إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

ثاني سنة (١١٤٣ ه‍) ، وكانوا جاروا في هينن .. حتّى لقد نهبوا بيت الشّيخ سهل بن أبي بكر بن إسحاق فزال ، ولم يرجع إلّا بعد أن طردتهم يافع ، وساروا بعد جلائهم من هينن إلى صنعاء.

ولا يزال بهينن كثير من الآثار والكتابة بالمسند على الأحجار.

وفيها حصن كندة القديم الّذي كان يسكنه الأشعث بن قيس ، وكان يخرج منه ألف وخمس مئة فارس بشكّتهم ، ويطلق عليه اليوم : حصن فرحة.

ومن قرى الكسر : شريوف (١) ؛ لآل محمّد بن عبد الله.

وغنيمة آل عبري : منهم أحمد بن سالمين بن علي بن عامر. وجوّة الخناق ، وسكّانها : آل صائل من نهد.

وفي جنوبها : باحسّان ، سكّانها : آل طاهر ، منهم الشّيخ الفاضل عامر بن طاهر بن نهيد (٢) في ممباسا الآن يحبّ العلماء والمتعلّمين ، ولا يقصّر في إعانة المنكوبين ، وإكرام الواردين ، ويساعده أخوه عبد الله بن نهيد ، وصهره فرج بن محمّد بن طاهر وهو شابّ متحرّك.

ومنهم : رجل يقال له : يسلم بن عديان ، له أخبار هائلة منها : أنّ آل حويل بنوا كوتا على مقربة من أموال آل طاهر ، فلمّا سقيت من السّيل .. أرادوا حرثها فمنعهم آل حويل ، وتوسّط بعض المشايخ آل إسحاق ، فلم يقبلوا له كلاما ، فلم يكن من يسلم إلّا أن خرج في نحر الظّهيرة معتمدا على معنقة بندقيته ، حتّى وصل باب الكوت ، فنادى الّذي يرتّبه ـ واسمه كريد ـ فلمّا أشرف من النّافذة .. أطلق عليه الرّصاص ، فوقع ما بين عينيه ، فسقط يتشحّط ، فكسر باب الكوت واستولى عليه ، وأطلق ثلاث

__________________

(١) وهي غير (شريوف) الآتية التي في وادي عدم قرب تريم.

(٢) كان الشيخ عامر بن نهيد من أهل المروءة والكرم ، وله اتصال قوي ومتين بجناب السيد العلامة المعمر الحبيب عمر بن أحمد بن سميط مفتي جزر القمر ، المتوفى سنة (١٣٩٦ ه‍) ، وأيضا بالسيد العلامة الحبيب أحمد مشهور الحداد ، وكان يقيم المجالس الكبيرة الحافلة في عدد من المناسبات ، وكان المصنف قد تعرف به عندما ورد ممباسا إبان تصنيف هذا الكتاب ، وقام به المذكور المقام التام.

٤٦١

طلقات إلى نحو آل حويل ، فظنّوه صاحبهم يريد ماء ، فسيّروه له مع ثلاث من نسائهم ، فلمّا اقتربن منه .. قال لهنّ : قلن لأصحابكم : تعالوا لميّتكم ، وأمّا الكوت .. فقد استولى عليه عدوّكم. ولو سكت .. لتمكّن منهم.

ومنهم رجل يقال له : القوينص ، أصاب دما في آل سعدون .. فلم يقدروا على الثّأر منه ؛ لأنّه كان شجاعا لا يطاق ، فلم يكن منهم إلّا أن أرضوا بعض الخونة من أصحاب النّفوذ بما شاء من المال فأكمنهم في دار ، ثمّ استدعاه مخفورا بعبديه ، وبمجرّد دخوله الدّهليز .. أطلقوا الرّصاص عليه ، فوقع ميتا ، وكان ذلك في حدود سنة (١٣٤٢ ه‍).

وفي جنوب القارة : القفل ، لآل منيف. ثمّ : شراح ، لهم. ثمّ : لخماس ، لهم أيضا ، وقد مرّت هذه في عمد ، لأنّها كما تعدّ منه .. تعدّ من الكسر أيضا.

وفي جنوبها : حوطة السّيّد شيخ بن عبد الله العيدروس ، وهي مفرق الطّرق إلى عمد ، ودوعن ، والكسر ، ووادي العين.

وفي جنوبها : بحران (١) ، لآل ثابت ، وهو فلاة واسعة لا حجر فيها ولا شجر. فيها كان انهزام السّلطان بدر بن عبد الله الكثيريّ من جيش الصّفيّ أحمد بن الحسن ، سنة (١٠٧٠ ه‍).

وفيها كان انهزام السّلطان عمر بن جعفر الكثيريّ من يافع ، آخر سنة (١١١٧ ه‍) (٢) ، ولهذا كانت مضرب المثل .. فقيل : (أين بك يا شارد بحران).

وفي (الحجاز) مكان على اسمها ، فيه معادن ، قال ابن هشام : (قال ابن إسحاق : ثمّ غزا حتّى بلغ بحران ـ معدنا بالحجاز من ناحية الفرع ـ فأقام بها شهرين (٣) ثمّ رجع إلى المدينة ، ولم يلق كيدا) اه (٤).

__________________

(١) بحران : موضع معروف بالكسر.

(٢) ينظر : «تاريخ الدولة الكثيرية» ، و «العدة المفيدة».

(٣) وهما شهرا : ربيع الآخر وجمادى الأولى.

(٤) سيرة ابن هشام (٣ / ٣١٣).

٤٦٢

ونقله ياقوت في «معجمه» [١ / ٣٤١] وزاد عليه ، ولهذا المعدن ذكر في «مجموع النّوويّ» و «أصله».

وفي جنوب بحران إلى شرق : دار ابن صريمان ، من آل ثابت ، فوق المضلعة الّتي من وادي دوعن إلى الكسر.

قعوضه

هي في جنوبيّ هينن في حضن الجبل ، وهي سوق عظيم ، تردها القوافل من صنعاء ، والجوف ، وبيحان ، ومرخة ، ونصاب ، ونجران ، وغيرها.

