إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

دفعتها إليه .. أعطاني منها عشرين ريالا .. فاستكثرتها ، وامتنعت من قبولها .. حتّى عزم عليّ بأخذها ، فأخذتها). وهذا عطاء غاب عنه الحبيب حامد بن أحمد المحضار ، ولو شهده .. لم يكن بهذا المبلغ ، بل لقد عاتب أباه بعدما أعلمه.

وأخبرني عبد الهادي المذكور أيضا : أنّ أهل الرّباط ترافعوا إلى الشّيخ عمر باجنيد هذا في قضيّة ، ولمّا صدر الحكم .. امتنع المحكوم عليهم من الامتثال ، فأصيبوا بالعاهات ، فأقبلوا لترضية الشّيخ في جملة من جيرانهم ، فلاقاهم الإمام المحضار وقال :

يا بخت من عزّ الشريعه واستمع

قول الشريعه لي بها زان الوجود

قاضيكم المشهور ما بين العرب

من حجر بن دغّار لمّا قبر هود

فارتجزوا به بين دويّ البنادق ورجعها (١) الّذي يهزّ الجبال ، ولمّا قاربوا دار القاضي .. خرج للقائهم ، فقال الإمام المحضار بالنّيابة عنه :

حيّا بكم ياللي وصلتوا كلكم

باسندوه والباعشن زين الجدود

يا باجنيد ابشر فسعدك قد بدر

يا بو محمّد فالكم فال السّعود

توفّي قبل الثّلاث مئة ، وخلفه على القضاء ولده محمّد ، ويأتي في جحي الخنابشة بقيّة كلام عن آل باجنيد ، كان هذا المكان أولى به ، لكن تأخّر عن نسيان ، وعن غير واحد أنّ آل باجنيد يتحمّلون ثلث نفقة عمارة ساقية الخريبة ، وهو آية كثرة أموالهم بها.

وعلى قول المحضار : (من حجر بن دغّار لمّا قبر هود) .. ذكرت أنّ ولدي البارّ حسن ـ بلّغه الله مناه ـ قال في رحلته الّتي قدّمها للنّادي العلميّ عن حضوره ـ بالنيابة عنه ـ تأبين المرحوم السّيّد أحمد بن عمر الشّاطريّ (٢) : ثمّ أنشدت قصيدة أديب ، ولم

__________________

(١) رجعها : صداها.

(٢) سنة (١٣٦١ ه‍).

٣٢١

أذكر منها سوى عجز بيت هو :

من نواحي هود إلى حبّان

وكان معنى صدره : فقدت حضرموت منه أريبا. فبقي بذهني لسببين :

أحدهما : أنّ جماعة تغامزوا عليه استقلالا للمدح واستصغارا للبقعة الّتي حدّدها.

والثّاني : أنّه يكاد أن يكون نفس قول شوقي [في «الشوقيّات» ٢ / ١٩٢ من الخفيف] :

يا عكاظا تألّف الشّرق فيه

من فلسطينه إلى بغدانه

هذا كلام حسن ، وشد ما لاحظت عليه : إكباره لشعر شوقي ، ولا سيّما بعد أن تقدّم إليّ بالسّؤال عن أربعة أبيات منه وأجبته عنها بالرّسالة الموسومة ب «النّقد العلميّ الذّوقيّ في الجواب عن أبيات شوقيّ» (١).

وكثيرا ما أثني على شعر الحضارم الحمينيّ ، وهذا من المواضع الّتي يتأكّد بها ما أقول ؛ إذ الشّطران الّلذان ذكرهما حسن لا يعدّان شيئا في جنب قول المحضار : (من حجر بن دغّار لمّا قبر هود) وكذلك يظهر هزالهما ـ حتّى لا يسومهما أيّ مفلس ـ عند قول العاميّ الحضرميّ في رثاء عائض بن سالمين الكثيريّ : (جبال ترقل من القبله إلمّا هود).

وللإمام المحضار فضيلة التّقدّم ، ولا غرو أن يتفضّل شعر الحضارم العاميّ الخالي عن التّكلّف ، ولا سيّما في الغزل ؛ إذ كانوا يرجعون في ذلك إلى أصل أصيل ... إلّا من جهة أمّه الحضرميّة المسمّاة : مجد (٢).

__________________

(١) طبعت في اليمن أيّام الإمام يحيى سنة (١٣٦٤ ه‍) ، في (٣٢) صفحة. وكان قد أهداها لمقامه.

(٢) العبارة هكذا في المخطوط ، وفيها سقط ، ولعل التقدير : (... إلى أصل أصيل وتاريخ تليد ، بل إن أكبر شعراء الغزل وهو عمر بن أبي ربيعة رضع لبان الغزل من جهة أمه الحضرمية المسمّاة : مجد). والسبب في اختيار اسم هذا الشاعر دون غيره .. ما قاله صاحب «الأغاني» (١ / ٧٥): (وأم عمر بن أبي ربيعة : أمّ ولد ، يقال لها : مجد ، سبيت من حضرموت ... ومن هناك أتاه الغزل ، يقال : غزل يمان ، ودلّ حجازي).

٣٢٢

وللسّيّد عبد الهادي الجيلانيّ المذكور (١) ولد يقال له : حامد (٢) ، طلب العلم بتريم ، وله نباهة وذكاء إلى تواضع وسيما صلاح ، وقد انتفع به أهل الخريبة انتفاعا كثيرا.

وفي ترجمة السّيّد أحمد بن حسن بروم من «المشرع» [٢ / ٥٥] : أنّه (ورد الخريبة هو والسّيّد علي بن أحمد الخون ، وجرت لهما قصّة). توفّي السّيّد أحمد المذكور في سنة (٩٥٧ ه‍) (٣).

وممّن توفّي بالخريبة من العلويّين (٤) : السّيّد عبد الله بن محمّد بن عليّ بن أحمد بن عبد الله مولى عيديد. ومن عقبه : السّيّد حسين بن أحمد بن زين بن عليّ بن زين بن عليّ بن حسين بن عبد الله المذكور ، كان إماما فاضلا ، مشهورا بالفضل والولاية ، توفّي بالقنفذة سنة (١٢٦٥ ه‍) (٥).

__________________

(١) عبد الهادي بن عبد الله بن عمر بن أحمد الجيلاني ، ولد بالخريبة ، ويعرف بالطّبيب ؛ لأنّه كان حكيما ماهرا ، درس الطّبّ في بلاد الهند ؛ إذ أرسله والده مع جماعة من الخريبة إبّان مجاعة وقعت في حضرموت ، ونزلوا حيدرآباد ، ودرس السيّد عبد الهادي في بعض مدارس الهند وترقّى حتى التحق بإحدى الجامعات وتخرج فيها مجازا في علم الطب. وكانت وفاته في براورة عام (١٣٧٠ ه‍).

