إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

وقول البحتريّ [في «ديوانه» ٢ / ٣٣٩ من الطّويل] :

تغطرس جود لم يملّكه وقفة

فيختار فيها للصّنيعة موضعا

وقوله [في «ديوانه» ١ / ٦٣ من الطّويل] :

إلى مسرف في الجود لو أنّ حاتما

لديه .. لأمسى حاتم وهو عاذله

وقول أبي الطّيّب [في «العكبريّ» ١ / ١٢٩ من الكامل] :

ودعوه من فرط السّماح مبذّرا

ودعوه من غصب النّفوس الغاصبا

وفي أيّامه كانت حادثة الحموم في (٢٧) ربيع الثّاني من سنة (١٣٣٧ ه‍) ، وحاصلها : أنّهم كانوا يخيفون السّابلة ، والحكومة القعيطيّة تتوقّى شرّهم وتدفع لهم مواساة سنويّة يعتادونها من أيّام آل بريك.

وفي ذلك العهد انعقد الصّلح بين الحموم والحكومة القعيطيّة بدراهم بذلتها لهم الحكومة ـ لا يستهان بها ـ على العادة الجارية بينهم في ذلك ، فبينا هم غارّون (١) .. هاجمتهم سيبان ، وكان لها عندهم ثار ، فقتلت منهم عددا ليس بالقليل ، فاتّهموا الحكومة بمساعدتهم ، وظفروا بجماعة من يافع فقتلوهم ، فما زال ناصر أحمد بريك أمير الشّحر يومئذ يداريهم ويستميلهم ، ويظهر لهم أنّ قتلهم ليافع لم يثر حفاظه .. حتّى اجتمع منهم بالشّحر نحو من أربع مئة ، وكانوا يعتدّون بأنفسهم وبهيبة الحكومة لهم .. فلم يبالوا بالدّخول من دون تجديد للصّلح الّذي وقع فيه ما وقع فألقى عليهم القبض أجمعين ، وقتل سبعة وعشرين من رؤسائهم ، ودفنهم في قبر واحد من غير غسل ولا صلاة ولا تكفين ؛ منهم : سالم بن عليّ بن مجنّح ، الملقّب (حبريش) ، وحيمد بن عمرو بالفرج الغرابيّ ، ومرضوح بن عوض اليمنيّ ، وغيرهم. وأظهروا من الثّبات ساعة القتل ما أبقى لهم جميل الأحدوثة.

ومات في حبس القعيطيّ منهم مئة وسبعة ، وأطلق بعد ذلك سراح الباقين ، ولكن بعد ما وهن جانبهم ، ونخرت عيدانهم ، إلّا أنّ عليّ بن حبريش لم يزل يجمع

__________________

(١) غارّون : غافلون.

١٨١

جراميزه (١) لأخذ الثّأر ، ودار على حصون آل كثير فلم يجد عندهم منفعة ، وإلّا .. فقد كانت بينهم وبين بعضهم أحلاف.

وبعد أن مضى لهذه الحادثة سبع سنين .. هجم على الدّيس فنهبها واستباحها ، وقتل جماعة من عسكر القعيطيّ ، وأسر ثمانية عشر منهم ، ولم يقتل من أصحابه إلّا أربعة فقط ، وطفق يتجاذب الحبال مع الدّولة القعيطيّة حتّى استعانوا عليه بالطّائرات الإنكليزيّة ، فأضرّت بمكانه الواقع على مقربة من غيل ابن يمين ، ولم يخضع مع ذلك.

وفي نحو سنة (١٣٥٨ ه‍) : كمن ولده في جماعة من الحموم بالمكان المسمّى حرو (٢) ، فجاءتهم ثلّة من العساكر القعيطيّة في سيّارات ، يتقدّمهم يافعيّ شجاع ، يقال له : محمّد محسن السعديّ ، فتبادلوا الرّصاص ، لكن كانت يافع أثبت وأنفذ سلاحا ، فاستأصلوهم قتلا ، فانكسف بال عليّ بن حبريش ، واستولى عليه الفراش ، ومات غبنا.

وكان أهل الشّحر يلاقون عناء من قلّة الماء ، فأجراه إليهم السّلطان غالب من تبالة ، فاستراحوا بذلك.

وفي أيّامه (٣) انعقدت بينه وبين سلاطين آل كثير صاحب سيئون وصاحب تريم (٤) المعاهدة المشهورة (٥) ذات الإحدى عشرة مادّة ، المحرّرة (٢٧) شعبان سنة (١٣٣٦ ه‍) وقد اعترفوا في المادّة الأولى منها بانسحاب حكم الحماية الإنكليزيّة عليهم (٦).

__________________

(١) الجراميز : الأيدي والأرجل.

(٢) حرو : موضعان بحضرموت ، الأول : غربيّ بروم ضمن مديرية المكلا في الساحل. والثاني : قرية قرب ساه بوادي عدم ، في الداخل.

(٣) أي : في سنة (١٣٣٦ ه‍).

(٤) وهما السّلطانان : منصور ومحسن ابنا السّلطان غالب بن الحسن الكثيريّ ، سيأتي ذكرهما وطرف من أخبارهما في سيئون.

(٥) المعروفة بمعاهدة عدن لانعقادها فيها.

(٦) والمادّة الأولى نصّها كالآتي : (يرتضي السّلطان القعيطيّ مولى الشّحر والمكلّا ، وسلاطين آل عبد الله

١٨٢

ولقد بذلت جهدي في تحذير السّلاطين الكثيريّين ونصحهم عن الموافقة عليها ، وذكرت لهم ما في ذلك من الوزر والخسر بما هو مبسوط في «الأصل» ، ولكنّ السّيّد حسين بن حامد المحضار ألحّ في ذلك بسعي شديد ، وجهد جهيد ، وساعده ناس من أهل الثّروة .. فتمّ له ما أراد ، ومعروف ومشهور ما لي في ذلك من المنظوم والمنثور.

وكانت بيني وبين السّلطان غالب هذا مودّة لو لا مكايدة السّيّد حسين بن حامد لها .. لكانت قويّة ، وبيني وبينه مكاتبات ممتعة ذكرت بعضها في «الأصل» (١) ، ولي عليه عهود موثّقة بالنّصر على كلّ من عاداني ، وبالإعفاء من الرّسوم عن ستّين طردا في كلّ عام ، وبمرتّب سنويّ زهيد ، ومع ذلك .. فقد كان وزيره المرحوم السّيّد حسين بن حامد المحضار يراوغني فيها ، ويمانع العمل بها.

ولمّا توفّي .. أرسلتها إلى عند ولده السّيّد أبي بكر بن حسين أطالبه بإجرائها وتنفيذ ما فيها ، فلم يردّها إليّ رأسا ، وظنّها النّسخة الوحيدة ، ولكن كانت عندي صورتها بإمضاء السّلطان غالب والسّيّد حسين ، وشهادة السّيّد محمّد بن عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار ، والأمير عليّ بن صلاح ، وطالما ذكّرت بها العلّامة السّلطان صالح بن غالب ، فقلت له أمام الملأ : أهذه المعاهدات صحيحة معمول بها ، أم

__________________

آل كثير : أن يكون إقليم حضرموت إقليما واحدا ، وأنّ الإقليم المذكور هو من تعلّقات الدّولة البريطانيّة تابعا لسلطان الشّحر والمكلّا). عن «ترجمة السّيّد الزّعيم» (١٠٢).

لقد كانت تلك المعاهدة أوّل إنجاز رسميّ لم يقع مثله طيلة مدّة الحكم القعيطيّ والكثيريّ ، أمّا الحكومة الكثيريّة .. فقد غبنت بسبب هذه المعاهدة غبنا ظاهرا فادحا ؛ فقد اعترفت للقعيطيّ بحضرموت كلّها عدا رقعة صغيرة من الأرض هي سيئون ونواحيها إلى الحزم غربا ، وشرقا إلى تريم فقط ، مع أنّها تمتلك من المال والرّجال ما يفوق دخل الواحد منهم ميزانيّة القعيطيّ عشرات المرّات كآل الكاف وأضرابهم .. «السّيّد الزّعيم» (١٠٦) وما بعدها.