وفيها آل عجّاج (١) ، ورئيسهم : الشّيخ امبارك بن محمّد ، شيخ مجرّب خبير ، ثابت العقيدة في الدّين ، حلب الدّهر أشطره (٢) ، له شهامة ومروءة ، وشمائل عربيّة ، ومحافظة على الشّعائر الدّينيّة.

وأمّا نسبهم : فقد قال الملك الأشرف عمر بن يوسف بن عمر بن عليّ بن رسول المتوفّى سنة (٦٩٦ ه‍) في كتابه «طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب» ـ وهو الّذي سمّاه صاحب «التّاج» في خطبته [ص ٩] : «تحفة الأحباب» ، أو هما كتابان ، أحدهما مختصر من الآخر ـ : (مشايخ حضرموت يرجعون إلى بطنين ، هما : نهد ومذحج) (٣).

ثمّ قسّم نهدا بالإطلاق الأوّل إلى عدّة قبائل ، ولكن لم يبق اسم نهد في الأخير إلّا خاصّا بقبائل الكسر.

__________________

(١) آل عجّاج : قبيلة من نهد إحدى أكبر قبائل المنطقة ، اشتهروا بتولي القضاء القبلي بالمنطقة ، ويعملون على الإصلاح والوساطة بين العشائر ، ولذا يلقبون : (الحكمان) جمع (حكم). ومن سكان قعوضة غير آل عجّاج : آل بامطرف ، وآل بن سنكر وغيرهم.

(٢) حلب الدّهر أشطره : مستعار من حلب أشطر النّاقة ، وذلك إذا حلب خلفين من أخلافها ، ثمّ يحلبها الثّانية خلفين أيضا. والمعنى : أنّه اختبر الدّهر ، شطري خيره وشرّه ، فعرف ما فيه. يضرب : فيمن جرّب الدّهر.

(٣) «الطرفة» (١٣٥ ـ ١٣٦).

٤٦٣

وفي «التّاج» و «أصله» : (إطلاق نهد على قبيلة من قضاعة ، وعلى أخرى من همدان).

وقد استقربنا أن تكون هذه هي من نهد قضاعة ؛ لاتّصالها بوادي عمد وهو وادي قضاعة ، ولو لا أنّ الملك الأشرف جعل نهد حضرموت من قبيلة واحدة .. لقلنا : إنّ نهد الكسر من قضاعة ، ونهد همدان من همدان ، وهذا هو الأقرب ، كما يعرف ممّا يأتي في القارة وشبام.

وللأشرف أغلاط كثيرة لم نتعقّبها ، ومنها هنا : إغفاله لكندة وحضرموت وغيرهما من القبائل الّتي لا تزال بلاد حضرموت ملأى بأعقابهم ، وفيهم المشايخ البارزون.

ومرجع نهد الكسر إلى عمر بن عامر بن شمّاخ بن عبد الله بن عمر الرّوضاني النّهدي ، وإلى عامر بن فضالة بن شماخ بن عبد الله بن عمر الرّوضانيّ النّهديّ ، وهو المراد من المثل الحضرميّ السّائر : (ما كأنّ عامر تسوّق) ، وذلك أنّ الجهمة قتلته سنة (٨٨٢ ه‍) وهو خارج من السّوق ، وقبره في شرقيّ الجامع القديم بحثم هينن.

وروضان يجمع آل ثابت ، وآل عجّاج ، وآل مقيزح ، وآل نفير ، وآل عبد الله ، وآل بدر.

وبقيّة نهد ينقسمون إلى ثلاثة أقسام : المقاريم ، والظّلفان ، وبنو يزيد مجلّف.

وقد مرّ ذكر سدبه وحوره وأعمالهما ، وكلّها من الكسر ، وإنّما ذكرناهما هنا لاتّصالهما بوادي العين وشربهما من مياهه.

وسيأتي في القارة عن نهد ما له اتّصال بما هنا ، وقال باحلوان في «رشيدة الإخوان» : (بنو نهد بن زيد بن ربيعة بن مراد بن أسلم بن الحاف بن قضاعة ..

هاجروا من اليمن إلى حضرموت ، وسكنوا العروض ، ووالي حضرموت لذلك العهد : عبد الرّحمن بن راشد الحميريّ ، وكانت بلادهم من العجلانيّة إلى العروض ، ومن لخماس إلى أعلى سدبة ، وكانت فيها حدائق وزروع ونخل وعنب وسدر.

وكانت ولاية حضرموت الوسطى ـ شبام وتريم وما بينهما ـ لآل راشد الحميريّين

٤٦٤

ولمّا ضعف سلطانها .. استنجد الأهالي بنهد ، وطردت بني راشد ، وظلّت نهد تحكم حضرموت إلى تريم.

ثمّ جاءت سيول هائلة أضرّت بالدّيار والأشجار ، وتلف الكثير من النّاس في العروض ، فاضطرّت نهد إلى مغادرة تريم وشبام والعودة إلى بلادها ، وتركوا أمر حضرموت الوسطى لعليّ بن عمر بن مسعود ، فاغتنمت الفرصة بنو راشد ، وكان ابن مسعود لا يقدر على مقاومة بني سعد وبني راشد ، فسلّم شبام لبني سعد وتوجّه بعسكره إلى الهجرين ، وتخلّت نهد عن تريم وشبام ـ ذات الثّروة ـ وقنعت بقعوضة وما إليها) اه بنوع من اختصار ، وفي «الأصل» تفاصيل ما جرى بين القبائل المذكورة والغزّ وغيرهم.

الظّاهره

هي في شرقيّ قعوضه إلى جهة الجنوب ، وفيها يقول السّيّد حسين بن حامد المحضار لمّا زارها في أيّام الحرب للإصلاح بين نهد فلم ينجح :

يا الظّاهره جيناش للمقدار

والبعد قرّبنا ميوحه (١)

والقبوله ما طعمها الّا قار

ماشي مصلّح من جبوحه (٢)

وقد ذكرت في «النّجم المضي لنقد عبقريّة الرّضي» أنّ هذا مثل قول حبيب [أبي تمّام في «ديوانه» ٢ / ٢١ من الكامل] :

والحمد شهد لا ترى مشتاره

يجنيه إلّا من نقيع الحنظل (٣)

مع يقيني أنّ العمّ حسينا لم يطّلع على بيت حبيب قطّ ، وإنّما هو دليل لما أقرّره من

__________________

(١) الميوح والميح (عامّيّة) معناها : الجهة وقطع المسافة ، والمعنى ظاهر.