(٢) العلّامة حامد بن عبد الهادي ، مولده بالخريبة سنة (١٣٢٩ ه‍) ، قبيل وفاة جدّه عمر ، وهو الّذي سمّاه وبشّر والدته بأنّه سيكون عالما ، وحقّق الله ذلك ، فكان عالم الخريبة ، بل من أجلّاء علماء دوعن أجمع ، ولم يكن له نظير في ذكائه وعلمه وبديهته ، طلب العلم بتريم ، وتخرّج بأستاذ الجيل ، السيّد الإمام عبد الله بن عمر الشّاطري ، وكان يحبّه ويودّه ، ويكنّ له احتراما كبيرا ، وله أخبار كثيرة معه ، يرويها عنه ابنه ووارث علمه السيّد عمر بن حامد. وقد نفع الله بالسيّد حامد نفعا عظيما ، وصيته وسمعته الطّيّبة في دوعن لا زالت ولا زال النّاس يترحّمون عليه ، ويذكرونه بالخير ، وقد وافته منيّته في عام (١٤١٢ ه‍) ، وعظم الأسف على فقده ، رحمه الله تعالى.

(٣) وآل الخون هؤلاء من ذرّيّة الشّيخ عبد الله باعلويّ ، وأصل التّسمية نسبة إلى بلدة الخون ، قريبة من شعب النّبيّ هود عليه السّلام.

(٤) ومن أعيانهم بها ، ممن لم يذكرهم المؤلف : السيد الشريف الصوفي : علي بن محمد بن عبد الله المكي بن عقيل باهارون جمل الليل ، توفي قبل سنة (١١٣٢ ه‍). كان من أهل الخلوات والمجاهدات ، مكث في ذلك نحو (١٢) سنة. وفي مكاتبات الإمام الحداد تعزية في المذكور للشيخ محمد باقيس. وله مسجد بالخريبة معمور إلى اليوم ، يعرف بمسجد الحبيب علي.

(٥) السيّد حسين بافقيه ، دفين القنفذة سنة (١٢٦٥ ه‍) ، هو أحد شيوخ السيّد الشّريف عبد الله الهدّار بن طه الحدّاد ، صاحب حاوي الحوطة ، المتوفّى سنة (١٢٩٤ ه‍) ، كما في «نور الأبصار» و «الخلاصة الشّافية».

٣٢٣

ومنهم : السّيّد عليّ بن محمّد بن عليّ (١) ، أخو عبد الله المذكور ، مات بالخريبة أيضا ، وعقبه بها وبشبام وجاوة.

وفي الخريبة ناس من ذرّيّة الحبيب عبد الله بن علويّ بن أحمد بن محمّد الكاف ، المتوفّى بها سنة (١٠٧٤ ه‍).

وناس من ذرّيّة الحبيب عبد الرّحمن بن علويّ الخوّاص الجفريّ التّريسي : منهم : السّيّد الدّائم الذّكر ، الكثير الصّمت ، عمر بن أبي بكر بن محمّد الجفريّ ، كان موجودا بها في سنة (١٣٢٠ ه‍).

وفيها من آل الجفريّ : آل باصادق ، منهم الآن : عبد الله وعبد الرّحمن ابنا حسن بن طالب بن محسن بن محمّد بن صادق بن حسن بن صادق ، نجعا إلى مكّة وجدّة ، ولهم تجارة واسعة ، وثروة لم ينسوا حقّ الله فيها ، مع تواضع وأخلاق كريمة ، ومحافظة على العبادة ، ومواظبة على الصّلوات في الحرم الشّريف ، ولهم ابن عمّ يقال له : عبد الله بن محسن بن طالب بن محسن نجع إلى الحبشة .. فهو رأس العرب ببعض بلادها.

ومنهم بها : السّادة آل علويّ البارّ (٢) : محمّد (٣) وعبد الله (٤) وحامد (٥) ، وقد رأيت محمّدا هذا بعدن في سنة (١٣٢٢ ه‍) وهو صدر من صدورها ، وكان بها مكرع ريّ ، ومشرع إحسان ، ومستودع حسن ظنّ بالأخيار ، من دون تعصّب ولا تفريق بينهم.

ولهم ذرّيّة منتشرة بالخريبة وعدن والحبشة وغيرها ، وكانت لهم هنالك أموال وعقارات فتلاشت ، أو تحوّلت كلّها إلى السّيّد حامد بن علويّ .. فهو من أولاد الوجهاء ، وله أولاد نبهاء.

__________________

(١) ومن ذرّيّته آل بافقيه ، سكّان القرين ، الّذين منهم السيّد الإمام شيخ بن أحمد بافقيه ، المتوفّى بسورابايا سنة (١٢٨٩ ه‍).

(٢) هم ذرّيّة الحبيب علويّ بن عمر بن عبد الرّحمن البار ، توفي سنة (١٢٠٥ ه‍).

(٣) ولد السيد محمد سنة (١٢٨١ ه‍) ، وتوفي بالخريبة سنة (١٣٤٤ ه‍).

(٤) ولد السيد عبد الله سنة (١٢٨٧ ه‍) وتوفي أواخر سنة (١٣٤٥ ه‍).

(٥) مولده بالخريبة سنة (١٢٩٧ ه‍) ووفاته بجدة سنة (١٣٨٠ ه‍).

٣٢٤

والخريبة أكثر بلاد دوعن عمارة ورفاهة ، حتّى لقد جاء في «مجموع كلام السّيّد عمر بن حسن الحدّاد» ـ المتوفّى في سنة (١٣٠٨ ه‍) وكان أقام بها كثيرا ـ أنّه : يذبح في سوقها كلّ ليلة عشرون رأسا من الغنم ، مع أنّه لا يذبح لذلك العهد في سيئون وتريم أكثر من رأسين في كلّ ليلة ، فانظر إلى هذا التّفاوت العظيم (١).

ثمّ رأيت الطّيّب بامخرمة يقول : (والخريبة مدينة بوادي دوعان الأيمن ، ولمّا استولى الفقيه الصّالح ، الورع الزّاهد ، العالم العامل ، عفيف الدّين عبد الله بن محمّد بن عثمان بن محمّد بن عثمان العموديّ النّوّحيّ على وادي دوعان .. سكن رأس الخريبة ، وأقام لهم الشّريعة ، وأحيا السّنّة ، وأطفأ البدعة ، لكن لم يوافق هواهم .. فحاربوه وأخرجوه ، فانتقل إلى ذمار ، وتوفّي بها سنة (٨٤٠ ه‍) ، كذا وجد بخطّ بعض الفضلاء) هذا آخر كلامه ، وفيه جزم بأنّ آل العموديّ من نوّح ، وقد فصّلت الخلاف في نسبهم ب «الأصل».

الرّشيد

بلدة صغيرة فيها جامع ، كانت تحت ولاية ابن دغّار الكنديّ إلى أواخر القرن الثامن كما سبق في حجر.

ولما جار وطغى .. أصابته سهام اللّيل (٢) الّتي لا تبطىء ولا تخطىء ، فزال عنها وخلفه عليها وعلى غيرها آل بالحمان ، ويظهر أنّهم من الإباضيّة ، وبهم يتحقّق قول ابن خلدون المتوفّى سنة (٨٠٨ ه‍) في (ص ١٧٠ ج ٣) من «تاريخه» : (أنّ لهم دعوة باقية بحضرموت إلى الآن).

