر والد منصور بن عليّ.

ثمّ إنّ أحمد بن محمّد أو والده محمّدا فارق غنيمه ، وسكن على مقربة من قارة

٨٠٥

الشّناهز ، وكان بها جماعة من آل عبد الودود ، فصهر إليهم أحمد بن محمّد ، وبقي يقطع الطّريق ويخيف السّابلة حتّى تاب على يد الحبيب إسماعيل بن أحمد العيدروس ، وعاد بأمره إلى واد في تاربه ، ولهذا السّبب بقي عنده وعند أعقابه احترام لآل إسماعيل

ومن وراء غنيمه جنوبا : غيل بدر بن عبد الله بن عمر بن بدر بوطويرق ، وعنده آثار ديار صغيرة.

ومن ورائه : مكان لآل خميس ، يقال له : حريز (١) ، وهو منبع عيون ماء تدفع إلى غيل بدر.

سحيل محسن ، وعند ما يرجع الذّاهب من وادي تاربه إلى جهة الشمال .. يجد ديارا بسفح الجبل الشّرقيّ ، فيها جامع كبير ، يقال لتلك الدّيار : سحيل محسن ، نسبة إلى السّيّد محسن بن حسين ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم. وبها كان يسكن الشّيخ أبو بكر بن سعيد الزّبيديّ السّالف ذكره في حوطة سلطانة.

ومن سكّانها : آل عبد الباقي العامريّون ؛ منهم : آل كرتم ، كان من آخرهم : الشّيخ بخيت بن عبد الله بن كرتم ، رجل له شهامة ومروءة.

ومنهم : ناصر بن عوض بن عبيد قاتل السّيد بو بكر بن عبد الرّحمن ظلما حسبما يأتي قريبا في باعبد الله ، وله أخ من أحسن النّاس سيرة ، وأصفاهم سريرة ، وهو سالمين بن عوض ، له أعمال مشكورة ، منها تأسيس مدرسة الرّياضة العربيّة بممباسا ، وقيامه بمصالحها ، وهو الرّئيس الأوّل لها ، ويعاونه الشّيخ صالح بن عليّ باكثير على التّدريس فيها.

وقريبا من سحيل محسن كان يسكن الشّيخ صالح بن عائض بن جخير وأسرته آل جخير ، وهو رجل من لهاميم (٢) العرب ، يهاب اللّوم ، ولا يبالي كثرت أم قلّت

__________________

(١) وهو غير حريز موضع بالكسر ينسب للإمام أحمد بن حسن العطاس ، وفيه أملاك وأراض واسعة له.

(٢) اللهاميم : السّابقون في الجود ، مفردها : لهميم.

٨٠٦

القوم ، يغلي الكلام ، ويوفي الذّمام ، وقلّ أن تنجب مثله الأيّام ، لا ينام عن ثار ، ولا يعلق به العار.

أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها

وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا (١)

وله أخبار جميلة ، ذكرنا بعضها في «الأصل». وله محبّة في الصّالحين وأهل العلم ، توفّي حوالي سنة (١٣٣٣ ه‍).

وفي شمالهم : ديار آل مطرف من الحطاطبة (٢) ، كان لهم تعلّق بالسّادة آل خيله وانتساب إليهم بالخدمة.

ومنهم : عبود ومحمّد ابنا سلامة بن مطرف ، كانت لهم ثروة ، حتّى إنّه يذكر أنّهم أعانوا السّلطان الكثيريّ في تجهيزه على الشّحر سنة (١٢٨٣ ه‍).

باعبد الله

هو في شرقيّ السّحيل القبليّ بيسير من الانعطاف ، وهي عاصمة تاربه ، ويقال لها : باعبد الله ؛ لأنّ الشّيخ عبد الله بن تميم باعها في أوّل ما باع من أرض تاربه ، فقيل : باع عبد الله ، ثمّ سقطت العين بالتّدريج وتداولته الألسن حتّى صار علما عليها ، ويتأيّد هذا بما سبق عن الشّيخ عبد الله بن تميم في السّحيل القبليّ. وقيل : وعليه الأكثر ؛ لأنّ أوّل من تديّرها من أعقاب السّيّد أحمد بن عبد الله ـ صاحب الطّاقة ـ ابن أحمد بن حسين العيدروس .. هو السّيّد الجليل علويّ بن أحمد ، وبها توفّي سنة (١١١٩ ه‍) ، فنسبت إليه ـ لأنّ جدّه عبد الله ـ أي : قرية ابن عبد الله ، ومثل هذا ولا سيّما في دوعن كثير ، كذا سمعته وهو معقول.

ومن ذرّيّته آل عمر بن زين ، وآل جعفر ، ومنهم : السّيّد بو بكر بن عبد الرّحمن بن جعفر ، المقتول ظلما بجامعها ليلة (٢٧) من رمضان ، سنة (١٣٥٩ ه‍) ، قتله

__________________

(١) البيت من الطّويل ، وهو لحاتم الطّائي في «ديوانه» (١٠٩).

(٢) آل مطرف هؤلاء غير آل بامطرف القنازلة الكنديين السابق ذكرهم في المكلا والقطن.