(١) ذكر في «الأصل» رسالة طويلة وجّهها هو إلى السّلطان في (١٥) جمادى الأولى سنة (١٣٣٧ ه‍) : (٢ / ٢٧٧ ـ ٢٧٩) ، قال في ديباجتها : (.. كتابي إليك والشّوق يزيد ، والودّ أكيد ، وبيننا وبينكم أحلاف قديم وجديد ، ونودّ الوصول ولكن خفنا أنّه ما يفيد ، وذكركم يدور ، وخيالكم يزور ، وجيلكم مذكور ، والله يحفظكم من الغرور ..) إلخ.

١٨٣

تعتبر لاغية؟! فأجاب بصحّتها والتزام تنفيذها ، وكان ذلك بمرأى ومسمع من وزيره المكرّم الفاضل سيف بن عليّ آل بو عليّ.

وقد تقدّمت إلى السّلطان صالح في سنة (١٣٥٥ ه‍) بقصيدة [كما في «الدّيوان» ق / ١٦٧ ـ ١٦٩ من الطّويل] تزيد عن مئة وعشرين بيتا لم تعد فيها قافية ، وأنشدتها له مرّات ، أولاها بالمكلّا عامئذ ، والثّانية بحورة في سنة (١٣٦٠ ه‍) ، والثّالثة بمنزلي في سنة (١٣٦٥ ه‍). منها :

وبين يدينا شرعة لا تزيدها

تجاريب ذي عقل ولا عقد مؤتمر

هي القدّة المثلى العليّ منارها

أتتنا بها غرّ الأحاديث والسّور (١)

وحسبك بالإفرنج فالخطّة الّتي

بها المشي فيما يحكمون به استمر

مدوّنة في الأصل من قول مالك

وسائل تجدها في التّواريخ والسّير

ولكنّ أهل العلم والدّين داهنوا

وباعوا حقوق الله بالماء والشّجر

فلن تلق منهم من نهى عن قبيحة

ولا من بمعروف على مكره أمر

إذا انتهك الإسلام أغضى زعيمهم

وإن أخذت شاة له اهتاج واستعر (٢)

فما شأنهم إلّا التّصنّع والرّيا

وأعجب ما تلقى النّفاق لدى مضر

نفاق وأخلاق دقاق وذلّة

بها شوّه الإدبار أيّامنا الأخر

تولّى الوفا والصّدق فاندكّ مجدهم

وراحت عليهم كلّ مكرمة هدر

يقولون ما لا يعملون تصنّعا

سواسية من قال شعرا ومن نثر

وقد كانت الآباء من قنّة العلا

بشأو حثى في وجه كلّ من افتخر (٣)

تزلّ الوعول العصم عن قذفاتهم

وكم من عقاب في مراقيهم انكسر (٤)

مضوا شهداء الحقّ في نصرة الهدى

وما برحوا في هجرة وعلى سفر

__________________

(١) القدّة : الطّريقة.

(٢) استعر : هاج واشتد غضبه.

(٣) القنّة : أعلى الجبل. شاو : تسهيل شأو ، وهو : السّبق.

(٤) العقاب : بضم العين الطائر المعروف يضرب به المثل في العلو في الطيران ، والمعنى : أن العقاب ينكسر جناحه ولا يبلغ علوّ مجدهم.

١٨٤

ومن آل قحطان رجال على الوفا

مضوا بسلام ذكرهم طاب واشتهر

إذا عاهدوا وفّوا العهود وإن دعوا

أجابوا ولو كان الظّلام قد اعتكر

كرام يهابون الملام ، ولذعة ال

كلام لهم أشوى من الصّارم الذّكر (١)

وجاءت خلوف سخنة العين بعدهم

مشائيم قد ضمّوا إلى العجر البجر (٢)

مذاميم تطويل الإزار من العلا

لديهم ، وتصفيف الملابس والطّرر

إذا عقدوا عقدا وقالوا مقالة

فلا عقدهم يرجى ولا القول يعتبر

فآه من الشّؤم الّذي مسّنا بهم!!

وآه على عقد الكرام الّذي انتثر!!

ولمّا نصرت الحقّ بين بني أبي

رأوا أنّه الذّنب الّذي ليس يغتفر

فدانوا ببغضي واستهانوا بحرمتي

وكم قصدوني بالأذايا وبالضّرر

وكم حطّ من قدري حسود فلم ينل

علاي لأنّي صنت نفسي عن القذر

فإن جاء عنّي فاسق بنميمة

وألصق بي عيبا وأرجف وافتجر

فقولوا له : قابل ، فذا هوّ حاضر

وغبّ التّلاقي يعرف الصّفو والكدر

يعيبونني غيبا وأعلن ذمّهم

وليس سواء من أسرّ ومن جهر

نناشدك الإسلام والحرمة الّتي

نؤمّل فيها أن نلوذ إلى وزر

ولي بخصوصي في الذّمام وثائق

أبوك بها ـ حيّاه مولاه ـ قد أقرّ

وأمضى بمرأى من رجال ومسمع

عليها وعندي خطّه الآن مستطر

وأكّد إحداهنّ توقيعكم بها

وشاع لدى أهل المدائن والوبر

فما بيّ من هضم يمسّ بمجدكم

وأنت الحميّ الأنف والأمر قد ظهر

أترضى على هذا بواش يقول لي :

كلام القعيطيّ الّذي قاله قصر؟!

وكان الاقتصار أحقّ بالاختصار ، لكن أخذ الكلام برقاب بعضه ، واقتضاه سوق الحفيظة ، والاستنجاز في هذا المعرض المناسب.

__________________

(١) اللّذعة : الحرقة بالنار. والمعنى : أنّ الكلام عليهم أشد عليهم وأخوف عندهم من السّيف البتّار.

(٢) العجر : العروق المتعقّدة في الظّهر. البجر : العروق المتعقّدة في البطن. والمقصود : أنّهم ضمّوا عيبا إلى عيب.

١٨٥

وقد توفّي السّلطان غالب بن عوض في سنة (١٣٤٠ ه‍) ودفن بجانب أبيه بمقبرة أكبر شاه بحيدرآباد الدّكن.

وقد رثيته عن وجدان صحيح وودّ صادق ، بقصيدة توجد بمكانها من «الدّيوان» (١)

ورثاه شيخنا العلّامة ابن شهاب بأبيات ، منها :

جاء تاريخ موته

عظّم الله أجركم

وما سمعنا بسلطان بكته رعاياه بدموع حارّة (٢) ، وأحزان متواصلة .. مثله ، ولا جرم ؛ فقد قال أبو الطّيّب [في «العكبريّ» ١ / ٤٩ من الطّويل] :

ومن سرّ أهل الأرض ثمّ بكى أسى

بكى بعيون سرّها وقلوب (٣)

__________________

(١) لمّا نعي السّلطان غالب .. كان المصنّف خارج حضرموت في الحديدة ، فكان لموته أثر بالغ عليه ، فرثاه بقصيدة تقرب من الخمسين بيتا ، قال في مطلعها :

فيما يكنّ الغيب طيّ ضميره

برهان عجز العبد عن تدبيره

سرّ تطاولت النّفوس له فما

بلّت صداها قطرة من بيره

ومنها :

أفليس في الماضين تعزية لنا

ولقطرنا إذ جاء نعي أميره

هيهات ما عن غالب من سلوة

في نقطة لم تكتمل بنظيره

يبكيه ساحل (حضرموت) بعبرة

تجري بخدّ صغيره وكبيره

شمل المصاب جماده ونباته

وشجى قلوب غنيّه وفقيره

إلّا الخزينة لم يسؤها فقده

لسخائه المفضي إلى تبذيره

ومنها :

عظة يذوب لها الجماد وعبرة

تغني غليظ القلب من تذكيره

إنّا ليوحشنا خلوّ مكانه

منه فيسعدنا الجوى بزفيره

إلى آخرها.