(٢) الجبوح ـ جمع جبح ـ وهو : وعاء قرص العسل.

(٣) الشهد : العسل. المشتار : الّذي يجني العسل.

٤٦٥

فحولة الشّعر الحضرميّ العاميّ ، وقوّة متنه وشدّة أسره (١).

ولقد كانت القبائل تضرب آباط الإبل من نواحي حضرموت المترامية إلى حكّام نهد في قعوضة والظّاهرة والقارة ، ولا يدخل من كان كبيرا منهم في نفسه إلّا في حفل وزفاف ، فتقابله نهد بمثله للتّرحيب ، ويتبادلون الأشعار الطّبيعيّة ، ويشرحون فيها ما يختلج بصدورهم وما يهجس على خواطرهم بين طلقات البنادق الدّاوية ، فمن ذلك :

أنّ جماعة من يافع ترافعوا إلى ابن عجّاج في مهمّة كبرى ، فقال شاعرهم :

ما شي بقش ما شي بقش

من لي يهزّون النّمش (٢)

يافع كما ناب الحنش

مقبوصهم ما له طبيب (٣)

فلم يبلع النّهديّ ريقه حتّى قال :

ما في قعوضه شي وخش

أوعال في روس الحمش (٤)

لو تغدي الأعظام طشّ

قوّس على الحكم الصّليب (٥)

وربّما نظم المدّعي دعواه في تلك الأراجيز فيجيب خصمه على غرار قوله ، وأتيا على أطراف الجرح والتّزكية في أشعارهم. ثمّ يصبّ حكم الحاكم النّهديّ في قالب البحر والقافية ، فلا ينتهون إلى دار الحاكم حيث تمدّ الأنطاع وتبسط الموائد .. إلّا

__________________

(١) للسيد الأستاذ محمد بن هاشم ثلاث مقالات عن الشعر العامي الحضرمي نشرت في مجلة «الإخاء» لسان حال جمعية الأخوة والمعاونة بتريم في الأعداد الأولى لعام (١٣٤٧ ه‍) ، وهي في «مجموع مقالات ابن هاشم».

(٢) البقش : الفلوس ـ الدراهم ـ النقود ـ العدّي.

(٣) المقبوص : الملسوع.

(٤) وخش : لعله يعني الظلم أو التعدي. وروس الحمش : أعالي الجبال.

(٥) تغدي : تصبح. قوّس : تمسك ؛ أي : حكمنا نافذ ولو أصبحت عظامنا مهشمة ، فتمسك به فهو الحكم الصائب.

٤٦٦

وقد انفصلت القضيّة بالقضاء المبرم ، الّذي لا ينفذ إليه استئناف ، ولا يرقى إليه طعن ، ولا تعلق بذيله غميصة (١).

تلك هي حال نهد فيما غبر ، أمّا الآن .. فلا أدري ما الخبر!! أفليس أولئك على هذا الصّنيع البديع أحقّ بقول البحتريّ [في «ديوانه» ٢ / ٣١٢ من الكامل] :

وإذا خطاب القوم في الخطب اعتلى

فصل القضيّة في ثلاثة أحرف

وقد ذكرنا في «العود الهنديّ» بعض حديث هدبة بن الخشرم ، وأنّه لمّا حمل إلى معاوية .. قال له : قل يا هدبة .. قال : أكلاما أم شعرا تريد؟ قال معاوية : بل شعرا ، فارتجل هدبة قصيدة يقول منها :

رمينا فرامينا فصادف رمينا

منايا رجال في كتاب وفي قدر

فقال له معاوية : أراك أقررت يا هدبة ... إلى آخر القصّة المناسبة لما نحن فيه ، بما جاءت به من وصف الأمر في الشّعر.

وقد اختصم حيّان من العرب في ماء من مياههم إلى والي المدينة من قبل يزيد بن عبد الملك ـ وهو عبد الرّحمن بن الضّحّاك الفهريّ ـ وكان مصاهرا لأحد الحيّين ، فبرك بين يديه شيخ من الحيّ الآخر وهو سنان بن الفحل الطّائيّ فقال [من الوافر] :

إلى الرّحمن ثمّ إلى أميري

تعسّفت المفاوز واشتكيت

رجالا طالبوني ثمّ لجّوا

ولو أنّي ظلمتهم انتهيت

رجوا في صهرهم أن يغلبوني

وبالرّحمن صدق ما ادّعيت

وقالوا قد جننت فقلت كلّا

وربّي ما جننت ولا انتشيت

ولكنّي ظلمت فكدت أبكي

من الظّلم المبيّن أو بكيت

فإنّ الماء ماء أبي وجدّي

وبئري ذو حفرت وذو طويت

وقد خرج بخضوعه عن عادة العرب من التّمدّح بالقسوة والجلادة ، وهي تعيّر

__________________

(١) الغميصة : الاستحقار والنّقص.