ثمّ أهلك الله آل بالحمان بعقب الظّلم والجور ، ولم يسلم منهم إلّا واحد لقّب ب :

__________________

(١) أما اليوم فالذي يذبح في رباط باعشن يفوق ما يذبح في الخريبة ؛ لتحول السوق إليها.

(٢) سهام اللّيل : كناية عن الدّعاء ، قال الشّاعر :

أتهزأ بالدّعاء وتزدريه

وما تدري بما صنع الدّعاء

سهام اللّيل نافذة ولكن

لها أمد وللأمد انقضاء

٣٢٥

حفظ الله ، لا يزال جماعة من ذرّيّته إلى اليوم ب (جحي الخنابشة) (١) ، وسيأتي فيه : أنّ للشّيخ سعيد باحفظ الله تاريخا عن حضرموت استعاره باصرّة ولم يردّه.

ومن أهل الرّشيد : الشّيخ الصّالح المشهور يوسف بن أحمد باناجة ، المتوفّى سنة (٧٨٣ ه‍) ، وقد سبق في الحسوسة بعض ما كان من أماديح الشّيخ عمر بامخرمة فيه ، وقد ترجمه سيّدي الإمام أحمد بن محمّد المحضار ترجمة مطوّلة تدخل في كرّاسين ، سمّاها : «شرح الصّدور» ، ولم أطّلع على شيء منها.

ومن آل باناجة الشّيخان عبد الله وعبد الرّحمن ، كانت لهم ثروة وتجارة واسعة بالحجاز والهند ومصر ، وكانت لهم رتب شريفة بمكّة أيّام الأتراك ، إلّا أنّ أسبابهم انقطعت من حضرموت ، ولا تزال لهم بقايا في أفريقيا وغيرها.

وبالرّشيد جماعة من ذرّيّة السّيّد طالب بن حسين بن عمر العطّاس. وهي موطن آل بازرعة (٢) ، وفيهم كثير من العلماء ؛ أوّلهم الشّيخ أبو بكر بازرعة ، كان ظهوره بدوعن ـ كما يروى عن الحبيب أحمد بن محمّد المحضار ـ قبل الشّيخ سعيد العموديّ بمئة عام ، وما كان ظهور الشّيخ يوسف أحمد باناجة ـ السّابق ذكره ـ إلّا بعد الشّيخ سعيد العموديّ بمئة سنة ، وعليه : فيكون الشّيخ أبو بكر بازرعة ممّن عاصر الشّيخ سالم بن فضل الّذي أحيا العلم بعد دروسه ، المتوفّى سنة (٥٨١ ه‍).

ومن مشهوريهم في القرن الحادي عشر : الشّيخ عبد الله بن أحمد بازرعة ، له ذكر كثير في «مجموع الأجداد» ، وله فتاوى مشهورة يرجع إليها في الاعتماد ، وكثيرا ما يختلف هو وباحويرث وبابحير فيترجّح ما ذهب إليه ، وهو الّذي اختصر «فتاوى العلّامة ابن حجر الهيتميّ».

ومن وجهائهم في الزّمن الأخير : الشّيخ محمّد بن عمر بازرعة ، هاجر في بدء

__________________

(١) الجحي : مكان الإقامة. الخنابشة ـ آل الخنبشي سيأتي ذكرهم في الجحي.

(٢) آل بازرعة : أسرة عريقة ، من ذوي المجد والسّيادة والرّئاسة في القديم. ذكر في «الإكليل» (٢ / ٣٧) أنّ في هدون : بني زرعة بن جعشم من الصّدف. وفي «الشّامل» (ص ٧١) أنّ آل بازرعة من آل بابحر ، ولعلّهم غير هؤلاء ، ولعلّ كونهم من الصّدف ـ من كندة ـ أقرب.

٣٢٦

أمره إلى مصوّع ، وأسّس بها مركز تجارة ، وأقام برهة بالمكلّا ، وله فيها آثار وعقار ، وكان جمّ الثّناء على الإيطاليّين بالوفاء وبسط الأمن والعدل ، ومساعدة الرّعايا ، والصّدق ، وذكر الجميل لصاحبه ولو بعد الاستغناء عنه ، واتّفاق السّرّ والعلانية ، وحفظ الذّمام ، وقد عرفت صدق بعضه عنهم وقتما كنت بالحديدة وفي سفري منها إلى مصوّع سنة (١٣٥٤ ه‍) ، إلّا أنّني مع حنقنا عليهم ممّا جرى في طرابلس .. لم أتأثّر بشيء من ذلك ، وإلّا .. فلهم أكثر بشارة الحديث الّذي أخرجه مسلم [٢٨٩٨] عن المستورد القرشيّ حسبما في «العود الهنديّ» .. فليس الشّيخ بمتّهم فيما يقول ، ثمّ استوطن عدن ، وله خيرات ومحاسن ، منها : مدرسة كبيرة بناها بعدن ، لا تزال معمورة على نفقته السّابغة إلى اليوم ، وكانت عدن مزدانة به وبأمثاله من مراجيح الحضارم ثمّ صوّح نباتها ، على نحو ما أسلفنا في المكلّا. توفّي بعدن في سنة (١٣٤٩ ه‍) ، وقد ترك أولادا ؛ منهم : الوجيه عليّ ، وهو النّاظر على مدرسته ، والقائم في محلّه ، ومنهم عبد الرّحمن صالح متواضع ، عليه سيماء الخير ، باد في جبهته أثر السّجود ، ضابط لنفسه ولأولاده ، ومربيهم على الاعتناء بشعائر الدّين والمحافظة عليها ، مع بذل المعروف ، وإغاثة الملهوف .. بارك الله فيه وفي بنيه.

ومن أهل الرّشيد : السّيّد شيخ بن عبد الرّحمن بن شيخ الحبشيّ (١) ، تلميذ السّيّد عمر بن عبد الرّحمن البارّ.

والعلّامة السّيّد سالم بن محمّد الحبشيّ (٢) السّابق ذكره إلى جنب الشّيخ عليّ باصبرين ، وأخوه عبد الرّحمن بن محمّد الحبشيّ ، وقد انتقل ولده عبد الله بن عبد الرّحمن إلى رحاب ، وله ولدان : علويّ بن عبد الله صاحبنا المتكرّر ذكره ، وأخوه أحمد بن عبد الله من أهل الصّلاح.

__________________

(١) توفّي السّيّد شيخ هذا سنة (١١٧٢ ه‍) بالرّشيد.

(٢) هو السّيّد العلّامة الفقيه سالم بن محمّد بن عبد الرّحمن بن أبي بكر الحبشي ، ولد بالرّشيد سنة (١٢٥١ ه‍) ، وتوفّي بها في (٢١) ربيع الأوّل (١٣٢٩ ه‍) ، كان فقيها عالما محقّقا ، أخذ عن الشّيخ عبد الله باسودان ، وابنه محمّد ، وطبقتهما ، ترجم له الحبيب عبد الرّحمن المشهور في «الشّجرة».