(٢) قيّد الدّموع هنا بكونها حارّة لكونها علامة الحزن ، أمّا الدّموع القارّة ـ الباردة ـ فهي أمارة الفرح والسّرور ومن ذلك قولهم : فلان قرير العين.

(٣) المعنى : من أدخل السّرور على جميع النّاس ، ثمّ بكى لحزن أصابه .. ساء حزنه النّاس الذين سرّهم ، فكأنّه بكى بعيونهم ، وحزن بقلوبهم ؛ لما يصيبهم من الأسى والجزع.

١٨٦

وقال يزيد المهلّبيّ [من البسيط] :

أشركتمونا جميعا في سروركم

فلهونا إذ حزنتم غير إنصاف

وخلفه أخوه السّلطان عمر بن عوض ، وكان ثقة ، حازما ، صادقا ، شجاعا ، غيورا ، وله وفادات مكرّرة إلى مكّة المعظّمة والمدينة المشرّفة ، يتواتر عنه فيها ما يدلّ على صحّة الإيمان وقوّة الدّين ، ولئن اتّهم بتقصير في العبادة ، وانحراف في السّيرة .. فالنّدم أمارة صدق التّوبة.

وبقي على وزارته السّيّد حسين بن حامد المحضار ، إلّا أنّه لم يكن في أيّامه وافر الحرمة نافذ الكلمة واسع الجاه ، كما كان في أيّام السّلطان غالب الّذي لا يعترضه في أيّ أمر كان ، بل يفوّض إليه الأمور تفويضا أعمى.

أمّا السّلطان عمر .. فقد أسمعه ما يكره ، حتّى لقد أخبرني السّيّد محمّد بن عبد الله بن هادون بن أحمد المحضار : أنّ السّيّد حسين بن حامد قال لولده أبي بكر وهو على فراش الموت : (إنّني قتيل عمر بن عوض).

ولمّا مات السّيّد حسين في آخر سنة (١٣٤٥ ه‍) .. أبقى السّلطان عمر ولده أبا بكر ، ثمّ عزله ، ولم يثرّب عليه (١) ، ولم يؤذه في حال ولا مال.

واستوزر بعده المكرّم سالم بن أحمد القعيطيّ ، وجعله موضع ثقته وأمانته.

توفّي السّلطان عمر بن عوض أواخر سنة (١٣٥٤ ه‍) بحيدرآباد الدّكن ، وخلفه العلّامة الجليل السّلطان صالح بن غالب ، وكان غزير المادّة في العلم ، كما تشهد له بذلك مؤلّفاته المنقطعة النّظير ، وقد سبق في المكلّا شغفه بالعلم ، وإنفاقه على المدارس ما يوازي ربع حاصلات البلاد بالتّقريب (٢).

__________________

(١) لم يثرّب عليه : لم يكثر العتاب واللوم عليه.

(٢) من مؤلّفات السّلطان صالح :

١ ـ «مصادر الأحكام الشرعيّة» ، على طريقة أحاديث الأحكام ، مطبوع في (٣) أجزاء ، قال المصنف عنه في «بضائع التابوت» : (منها كتاب في الفقه على طريق الاجتهاد ، أطلعني على حصّة منه في العبادات ، يذكر أدلّة الأحكام ثمّ يختار ما ينصّ عليه أقواها بحسب فهمه ، فأعجبني وآنقني

١٨٧

وقد تجدّدت بينه وبين الحكومة البريطانيّة معاهدة في الأخير ـ لعلّها في سنة (١٣٥٨ ه‍) (١) ـ قبل فيها أن يكون له مستشار إنكليزيّ ، وعذره فيما يظهر : أنّ بعض آل حضرموت أكثروا الزّراية على وزارته ، وتمضّغوها في الجرائد بحقّ وبغير حقّ ، وأغدقوا العرائض في ذلك على دار الاعتماد بعدن (٢) ، وعند ما أحسّ بالإصغاء إليها مع تردّد رجال الحكومة الإنكليزيّة إلى حضرموت ونزولهم على الرّحب والسّعة بأكثر ممّا يوافق هواهم ، ويملأ رضاهم ، ويوطّىء لهم المناكب ، ويفتح لهم الأبواب .. لم يسعه ـ مع ما عرفه من الأحابيل المنصوبة له ولولده من بعده ، مع حرصه على توثيق الأمر له ـ إلّا أن يقول بلسان حاله : (إذا سعيتم في موالاة الحكومة الإنكليزيّة

__________________

وكان عرضة ذلك نفاسة وتحقيقا وعذوبة عبارة) اه.

٢ ـ «الآيات البيّنات على وجود خالق الكائنات» ، مطبوع أيضا ، قال عنه في «بضائع التابوت» : (وقد أطلعني عليه فألقيت فيه نظرة عجلى ؛ إذ كنت على وفاز ـ عجلة ـ فإذا به كتاب جليل القدر ، يصف نفسه بنفسه ، ويكلّ لسان الثّناء عن استقصاء وصفه ، ولو لم يكن له إلّا سواه .. لأبقى له الشّرف الخالد ، والمجد التّالد ؛ إذ العلم أشرف من الملك) اه.

وممّا لم يطّلع عليه من مؤلّفاته الأخرى :

٣ ـ «الرّحلة السّلطانيّة إلى دوعن» ، وفيها من عجائب الأفكار ، وبدائع النّقول عن الكون والإعجاز والاختراعات الحديثة ما يدهش المطالع ، توجد منها نسخة بمكتبة الأحقاف بتريم مزودة بالصّور الفوتوغرافية الملوّنة ، وطبعها بعض الناس من أهل المكلا في سنغافورة في حياة السلطان ، بدون الصور.

٤ ـ مبحث في التّعبّد بخبر الآحاد. رسالة لطيفة ، أوجب فيها التّعبّد بخبر الآحاد .. ولعلّه أبعد النّجعة فيه.

٥ ـ تفسير لكلمات القرآن بالأردو ، لم يطبع ، وغيرها.

(١) كانت معاهدة الاستشارة بالتّحديد في (١٣) أغسطس (١٩٣٧ م) ، الموافق لعام (١٣٥٦ ه‍).

(٢) يقول الشيخ عبد الله الناخبي : إنّ هذه العرائض ـ الّتي أشار إليها المصنّف رحمه الله ـ إنّما استكتبها (انجرامس) ، ذلك السّياسيّ الدّاهية قبل أن يأتي إلى المكلّا مستشارا مقيما ؛ إذ إنّه كان يتردّد على حضرموت كسائح ، وقدمها نحوا من (٣) مرّات ، جاب خلالها البلاد ، وسبر أخلاق العباد ، وكان يجس نبض زعماء قبائل حضرموت وقادتها حول السّلاطين القعيطيين وربما استثار أحقادهم عليهم ، واستكتبهم عن السّلطان صالح ، وسجّل شهاداتهم تلك في وثائق سرّيّة أخذها معه وسلّمها إلى والي عدن الحاكم البريطانيّ ، وكلّما استجدّ شيء .. بعث به إليه ، وكانت هذه العرائض من وسائل الضّغط على السّلطان في قبول المستشار.

١٨٨

برجل .. طرت فيها بجناح) ، فكان ما كان ، إلّا أنّه تنازل لهم عن أكثر ممّا التزمه (١).