٨٠٧

ناصر بن عوض أحد آل عبد الباقي والجامع مملوء بالنّاس وبجماعات من كلّ قبائل العوامر ، ولم تحبق في ذلك شاة! والعوامر يعتذرون عن ذلك بأن ليس لهم وجه بعد ما بسطت نفوذها عليهم الحكومة الكثيريّة بالقوّة الإنكليزيّة.

وقد هرب القاتل إلى نجد العوامر حيث تزوّج وتبسّط على الأمان ، وبقي يتردّد إلى داره بتاربه أوّلا في السّرّ ، ثمّ تعالن في ذلك. ويقال : إنّ الحكومة الكثيريّة جدّت في طلبه ، فلم تقدر عليه ، وبإثر ذلك ركب إلى السّواحل الإفريقيّة عن طريق سيحوت.

ومن ذرّيّته بها : آل محضار ، وآل إسماعيل بن أحمد ، وهؤلاء هم مناصبها وأمراؤها ، وكان لهم الضّلع الأقوى في الفتنة الّتي قامت بتريم سنة (١١٦١ ه‍) بسبب تابوت القطب الحدّاد ؛ فإنّ آل عيدروس جدّوا في منعه ومعهم آل جابر ، وآل الحدّاد صمّموا على وضعه ومعهم آل كثير ومنصب الشّيخ أبي بكر بن سالم ، وأمّا يافع .. فمفترقون ومواربون ، وكانت النّتيجة أنّ التّابوت وضع على قبر الحدّاد ثمّ أحرق ، ثمّ رمّم ، ثمّ وضع ، ثمّ أزيل ، ولذلك حديث طويل مستوفى ب «الأصل».

ومن آخر مناصب آل إسماعيل بن أحمد : المنصب الجليل السّيّد محمّد بن حسين ، كان شهما شجاعا ، محبّا للعلماء ، كثير البرّ بأمّه ، له مع المنصب السّيّد عبد القادر بن سالم مداعبات ومفاكهات ، تشهد بسلامة الصّدور والبعد عن التّصنّع والتّنطّع والتّكلّف ، وكان بينه وبين العلّامة الجليل السّيّد أبي بكر بن شهاب مشاحنة يوسّعها العلويّون توسيعا هائلا ؛ كيادا لابن شهاب وحسدا له ؛ إذ كان للمنصب السّيّد محمّد بن حسين إذ ذاك نفوذ كبير على الدّولة آل عبد الله بسيئون وتريم ، وعلى آل جابر وعلى كثير من العوامر ، وضالّة العلويّين إذ ذاك : أذيّة العلّامة ابن شهاب ومضايقته وإهانته ، فأذكوا نار العداوة بينه وبين المنصب المذكور حتّى لحقه كثير من الأذى ، فلم يكن من ابن شهاب إلّا أن جاء ليلة بخفارة قويّة إلى دار للشّيخ أبي بكر بن سعيد الزّبيديّ في سحيل محسن ـ وكان له صديقا ـ وخفّا من آخر اللّيل إلى جامع باعبد الله حيث كان المنصب يتهجّد هناك ، فتصافحا وتعانقا وتباكيا ، واستحالت الصّهباء (١) ، وصار المنصب من أكبر أصدقاء

__________________

(١) استحالت : تحوّلت. الصّهباء : الخمر. والمفعول محذوف معلوم بالضرورة ؛ أي : خلّا. وفي

٨٠٨

العلّامة ابن شهاب ، وترافقا في سفرة لهما من حضرموت إلى الشّحر ، ثمّ إلى عدن ، ثمّ إلى لحج.

توفّي المنصب في سنة (١٣٢٥ ه‍) ، وخلفه ولده محمّد بن محمّد ، وكان سليم البال أبيض السّريرة ، توفّي في سنة (١٣٤٩ ه‍).

وفي سنة (١٣٤٢ ه‍) نشر الشّرّ أذنيه بين آل تريم وآل العيدروس ، بسبب أنّ آل العيدروس أرادوا بناء حصن إلى جانب حصنهم المسمّى بحصن العزّ ، في حدّ ثبي الشّماليّ ، فمنعهم آل تريم ، فغضب لذلك السّيّد علويّ بن عبد الله بن حسين ووافقه أكثر آل العيدروس ، واشتعلت الفتنة ، ثمّ سوّيت القضيّة في سنة (١٣٤٤ ه‍) على يد السّيّد حسين بن حامد المحضار ، فقضى بهدم بعض الحصن الجديد ، وإلى ذلك الإشارة بقصيدتي المستهلّة بقولي [من الطّويل] :

على العزّ يبكي ملء عبرته النّاعي

هوى حصنه يا ويح بان وصنّاع

ولها قصّة طريفة مستوفاة ـ مع أخبار تلك الحادثة ـ ب «الأصل» ، وفي ديباجة القصيدة من الدّيوان.

توفّي المنصب السّيّد محمّد بن محمّد بن حسين في سنة (١٣٥٤ ه‍) ، واختلف فيمن يتولّى بعده ، فالسّلطان عليّ بن منصور رشّح لها ابنه محمّدا ، الملقّب ب : (الفاخر) ، وكان شهما ، إلّا أنّه غائب بجاوة ، فأراد أن ينوب عنه أخوه إلى وصوله.

ولكنّ آل العيدروس أسندوا المنصبة إلى السّيّد حسين بن عبد الله بن حسين العيدروس.