٤٦٧

الرّجال بمثل ذلك ، أمّا النّساء .. فلا ، ولهذا استحسنوا من فاطمة بنت الأحجم أن قالت بعدما لان جانبها ، وغاب ناصرها :

قد كنت لي جبلا ألوذ بظلّه

فتركتني أمشي بأجرد ضاحي

قد كنت ذات حميّة ما عشت لي

أمشي البراح وكنت أنت جناحي

فاليوم أخضع للذّليل وأتّقي

منه وأدفع ظالمي بالرّاح

وبها تمثّلت سيّدتنا فاطمة ـ رضوان الله عليها ـ بعد وفاة أبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فميل بين ما يكون من أحكام العصور الأولى ، وما سمعت عن نهد ـ وما بالعهد من قدم ـ وبين ما يكون من قضاة المحاكم اليوم .. ينكسر ذرعك ويتبادر دمعك ؛ إذ يكون غدوّ الدّعوى شهرا ورواحها مثله ، بلا دليل من فقه ، ولا مبرّر من شرع ، ولكنّها الأغراض المخلّة ، والجهالة المضلّة ، ولا ينكر اندفاع النّقض عن أحكام نهد لذلك العهد مع عدم الرّويّة ؛ لأنّ الحقّ مثل الصّدق أبلج ؛ والصّادق لا يحتاج إلى تفكّر ولا إلى تذكّر ، وكذلك العادل لا يطيف بحكمه إلّا التّمحّل الّذي لا ينفق عند أهل الإنصاف ، ولقد كانت الأحكام مثلما قال الأعشى [في «ديوانه» ٢٩١ من الطّويل] :

تعالوا فإنّ الحكم عند ذوي النّهى

من النّاس كالبلقاء باد حجولها (١)

ولقد شهدت اجتماع الحموم بالشّحر في سنة (١٣٣٣ ه‍) متنازعين في كثير من القضايا المهمّة الّتي حار فيها السّيّد حسين بن حامد ، فقال له حبريش : ردّها إليّ وأنا أحكم فيها على شرطين :

أحدهما : أن تجعل لي ألف ريال.

والثّاني : أن أضع أنا ألف ريال ، فإن نقض حكمي شرع أو عرف .. كنت في حلّ من ألفي.

فامتدّ عنقي لذلك البدويّ الّذي لم أعرفه من قبل ، وأكبرت تحدّيه للشّرع ، وقلت

__________________

(١) البلقاء : الفرس الّتي في لونها بياض وسواد. الحجل : البياض في قوائم الفرس.

٤٦٨

له : هبك أمنت النّقض من جهة العرف والعادة ؛ لإتقانك لهما ، فمن لك بالأمان من جهة الشّرع ، أفتعرفه؟

فقال : لا ، ولكنّي سأحكم بالعدل ، والعدل لا يتغيّر ، ولا يمكن نقضه بحال.

فأكبرت ما في طيّ تلك الأسمال البالية (١) وتحت تلك اللّحية الشّعثة من الحكمة الّتي ابتعدت عن مجالس القضاة اليوم ، وزادني ذلك تصديقا لقول الإمام علي كرّم الله وجهه : (العلم نقطة ، وإنّما وسّعته آراء الجهّال) أو ما هذا معناه.

وقد قال زهير في جاهليّته [من الوافر] :

فإنّ الحقّ مقطعه ثلاث

يمين أو نفار أو جلاء

فكان ابن الخطّاب رضي الله عنه يتعجّب من معرفته بمقاطع الحقوق مثلما تعجّبت من حبريش.

وروى الشّيخ أحمد بن سهل (٢) ـ وكان جارا لقاضي مصر بكّار بن قتيبة (٣) ـ أنّه مرّ ببيت بكّار أوّل اللّيل وهو يتلو هذه الآية : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) قال : ثمّ انتبهت من آخر اللّيل فسمعته يكرّرها.

وقد كان بكّار من أعدل القضاة حكما ، وأشرفهم موقفا ، ولمّا حبسه أحمد بن طولون .. استردّ منه ما أعطاه ـ وقدره عشرة آلاف دينار ـ فألفاها بختمها ، لم يمسّها زهدا وورعا.

__________________

(١) الأسمال : الثّياب البالية.

(٢) هو أحمد بن سهل الهروي ، وهذه القصة رواها أبو بكر ابن المقري في «فوائده» قال : سمعت محمد بن بكر الشعراني يقول : سمعت أحمد بن سهل الهروي يقول : .. إلخ.

(٣) هو بكار بن قتيبة ، من ذرية الصحابي أبي بكرة الثقفي ، البكراوي ، ولد سنة (١٨٢ ه‍) ، وتوفي سنة (٢٧٠ ه‍) ، حنفيّ ، تفقه بهلال بن يحيى وعيسى بن أبان ، وأخذ الحديث عن أبي داود الطيالسي قال أبو عمر الكندي : وسمعت علي بن أحمد بن سلامة يقول : تعرف الإجابة عند قبر بكار بن قتيبة.

ترجمته في : «الولاة والقضاة» لأبي عمر الكندي (٤٧٧) ، «رفع الإصر» للحافظ ابن حجر العسقلاني ، و «السير» للذهبي.

٤٦٩

وما كان حبسه ـ وإن كان له سبب معروف ـ إلّا ناشئا عن الحسد ؛ بأمارة أنّه قال له : غرّك قول النّاس : ما في الدّنيا مثل بكّار.

وقيل للقاضي إسماعيل بن إسحاق المالكيّ (١) : ألا تؤلّف كتابا في آداب القضاء؟

فقال : وهل للقضاء من أدب غير العدل؟ اعدل ومدّ رجليك في مجلس القضاء. أو ما هذا معناه. فمثّل بين هذا وبين ما أسلفناه عن القضاء في المكلّا.

وقال سعيد بن شريك في خطبته : (أيّها النّاس ، إنّ الإسلام حائط منيع ، وباب وثيق ، فحائطه الحقّ ، وبابه العدل. ولا يزال الإسلام منيعا ما اشتدّ السّلطان ، وليس شدّته القتل بالسّيف ، والضّرب بالسّوط ، لكن قضاء بالحقّ وأخذ بالعدل).

وقوله : (اعدل ومدّ رجليك .. إلخ) شبيه بما يؤثر عن بعض ملوك الهند في الموضوع.

وفي عهد عليّ للأشتر ما نصّه : ثمّ اختر للحكم بين النّاس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأمور ، ولا تمحكه الخصوم (٢) ، ولا يتمادى في الزّلّة ، ولا يحصر من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه ، ولا تشرف نفسه على طمع ، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه ، وأوقفهم في الشّبهات ، وآخذهم بالحجج ، وأقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم ، وأصبرهم على تكشّف الأمور ، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم.