ولقد كان السّلطان الكثيريّ ـ مع نزول درجته عنه وصغر مملكته بتفاوت عظيم ـ لا يزال ينازعهم ، وقلّما يشتدّ في أمر إلّا وافقوه عليه ، فتراه يتحمّل مع اتّساع ملكه ما لا يتحمّله الكثيريّ ، والسّلطان صالح محبوب عند النّاس ، مفدّى بالأرواح من سائر الأجناس :

هو الملك الّذي جمعت عليه

على قدر محبّات العباد

تولّته القلوب وبايعته

بإخلاص النّصيحة والوداد (٢)

__________________

(١) الاستشارة البريطانيّة وأسبابها : كشف السّيّد العلّامة ، السّياسيّ المحنّك : حامد بن أبي بكر بن حسين المحضار في كتابه «حياة السّيّد الزّعيم» عن أسباب خفيّة قد لا يعلمها كثير من النّاس ، حول قبول السّلطان صالح للمستشار الإنكليزيّ ، وجعل أكبر الأسباب هو رغبة السّلطان صالح الجامحة في إقصاء ابن عمّه : محمّد ابن السّلطان عمر من السّلطة ، وخوفه من مجيئه إلى المكلّا بين الفينة والأخرى ، فلمّا طلب من حاكم عدن أن يلغي حقّ ابن عمه من السّلطة ـ مخالفا بذلك وصيّة جدّه عوض بن عمر ـ رحّب الحاكم بذلك ، لكن شرط عليه قبول الاستشارة .. فأجابه على مضض.

ويزيد على هذا ما تقدم نقله عن الشيخ الناخبي ، ولا منافاة ولا معارضة بين القولين لجواز وقوع كل منهما.

وأنقل هنا نصّ كلام السّيّد المحضار ؛ لما فيه من الفذلكة التّاريخيّة ، قال رحمه الله : (ولمّا توفّي السّلطان عمر .. تولّى السّلطان صالح ، ولم يواجه أيّ معارضة من أبناء عمّه ، ولكنّه جعل همّه الأوّل أن يحرم ابن عمّه الأمير محمّد بن عمر من ولاية العهد ؛ ليكون ابنه الأمير عوض بن صالح وليّا لعهد أبيه ، فنكث عهده ، وأخلف وعده ، ثمّ ساوم الإنكليز على قبولهم ابنه وليّ عهد للسّلطنة بعده ، واعترافهم به وإلغاء ولاية ابن عمّه الأمير محمّد بن عمر ، خلافا لمّا قرّره مؤسّس السّلطنة الأوّل ، وخلافا لما أجمع عليه هو وعمّه السّلطان عمر ووزيرهم المحضار ورجال دولتهم. ولم يوافق الإنكليز على ذلك إلّا بشرط أن يقبل السّلطان صالح مستشارا إنكليزيّا مقيما في عاصمة السّلطنة ، على أن يكون للمستشار البتّ في كلّ أمور السّلطنة ، وليس للسّلطان أن يتعاطى أمرا ولا نهيا إلّا بموافقة المستشار الإنكليزيّ ، على أن تصدر الأوامر والنّواهي باسم السّلطان صالح ، وقبل السّلطان صالح المستشار الّذي أصبح هو المتصرّف المطلق في أمور السّلطنة القعيطية ، وبذلك دفع السّلطان صالح ثمن حرمان ابن عمّه من ولاية العهد لينصّب ولده وليا للعهد ثمنا عاليا غاليا جدّا ، هو في نظرنا أعلى وأغلى من ولاية السّلطان صالح نفسه ، فضلا عن ولاية ابنه لولاية العهد ، ولقد تمّ كلّ ذلك رغم كلّ العهود والوعود والشّهود ، واليوم الموعود ، وكانت عاقبة أمره خسرا) اه «السّيّد الزّعيم» (٨٥).

(٢) البيتان من الوافر ، وهما للبحتري في «ديوانه» (١ / ١١٩).

١٨٩

وهو كآبائه ، محبّ بنفسه للعدل ، بعيد من الظّلم ، إلّا أنّه يرخي الأعنّة للحكّام وللعمّال. وبما عرفوا من انبنائه على العفو الواسع ، والحلم الشّامل .. أخذوا يتبسّطون في المظالم ، ونخاف أن يخلقوا له بأعمالهم الّتي هو منها براء بغضا في القلوب من دون جناية فعلية ، ولا نجاة من ذلك الخطر إلّا بأن يأخذ هو ووزيره بسيرة ابن الخطّاب في مراقبتهم وبثّ الأرصاد عليهم ، حتّى إنّه ليصبح وكأنّما بات مع كلّ واحد في فراشه ، تأتيه أخبارهم بدون غشّ في كلّ ممسى ومصبح ، ويقول : (لو ضاعت ناقة بشاطىء الفرات .. لكان المسؤول عنها آل الخطّاب) وما يعني إلا نفسه ، ويقول : (لو عثرت دابّة كانت التّبيعة عليّ) ، قيل له : (ولم) .. قال : (لأنّ من واجبي تعبيد الطّرقات) أو ما يقرب من هذا.

وتلك هي سيرة أزدشير بن بابك (١) ، وقد تقيّلها (٢) معاوية بن أبي سفيان ، وزياد بن أبيه (٣) ، فانتظمت الأمور ، واندفعت الشّرور ، وانعدم الجور ، وإنّني لأتمنّى أن يتسمّتها هذا السّلطان ووزيره ؛ لتثلج الصّدور ، وتبرد الخواطر ، وتبقى على انعقادها بمحبّتهم القلوب ؛ إذ لا أنصر للسّلطان من أفئدة تمتلىء بودّه ، وألسنة تهتف بشكره ، وفّقنا الله وإيّاهم لما فيه خير الإسلام والمسلمين.

ولقد كانت الحكومة القعيطيّة في أيّام السّيّد حسين بن حامد أحبّ من جهة إلى النّاس منها اليوم ، لا لأمن ينبسط ، ولا لعدل ينتشر ، ولا لخير يعمّ ، ولا لشرّ يندفع ، ولا لعطاء يرجى ، ولا لسيوف تخشى ، ولكن لخصلة واحدة ، وهي : جبر القلوب ، وأخذ الخواطر ، وحلاوة اللّسان ، والمقابلة بالتّرحيب والمعانقة ، وإن

__________________

(١) هو أحد ملوك الفرس ، عرف بالحكمة ، عاش في القرن الخامس قبل الميلاد. «دائرة المعارف» (١ / ١٦١).

(٢) تقيّل فلان أباه : نزع إليه في الشّبه ، والمقصود هنا : سار على نهجه شبرا بشبر ، وذراعا بذراع.

(٣) وممّا يروى في هذا أنّ رجلا كلّم زيادا في حاجة وجعل يتعرّف إليه ويظنّ أنّ زيادا لا يعرفه ، فقال : أنا فلان بن فلان ، فتبسّم زياد وقال له : أتتعرف إليّ وأنا أعرف بك منك بنفسك؟!! والله إنّي لأعرفك وأعرف أباك وأعرف أمّك وأعرف جدّك وجدّتك ، وأعرف هذه البردة الّتي عليك ، وهي لفلان ، وقد أعارك إيّاها. فبهت الرّجل وارتعد حتّى كاد يغشى عليه.

١٩٠

زاد على ذلك شيئا .. فما هو إلّا كرم الضّيافة ، حسبما قلت له في القصيدة الآتي خبرها في أحوال سيئون السّياسيّة (١) [من البسيط] :

ملكت قسرا قلوب النّاس قاطبة

بخفّة الرّوح والأخلاق والحيل

وبالكلام الّذي نيط القبول به

مع العناق لدى التّوديع والقبل

وإنّما قلت : من جهة ؛ لأنّ الجور في بعض الأماكن ؛ كوادي الأيسر لعهده تكاد تنشقّ الأرض منه ، وتخرّ الجبال هدّا ، ومفاسد الاستبداد إذ ذاك فوق التّصوّر.

فإنكاري على عمّال الحكومة القعيطيّة جدّ شديد في جورهم وتنكّرهم للمناصب ولرؤساء يافع وآل تميم وآل كثير وغيرهم من حلفاء السّلطان القعيطيّ وأشياعه.