٣٢٧

وعند ما عزم عبد الله على الانتقال من الرّشيد إلى رحاب .. ذهب يستشير الإمام الجليل أحمد بن محمّد المحضار ، فقال له [من الرّمل] :

إنّما أنت سحاب ممطر

حيثما صرّفه الله انصرف (١)

ولا يزال ولده علويّ صاحب النّوادر في رحاب ، وله ذكر متكرّر في هذا.

ومن أهل الرّشيد : السّيّد محمّد بن حسين الحبشيّ ، كان عالما فاضلا ، صادعا بالحقّ لا يخاف فيه ، قتل بمسجد بحر النّور وهو في درسه ، قتله ولد أحمد بامحمّد ، وهو ابن أخي المقدّم عمر بن أحمد باصرّة ، لخلل ـ قيل ـ في عقله.

القويرة (٢)

من قدامى بلدان دوعن ، وكان السّيّد الجليل حامد بن أحمد المحضار يذكر سبعين قبيلة بها فبادت ولم يبق إلّا القليل كآل باحسين ؛ فقد كان فيهم قضاة وعلماء ؛ منهم : الشّيخ أحمد بن عبد الله باحسين ، ولّاه الملك الظّافر قضاء لحج سنة (٩٠٦ ه‍).

وهي واقعة في حضن الجبل الغربيّ ، سكنها السّيّد الشّريف محمّد بن علويّ بن محمّد بن طالب بن عليّ بن جعفر بن أبي بكر بن عمر المحضار ، وانتهى به إليها القرار ، وابتنى بها الدّار.

وبها وجد سيّدنا الإمام الرّبانيّ أحمد بن محمّد المحضار (٣) ، كان آية في العبادة وتلاوة القرآن ، وسلامة الصّدر ، وعدم المبالاة بالدّنيا ، وصدق التّوكّل على الله وكمال الاعتماد عليه.

__________________

(١) ومن سكّان الرّشيد : آل الحبشي ، وآل باصرّة ، وآل بازرعة المذكورون ، وآل باغفّار ، وهم بجدّة وغيرها ، وآل باعوم ، وباعفيف ، وآل باجبير.

(٢) القويرة : تصغير قارة ، وقد تنسب إلى حلبون ـ القرية الّتي بجانبها ـ فيقال : قارة حلبون.

(٣) وكان مولده في عام (١٢١٧ ه‍) ، وكان له تردّد إلى الحرمين ، وجاور بمكّة سنوات ، وأحواله عظيمة ، وترجمته تطول ، يراجع «تاريخ الشّعراء» (٤ / ٣٨ ـ ٤٦) ، و «الشّامل» (١٥٠ ـ ١٥١).

٣٢٨

عليه من التّقوى رداء سكينة

وللحقّ نور بين عينيه ساطع (١)

وفي مبحث ذرّيّة الشّيخ عمر المحضار بن الشّيخ أبي بكر بن سالم من «شمس الظّهيرة» يقول : (ومنهم : السّيّد الوليّ أحمد بن محمّد ، بالقويرة ، المتوفّى بها سنة (١٣٠٤ ه‍) ، له ذرّيّة مباركة هناك ، منهم الآن : خليفته ابنه حامد ، له خلق حسن) اه

وحال المحضار عجيب ، وأمره غريب ، وصيته شهير ، وفضله غزير ، وقد ترجمه سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر ترجمة مختصرة ، وله كلام أعذب من السّلسال (٢) ، وأشبه بالماء في الحدور (٣) إذا سال ، ما بين نثر ونظام ، أحلى من المدام ، وأزكى من المسك الختام ، ينطبق عليه قول أبي تمّام [في «ديوانه» ١ / ١٤٤ من الطّويل] :

عذارى قواف كان غير مدافع

أبا عذرها لا ظلم منه ولا غصب

مفصّلة باللّؤلؤ المنتقى لها

من الشّعر إلّا أنّه اللّؤلؤ الرّطب

وذكرت في «الأصل» أنّه أعدّ لنفسه قبرا يخرج إليه في كلّ يوم يقرأ فيه القرآن ، وأشرت إلى من حضرني ساعتئذ ممّن أعدّ لنفسه مثله ، ثم رأيت الذّهبيّ يقول في ترجمة الحافظ المحدّث الخطيب : (عن إسماعيل بن أبي سعد الصّوفيّ : كان أبو بكر بن الزّهراء أعدّ لنفسه قبرا إلى جنب بشر الحافيّ ، يمضي إليه في كلّ أسبوع يقرأ فيه القرآن كلّه وينام ، فلمّا مات الخطيب وكان أوصى أن يدفن إلى جانب بشر بن الحارث ، فجاء المحدّثون إلى ابن زهراء يسألونه أن يؤثر به الخطيب .. فامتنع ، فجاؤوا إلى أبي ، فأحضره وقال له : أنا لا أقول لك أعطه القبر ، ولكن لو كنت في الحياة إلى جانب بشر فجاء الخطيب ليقعد دونك ، أكان يحسن بك أن تقعد أعلى منه؟

__________________

(١) البيت من الطّويل ، وهو لمروان بن أبي حفصة في «ديوانه» (٧٧) ، ولكن بلفظ : (رداء يكنّه) ، بدل (رداء سكينة). يكنّه : يغطّيه ويجلّله.

(٢) السّلسال : الماء العذب ، الّذي يسهل مروره في الحلق.

(٣) الحدور : المنحدر ، شائعة في حضرموت.

٣٢٩

قال : لا ، بل كنت أقوم له وأجلسه في مكاني ، قال : فهكذا ينبغي أن يكون السّاعة ، فطاب قلبه ، وأذن لهم) اه (١)

ولكنّ فقهاءنا مصرّحون بكراهة الإيثار في القرب كالإيثار بماء الطّهارة ، ولا بستر العورة ، ولا بالصّفّ الأوّل ؛ فإن أدّى إلى ترك واجب .. فحرام ، أو إلى ترك سنّة أو ارتكاب مكروه .. فمكروه ، أو خلاف الأولى .. فخلاف الأولى. قاله السّيوطي.

ولسيّدنا العلّامة أبي بكر بن شهاب قصيدة غرّاء في مديحه (٢) ، وقد بلغني عنه أنّه يقول : (لو لا أنّني رأيت ثلاثة ، وهم : محسن بن علويّ السّقّاف ، وأحمد بن محمّد المحضار ، وعيدروس بن عمر الحبشيّ .. لما صدّقت ما يروى من مقامات الأسلاف ، وما لهم من فرط المجاهدات في صنوف العبادات).