ويروى أنّ معاوية كثيرا ما ينشد إذا اجتمع النّاس قول سعيد بن غريض أخي السّموءل [من السّريع] :

إنّا إذا جارت دواعي الهوى

وأنصت السّامع للقائل

واعتلج القوم بألبابهم

في المنطق القائل والفاصل

لا نجعل الباطل حقّا ولا

نلطّ دون الحقّ بالباطل

__________________

(١) هو القاضي إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الجهضمي الأزدي المالكي ، ولد سنة (٢٠٠ ه‍) ، وتوفي سنة (٢٨٢ ه‍) ، وبيت حماد بن زيد هم الذين نشروا مذهب مالك في العراق ، تردد العلم في بيوتهم (٣٠٠) عام ، وكان القاضي إسماعيل هو الباعث للمبرّد على تأليف كتابه «التعازي والمراثي». ترجمته في «الديباج المذهب» (٩٢) ، «تاريخ بغداد» (٦ / ٢٨٤).

(٢) تمحكه الخصوم : قال ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» : تجعله ماحكا ؛ أي : لجوجا.

٤٧٠

وكان عبد الملك يأمر وصيفا ينشدها على رأسه عندما يجلس للقضاء.

ثمّ اعلم أنّ في كلّ ربع بني سعد ؛ إذ لا يمكن لعدل وجود مع ما منيت به المحاكم من الرّيث الّذي اتّخذه الحكّام والمحامون سبيلا للعيث.

وسكّان الظّاهرة : آل مقيزح النّهديّون. وفي جنوبها إلى المشرق :

القارة

هي قرية آل ثابت (١) ، وإلى جانبها قارة كان عليها حصن يقال له : حصن قشاقش.

وآل ثابت ليوث خفيّة ، وكان رئيسهم الشّيخ عبد الله بن ثابت توفّي سنة (١٣٢٨ ه‍) ، وخلفه ولده الشّيخ صالح بن عبد الله بن ثابت بن سلطان بن عبد الله بن ثابت بن علي بن فارس بن عقيل بن عيسى بن محمد بن عامر بن فضالة. أحد فحول الرّجال ، وحكّام العرب ، وأولي رأيها ، قتل في الحرب الّتي جرت بينهم وبين آل عجّاج ، في ليلة مظلمة ، فسمع فيها أصوات عبيد آل عجّاج .. فخرج عليهم بنفسه ، فأبصروه قبل أن يراهم .. فأطلقوا عليه الرّصاص سنة (١٣٥١ ه‍) فجاء موضع قول بشّار بن حزن [من البسيط] :

إنّا لنرخص يوم الرّوع أنفسنا

ولو نسام بها في الأمن أغلينا

قال المبرّد [في «الكامل» ١ / ١٥٠] : هو من الأجدع بن مسروق [من الطّويل] :

وأبذل في الهيجاء وجهي وإنّني

له في سوى الهيجاء غير بذول

أو من قول القتّال الكلابيّ [من الوافر] :

نعرّض للطّعان إذا التقينا

وجوها لا تعرّض للسّباب

وخلفه ولده عليّ بن صالح ، شابّ نشيط ظاهر الشّهامة ، جزل الرّأي ، كثير الرّماد.

__________________

(١) آل ثابت بطن من نهد ، تنسب إليهم هذه القارة وقرية بحران الآتي ذكرها قريبا.

٤٧١

صوران

هي في شرقيّ القارة وقعوضه ، وعلى بعض أحجاره كتابات كثيرة بالمسند ، ولها ذكر كثير في التّاريخ.

وقد جاء ذكرها في شعر أبي تمّام ، حيث يقول في هجاء عيّاش بن لهيعة [في «ديوانه» ٢ / ٢٦٣ من الكامل] :

والمدّعي (صوران) منزل جدّه

قل لي : لمن أهناس والفيّوم؟

وكانت تظهر بها نار يعبدها كثير من الحضرميّين.

وقال ياقوت : (صوران قرية للحضارمة باليمن ، بينها وبين صنعاء اثنا عشر ميلا ، خرجت منها نار فثارت الحجارة وحرق الشّجر ، حتّى احترقت الجنّة المذكورة في قوله تعالى : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) وإليها ينسب سليمان بن زياد بن ربيعة بن نعيم الحضرميّ الصّورانيّ ، مات سنة (٢١٦ ه‍) ، وابنه أبو يحيى غوث بن سليمان ، ولي قضاء مصر. وأبو زمعة ، عرابيّ بن معاوية ، وابنه زمعة روى عن أبيه وغيره) اه (١)

وقد ترجم الحافظ لسليمان بن زياد في «تهذيب التّهذيب» [٤ / ١٦٨] ، وأخرج له ابن ماجه ، والتّرمذيّ في «الشّمائل» ، ووثّقه يحيى بن معين.

وقد أخطأ ياقوت في قوله : (إنّ بينها وبين صنعاء اثنا عشر ميلا) ؛ لأنّ المسافة أكثر من ذلك ، كما سبق في شبوة ، ولا يمكن تأويلها ب (يوما) ؛ لأنّ المسافة أقلّ من ذلك ، إلّا أنّها تقارب ذلك ، بل تزيد عليه بالمراحل القصيرة الآن الّتي عليها العمل.

وقد توهّم صاحب «التّاج» أنّها مصحّفة عن ضوران ، وكأنّه لم يطّلع على ما في «المعجم».

وبعد هذا كلّه عرفت أنّ ياقوت وصاحب «التّاج» وكثيرا من المفسرين خبطوا في

__________________

(١) معجم البلدان (٣ / ٤٣٣).

٤٧٢

ضروان خبطا كثيرا ، والّذي أصاب كبد الحقيقة فيهما إنّما هو ابن كثير ؛ إذ قال في تفسير سورة (ن) : (إنّ أهل الجنّتين كانوا من أهل اليمن ، قال سعيد بن جبير رضي الله عنه : كانوا من قرية يقال لها : ضروان ، على ستّة أميال من صنعاء. ثمّ نقل عن مجاهد أنّ حرثهم كان عنبا) اه (١)

فإنّه موافق لقول الهمدانيّ في الجزء الثّامن [ص ٦٧] من «الإكليل» : (ومخرج النّار من آخر ضروان على ما يقول علماء اليمن. والجنّة اقتصّ الله تعالى خبرها في سورة «ن») اه

وموافق لما يحدّث به من شاهد أنّها على ثلاث ساعات ونصف تقريبا من صنعاء.