ثمّ لمّا توفّي .. أسندوها إلى أخيه السّيّد محمّد بن عبد الله بن حسين ، وهو الّذي عليها اليوم ، إلّا أنّه ضعف نفوذهم ـ كما قدّمنا في بور ـ بمضايقة الحكومة لهم.

وفي باعبد الله جماعة من ذرّيّة السّيّد أحمد بن عليّ بن الحسن ابن الشّيخ أبي

__________________

هذا كناية عن تبدّل الأمر من السّيّء إلى الأحسن. كما تقول : تحوّلت الخمر خلّا.

٨٠٩

بكر بن سالم ، يقال لهم : آل بو فطيم ؛ منهم : السّيّد عمر بن سالم (١) ، وكان شهما غيورا ، أبيّ الضّيم ، قويّ النّفس.

وكانت لديهم ثروة في المال والرّجال ، فبدا لهم أن يبتنوا مسجدا بفناء دورهم الضّخمة في سنة (١٣٠٧ ه‍) ، ولمّا شرعوا فيه .. منعهم السّادة آل العيدروس ، وتداعوا للقتال واستعان آل العيدروس بآل كثير ، وجاء الشّيخ عائض بن سالمين في جمهور منهم بصورة المساعدين لهم ، ولمّا وصلوا تاربه .. استقبلهم أحد العوامر الّذين في جانب آل بو فطيم بقوله :

حيا بكم يا اهل النّكف يا اهل الطرف

يا الّلي تهابون المعار

أن لا تقدّى العيدروسي واعترف

بانحرق الوادي بنار

فقال عائض : أجيبوه ، فأجابه سعيد بن محمّد بن عمر بن عليّ ـ الّذي لا يزال حتّى الآن موجودا ـ بقوله :

يا حاز أن بحزيك ياذيب افتني

يا زاهد المعنى وحرف الافتكار

عود الدّقل صاري معا غبة قمر

حافظ على السنبوق من دقّ القشار

ثمّ إنّ آل بو فطيم أرضوا عائض فأخذ يهوّل على آل العيدروس بأنّ منع بناء مسجد من المنكرات ـ ولم يدر حكم ذلك الّذي قرّرناه في «الأصل» ـ ثمّ إنّه انصرف ولم ينفع آل العيدروس بشيء ، وما زالت القضيّة تتعقّد حتّى توسّط سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر ، فسوّى المسألة على أن يكون مسجدا صغيرا لا يزيد عن عمودين ، فسكن الشّرّ ، وفرغوا من بنائه سنة (١٣٠٨ ه‍) ، فكان تاريخه : (مسجد ضرار).

ثمّ نجم الشّرّ بينهم مرّة أخرى يوم العيد في الجامع ، فتضاربوا بالعصيّ ، وكان ما فصّلناه ب «الأصل».

ثمّ ضعف أمر آل بو فطيم ، فقلّت رجالهم ، وتبدّدت أموالهم.

ومن اللّطائف : أنّ أحد الزّعماء من العلويّين ـ بمرأى منّي ومسمع ـ أطال في

__________________

(١) ذكره العلامة المشهور في «الشمس» (١ / ٢٧٥).

٨١٠

تهضّم آل بو فطيم ، والحطّ منهم بحضور بعضهم ، فانبريت له وقلت :

أمّا تكنّي جدّهم ببو فطيم فشرف لهم ، وقد اكتنى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بفاطمة.

وأمّا التّصغير .. فما هو إلّا أدب مع جدّهم وجدّتهم فاطمة الزّهراء. فانقطع.

ومن وراء باعبد الله إلى جهة الشّرق عن يمين الذّاهب إلى تريم أيضا دار صغيرة لآل كليلة ، تقابل دارهم الأخرى الّتي عن يسار الذّاهب إلى تريم.

ومن ورائها : دار لآل بو فطيم. ومن ورائها : قرية شرمه. وأمّا عن يسار المنحدر إلى تريم : فأوّل ما يكون : مكان آل كرتم.

ثمّ : كساح ، مساكن آل سالم من الحطاطبة. ثمّ : مكان آل غريب ، وهم وآل خميس أهل السّحيل القبليّ ينتسبون إلى رجل واحد. ثمّ : مكان آل جعفر.

وقد سبق في القارة أنّ شنبل لا يطلق لقب الشّنافر إلّا على آل عبد العزيز ، وقد تشكّكت هل يعني آل القارة أم العوامر؟ ثمّ رجّحت الثّاني ، ويتأكّد بما اتّفق عليه جماعة من معمّري العوامر ـ تلقّوه عن آبائهم وهلمّ جرا ـ منهم : الشّيخ عوض بن ربيّع بن سيف ، وناصر بن الضّبّ ، وصالح بن عبد الله بن غريب ـ وهو : أنّ جدّهم عاش مع الوحوش فلم يعرف الكلام ، وما كاد أهله يقدرون عليه إلّا بعد لأي ما ، وعندما قدروا عليه .. أمسكوه ، وما زالوا به حتّى أنس بهم ، ولم يتكلّم حتّى رأى الشّنّة (١) انشقّت فقال : (الشّن انفرى) ، ولمّا كانت هي أوّل كلمة نطق بها .. أطلقوها عليه ، ثمّ غيّروها قليلا وقالوا : (الشّنفري).