وقد كان السّبب الأكبر في سقوط دولة آل مروان : إدناء الأعداء ، وإبعاد الأولياء ؛ إذ صار الوليّ عدوّا بالإقصاء ، ولم يعد العدوّ وليّا بالتّقريب.

وقد اتّفق أنّ بعض العمّال في سنة (١٣٦٦ ه‍) أخذ أهل دوعن بالشّدّة والعنف ، وحاول أن يضغط على سيبان وآل العموديّ والسّادة ، ولم يدر أنّ الضّغط يورث الانفجار ، فكانت النّتيجة أن تحالفت بطون سيبان من نوّح والحالكة والخامعة والمراشدة والقثم وآل باخشوين وآل باعمروش وآل نهيم ، ودخلت معهم الدّيّن وناس من الحموم على إعلان الثّورة عندما يريد أحدهم عمّال الحكومة بالظّلم ، وتعاقدوا أن لا يجيبوا باغي هضيمتهم إلّا بألسنة البنادق ، وقالوا بلسان حالهم :

إذا الملك الجبّار صعّر خدّه

مشينا إليه بالسّيوف نخاطبه (٢)

__________________

(١) ومناسبتها : توقيع معاهدة عدن سنة (١٣٣٧ ه‍) الّتي تقدّمت الإشارة إليها.

ومطلع القصيدة :

أهلا وسهلا بمن وافى وموضعه

منّي وإن لمت فوق الرّأس والمقل

ابن المحاضير من طابت شمائله

ولم يحل قطّ عن ودّي ولم أحل

وهي غرّاء كبقيّة قصائد ابن عبيد الله رحمه الله.

(٢) البيت من الطّويل ، وهو لبشّار في «ديوانه» ، وفي «الدّيوان» : (نعاتبه) بدل (نخاطبه). وصعّر خدّه : أماله عنّا من الكبر.

١٩١

وعقدوا بينهم عهدا وثيقا وحلفا أكيدا ، من قواعده : أن لا وفاء ولا بياض وجه لمن تأخّر عنه أو خاس به إلّا دفع ألف ريال وقتل أحد أقربائه على عوائدهم الجاهليّة.

وكان ذلك أواخر سنة (١٣٦٦ ه‍) ببضه ، وشهده الفاضل السّيّد علويّ بن محمّد بن أحمد المحضار ، وأبو بكر بن حسين المحضار ، وأحد السّادة آل البار.

فلم يكن من الحكومة إلّا أن عزلت ذلك وعملت بسياسة معاوية بن أبي سفيان ؛ إذ يقول : (لو كانت بيني وبين النّاس شعرة .. لم تنقطع ؛ لأنّهم إن شدّوا .. أرخيت ، وإن أرخوا .. قبضت) (١) ، ونعمّا فعلت الحكومة بذلك ؛ لأنّه إذا التقى السيفان .. ذهب الخيار ، ولكن الصّيف ضيّعت اللّبن ؛ إذ لم يكن إلّا بعد أن خسرت من الهيبة ، وفقدت من الأبّهة ما لا يمكن تلافيه إلّا بتحمّل منّة تتفسّخ منها القوائم لحكومة عدن ، مع أنّها كانت في غنى عن ذلك ؛ لانعقاد القلوب على محبّة السّلطان ، لعفّته عن أموال النّاس .. فلا يحتاج إلى العنف إلّا اللّثام الّذين لا يصلحهم غيره.

ووضع النّدى في موضع السّيف بالعلا

مضرّ كوضع السّيف في موضع النّدى (٢)

ولو أنّ عمّال القعيطيّ سايسوا الكرام من سيبان والعموديّ بالرّفق .. لاستقام الحال ، وانحلّ الإشكال ؛ إذ الكرام كما قال الأوّل :

قوم إذا شومسوا لجّ الشّماس بهم

ذات العناد وإن ياسرتهم يسروا (٣)

وقال سعيد بن ناسب [من الطّويل] :

وما بي على من لان لي من فظاظة

ولكنّني فظّ أبيّ على القسر

هذا ما يحسن أن يعامل به الكرام ، أمّا الرّذال .. فلا يصلحهم إلّا ضرب القذال (٤)

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي (٢ / ٢٣٨).

(٢) البيت من الطّويل ، وهو من الأمثال السّائرة للمتنبّي. «العكبري» (١ / ٢٨٨).

(٣) شومسوا : تشوغب عليهم. وأصل الشماس عدم استقرار الدابة وانقيادها لشغبها ، واستعاره هنا للآدميين. والله أعلم.

(٤) القذال : جماع مؤخّر الرأس.

١٩٢

وبمثل ذلك جاء القرآن العظيم ، وسار عليه الشّارع الحكيم ، ومعاذ الله أن يصلح آخر هذه الأمّة إلّا ما أصلح أوّلها ، ولا معرفة لي تكفي اليوم للحكم بحال القوم ، ولكنّ من يردني من آل العموديّ وآل العطّاس يحدّثني عن شهامتهم ونخوتهم بما يبعد معه أن تذلّل معاطسهم الخطم ، وقد قال بعض شعرائهم المتأخّرين ـ واسمه سعيد بن سالم بانهيم المرشدي ـ :

لا حق بامدّه ولا منقود

ولا شريعه عند قاضي

لمّا يغلّق كسبي الموجود

هفوه لهم والقلب راضي

ولا أشنوعة عليه بالتّمدّح بالامتناع عن استدعاء القضاة ؛ لأنّهم لصوص (١) .. فله من جورهم مخرج عن هذا ، وفيه شبه من قول بعض الأوائل (٢) [من الطّويل] :

بني عمّنا لا تذكروا الشّعر بعدما

دفنتم بصحراء الغميم القوافيا (٣)

فلسنا كمن كنتم تصيبون سلّة

فنقبل ضيما أو نحكّم قاضيا (٤)

__________________

(١) أراد الشيخ رحمه الله تعالى قول ابن المنجم :

فلا تجعلنّي للقضاء فريسة

فإن قضاة العالمين لصوص

مجالسهم فينا مجالس شرطة

وأيديهم دون الشّصوص شصوص

الشّصوص ـ جمع شص ـ وهو : اللص الذي لا يدع شيئا أتى عليه إلا أخذه.

فقال أبو جعفر البحّاث متمما لهذين البيتين :

سوى عصبة منهم تخصّ بعفة

ولله في حكم العموم خصوص

خصوصهم زان البلاد وإنّما

يزين خواتيم الملوك فصوص

(٢) هو الشّميذر الحارثي ، كما في «ديوان الحماسة» (١ / ٣١) ، وكان قد قتل أخوه غيلة .. فقتل قاتل أخيه نهارا في بعض الأسواق من الحضر.

(٣) قال شارح «ديوان الحماسة» (١ / ٣١) : صحراء الغميم : اسم موضع. والقوافي : جمع قافية ، وأراد بها القصائد. وفي دفن القوافي معنيان ؛ أحدهما : أنكم انهزمتم بهذا الموضع .. فلا تكلفوا أحدا مدحكم ولا تفتخروا في شعر ؛ لسوء بلائكم بهذا الموضع. والثاني : أن شاعرهم قتل ودفن بهذا الموضع .. فكأنه يقول : لستم قادرين على الشعر وقد دفنتم شاعركم بصحراء الغميم .. فلا تتكلفوا ما لستم من أهله ؛ فعلى هذا : كأنه قال : دفنتم صاحب القوافي.

(٤) السّلّة : السرقة. يقول لهم : لسنا كمن كنتم تقصدونه وهو متفرد شاذ فتصيبونه سرقة فنرضى بالضيم ، أو نحاكمكم إلى قاض.