ومن أثر احتراقها بالنّار الباقي إلى اليوم : خفّة حجارتها ؛ لما أخذ من ثقالها الاحتراق حتّى صارت قريبا من الحجارة الّتي تحرق للنّورة في خفّتها (٢).

أمّا البغويّ : فقد قارب ولم يبعد إلّا في قوله : (إنّها على فرسخين من صنعاء) وقوله : (إنّ حرثهم كان نخلا) (٣) ، وليست بذات نخل.

وأمّا ضوران : فغير ضروان ، وإنّما هو كما قال الهمدانيّ في ذلك الجزء : (جبل أنس بن الهان بن مالك بن ربيعة أخي همدان ، وهو جبل منيف فوق بكيل) اه (٤)

وأمّا ياقوت .. فقد خلط صوران الحضرميّة بضروان الصّنعانيّة.

ونار صوران على ما يقول الحضارمة : متكرّرة تعبد ، بخلاف نار ضروان الصّنعانيّة فإنّها ظهرت لإحراق الجنّتين ، فليعلم ذلك ، والله أعلم بحقيقة الحال (٥).

__________________

(١) تفسير ابن كثير (٤ / ٤٠٧).

(٢) ويقول بعض الباحثين : ما زالت حجارة ضروان بادية للعيان إلى اليوم على أنها بقايا أرض محترقة.

(٣) «تفسير البغوي» (٤ / ٣٧٩).

(٤) الإكليل (٨ / ٥٨).

(٥) وههنا ينبغي التفريق بين صوران وضروان .. أما صوران ـ بالصاد المهملة .. فتقدم كلام المصنف عنها آنفا.

وأما ضوران ـ بالضاد المعجمة ـ : فجبل مشهور بآنس ، وهو المعروف بالدامغ ، كما سيأتي نقل المصنف ذلك عن الهمداني ، وفي سفحه الشمالي تقع بلدة ضوران التي كانت تحمل اسم الحصين ،

٤٧٣

ومن نيران العرب : نار الحرتين ، قالوا : كانت في بلاد عبس إذا كان اللّيل .. سطعت نارا ، ومتى جاء النّهار .. ارتفعت دخانا ، وربّما خرج منها عنق فأحرق من يمرّ بها ، فحفر لها خالد بن سنان ودفنها ، فكانت معجزة له.

وقال ابن قتيبة : كانت نار بأشواف اليمن ، لها سدنة ، إذا تفاقم الأمر بين القوم فحلف بها .. انقطع بينهم ، وكان اسمها الهولة ، ويقال لها أيضا : هولة.

قال الكميت [من الطّويل] :

هم خوّفونا بالعمى هوّة الرّدى

كما شبّ نار الحالفين المهوّل

وقال أوس بن حجر [من الطّويل] :

إذا استقبلته الشّمس صدّ بوجهه

كما صدّ عن نار المهوّل حالف

وكان السّادن عندما يأتي الحالف .. يضع فيها الكبريت والملح فتتنغّص ، فيقول : لقد تهدّدتك ، فإن كان مريبا .. نكل ، وإن كان بريئا .. حلف ومثله عن ابن قتيبة أيضا في [٧ / ١٥٢] من «خزانة الأدب».

ومن قرى الكسر : (حرّة العين) لآل البقريّ (١) ، أهل شهامة ومروءة ، لهم ثروة بجاوة.

__________________

ثم غلب عليها اسم جبلها. وهي مركز علمي مشهور ، اتخذها الإمام الحسن بن الإمام القاسم بن محمد مقرا لإمارته ، وتوفي بها سنة (١٠٤٨ ه‍) ، ثم اتخذها عمه الإمام المتوكل إسماعيل بن الإمام القاسم عاصمة ملكه ، وتوفي بها سنة (١٠٨٧ ه‍) ، والمدينة القديمة هذه كانت قائمة على جبل بركاني ، ثم تعرضت لكثير من الزلازل والهزات الأرضية ، آخرها زلزال سنة (١٩٨٢ م) الذي دمّرها بالكامل وجعلها أثرا بعد عين. ثم أقامت الحكومة بلدة أخرى تحمل نفس الاسم في منطقة بكيل بجوار بلدة البستان «المقحفي» (١ / ٩٥٠ ـ ٩٥١).

وأما ضروان ـ بضاد معجمة فراء محركتين ـ فهي قرية وواد في بني مكرّم من مديرية همدان صنعاء ، تقع بجوار جبل حنين إلى الشمال الغربي من صنعاء بمسافة (٢٥ كم) ، سميت نسبة إلى ضروان بن الرحبة بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي ، ويعرف واديها بوادي سليمان.

(١) آل البقري فخيذة من نهد ، ومن ديارهم : الحرة المذكورة ، وحوره.

٤٧٤

ومن شراج الكسر : الرّملة (١) ، للسّادة آل العيدروس ، وآل جذنان ، وآل بايعشوت.

ومن قراه : المنبعث ، وإليها انتقل كثير ممّن يسكن المخينيق بعد خرابه ؛ كآل بو عسكر ، وآل بو عيران ، ومنهم : الشّابّ الأديب ، عبد اللّطيف بن منصور بن خميس بو عيران ، أحد أمناء القصر السّلطانيّ بالمكلّا منذ ثلاث وعشرين سنة ، ومثله في صدق إخلاصه للسّلطان لا بدّ أن يكون عرضة مرامي أهل الغشّ ؛ ليخلو لهم وجهه.

وفي غربيّ العجلانيّة إلى الجنوب : آثار قرية المخينيق (٢). البالية.

والعجلانيّة (٣) لآل عمر بن جعفر الكثيريّين (٤) ، موصوفين بشدّة البخل ، لا يقرون ضيفا ، ولا يؤوون طارقا ، وهي بسفح الجبل الذّاهب إلى جهة الجنوب ، وقد مرّ في قرن ابن عدوان من قرى وادي عمد عن الهمدانيّ أنّه قال : إن عمرو بن مرّة أولد قبائل بحضرموت ؛ منهم العجلان ، وإليه تنسب العجلانيّة بحضرموت اه فلعل هذه على اسمهم.