هذا هو جدّ العوامر ، وفيه ردّ لما طرق سمعي أخيرا عن بعض المجلّات المصريّة أنّ من لم يعرف الكلام لبعده عن النّاس .. يموت.

ولا يبعد أن يكون العوامر من أعقاب سمل الّذي صهر إليه جدّنا عبيد الله بن

__________________

(١) الشّنّة : قربة الماء.

٨١١

أحمد ، وكان مثرى العوامر بالنّجد (١) ، وكانوا منتشرين فيه وفي وبار إلى أرض عمان ، ولا يزال بمشارف عمان ـ كما سبق في حصن العوانزه ـ منهم العدد الكثير إلى الآن.

وقد مرّ أوائل هذه المسوّدة أنّ تاربه لم تكن إلّا مراعي ينتجعها العوامر إذا أجدب نجدهم ، ثمّ تحضّر بعضهم وابتنوا بها الدّيار ، وشيّدوا الحصون ، ولهم أقوال في أنسابهم تخالف ما ذكره غيرهم ؛ منها : أنّ رجلا يقال له : محمّد ، ولد أربعة رجال :

الأوّل : عبد الله ، وهو جدّ الدّولة آل عبد الله ، وآل عبد الله العوينيّين ، وهم : آل منيباري ، وآل جعفر بن بدر.

والثّاني : بدر ، وهو جدّ آل كثير ، ويؤيّده إصفاقهم على أنّهم آل بدر بن محمّد.

والثّالث : جابر ، وهو جدّ آل جابر.

والرّابع : عامر ، وهو جدّ العوامر. وكان في العوامر كثرة ، ولكن أخذت حاضرتهم الأسفار والحروب ، وباديتهم الجدوب والغارات ، فلا يزيد أهل نجدهم عن مئتين وخمسين رجلا ، كما لا تزيد حاضرتهم عن مئتين وعشرين رجلا.

شرمه (٢)

هي قرية الكسابيب من العوامر ، ولهم بها مسجد يجمّعون فيه.

وكان بالأخير فيهم رجل نجد ثقة ، يقال له : هادي بن بخيت ، ثقل على بعض منافسيه رجحان كفّته عليه ، وانضمّ إلى ذلك أنّ بعض أهل الثّروة حمله على قتله. فلم يقدر ، فأغرى به ابن عمّ له صغيرا فقتله على غرّة ، ونضخ دمه في ثياب أحد الكسابيب ، فتقنّع وأنكر من شهوده القتل.

__________________

(١) نجد العوامر : يقع غربيّ نجد المناهيل ، وشمال وادي حضرموت ، ويحدّه من غربه نجد الكثيري ، وهو نجد قليل الخير ، ويقرب من خط الطول : (٥٠ ـ ١٢ ـ ٤٩). «الشامل» (١٢٠ ـ ١٢١).

(٢) تقع شمال شرق سيئون ، على بعد (١٨ كم) ، وهي غير شرما التي بالساحل التابعة لمديرية الشحر.

٨١٢

وما كاد ولد هادي يبلغ الحنث إلّا وأغرته أمّه بأخذ ثأره ، فقتل قاتل أبيه ، وأقرّ بصنيعه العيون ، وأثلج الخواطر ، وقد أوذي وحبس من جهة الحكومة بدون حقّ ، ثمّ أطلق.

والكسابيب وإن كانوا قبيلة واحدة .. فهم ـ كأكثر فرق العوامر ـ بيوت كثيرة ؛ منهم :

ـ آل كبرى : ولهم مساكن في شرمه ، وأخرى بسمل حوالي ضريح الإمام علويّ بن عبيد الله بن أحمد بن عيسى ، ولهم هناك بساتين نخل حواليها ، فيها دور يخترفون فيها.

واتّفق أن تنازع في سنة (١٣٦٠ ه‍) امبارك بن عمر بن كبرى وكرامة بن عيسى الدّويل على قطعة أرض بمسيال سر ، حوالي الجبل الشّماليّ ، بإزاء شرمه الواقعة بسفح الجبل الجنوبيّ ، فالتقوا ذات يوم وتبودل بينهم إطلاق الرّصاص ، فسقط أحدهم وهو امبارك بن عمر بن كبرى ميتا ، وأنكر قتله آل الدّويل ، وقالوا : إنّما أصابته طلقة من أصحابه ، ولم يطلبوا صلحا ، وتقدّم آل كبرى بإعلان للعوامر بأن لا يعطوا خفيرا لآل الدّويل ، ولكنّ الحطاطبة لم يبالوا بهذا الإعلان.

وفي رمضان من سنة (١٣٦١ ه‍) كان كرامة بن عيظة بن الدّويل يمشي ومعه خفير من الحطاطبة ، يقال له : سالم بن صالح بن حاضر ، فهجم عليهما آل كبرى وقتلوهما ، فغضبت الحطاطبة لقتل ابن الدّويل أكثر ممّا غضبوا لقتل صاحبهم ؛ لأنّ قتل الأوّل إلى جانب صاحبهم يلطّخهم بالعار ، فأنذروا الكسابيب بالحرب ، فتبرّؤوا من آل كبرى ، وبما أنّه لا طاقة لآل كبرى بحفظ ديارهم في شرمه وسمل ؛ لقلّتهم .. ذهبوا إلى سمل وأخلوا ديارهم الّتي في شرمه بالنّساء ؛ ثقة بأنّ الكسابيب وإن تبرّؤوا منهم لن يخفروا ذمّتهم بتمكين الحطاطبة من ديارهم الّتي بين ظهرانيهم ليس فيها إلّا نساؤهم ؛ لأنّ ذلك من أكبر العار بين القبائل ، ولكنّ الكسابيب لم يبالوا بشيء من ذلك ، فهجم الحطاطبة على ديار آل كبرى بين الكسابيب ، وطردوا النّساء ، ونهبوها ، ثمّ أحرقوها.