وكان ابنه حامد على طرف من العلم ، ومع ذلك فهو صدر الصّدور ، وفحل الفحول ، لا يخور في جواب ، وليس لأحد معه كلام ، مع بعد عن التّكلّف وسير بسوق الطّبيعة ، وجود بالموجود ، وبياض سريرة ، وصراحة تامّة ، وشهامة ظاهرة ، وهو الّذي يقوم بأمور أبيه ، توفّي بالقويرة في سنة (١٣١٨ ه‍) عن عدّة أولاد ، منهم :

الفاضل الماجد حسين بن حامد (٣) ، وهو أشهر من أن يذكر ، وله في «الأصل» ذكر كثير ، توفّي بالمكلّا آخر سنة (١٣٤٥ ه‍) ، وكان يعاونه في أيّام وزارته : أخوه عبد الرّحمن ، وهو رجل متين الدّين ، شريف النّفس ، مأمون الغائلة ، مستوي السّر والعلانية ، مشكور السّعي.

وكثيرا ما يعاونه ابن أخيه عليّ بن حسن بن حامد المحضار ، وهو فاضل رقيق القلب ، غزير الدّموع ، كثير الخشوع.

__________________

(١) سير أعلام النبلاء (١٨ / ٢٨٧).

(٢) امتدحه بها سنة (١٢٩٤ ه‍) ، ومطلعها :

خليليّ رفقا فالهوادي وكورها

أضرّ بها إدلاجها وبكورها

رويدا فهذا حيّ سلمى وتلكما

مضاربها ذات اليمين ودورها

(٣) أفرده بالتّرجمة حفيده السّيّد العلّامة حامد بن أبي بكر بن حسين وكتابه مطبوع.

٣٣٠

ومن أولاد سيّدنا المحضار : الفاضل الجليل الحبيب محمّد (١) ، كان آية في علوّ الهمّة ، وكبر النّفس ، وبسطة الكفّ ، وغزارة العلم ، وكثرة العبادة.

متهجّد يخفي الصّلاة وقد أبى

إخفاءها أثر السّجود البادي (٢)

سمح اليدين إذا احتبى في مجلس

كان النّدى صفة لذاك النّادي

أفضى إليه الطّالبون فصادفوا

أدنى البريّة من تقى وسداد

بفضيلة بالنّفس توصل عنده

بفضائل الآباء والأجداد

توفّي بجاوة في سنة (١٣٤٤ ه‍) عن عدّة أولاد ، أكبرهم : عبد الله (٣) ، وهو معدود من الفقهاء وأهل العلم.

ثمّ علويّ (٤) ، وهو الّذي خلف أباه فأبقى مناره ، وتسمّت آثاره.

لا يحتذي خلق القصيّ ولا يرى

متشبّها في سؤدد بغريب (٥)

شرف تتابع كابرا عن كابر

كالرّمح أنبوبا على أنبوب

له خلق كالنّسيم ، وشمائل أحلى من التّسنيم.

صفت مثلما تصفو المدام خلاله

ورقّت كما رقّ النّسيم شمائله (٦)

__________________

(١) السيد العالم الحبيب محمد بن أحمد المحضار (١٢٨٠ ـ ١٣٤٤ ه‍) ، ولد بالجبيل بدوعن ، تربى في حجر والده الجليل ، وأخذ عن كبار شيوخ عصره أجلهم والده والحبيب أحمد بن حسن العطاس ، وهاجر إلى جاوة سنة (١٣٠٨ ه‍) ، ولازم بها شيخ فتحه الحبيب محمد بن عيدروس الحبشي ، المتوفى سنة (١٣٣٧ ه‍) ، لزمه حتى وفاته. له تأثير في جماهير الناس بحسن دعوته وغيرته على الإسلام ، وله يد طولى في إقامة الجمعيات الخيرية والمدارس بسورابايا وجاكرتا ، منها : المدرسة الخيرية ، وجمعية ومدرسة الفلاح أنشأها سنة (١٣٣٢ ه‍) ببندواسة. من مصادر ترجمته : «شمس الظهيرة» (١ / ٢٨٢) ، «الشامل» (١٥١) ، «تاج الأعراس» (٢ / ٤٦٧).

(٢) الأبيات من الكامل ، وهي للبحتريّ في «ديوانه» (١ / ١٨٥ ـ ١٨٦).

(٣) ولد السّيّد عبد الله بن محمّد المحضار سنة (١٣٠٠ ه‍) ، وتوفّي سنة (١٣٦٤).

(٤) توفّي السّيّد علويّ بدوعن سنة (١٣٧٩ ه‍) ، وكان قد استقر بها واستعاضها عن بندواسة وتركها كلية.

(٥) البيتان من الكامل ، وهما للبحتريّ في «ديوانه» (١ / ٢٠٢).

(٦) البيت من الطّويل ، وهو للبحتريّ أيضا في «ديوانه» (١ / ٦٣) الخلال : الخصال.

٣٣١

إلى جود في الفاقة ، وسماحة فوق الطّاقة ، وبرّ بوالديه عظيم ، ومحاسن خلال أغلى من الدّرّ النّظيم ، وله كلام أزكى من مسك الختام ، وأندى من ماء الغمام :

أندى على الأكباد من قطر النّدى

وألذّ في الأجفان من سنة الكرى

وبيني وبينه ودّ صميم ، وطارف إخاء مبنيّ على قديم ، يأتي فيه قول الخطّابي للثّعالبيّ [من البسيط] :

قلبي رهين بنيسابور عند أخ

ما مثله حين تستقري البلاد أخ

له صحائف أخلاق مهذّبة

منها التّقى والنّهى والحلم ينتسخ

ومن أولاد الإمام المحضار : بقيّة السّلف ، وزينة الخلف ، كهف اليتامى ، وموئل الأيامى (١) ، الّذي امتزج الجود بلحمه ودمه ، ولم يسع أحد في الزّمن الأخير بقدمه .. الحبيب مصطفى (٢) ، فحدّث عن سماحته ولا حرج ، وحسبك بما كان منه في الزّمن الّذي هرج ومرج (٣) ؛ فلقد مرّت أيّام الأزمة وداره ملأى بالجفان المحفوفة بالضّيفان (٤).

فما جازه جود ولا حلّ دونه

ولكن يسير الجود حيث يسير (٥)

لقد بلغني أنّه باع من صلب ماله بعشرة آلاف ريال ذهبت مع الأكباد الحرّى ، والبطون الغرثى (٦).

وللجود حسن أيّ وقت بذلته

وأحسنه ما كان في زمن المحل

__________________

(١) الأيامى : النّساء اللّاتي لا أزواج لهنّ.

(٢) الحبيب مصطفى المحضار ، مولده بالقويرة سنة (١٢٨٣ ه‍) ، تنظر ترجمته وأخباره في : «الشّامل» (١٥١) ، «الدّليل المشير» ، وغيرها.

(٣) هرج ومرج : اختلط.

(٤) الجفان ـ جمع جفنة ـ وهي : القصعة.

(٥) البيت من الطّويل ، وهو لأبي نواس في «ديوانه» (٤٨١) ، ولكن بلفظ (يصير) بدل (يسير) في الموضعين.

(٦) الأكباد الحرّى : الّتي يبست من العطش. الغرثى : الجائعة.

٣٣٢

انتهى به الحال إلى أنّ رجلا استماحه إزاره (١) ، فقال له : سأضعه على الجدار عند دخولي الميضأة ، فاذهب به ، ومتى أحسست بعدك .. زعمت لأولادي أنّه سرق ؛ حتّى يدبّروا لي سواه من دون عتاب ولا تثريب.