وفي شرقيّ قعوضة وشمال الطّريق المارّة في الكسر : حصن آل كوير (٥) ، ورئيسهم الآن بمقدشوه : محمّد بن عبد الله بن كوير ، وابناه ـ سعيد وعليّ ـ يبذلون

__________________

(١) وهذه الرملة غير رملة آل العيدروس التي بقرب تريم.

(٢) المخينيق : تقع في سفح الجبل للذاهب إلى الجنوب ، في جنوب غرب العجلانية. قال صلاح البكري : (وهي من المدن الأثرية الخاربة) اه وقد عادت هذه المنطقة إلى الحياة في هذه الأيام ، وعرفت باسم : بن عيفان ؛ نسبة إلى محطّة ومساكن لرجل من هذه الأسرة التي تسكن العادية قرب القطن ، وانتشرت إلى جانبها أسواق ومواضع للنزلاء من المارة والمسافرين ، وعندها مفرق الطرق للذاهب إلى سيئون والمكلا ، والطريق الذاهب إلى صنعاء عبر الخط الإسفلتي الجديد ، المعروف بطريق صافر.

(٣) ويقال : إن منها الشاعر عبد الله ابن العجلان النهدي ، انظر «تاريخ الشعراء» (١ / ٢٧ ـ ٣١).

(٤) المار ذكرهم في عمد وهم من آل عبد الله ، من سلالة بدر بوطويرق.

(٥) وهم بطن من آل كليب من نهد. ذكرهم عاتق بن غيث البلادي في كتابه : «بين مكة وحضرموت» (١٦٦).

٤٧٥

المعروف ، ويكرمون الضّيوف ، ويحملون الكلّ ، ويعينون على نوائب الحقّ ، ولا ينصرف عنهم العفاة بمقدشوه إلّا رافعي عقائر الشّكر والثّناء عليهم.

وعندهم أعمال تجاريّة بمقدشوه ، ولهم مركز في المكلّا إلّا أنّني نصحت سعيدا عمّا يحاوله من احتكار الأسماك إذا كان فيه إضرار بالصّيّادين ومضايقة لأهل السّاحل في حضرموت ، فقال : ليس فيه إلّا خصبهم ومصلحتهم ، والله أعلم بحقيقة الحال.

وفي حصنهم بحضرموت جماعة ، يرأسهم سعيد بن أحمد بن كوير.

ثمّ : الوجيب ، وفيه الشّراشرة من نهد. ثمّ : الخديد ، لآل محمّد بن عامر ، وهم من الشّراشرة.

وعلى شمال الخديد : جوة آل مهنّا ، من نهد ، رئيسهم : امبارك بن يسلم وعامر بن سالم.

وفي شرقيّ الجوّة المذكورة : شعب آل نهيد ، ومقدّمهم : امبارك بن أحمد.

ثمّ : عنيبدة (١) ، لآل محمّد بن عامر من نهد ، مقدّمهم : سعيد بن عبد الله من الشّراشرة.

ثمّ : ركيكة (٢) ، للشّراشرة أيضا. ثمّ : غصيص ، لآل محمّد بن عامر ، وآل بني شبيب (٣).

الباطنة (٤)

هي في وسط الكسر ، وكانت للدّولة المراهين ، فاشتراها الحبيب عبد الرّحمن ابن عبد الله بلفقيه (٥) وأحسن حرثها ، وكان يتردّد إليها من تريم ، وخلفه ولده

__________________

(١) في نسخة : (عنيبذ) بالذال.

(٢) في نسخة : (زكيكة) بالزاي المعجمة.

(٣) آل شبيب من نهد أيضا.

(٤) الباطنة : هي منطقة زراعية تقع بين العجلانية وفرط بني أرض الذين استوطنوا حضرموت ، وأصلهم من البيضاء ، وهي قريبة من القطن ، وتكتنفها أطيان واسعة ، وتكثر فيها أحراج النخيل وحقول الذرة.

(٥) علامة حضرموت وفقيهها ، مولده بتريم سنة (١١٠٥ ه‍) ، وبها وفاته سنة (١١٦٣ ه‍) ، كان عالما

٤٧٦

عيدروس (١) قاضي تريم ، ثمّ أولاده ، وهم خمسة : أحمد ، وحسين ، وإبراهيم ، وسالم ، وعمر.

وخلفهم الحبيب محمّد بن إبراهيم ، المتوفّى بتريم سنة (١٣٠٧ ه‍) ، وهو رجل عظيم الشّأن ، وكثيرا ما يذكره شيخنا العلّامة أبو بكر بن عبد الرّحمن بن شهاب ويثني عليه ثناء جمّا ، وله ذكر في بعض قصائده ، وقد أخذ لي الوالد عنه الإجازة في مؤلّفات أجداده.

وخلفه ولده الحسن بن محمّد (٢) ، كان رجلا صالحا ، أبيض القلب ، مشبوح الذّراع ، معمور الفناء (٣) ، توفّي بالقعدة من سنة (١٣٤٥ ه‍) ، وكان له ولده الشّهم عليّ ، توفّي قبله في رمضان من تلك السّنة ، فأوصى بنصيبه لأولاده ، ومنهم : قرّة العين ، الولد عبد الرّحمن بن عليّ بلفقيه. وما اشتدّ حزني على أحد مات بتريم ـ بعد مشايخي فيها ـ مثله على السّيّد الجليل عمر بن عيدروس ، والأخ الفاضل عبد الله بن عمر الشّاطريّ ، والشّهم الأريحيّ الحسن بن عبد الله الكاف ، المتوفّى سنة (١٣٤٦ ه‍).

فقدتهم مثل فقد العين ناظرها

يبكى عليها بها يا طول ذاك بكا (٤)

ثمّ تجدّدت الأحزان لفقد الأخ عليّ بن حسن المذكور.