وبإثر ذلك توسّط بينهم أحد آل تميم ـ وهو سليمان بن عبد الله بن سليمان ـ فأبى الحطاطبة من بذل الصّلح في قتيلهم سالم بن صالح بن حاضر حتّى يغسل آل كبرى

٨١٣

العار الّذي ألصقوه بالحطاطبة بخفر ذمّة صاحبهم ، وكان لآل كبرى طمع في مال امبارك بن عمر بن كبرى ، ولم يبق له إلّا ولد واحد ، فزيّن لهم الشّيطان أن يلقوا عليه القبض ويقتلوه صبرا ، وبذلك تجلّل الكسابيب بأسرهم خزيا وإثما إلى يوم القيامة.

سمل (١)

جاء في ترجمة الفاضل الجليل عبيد الله بن أحمد من «شرح العينيّة» [١٣٥] ما نصّه : (وهو الّذي خلف أباه زهدا وعلما وعبادة ، وارتحل بعد والده إلى سمل ، ووهب أرض صوح لمولاه جعفر بن مخدّم ، واستوطن بقرية سمل ، واشترى بها أموالا ، وتزوّج بابنة سمل ، وأولدها ابنه جديدا ، وتوفّي بسمل في سنة (٣٨٣ ه‍) ، ورثاه جماعة من الأدباء ، وللمتأخّرين مدائح فيه كثيرة) اه

ولو أنّه تفضّل علينا بنسب سمل ، وذكر لنا مراثي بعض أدباء ذلك العصر فيه .. لتوفّر للتّاريخ منه فوائد جليلة ، ولكنّ الأمر لله ، وليس في أيدينا إلّا ما حصل.

وقال في «شمس الظّهيرة» [١ / ٧١] : (وقبر علويّ بن عبيد الله بسمل ، وأمّا قبر أبيه .. فبعرض بور ، وقيل : بسمل) اه بمعناه

وفي كون قبره بعرض عبد الله ببور ، مع أنّ وفاته بسمل .. إشكال قويّ ، ولهذا يترجّح دفنه بسمل وأنّ الّذي ب (عرض عبد الله) ليس إلّا مشهدا له ، على ما يفعله الجهلة بحضرموت.

ولعبيد الله ثلاثة أولاد : بصريّ ، ولم يذكر محلّ ولادته ، وعلويّ وجديد ولدا بحضرموت ، وكانت وفاة هؤلاء الثّلاثة بسمل ، ولم يتحقّق تاريخ وفاتهم.

وفي كلام «شرح العينيّة» بعض التّناقض عن ولادتهم ؛ ففي (ص ٢٢٣) منه يقول : (وخرج سيّدنا المهاجر أحمد بن عيسى ومعه ولده عبيد الله ، وأولاده الثّلاثة : علويّ ، وبصريّ ، وجديد ، إلى وادي حضرموت) اه

__________________

(١) تبعد عن تريم نحو (٩ كم).

٨١٤

وفي (ص ٢٣٢) يقول : (إنّ علويّ بن عبيد الله ولد بحضرموت).

وجاء في (ص ٢٣٥) : (أنّ بصريّا شقيق علويّ أمّهما بنت الشّيخ محمّد بن عيسى ، تدعى أمّ البنين).

وفي (ص ٢٣٩) : (أنّ جديدا ولد بحضرموت ، ولهذا سمّي جديدا ؛ لتجدّده بعد السّفر ، وأمّه أمّ ولد) اه

وقوله : (إنّ أمّه أمّ ولد) مخالف لما سبق من أنّها بنت سمل.

وليس لعلويّ بن عبيد الله إلّا ابن واحد ، وهو : محمّد (١) ، وقد بقي هو وبنو عمّيه بصريّ وجديد برهة من الزّمان بقرية سمل ، ثمّ ارتحلوا عنها إلى بيت جبير كما في «مشرع الشّلّيّ» و «شرح العينيّة» وغيرهما.

وقبر الإمام علويّ بن عبيد الله لا يزال معروفا بسمل إلى الآن ، وأمّا قبر جديد .. فلا يعرف ، وقد قيل : إنّه انتقل في حياته إلى بيت جبير.

قارة الشّناهز

قال في «القاموس» : (الشّناهز قلعة بحضرموت). قال شارحه : (والصّواب : قارة الشّناهز ، وهي مشهورة عندهم) اه

وهي مبان على قارة فاردة لها ثلاثة رؤوس ، في جنوبها جبل ، بسفحه قرية لا بأس بها. كان من سكّانها : السّيّد طه بن محمّد بن شيخ بن يحيى ، وبها كانت وفاته.

وحواليها مزارع كثيرة ، وإليها ينسب جماعة من أهل العلم ، وقد اجتمع بها ـ حسبما سمعت من ثقات الأشياخ ـ خمسون حافظا لكتاب الله.