١٩٣

ولكنّ حكم السّيف فينا مسلّط

فنرضى إذا ما أصبح السّيف راضيا (١)

ولا أذكر قائلها الآن ، ولكنّني أعرف أنّ موسى بن المهديّ تمثّل بها لمّا جيء برأس الحسين بن عليّ بن الحسن المثنّى ، وجعل يوبّخ من أسر من أصحابه ويقتلهم.

والحسين هذا هو الفخي نسبة إلى محلّ واقعته ، وهو بمكّة أو قريب منها ، أو هو وادي الزّاهر .. فكلّ ذلك قيل ، وهي أقوال متقاربة.

ولطالما حدّثني الواردون عن شهامة أولئك ، غير أنّ قياس المشاهدة على ما نعرف من قبائل بلادنا .. يجعل السّعي مهلا ، والصّعب سهلا ، والعسر إلى المياسرة.

وبعد أن فرغت من هذا الكتاب بشهور أخبرني غير واحد بأنّ أحد رؤساء آل ماضي ـ وكان يحطب في حبل الحكومة ـ ابتزّ امرأة رجل غائب بالهند ، ولمّا حضر .. امتلأ غيظا ـ وفيما دون هذا يحمى أنف الكريم ـ فلم يبخل بالمال في سبيل غسل العار ، فقتل ذلك الباغي في بلاده ، واتّهم بقتله اثنان من آل باصليب ، فجهّزت عليهم الحكومة نحو سبع مئة جنديّ بدبّاباتهم فما دونها من الآلات والأسلحة والعتاد ، فصبر لهم رئيس آل باصليب ، وكان شهما ، وأبلى فيهم أحسن البلاء ، ثمّ قتل ، وأشبل عليه أخوه وابنه فأصيبا (٢) ، ولكنّهما احتملاه ، رحمة الله عليه ، لقد مات شهيدا وأبقى ذكرا مجيدا :

فتى مات بين الطّعن والضّرب ميتة

تقوم مقام النّصر إن فاته النّصر (٣)

وقد كان فوت الموت سهلا فردّه

إليه الحفاظ المرّ والخلق الوعر (٤)

ونفس تعاف العار حتّى كأنّما

هو الكفر يوم الرّوع أو دونه الكفر

وكان كلّ ذلك ـ حسبما يقال ـ بخيانة من بعض آل باصليب أنفسهم ، ثمّ لم يكن من الحكومة إلّا إهانتهم ، وأخذ أسلحتهم.

__________________

(١) رضا السيف ؛ كناية عن كونه يعمل حتى يكلّ.

(٢) أشبل عليه : عطف.

(٣) الأبيات من الطّويل ، وهي لأبي تمام في «ديوانه» (٢ / ٣٠٣).

(٤) الحفاظ المر : الدفاع الشديد. الخلق الوعر : النزق والشدة عند المنازعة.

١٩٤

وبإثر هذه الحادثة تراخى أمر ذلك الحلف ؛ إذ تقنّعت الأحلاف ، ولم يلبّ صوت المقدّم سعيد باصليب إلّا المشاجرة ، جاؤوا من يبعث ونواحيها في نحو سبع مئة رام ، يتقدّمهم باشقير ، ولكن بعد ما سبق السّيف العذل ، وفرغوا من سعيد باصليب .. فعادوا أدارجهم.

وكان عند آل العموديّ بعض مأجوري الحكومة يشاغلونهم بالكلام ، حتّى قضي الأمر ، وما أظنّه إلّا يتساوى النّاس ، ويصحّ القياس.

وقال الطّيّب بامخرمة في التّعريف بالشّحر : (سمّيت الشّحر بهذا الاسم لأنّ سكّانها كانوا جيلا من المهرة يسمّون : الشّحرات ـ بالفتح وسكون الحاء المهملة وفتح الرّاء ، ثمّ ألف ، فحذفوا الألف وكسروا الشّين ، ومنهم من لم يكسرها ، والكسر أكثر ـ وتسمّى : الأشحار أيضا ؛ كالجمع. وتسمّى : الأشغاء ؛ لأنّه كان بها واد يسمّى الأشغا (١) ، كان كثير الشّجر ، وكان فيه آبار ونخيل ، وكانت البلاد حوله من الجانب الشّرقيّ ، والمقبرة القديمة في جانبه الغربيّ.

وتسمّى أيضا : سمعون ؛ لأنّ بها واد يسمّى بذلك ، والمدينة حوله من الشّرق والغرب ، وشرب أهلها من آبار في سمعون. وتسمّى : الأحقاف أيضا.

وقد ذكر هذه الأسماء النّقيب أبو حنيفة ، واسمه أحمد ، كان من أولاد أحد تجّار عدن ، ثمّ صار نقيبا لفقراء زاوية الشّيخ جوهر (٢) ، ثمّ عزم إلى الشّحر ، وامتدح

__________________

(١) انتقد هذه التسمية صاحب «الشامل» وأكد أنّ صوابها : الأسعاء ، بالسّين المهملة ، والعين المهملة ، وأنّ الشّين إنّما هي تصحيف. ومن أسماء الشّحر المعروفة أيضا : (سعاد).

(٢) الشّيخ جوهر العدني (٠٠٠ ـ ٦٢٦ ه‍) : هو الشّيخ الكبير الصّوفيّ الصّالح ، المشهور بعدن ، يقال : إنّه من أهل الجند ، كان عبدا عتيقا أمينا ، وكان يتّجر في سوق عدن في البزّ ، لقي الشّيخ باحمران ، وكراماته كثيرة ، وقبره معروف بعدن.

وممّا ينسب له من الشّعر هذه الأبيات :

إذا سعدوا أحبابنا وشقينا

صبرنا على حكم القضا ورضينا

وإن جيّش الأحباب جيشا من الجفا

بنينا من الصّبر الجميل حصونا

وإن بعثوا خيل الصّدود مغيرة

بعثنا لهم خيل الوصال كمينا

١٩٥

سلطانها عبد الرّحمن بن راشد بأشعار كثيرة ، معظمها على البال بال ، وهو الّذي يسمّيه أهل حضرموت الدان دان.

وخرج من الشّحر جماعة من العلماء الفضلاء ؛ كآل أبي شكيل (١) ، وآل السّبتيّ ، وآل بن حاتم ، وغيرهم. وإليها ينسب خلق كثير ؛ منهم : محمّد بن معاذ الشّحريّ ، سمع من أبي عبد الله الفزاريّ (٢). والجمال محمّد بن عمر بن الأصفر الشّحريّ ، سمع منه القواضي بماردين سنة «٦٨٠ ه‍».

__________________

وإن شهّروا أسيافهم لقتالنا

أتيناهم بالذّلّ مدّرعينا

أحبّاءنا جوروا وإن شئتم اعدلوا

صبرنا على حكم القضا ورضينا

«تاريخ عدن» (٧١ ـ ٧٣).

(١) لم يذكر المصنّف هنا أحدا من علماء آل باشكيل ، وحقّهم أن يذكروا ؛ فمن أجلّهم :

العلّامة القاضي محمّد بن سعد بن محمّد بن عليّ بن سالم باشكيل الأنصاريّ الخزرجيّ ، ولد سنة (٦٦٤ ه‍) ، وتولّى قضاء زبيد ، ثمّ درّس بعدن ، وانفصل سنة (٧٢٠ ه‍) ، وأقام بالشّحر ثلاث سنين ، كان فقيها كبيرا ، له شرح على «الوسيط» للغزاليّ ، في عداد المفقودات ، وفتاوى ، ونبذة في الأنساب ، توفّي أواسط القرن الثامن.

محمّد بن مسعود بن سعد بن أحمد بن سعد باشكيل ، ولد بغيل باوزير سنة (٨٠٤ ه‍) ، ومناقبه كثيرة ، له شرح على «المنهاج» للنووي ، جمع فيه بين شروح الإسنوي والسّبكيّ والأذرعي وابن النّحوي.

وهو جدّ القاضي المؤرّخ محمّد الطّيب بامخرمة ، لأمّه ، توفي سنة (٨٧١ ه‍).