تعوّد بسط الكفّ حتّى لو أنّه

ثناها لقبض لم تطعه أنامله (٢)

وما كان ولده حامد (٣) ليعاتبه على مثل ذلك ؛ إذ لم يكن إلّا قرّة عين وسرور فؤاد.

وله شعر بديع ، أحبّ من بسمات الرّضيع ، وترسّل عذب ، كأنّما هو سقيط الطّلّ واللّؤلؤ الرّطب ، وقد رثيته في حياته سنة (١٣٥٢ ه‍) ؛ ليسمع ما يقال عنه بعد الموت اليوم بإذنه ، بقصيدة توجد بمحلّها من «الدّيوان» [خ ١٥٠] ، ومستهلّها هذا [من الكامل] :

مهلا عدمتك من نعيّ جارح

فلقد ملأت محاجري وجوانحي

وهو اليوم يخنق التّسعين .. أطال الله بقاه ، ورزقنا في عافية لقاه.

ومن ذرّيّته : القانت الأوّاب الصّادع بالحقّ ، الّذي لا يخاف لومة لائم عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار (٤) ، طلب العلم بمصر ، وكان من أراكين التّقوى ، وإليه يرجع أهل ذلك الطّرف في الفتوى ، توفّي بالقويرة في سنة (١٣٥٨ ه‍) ، وله أولاد كرام ، منهم :

صالح : يتّفق مع اسمه مسمّاه. ومحمّد ، رجل شهم يصدّقه نبل ، ملأ ثوبه ،

__________________

(١) استماحه : طلب منه ، وفعله : ميح.

(٢) البيت من الطّويل ، وهو لأبي تمّام في «ديوانه» (٢ / ١٤) ، باختلاف بسيط.

(٣) السّيّد حامد بن مصطفى ، ولد بالقويرة سنة (١٣١٨ ه‍) ، وتوفّي في حادث سيّارة مروّع في (٩) جمادى الأولى (١٣٩١ ه‍).

(٤) الحبيب عبد الله باهادون (١٣٥٨ ه‍) ، ترجمه السّيّد أبو بكر الحبشي في «الدّليل» ، توفّي في ربيع الأوّل سنة (١٣٥٨ ه‍) ، وأرّخها الحدّاد في (١٣٥٩ ه‍) ، وقال : (توفّي عن سنّ عالية) ، وحدّدها صاحب «الدّليل» ب (٨١) سنة ، وجعل مولده سنة (١٢٧٧ ه‍).

٣٣٣

يزيّن حظّه من الإحسان حلاوة اللّسان. وطه ، وهو رجل فاضل ، مستوي السّرّ والعلن ، كريم الأخلاق ، خفيف الرّوح ، عظمت الرّزيّة بموته في حدود سنة (١٣٦٤ ه‍) ؛ إذ بقي موضعه فراغا ، لم يسدّه أحد من إخوانه.

وعلى الجملة : فحالة المحاضير بالقويرة مشكورة ، ومجالسهم معمورة ، وعلّهم على وئام في المعنى كما هم في الصّورة.

وأوّل من نجع من حبّان إلى دوعن : السّيّد محمّد بن طالب (١) ، فتصوّف على يد الإمام عمر بن عبد الرّحمن البارّ ، وسكن الرّشيد ، ثمّ سار إلى عينات ، وابتنى بها دارا ومسجدا ، ثمّ جاء أيضا ولده علويّ (٢) وتزوّج بالرّشيد.

وكان أهل القويرة في قرن الحمار من قلّة الماء ، ولآل القرين من آل البار وغيرهم عيون ماء في الجبل الّذي بجنوب القويرة ، فساومهم وأغلى السّيّد حسين بن حامد في بعضها ، ولمّا امتنعوا .. أجراها إلى القويرة بقوّة السّلطان.

ثمّ سار إلى عند آل البار بالقرين للتّرضية ، وأرضى جلّ الملّاك بمثل القيمة أو بأكثر .. فرضي أغلبهم وبقيت خمسة من أربعة وعشرين أصرّ أهلها على الامتناع إلى اليوم.

وبلغني أنّ السّيّد عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار كان يتنزّه عن ذلك الماء لقوّة ورعه ، وإلّا .. فإنّ للفاضل السّيّد حسين بن حامد مندوحة فيما صنع ؛ فلقد بنى ابن الخطّاب المسجد الحرام بمكّة في سنة (١٧ ه‍) وهدّم على قوم أبوا أن يبيعوا ، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتّى أخذوها.

وزاد عثمان في المسجد الحرام نفسه في سنة (٢٦ ه‍) وابتاع دورا من قوم ، وأبى آخرون .. فهدّم بيوتهم وأدخلها في المسجد ، ووضع الأثمان في بيت المال .. فصاحوا بعثمان ، فحبسهم وقال : قد فعل عمر بكم مثله .. فلم تصيحوا! فكلّمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد .. فأطلقهم.

__________________

(١) توفّي السّيّد محمّد بن طالب بمسقط ، في طريقه إلى مرباط لزيارة جدّه الإمام محمّد صاحب مرباط ، فحمل إليها ودفن بها.

(٢) توفي السيد علوي هذا في الطريق بين حبان وحضرموت ، حيث كان متوجها إلى حضرموت.

٣٣٤

ومصلحة الشّرب أظهر من مصلحة المسجد ؛ إذ الماء لا يمنع ، ومهما أوّلوه .. فبعيد أن يكون شرب بقيّة السّلف الوالد مصطفى بن أحمد حراما ، ولكنّ الأمر إذا ضاق .. اتّسع ، إلّا أنّه قد يغبّر عليه أنّ لابن الخطّاب شأنا بالمدينة تخالف ما جرى عليه بمكّة ، وذلك أنّه أراد توسعة المسجد النّبويّ بدور منها دار العبّاس .. فلم يرض ، وحاكم عمر .. فخصمه ، وللفرق مجال بين الحرمين كثير ؛ إذ قيل : إنّ دور مكّة لا تباع ولا توهب ، ولم يقل أحد بمثل ذلك في المدينة. والله أعلم.

وفي القويرة ناس من آل شويه ، يغلب على الظّنّ أنّ جدّهم أحد الأربعة القادمين مع المهاجر ، حسبما يأتي في سيئون.

حلبون

هي قرية في الحضيض النّازل عن القويرة ، ويزعم بعضهم أنّها كانت متّصلة بها ، وكثيرا ما يقال : قويرة حلبون ، ولو صحّ ذلك .. لم يكن إلى تعدّد الجمعة سبيل حسبما في فتوى بامخرمة السّابقة في قرى الشّحر ، لكنّ الجمعة متعدّدة في القريتين ، فدلّ على استقلال كلّ من الأصل (١).

وسكّان حلبون : آل باقيس وغيرهم (٢) ، ومنهم : الصّالح الشّهير ، والرّبّانيّ الكبير ، الشّيخ فارس باقيس ، ممدوح الشّيخ عمر بن عبد الله بامخرمة.