وفي «شمس الظّهيرة» [٢ / ٥٦٦] : أنّ عبد الرّحمن ـ صاحب مسجد بابطينه ـ ابن أحمد بن علويّ ، عمّ الفقيه المقدّم له أربعة بنون. منهم : عمر أحمر العيون بن

__________________

(١) محمد بن علوي ، ولد سنة (٣٩٠ ه‍) بسمل ، ثم انتقل إلى بيت جبير ، وكانت وفاته بها سنة (٤٤٦ ه‍) ، عن (٥٦) عاما. «تعليقات ضياء شهاب» (١ / ٧٠).

٨١٥

عبد الرّحمن ، من عقبه آل النّضير بمقدشوه (١) ، ويقال له : الصّنهجيّ ، أو الشّنهزيّ ؛ لأنّ أمّه من صنهاجة ، من القارة المذكورة ، وجدّ آل النّضير هو أحمد بن عمر أحمر العيون ـ الثّاني ـ ابن محمّد النّضير ـ سمّي بذلك لفرط جماله ـ ابن عبد الله بن عمر وهو أحمر العيون الأوّل.

وقد هاجر أحمد بن عمر أحمر العيون الثّاني من تريم ـ في الألف من الهجرة ـ إلى مرباط ، ثمّ إلى الشّحر ، وتزوّج وأولد فيها ولدا سمّاه علويا ، وثمّ ركب إلى مقدشوه ، ووصلها في سنة (١٠٠٣ ه‍) ، وتوفّي بقرية في السّواحل سنة (١٠٢٧ ه‍) ، وله أعقاب ، بالسّواحل وسيلان وبرنيو وسورة ومقدشوه.

وفيها منهم الآن : الفاضل النّبيه السّيّد عليّ بن أبي بكر بن محمّد بن عيدروس النّضيريّ ، له سيرة حسنة ، وخدمة للجناب المصطفويّ ، ودعوة إلى محبّته والاعتصام بسنّته ، وله وجاهة تامّة ، وعنده ولد مبارك ، هو : عيدروس بن عليّ النّضيريّ ، يشدّ أزر أبيه ويساعده على مقاصده الحسنة ، إلّا أنّه اتّفق بالآخرة أن طغى الصّوماليّون بما عندهم من الأسلحة على العرب بمقدشوه وهم عزّل ، فانهالوا عليهم قتلا ونهبا ، وكان السّيّد عليّ بن أبي بكر ممّن شايع الصّوماليّين على أبناء جنسه فجفوه ، وكادت أن تتلاشى بينهم وجاهته الكبيرة ، وعلّ له عذرا ونحن نلوم!

ومنهم : عليّ بن عبد الرّحمن الشّنهزيّ ، وبهذه المناسبة ذكرت أحمر العيون وأعقابه ، وهم والقطب الحدّاد والسّادة آل السّميط يرجعون إلى جدّ واحد حسبما سبق في الحزم.

وقد أصفق مؤرّخو حضرموت على بناء القارة وخراب كحلان سنة (٦٠٤ ه‍) ،

__________________

(١) لقب أحمر العيون قال عنه في «المعجم اللطيف» : (لقب يستعمل لكل من عرف بالنجابة والذكاء والإقدام ، فيقال : فلان أحمر عين ، وأحمر العيون وأكثر ما تستعمله العامة فيما ذكرته ، ويحتمل أن يكون أحمر العيون خلقيا أو لعارض. ولكن الخلقي يدل على ما ذكرته. وكانت العرب تتغالى في الإبل الحمر الحدق ؛ لأنها من أحسن أنواع الإبل ، وفي بعض قبائل البادية المعروفين بالشجاعة توجد حمرة في أحداقهم) اه

٨١٦

وما أظنّها إلّا هذه القارة ، بأمارة قربها من كحلان ، أمّا قارة العرّ السّابق ذكرها .. فلا تذكر مطلقة وإنّما تذكر مقيّدة بالعرّ ، وقد سبق أنّ ابن مهديّ أعاد عمارتها في سنة (٦١٩ ه‍) ، فيبعد أن تكون هي المرادة ، وكذلك لا يمكن أن تكون قارة العزّ ـ بالمعجمة ـ الآتي ذكرها ؛ لأنّها لم تبن إلّا في سنة (٨٤٢ ه‍).

وعمارة قارة الشّناهز بالتّاريخ المتقدّم لم يكن بأوّل وجودها ، بل كان تجديدا ، وإلّا .. فهي من أيّام الجاهليّة ، بل من الدّيار العاديّة (١).

وعن العلّامة البصير السّيّد أحمد بن حسن العطّاس : (أنّ أوّل من بناها جشيب بن شلهم بن شماخ) اه

ولعلّه انتقال فكر إليها عن قارة جشيب الواقعة على مقربة من بور.

ومقبرة قارة الشّناهز مشهورة بكثرة الأولياء والصّالحين ، وممّا يكاد يتواتر أنّه يسمع من تربتها أذان من آخر كلّ ليلة جمعة إلى اليوم.

وفي حوادث سنة (٥٩٥ ه‍) حصرت الشّناهز تريم ، وفي سنة (٥٩٨ ه‍) كانت واقعة الشّناهز ونهد في رمضان ، واختلفت آراؤهم.