(٢) صوابه : الفراويّ ، بفاء وراء ، نسبة إلى فراوة بالفتح ، بليدة من أعمال نسا ، تقع بينها وبين دهستان وخوارزم ، خرج منها جماعة من أهل العلم ، ويقال لها : رباط فراوة ، بناها عبد الله بن طاهر في خلافة المأمون. وأبو عبد الله المذكور هنا هو : الإمام محمد بن الفضل بن أحمد بن محمد الفراوي ، المولود سنة (٤٤١ ه‍) ، والمتوفى سنة (٥٣٠ ه‍). كان يعرف بفقيه الحرم ، من أئمة الشافعية.

من شيوخه : الحافظ أبو عثمان بن الصابوني ، وأبو إسحاق الشيرازي ، والحافظ الإمام البيهقي ، وابن القاسم الصفار ، وأبو المعالي الجويني ، وغيرهم. قال ياقوت : روى عنه شيخنا المؤيد بن محمد بن علي الطوسي ، وأبو أحمد عبد الوهاب بن علي بن سكينة بالإجازة ، وله مجالس في الوعظ والتذكير مجموعة. اه وأرخ وفاته في (٥٠٣ ه‍). «الأعلام» (٦ / ٣٣٠) ، «معجم البلدان» (٤ / ٢٤٥) ، «شذرات الذهب» (٤ / ٩٦) ، «بروكلمان» (١ / ٤٣٦). خرّج له ابن معاذ الشحري «أربعين حديثا عن أربعين شيخا» ، قاله السمعاني.

١٩٦

ومن شحر عمان : عمرو بن أبي عمر الشّحري ، أنشد له الثّعالبيّ شعرا في «اليتيمة» اه (١)

وقد أطلت القول على الأشحار ب «الأصل» ، ومتى عرفنا أنّه من أسماء الشّحر .. انحلّ المشكل عليّ فيه ، فهذا ممّا يستدرك على ما هناك.

وطالما استشكلت قولهم : (إنّ المظفّر هو الّذي جعل الشّحر مدينة) ، مع عاديّ عمرانها ، وتقادم أخبارها ، والمفهوم : أنّها كانت مدينة عامرة ثمّ اندثرت حتّى عمّرها المظفّر ، فهذا الجمع متعيّن.

ومرّ أوائل هذه المسوّدة عن ياقوت ذكر محمّد بن خويّ بن معاذ (٢) ، ولكنّ الطّيّب بامخرمة نسبه إلى جدّه ولم يذكر أباه.

وقال الطّيّب أيضا في مادة (ذبحان) (٣) : (إنّ الشّيخ محمّد بن سعيد بن أحمد الذّبحانيّ (٤) تفقّه حتّى ترشّح للفتوى ، ثمّ سلك طريق التّصوّف ، واجتهد في الخلوة

__________________

(١) بعد الرجوع إلى «اليتيمة» ومع شدة البحث تبين أن الذي ذكره الثعالبي هو : أبو الحسن عمر بن أبي عمر السّجزي النوقاني ، من أهل خراسان ، فلعل كلمة السّجزي اشتبهت على بامخرمة فظنها الشحري. والله أعلم.

(٢) محمد بن خوي بن معاذ ، كذا في نسخ «النسبة» ، وفي المطبوع من «تكملة الإكمال» (٣ / ٣١٧) وسمّاه : محمد بن خرفي ، وفي «الأنساب» (٣ / ٤٢٨) سمّاه : محمد بن حرمي ، بحاء وراء وميم مهملات. قال السمعاني (٥٨١٩) : محمد بن حرمي بن معاذ الشحري اليماني ، من أهل الشحر ، ورد العراق وسمع بها وبخراسان. سمع بنيسابور أبا عبد الله محمد بن الفضل الساعدي ، وبمرو أبا الحسن علي بن محمد بن عبد الله الدهان ، وجماعة سواهما. وما رأيته ، ورأيت اسمه على أجزاء الحديث ، وخرّج لشيخنا الفراوي «الأربعين حديثا عن أربعين شيخا» اه والساعدي والفراوي هما شخص واحد ، تقدمت ترجمته. وزاد صاحب «تكملة الإكمال» : وله شعر. اه وفي هذه النصوص زيادات مفيدة جدا ، كما صرح السمعاني بأنه من أهل شحر عمان وهو صريح في أنه ليس من هذه المدينة التي الحديث ههنا عنها ، لما تقدم نقله عن «الشامل». انظر «معجم البلدان» (٣ / ٣٢٨).

(٣) ذبحان : عزلة فيها عدد من القرى ، أكبرها التّربة ، وهي اليوم مركز ناحية الحجريّة المعافر من أعمال تعز ، وكان مركزها من قبل جبا. «هجر العلم» (٦٨٨).

(٤) أصلهم من ذبحان ، هاجروا إلى عدن ولعلّ الّذي قدم عدن هو والده الفقيه سعيد بن أحمد ، المتوفّى بعدن في (٢٠) رجب (٨٨٨ ه‍) ، تفقّه على القاضي إسماعيل بن المقري مصنف «الإرشاد» ،

١٩٧

والعبادة ، ودخل الأربعينيّة مرارا ، وسار إلى الشّحر وإلى دوعن وحضرموت ، وزار الصّالحين بها ، ثمّ رجع إلى عدن واستوطنها ، وله مصنّفات في الحقيقة ، تدلّ على فضله واتّساع علمه ، وكان يحضر السّماع ويتواجد ، توفّي لسبع خلت من ربيع الآخر سنة «٨٨٥ ه‍» بعدن ، قبيل أبيه بقليل ، وللغواة فيه اعتقاد ، خصوصا يافع والهنود. وربّما تخلّف عن الجمعة ، والظّاهر من حاله أنّه لا يتخلّف عنها إلا لعذر شرعيّ ، وله أشعار جيّدة ، وقد أفتى وهو ابن اثنتي عشرة سنة) اه (١)

ولا يحصى كثرة من أنجبته الشّحر من رجالات الفضل والعلم ، وقد ألّفت لذلك الكتب ؛ ككتاب : «نشر المحاسن المسكيّة في أخبار فضلاء الشّحر المحميّة» (٢) للسّيّد باحسن (٣).

وفي «الأصل» : (أنّ والد الشّيخ عبد الله القديم عبّاد ـ وهو الشّيخ محمّد بن عبد الرّحمن مولى السّاس سار إلى الشّحر ، ودفن بمقبرة الخور عند الشّيخ أبي فادة (٤) ، وكان ذلك أوائل القرن السّابع) اه (٥)

__________________

وعلى القاضي محمّد ابن كبّن العدني. وفي «الهجر» أن وفاته (٨٧٧ ه‍) ، وهو وهم ، فليصحح.

(١) الشاهد في هذا النقل : ذكر الشحر فيه ، ودخول العلامة الذبحاني إليها ، تدليلا على وجود علماء بها آنذاك.

(٢) الصّواب أنّ اسمه «نشر النّفحات المسكيّة في أخبار الشّحر المحميّة» ، كما ورد في مقدّمته من النسخة التي بخطّ مؤلّفه ، وكما ورد في ترجمته في «تاريخ الشعراء» (٥ / ٦٣). احتوى هذا الكتاب على تراجم جملة من صالحي الشّحر وعلمائها ، وعرض أيضا إلى أخبارها السّياسيّة وذكر حكّامها وحوادثها ، وهو كتاب نفيس ، يستحقّ النّشر ؛ لاحتوائه على تراجم كثير من المتأخّرين ممّن عاصرهم المؤلّف ، ولعلّ البعض لم يترجم لهم في سواه ، يقع في جزأين.