ومنهم : خاتمة الصّوفيّة المسلّكين ، الشّيخ محمّد بن ياسين باقيس (٣) ، المتوفّى

__________________

(١) أي : من أصل منشئهما ، وحلبون تقع شماليّ القويرة.

(٢) وهم من كندة ، ويقال : إنّهم من ذرّيّة الأشعث بن قيس الكنديّ ، وينظر «الشّامل».

(٣) الشّيخ محمّد بن ياسين باقيس ولد بحلبون ، ونشأ بها ، ولازم مجالس العلم من صغره ، فقرأ على الحبيب عبد الرّحمن بن محمّد البار ، وقرأ على الشّيخ العارف بالله محمّد بن أحمد بامشموس ، والإمام الحبيب عبد الله الحدّاد. وأخذ عنه جماعات من الأكابر ؛ منهم : الشّيخ عبد الله بن أحمد بافارس باقيس ، والحبيب حسن بن عمر البار ، والحبيب عمر بن عبد الرّحمن مولى جلاجل ، والحبيب طه بن عمر البار ، والحبيب سقّاف بن محمّد الصّافي ـ المذكور هنا ـ والعلّامة أحمد بن حسن الموقري الزّبيدي ... وغيرهم توفّي الشّيخ محمّد يوم السبت (١٥) شوّال (١١٨٣ ه‍).

٣٣٥

سنة (١١٨٣ ه‍) ، أحد تلاميذ القطب الحدّاد ، وشيخ جدّنا الثّالث سقّاف بن محمّد بن عمر السّقّاف ، المتوفّى بسيئون سنة (١١٩٥ ه‍).

ومنهم : الشّيخ عبد الله بن أحمد بافارس باقيس ، أحد مشايخ الشّيخ عبد الله بن أحمد باسودان ، قال في ترجمته : (ولزم بيته آخر عمره ، مع شغل الوقت بنوافل الطّاعات ، وقراءة الكتب النّافعة من الحديث والفقه ، والتّفسير والرّقائق ، قرأت عليه أمّهات الكتب ؛ ك «الإحياء» و «الرّسالة» و «العوارف» وغيرها ولازمته إلى أن توفّي) اه

له ذكر كثير في «عقد» سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر.

ومرجع آل باقيس في النّسب إلى كندة ، كما في «المواهب والمنن» للسّيّد علويّ بن أحمد في ترجمة جدّه الحسن ، ومنها : أنّ الشّيخ فارس بن محمّد باقيس والشّيخ محمّد بن عبد الله باقيس من تلاميذ الحسن بن القطب الحدّاد.

الجبيل

بلدة صغيرة يروى أنّ المهاجر أحمد بن عيسى أوّل ما نزل بها ، وأنّه مات له ولد صغير فيها ، فدفن في أعلاها ، وبذلك كان يجزم الحبيب أحمد بن محمّد المحضار ، ولمّا لم يطب له بها المقام لكثرة إباضيّتها إذ ذاك .. نقل منها إلى الهجرين.

وفي «شمس الظّهيرة» [١ / ٢٤٨] : أنّ بها جماعة من أعقاب السّيّد عقيل بن عبد الرّحمن العطّاس أخي السّيّد عمر بن عبد الرحمن العطّاس ، وبها يسكن جماعة من آل باقيس ، منهم : حسين بن محمّد وأولاده : سالم وعبد الله وأحمد ومحمّد ، وإخوانه : عليّ وأبو بكر ابنا محمّد باقيس.

لهم محاسن ومبرّات وأخلاق فاضلة ، وفي رحلتي الأخيرة إلى دوعن ـ سنة (١٣٦٠ ه‍) بتّ عند الأخير على أحسن حال ، وحضر معي السّيّد حسين بن حامد وأحمد بن حسين آل العطّاس ، وكانت من أسعد الليالي .. أعاد الله أمثالها في خير.

٣٣٦

ومنهم : ابن عمّهم وهو الشيخ محمّد بن عبد الله باقيس ، يسكن الآن برابغ ، وله بها تجارة ، وهو لا يقصّر في إيواء النّزيل وكسب الجميل.

بضه

هي من كبريات بلاد دوعن وقداماها.

قال العلّامة السّيّد أحمد بن حسن العطّاس : (إنّها مأخوذة من بضيض الماء ، يقال : بضّ الماء ، إذا نزل قليلا قليلا. وعلى مقربة من حصن المنصب بها عين ماء قليل ، لعلّها سمّيت بذلك من أجله) اه

وهي مقرّ مناصب آل مطهّر آل العموديّ ، وحال الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ أشهر من أن يعرّف به ، وقد توفّي سنة (٦٧١ ه‍) ، وخلفه على منصبه ولده محمّد بن سعيد. ثمّ لم يزل منصبه يتوارث بين أولاده حتّى تحوّل بسعة الجاه وكثرة الأتباع ونفوذ الدّعوة إلى سلطنة ، ثمّ اختلفوا وانقسموا ، فكان لآل محمد بن سعيد بن عبد الله العموديّ قيدون وما نزل منها إلى الهجرين ، ولآل مطهّر بضه وما حاذاها وما ارتفع عنها.

وفيهم عدّة رؤساء ، منهم : آل صالح بن عبد الله (١) في بضه ، وكانت رئاستهم للشّيخ الجليل عبد الله بن صالح بعد أبيه ، وقد لاقيته مرارا ، ورأيت له من محاسن الأخلاق ولطف الشّمائل ما تقرّ به العين.

له خلق سهل ونفس طباعها

ليان ولكن عزمه من صفا صلد (٢)

__________________

(١) توفّي الشّيخ صالح بن عبد الله هذا بعيد سنة (١٣٤٠ ه‍) ، وتوفّي والده المنصب السّابق سنة (١٣٠٥ ه‍) ، وقد خلفه في مقامه منذ ذلك التّاريخ ، ترجم له الحبيب سالم بن حفيظ في «منحة الإله» ، وعدّه من شيوخه ، رقم (٥٤).

(٢) البيت من الطّويل ، وهو لأبي تمّام في «ديوانه» (١ / ٢٧٠). صفا : حجارة. صلد : صمّاء. وفي «الدّيوان» (عرضه) بدل (عزمه).

٣٣٧

توفّي سنة (١٣٦٤ ه‍) عن عمر ينيف على الثّمانين ، قضاه في إكرام الضّيوف ، وغوث الملهوف ، ورقع الخروق ، ورتق الفتوق.

وخلفه ولده النّبيل حسين ، فانتهج ذلك السّبيل ، وتحمّل عبء والده الثّقيل ، حتّى يصحّ أن نقول في التّمثيل :

ففي الحسين لهم من بعده خلف

ما مثله خلف في النّاس منتخب (١)

باق به لبني الأشياخ أسرته

حمد الفعال وفضل العزّ والحسب

يرعى المكارم منه وارث شرفا

بتاج والده في النّاس معتصب

وفي بضه مثرى (٢) آل العموديّ ، ولمّا سألتهم عن عددهم بها .. أجابوا بأنّهم لا يقلّون عن خمس مئة رام ، يحملون الموازر الألمانيّة ، لم يفرّطوا فيها ، بخلاف آل حضرموت ؛ فقد باعوا في أيّام المجاعة ما اشتروه بالألف الرّوبيّة منها بأقلّ من المئة ، أقرّ الله عيون العروبة باجتماعهم واتّحادهم.