وفي آخر الشّهر وقعت الشّناهز على نهد فأخذوا فريقا منهم ، وقتل فيها يزيد بن يزيد.

وفي «تاريخ باشراحيل» : (أنّ حضرموت الكسر وشبام والشّناهز تجمّعوا وأخربوا قارة جشيب وحبوظة وكحلان في سنة «٦٠٥ ه‍») اه

وهذا التّاريخ قريب ممّا سبق عن خراب كحلان ؛ فإمّا أن يكون واحدا ، وإمّا أن يكون بقي شيء عن الخراب الأوّل فأكملوه.

وفي حوادث سنة (٧٤٦ ه‍) أخذ أحمد بن يمانيّ قارة الشّناهز.

وفي سنة (٧٧٣ ه‍) ألقى راصع القبض على ولد عمّه يمانيّ بن محمّد بن أحمد ، فقتله أخدامه بأمره في قارة الشّناهز بالنّهار.

__________________

(١) أي : من أيام قوم عاد.

٨١٧

وفي هذه السّنة وقع الحلف بين راصع بن دويس وآل كثير وآل جميل ، وأخذوا قارة الشّناهز من الصّبرات.

وفي حوادث سنة (٧٩١ ه‍) أنّ راصعا أخذ قارة الشّناهز ، وفيه دلالة على سرعة تقلّب الدّول على هذه القارة المذكورة.

ودولتها في الأكثر للشّناهز (١) ، وقد بقي منهم جماعة من الحرّاثين ، من آخرهم رجل يقال له : صالح بن عوض الشّنهزيّ ، وكان له شيء من المال طمع فيه أحد شياطين آل تميم ، فأغرى به عبدا من عبيد القرامصة يقال له : كليواس ، فقتله واستولى هو على ماله ، وكان ذلك حوالي سنة (١٣٥٠ ه‍).

وقد سبق في سدبه أنّ الطّير يعفّ عن التّعدّي على زروعها ، وكأنّ فيها أرصادا تمنعها من ذلك إن صحّ ما قيل.

الغرف

هي بلدة صغيرة في موقع جميل ، يحيط بها الفضاء الواسع من كلّ جهة ، تنشعب منها الطّرق ، فعلى مقربة منها في شمالها تمرّ الطّريق السّلطانيّة الّتي تجيء من أعلى حضرموت إلى أسفلها ، ومنها إلى الجنوب ممرّ الطّريق المهيع إلى الشّحر والمكلّا وغيرهما من السّواحل (٢).

__________________

(١) أرجع المؤرخ الأستاذ بامطرف أصل التسمية إلى (صنهاجة) .. وهي من فخائذ قبيلة حمير الكبيرة ، وكتب تحت هذا الاسم في «الجامع» : (بنو صنهاجة أو الصناهيج فخذ من حمير حضرموت ، غادروا حضرموت بأجمعهم مع قبائل حضرمية أخرى ؛ تلبية لدعوة من الخليفة أبي بكر الصديق لفتح الشام. استقر الصناهيج أول الأمر بفلسطين ، ثم نزحوا منها إلى مصر ، فاستقرت طائفة منهم بخطة القرافة بالفسطاط ، ونزحت جماعة إلى منطقة الفيوم وبلدة أبو صير المجاورة لها ، ومن هؤلاء : الشاعر البوصيري صاحب البردة والهمزية. وبنو صنهاجة هؤلاء هم الذين اندمجت فيهم عدة قبائل بربرية في شمال أفريقيا يدعون : (صنهاجة) ، والنسبة إليهم صنهاجي ، وفي حضرموت يقال لهؤلاء : صناهجة ، وأطلال محلتهم باقية إلى اليوم إلى الشرق من مدينة تاربة بوادي حضرموت ، واسمها قارة الصناهيج ..) إلخ هذا كلام بامطرف بنصه.

(٢) وطريق المكلا والشحر هذه قام بتعبيدها السادة آل الكاف ، وتعرف بطريق الكاف.

٨١٨

وهي من القرى الحديثة العهد ، كانت لآل زيدان من القرامصة التّميميّين ، فاشتراها منهم السّلطان عبد الله بن محسن بن أحمد الكثيريّ لأخيه السّلطان غالب ، بهمّة جدّي المحسن ، وإشارة سيّد الوادي الحسن بن صالح البحر ، ومساعدة جبل العبادة عبد الله بن حسين بن طاهر بألف ومئتي ريال ـ والمبيع إنما هو إمارتها لا رقبتها ـ وكانت أوّل دولتهم بها ، ولمّا بدأ السّلطان عبد الله بن محسن بسورها .. ثارت ثائرة القرامصة حتّى أرضاهم بنافلة من المال.

وكان يسكنها السّيّد الجليل ، الدّاعي إلى الله بلسانه وقلمه ، الوالد عثمان بن عبد الله بن يحيى (١) ، حفيد العلّامة الفاضل الجليل عقيل بن عمر بن يحيى (٢) ، له مؤلّفات كثيرة في خدمة الدّين الإسلاميّ ، ويد بيضاء في نشر دعوته وشرح أسراره بين الجاويّين.