(٣) هو السّيّد الأديب الأريب عبد الله بن محمّد بن عبد الله باحسن جمل اللّيل ، باعلويّ الحسينيّ. ولد بالشّحر سنة (١٢٧٨ ه‍) وبها توفّي سنة (١٣٤٧ ه‍) ، طلب العلم بسيئون عند الحبيب عليّ بن محمّد الحبشيّ ، وأخذ عن عدد من العلماء كالشّيخ ناصر بن صالح ابن الشّيخ عليّ ، والشّيخ محمّد بن سالم باطويح ، والسّيّد علويّ المشهور ، والسّيّد عبد الله بن محسن السّقّاف ، وأجلّ شيوخه السّيّد عبد الله بن سالم عيديد. آثاره : له التّاريخ المذكور ، ونظم «السّفينة» ، ورسالة سمّاها «عقد الاتّفاق على افتتاح مدرسة مكارم الأخلاق». ينظر «تاريخ الشّعراء» (٥ / ٦٣ ـ ٧١).

(٤) كذا بالأصل ، وعند شنبل : أبي حارة.

(٥) تفرّد المؤرّخ شنبل بإيراد خبر وفاة الشّيخ باعباد في الشّحر ، وذلك سنة (٦٢٢ ه‍) ، ونصّ الخبر

١٩٨

وفي سنة (٧٦٠ ه‍) توفّي بها القاضي أبو شكيل.

وفي سنة (٨٠٥ ه‍) توفّي بها الشّيخ فضل بن عبد الله بن فضل بن محمّد بافضل (١) ، وهو من أقران الشّيخ السّقّاف ، طلب العلم هو وإياه بشبام عند الشّيخ محمّد بن أبي بكر عبّاد.

قال الطّيّب بامخرمة : (إنّ الشّيخ جمال الدّين محمّد بن سعد بن عليّ بن محمّد كبّن الطّبريّ جامع لأشتات العلوم ، كان يعاني التّجارة ، حتّى قال له الشّيخ فضل ـ المذكور ـ ما معناه : ارجع يا قاضي عدن ، فوقع ذلك في قلبه ، واشتغل بالعلم ، وقرأ بالشحر على الشّيخ عبد الله بن عليّ بن أبي حاتم «التنبيه» جميعه ، ومن أوّل «المهذّب» إلى (المساقاة) ، توفّي سنة «٨٤٢ ه‍» بعدن ، وقد نيّف على السّبعين) اه بمعناه من «عقود الّلآل» لسيدي الأستاذ الأبرّ.

وفي سنة (٩٠٧ ه‍) (٢) توفّي بها العلّامة محمّد بن عبد الله بلحاج بافضل (٣). وفي تلك السّنة توفّي بها أيضا العلّامة الجليل عبد الله بن محمّد بن حسن بن محمّد بن

__________________

فيه : (وفي سنة (٦٢٢ ه‍) توفّي الرّجل الصّالح محمّد بن عبد الرّحمن ، أبو الشّيخ عبد الله أبا عبّاد ، ودفن بمقبرة الشّحر الغربيّة القديمة ، المعروفة الآن بتربة أبي حارة) اه «شنبل» (٨٢). أمّا

(١) ابنه الشّيخ عبد الله .. فسيأتي ذكره في شبام. الشيخ فضل بن عبد الله .. أحد الأئمة الأكابر ، من أعيان عصره ، ولد بتريم سنة (٧٣٠ ه‍) ، تربى بأبيه ، وسلك على يد الشيخ عبد الله باعلوي ، والإمام محمد بن أبي بكر باعبّاد الشبامي.

ومما ينسب له من الشعر الصوفي ، قوله :

سلبت ليلى

منّي العقلا

آه يا ليلى

ارحمي القتلى

إنني هائم

ولها خادم

أيها اللائم

خلني مهلا

إلى آخرها .. ترجمته في «صلة الأهل» (١٠٣ ـ ١٢١).

(٢) في المطبوع من «تاريخ شنبل» (٩٠٨).

(٣) هو ابن الشّيخ عبد الله الآتي ذكره ، صاحب المختصرات قرأ على والده وعلى الشيخ أبي بكر العيدروس العدني

١٩٩

أحمد بن عبسين (١) ، وهو الّذي كان السّبب في مجيء الفقيه عبد الله بلحاج إلى الشّحر.

وكان ابن عبسين حسن الخطّ ، كتب نحو خمسين مصحفا بيده (٢) ، ترجمه الطّيّب بافقيه ترجمة جميلة ، وقال : إنّ وفاته في سنة (٩٧٠ ه‍) لا في سنة (٩٠٨) ، وكان من قضاة العدل.

وبالشّحر توفّي الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي بكر بافضل (٣) ، صاحب «المختصر اللّطيف» ، الّذي شرحه الرّمليّ (٤) ، و «المختصر الكبير» الّذي شرحه ابن حجر (٥). وكانت وفاته بها سنة (٩١٨ ه‍).

وفي مناقب الشّيخ عبد الله العيدروس بن أبي بكر السّكران بن عبد الرّحمن السّقّاف أنّه : كان يحثّ على «مختصر بافضل» ، فذهب وهمي أوّلا إلى أنّه الكبير من

__________________

(١) هو الفقيه الصالح الزاهد القاضي عبد الله بن محمد بن حسن بن عبسين الشافعي الشحري ، نشأ في طلب العلم والطاعة والعبادة ، وتصدر للفتوى والتدريس في الشحر ، وتخرج به الطلاب ، وكان عالما محققا مدققا ، ساعيا في قضاء حوائج الناس. له قضية مع السلطان عبد الله بن جعفر الكثيري صاحب الشحر ، وذلك : أن السلطان المذكور اشترى حصانا من بعض الناس ثم بعد ذلك أراد ردّه وادعى فيه عيبا ، وامتنع من تسليم الثمن للبائع ، فاشتكى عليه إلى القاضي المذكور ، فكتب إليه : أن احضر إلى الشرع الشريف ، ولم يراع السلطان ولا تساهل لأجله ولا حاباه بكلمة واحدة. ولله دره!! ولقد أبقى فخرا ، وغنم أجرا ، وامتطى ذروة السماك ، ورقى فوق أوج الأفلاك. عن «النور السافر» (٧٨ ـ ٧٩). وكانت وفاته في ٤ ربيع الثاني من سنة (٩٠٧ ه‍).

(٢) قال بافقيه : (وأهل الجهة مثل الشّحر وحضرموت يضربون بخطّه المثل).

(٣) هو الشيخ الإمام الصالح ، الولي الكبير ، العارف بالله عبد الله بن عبد الرحمن (ت ٨٦٦ ه‍) ابن أبي بكر (ت ٨٠٤ ه‍) ابن محمد الحاج بن بافضل المذحجي السعدي التريمي. مولده بتريم سنة (٨٥٠ ه‍) ، ورحل لأداء النسكين وأخذ عن القاضي برهان الدين ابن ظهيرة القرشي ، وأبي الفرج المراغي بالمدينة ، وإبراهيم باهرمز بشبام ، وباجرفيل وبامخرمة (الجد) ، وبافضل العدني ، كلهم بعدن ، وعمر بن عبد الرحمن صاحب الحمراء ، وأخذ عنه جمهرة.

ترجمته في : «النور السافر» ، «تاريخ بافقيه» ، «شذرات الذهب» (١٠ / ١٢٥) ، «صلة الأهل» (١٤٢ ـ ١٦٧) ، «السنا الباهر» ، «تاريخ باحسن» ، «الأعلام» (٤ / ٩٦ ـ ٩٧).

(٤) واسم شرح الرملي : «الفوائد المرضيّة على المختصر اللطيف في فقه الشافعية» ، مطبوع.

(٥) واشتهر باسم «المقدمة الحضرمية» واسم شرحه «المنهج القويم بشرح مسائل التعليم» ، وعليه عدة حواش وتعليقات. منها : حاشية نفيسة للإمام عبد الله بن سليمان الجرهزي ، صدرت مؤخرا عن دار المنهاج بجدة ، في مجلدين فاخرين

٢٠٠