ولقد أعجبني ما عليه أكثرهم من الوسام وبسطة الأجسام ، حتّى قلت أصف الشّيخ عبد الله بن صالح وإيّاهم في رحلتي الّتي نظمتها في سنة (١٣٦٠ ه‍) [من الطّويل] :

وذكّرني في قومه العرب الألى

وساما وأجساما وبوعا وأذرعا

ومن مناصبهم أو سلاطينهم في القرن التّاسع : الشّيخ عبد الله بن عثمان بن سعيد العموديّ ؛ فلقد استولى سنة (٨٣٧ ه‍) على الوادي الأيمن كلّه (٣).

ومنهم في القرن العاشر : الشّيخ عثمان بن أحمد العموديّ (٤) ، ممدوح الشّيخ عمر بامخرمة ، بمثل قوله :

يا عوض قل لمن كفّه غياث المساكين

قل لعثمان وافي الذّرع شمس البراهين

__________________

(١) الأبيات من البسيط.

(٢) مثرى : مكان كثرة.

(٣) ثمّ استعاده منهم آل فارس في السّنة الّتي تليها.

(٤) ترجم له باوزير في «الصّفحات» (١٤٩ ـ ١٦٠).

٣٣٨

والّذي في جبينه سرّ طه ويس

زادك الله على مرّ الجديدين تمكين

اذكر العهد يا ابن احمد وحصّنه تحصين

والشّيخ عثمان هذا هو الّذي تلقّى الشّيخ معروف باجمال بالصّدر الرّحب لمّا هرب من شبام في سنة (٩٤٩ ه‍) ، وآواه على أحسن تأهيل إلى أن مات.

ولآل العموديّ أخبار طويلة مع بدر بوطويرق ونهد وغيرهم من قبائل حضرموت ، يوجد منها ب «الأصل» ما يكفي للتّعريف.

وعن الحبيب أحمد بن حسن العطّاس : (أنّه كان بدوعن جماعات من الأمراء ، كلّ ينفرد بناحيته : فباقتادة بالقرين ، وباعبد الله برحاب ، وابن حمير (١) بصيف ، وباعويدين كان متولّيا على الأغلب من الوادي الأيسر ، وكانت القويرة ونواحيها للكثيريّ ، وليس للعموديّ إلّا الرّباط وبضه والجزع والعرسمة وقيدون) اه

وفي سنة (٩٤٩ ه‍) نزل الشّيخ عبد الله بن أحمد العموديّ على فوّة ومعه سيبان وباهبري ، وأقاموا ثلاثة أيّام ، وأتلفوا أكثر من مئة عود من النّخل ، ثمّ صالحهم أهل فوّة على مال دفعوه لهم ، فانصرفوا إلى دوعن بعد أن ملؤوا قلوب أهل الشّحر والغيل خوفا ، وهذا من الأدلّة على عدم وجود المكلّا شيئا يستحقّ الذّكر إذ ذاك.

ومنهم صاحب «المرعى الأخضر» وهو أجوبة من العلّامة الجليل السّيّد محمّد بن عبد الرّحمن بن محمّد البكريّ الصّدّيقيّ ، ومن تلاميذه : العلّامة الشّهير أحمد بن حجر الهيتميّ.

وفي ذكر السّيّد الجليل عيسى بن محمّد بن أحمد الحبشيّ المتوفى في محرّم سنة (١١٢٥ ه‍) من «عقد شيخنا الأبرّ» يقول : (وانتفع به وأخذ عنه كثير من الأعيان ؛ منهم : السّيّد الإمام أحمد بن زين الحبشيّ ، والشّيخ الكبير عمر بن عبد القادر العموديّ ، أشار على والده أن يتركه لله تعالى ، وأن يعذره من كدّ الخلاء وتعب

__________________

(١) هو بلحمار ، أو بلحمير كما ينطقه العامّة ، الّذي ذكره المصنّف قريبا باسم (بالحمان) ، وهذا التّصويب مأخوذ من «الشّامل».

٣٣٩

الحراثة .. فقبل الشّيخ عبد القادر رأيه ، ثمّ إنّ ابنه عمر سلك وجاهد وصحب بعد ذلك سيّدنا قطب الإرشاد عبد الله الحدّاد ، وكان من أمره ما كان) اه

ومنهم الشّيخ عبد الرّحمن بن عمر العموديّ أحد تلاميذ ابن حجر ، وهو صاحب «حسن النّجوى فيما وقع لأهل اليمن من الفتوى».

ومنهم الشّيخ عبد الله بن محمّد العموديّ ، قال في «المواهب والمنن» : إنّه كثيرا ما يقول : (الهمّة والعزم يأتيان برسل التّوفيق خير من كثير من العقل) ، وهي حكمة عالية ما كنت أحسبها إلّا لبعض الفلاسفة أو لأحد رجال «الرّسالة القشيريّة» .. حتّى رأيت هذا ولم آمن معه أن يكون العموديّ متمثّلا لا منشئا.

وفي (١١) محرّم من سنة (٩٦٥ ه‍) توفّي الشّيخ الكبير أحمد بن عثمان بن أحمد بن محمّد بن عمر بن عثمان العموديّ (١) ، المترجم له أصلا ولأبيه ضمنا في «النّور السّافر» [٣٥٢].

وفي ترجمته منه يقول : (وبنو العموديّ أهل صلاح وولاية ، اشتهر منهم جماعة بالعلوم الظّاهرة ومقامات الولاية الفاخرة ، ويقال : إنّ نسبهم يرجع إلى أبي بكر الصّديق رضي الله عنه) اه

وقد أطلت القول عن ذلك ب «الأصل».

وترجم في «النّور السّافر» أيضا للشّيخ عبد الرّحمن بن عمر بن أحمد بن محمّد باعثمان ، المتوفّى سنة (٩٦٧ ه‍).

ومن غرائب الصّدف : أنّ بدر بوطويرق جهّز على العموديّ بجيش يرأسه يوسف التّركيّ ، فهزمهم العموديّ وأخذ مدفعا معهم كانوا يطلقونه على عسكره ، وورد به إلى صيف في سنة (٩٥٥ ه‍) (٢).

وفي حدود سنة (١٢٨٦ ه‍) استولى النّقيب الكساديّ على أكثر بلاد دوعن ،

__________________

(١) في المطبوع من «النور السافر» (ص ٣٥٠) في حوادث سنة (٩٦٥ ه‍) : أحمد بن عثمان بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن عثمان بن عمر ... العمودي.

(٢) من أراد المزيد من أخبار الشّيخ عثمان .. فليراجع «صفحات باوزير» (١٥٤).

٣٤٠