ولمّا وردت جاوة في سنة (١٣٣٠ ه‍) .. وجدت جماعة من السّادة يناوئونه ؛ منهم : السّيّد محمّد بن عبد الرّحمن بن شهاب (٣) ، والسّيّد عبد الله بن عليّ بن شيخ العيدروس ، ومن على شاكلتهم من الرّهط الّذي كان يبثّ مبادىء الإرشاد في

__________________

(١) ولد السيد عثمان ببتاوي جاكرتا سنة (١٢٤٨ ه‍) ، ونشأ في كنف والده ، ثم أرسله إلى حضرموت وأقام مدة بها يطلب العلم ما بين المسيله وتريم ؛ وقد قام برحلات إلى عدد من الأقطار ، فدخل مكة والمدينة والجزائر وتونس ومصر وإستانبول ، وله بها شيوخ عدة. ثم عاد إلى مسقط رأسه ، وأسس مطبعة حجرية نشر من خلالها مؤلفاته التي فاقت على (١٦٠) مؤلفا ما بين رسالة وكتاب ، وأكبر مؤلفاته كتاب : «القوانين الشرعية» ، وكانت له لقاءات مع المستشرق الهولندي المعروف : سنوك هرخرونيه الذي يقال : إنه أسلم على يديه ، وقد ذكره المستر سنوك كثيرا في مذكراته المطبوعة.

وكانت وفاته ببتاوي يوم الأحد (٢١) صفر (١٣٣٢ ه‍).

(٢) السيد عقيل بن عمر .. كان من كبار العارفين ، له مناقب جليلة وسيرة حسنة جميلة ، توفي بمكة سنة (١٢٣٧ ه‍) ، وله بها مقام كبير ، وذرية كثيرة ، له ذكر في «عقد اليواقيت» ، وله مؤلفات عظيمة ، تنظر ترجمته منه.

(٣) المؤرخ والكاتب والأديب ، ولد بتريم سنة (١٢٨٧ ه‍) ، وتوفي بجاكرتا سنة (١٣٤٩ ه‍) ، كان من قدماء مؤسسي الرابطة العلوية ، له رسائل تاريخية ومقالات نشرت في الصحف الإندونيسية ، ينظر : «الرابطة» عدد (جمادى الأولى ـ رجب) ، وفيها معلومات كثيرة عن المذكور ، «الأعلام» (٦ / ١٩٩) نقلا عن مقال لعبد الله السقاف بجريدة «المقطّم» ، «الجامع» لبامطرف.

٨١٩

الحضرميين لغرض الانتقام والتّشفّي منه ومن أمثال السّادة الأجلّاء الكرام محمّد بن أحمد المحضار ، ومحمّد بن عيدروس بن محمّد الحبشيّ ، وعبد الله بن محسن العطّاس وأمثالهم.

ثمّ انقلبوا بشدّة وحرد (١) لنقض تلك المبادىء ، فأشعلوا نار الفرقة والاختلاف والعداوة بين الحضارم ـ حسبما هو مفصّل ب «الأصل» ـ وكاد أولئك الرّهط يستميلوني إليه واشتدّ حرصه على أن ينفرج الأمر بيني وبين سيّدي الوالد عثمان ، وكدت أقع في حبالتهم لا سيّما وقد زوّدني أهل فلمبان بشيء من ثمار نيّاتهم ومبادئهم الّتي كان يبثّها فيهم أحد أحفاد السّيّد عثمان ضدّ جدّه ، ولكن عزم الله لي بالثّبات ، لا سيّما بعد أن دعاني إلى بيته وأهداني مجموعة مؤلّفاته القيّمة معنى وإن لم تبلغ الإجادة مبنى ، ورأيته بخلاف ما ذكروا لي عنه ، فأكبرت صنيعه ، وأحمدت أثره ، واعترفت بفضله ، ورأيت من سلوكه في طريق الحقّ ومجاهدته فيه ما يملأ صدري وصدر كلّ منصف باحترامه وإجلاله ، وهو ملتزم بالسّنّة والفقه ، ولقد جاء ذكر الكرامات بين يديه فأنكر مجازفة المغرورين فيها إنكارا شديدا ، وقال : لقد كنت مختصّا بخالي وسيّدي عبد الله بن حسين بن طاهر وهو ممّن لا تدفع ولايته ، وجالسته زمانا طويلا .. فلم أر منه إلّا كرامتين ، ليس فيها خرق عادة ، وإنّما :

أولاهما : أنّه خرج يصلّي العصر وعليه رداء فتنني ، وتمنّيت أن لو كان لي مثله ، ومرّت صلاتي وأنا أفكّر فيه ، وما كان ينفتل من صلاته حتّى دعاني وقال لي : هذا الرّداء لك ، وأعطاني مفتاحه الخاصّ لآتيه برداء آخر ـ وصفه لي ـ ولو لا أنّه تفرّس ما في خاطري .. ما خالف عادته من عدم الكلام إلّا بعد فراغه من ورده.

والأخرى : أنّ السّيّدين محمّدا وعمر ابني السّيّد عبد الله بن عمر بن يحيى عزما على الانتقال سرّا من المسيله ، وتكتّما بالأمر حتّى لا يشعر فينهاهما ، وأرادا أن لا يعلم إلّا بعد الأمر الواقع ، فلمّا صلّينا العشاء وفرغ من ورده ونافلته .. قال لي : ادعهم لي ، فدعوتهما ، فقال لهما : إذا عزمتما على أمر فشاوراني ؛ فعندي ما ليس

__________________

(١) الحرد : الغضب.

٨٢٠