فقدناه فقدان الشّباب وليتنا

فديناه من شبّاننا بألوف (٥)

__________________

متفننا ، وله مصنفات عديدة. انظر ترجمته في : «شرح العينية» ، و «بهجة الفؤاد» ، «مناقب آل بلفقيه»

(١) توفي بتريم سنة (١١٨٨ ه‍).

(٢) له مناقب حسنة وسيرة مستحسنة ، ينظر للتوسع : «تاج الأعراس» ، «تحفة المستفيد» ، «شمس الظهيرة» ، وغيرها.

(٣) الفناء : ساحة الدّار ، والتعبير بعمار الفناء : كناية عن الكرم وكثرة الزّوّار.

(٤) البيت من البسيط ، وهو للشريف الرضي في «ديوانه» (٢ / ١٠٦).

(٥) البيت من الطّويل.

٤٧٧

إلّا أنه سلّى عن مصابه نجابة ولده عبد الرحمن المذكور ، وقيامه بمثل ما قام أبوه.

وإن يلحق أباه علا ومجدا

فهذي النّار من تلك الذّبال (١)

ومنهم : الأخ زين بن حسن بن محمّد بلفقيه (٢) ، حسن المحاضرة ، مليح المحاورة ، جميل الشّارة ، لطيف الإشارة. وقد ورد السّواحل الإفريقيّة سنة (١٣٦٤ ه‍) وكان له بها جاه أكبر ممّا يؤمّل ، وانطلقت لسانه فيها بالوعظ والتّذكير ، وكان له هناك جاه كبير. ويقال : إنّه انتفع به خلق كثير.

ومن قرى الكسر : العدان ، وهو في شرقيّ قعوضة ، كان السّكن العامّ لآل عامر الروضانيّين أجمعين ، ثمّ تفرّقوا في قرى الكسر ، واختطّ بعضهم المنازل ، ويحكى أنّ الشّيخ سعدا السّوينيّ أشار بفراسته إلى بعض أحوالهم من قصيدة يقول فيها :

بين آل عامر كلّ يوم بلوى

حول العدان منّه وعلوى

وقد جاء ذكر العدان في شعر عمران بن حطّان ، حيث يقول [من الوافر] :

نزلنا في بني سعد بن زيد

وفي عكّ وعامر عوبثان

وفي لخم وفي أدد بن عمرو

وفي بكر وحيّ ابن العدان

وما أدري ، أهو هذا كما يتوهّم من ذكر عوبثان ، أم غيره؟ كلّ محتمل.

وكان عمران كثير التّنقّل في القبائل بعد ما أطرده الحجّاج.

وقال يزيد بن الصعق [من الوافر] :

جلبنا الخيل من تثليث حتّى

وردن على أوارة فالعدان

ومنها العادية : لآل عيفان.

__________________

(١) البيت من الوافر وهو للشريف الرضي في «ديوانه» (٢ / ١٧٧).

(٢) ولد السيد زين بن حسن بتريم سنة (١٣٠٦ ه‍) ، وتوفي سنة (١٣٨٤ ه‍) ، كان عالما فقيها ، أديبا شاعرا جوّالا ، له مدائح في عدد من شيوخه ، ولا سيما الحبيب عمر بن سميط. ينظر : «رحلة تلبية الصوت» للحبيب عمر بن سميط.

٤٧٨

ومنها السّلهبي : لابن الطّيير ، عبد الله بن أحمد بن عبود ، رجل شجاع ، حتّى لقد خطب امرأة فمنعها ، وفي ليلة البناء بها على الخطيب الآخر .. حضر السّمر ، وفي أثنائه أثار ضجّة قتل في أثنائها العريس وجماعة معه كانوا في حوش مغلق ، ثمّ تسوّر جداره وهرب ولم يصبه كلم ، وهو حيّ يرزق إلى الآن.

ثمّ : عرض آل حويل (١) ، ومن أخبار آل حويل الأخيرة : أنّ أحد آل بحرق من سيئون ادّعى على أحدهم بقطعة أرض لوقفهم ، فلم يثبت لهم بحجّة شرعيّة ، ولكنّه أرضى عامل القعيطيّ هناك فأوقفه عن أخذ شيء منها ، فأشار إلى امراته تأخذ من زرعها ، فضربها النّائب بعصاه ، فلم يكن منه إلّا أن خرج ببندقيّته في إثر النّائب ، فأرداه وهرب ، وهو اليوم بجاوة بارك الله فيه.

ثمّ : فريشه ، لصالح بن كليب ، بالهفلا. ثمّ : فنده ، لآل حويل أيضا. ثمّ : السّفوله ، كذلك لآل حويل أيضا. ثمّ : المتنه ، لآل عبري ومنهم الشّيخ عامر بن عبد الله بن عبريّ بن عامر بن عبد الله بن عامر.

وكلّ هذه القرى ـ المتنه فما قبلها ـ واقعة في غربيّ الباطنة فكان من حقّها أن تقدّم عليها في الذّكر.

وادي منوب

له ذكر في «صفة جزيرة العرب» لابن الحائك الهمدانيّ. وهو في جنوب الباطنة ، وأدنى قراه إلى الطّريق الّتي تمرّ في وسط الكسر : المدهر.

وسكّانه : آل نهيد ، وهم من المقاديم. ورئيس المقاديم جميعا لهذا العهد هو : الشّيخ امبارك بن عامر بن نهيد.

وفي جنوب المدهر : ظاهرة آل نهيد.

ثمّ : ظاهرة آل كليب. ثمّ : قرية صغيرة يقال لها : الخرابة ، سكّانها أكرة. ثمّ :

__________________

(١) آل حويل من نهد.

٤٧٩

بلاد منوب ، وسكّانها سادة من آل السّقّاف (١) ، وسوقة. ثمّ : طهيف ، وبه روضة لم يذكرها ياقوت.

وقال البكريّ في «معجم ما استعجم» [١ / ٣١٧] : (تفيش ـ بفتح أوّله وكسر ثانيه ـ : قرية من قرى حضرموت ، وهي ومنوب ينزلهما بنو موصل ـ بفتح الميم ـ ابن جمّان بن غسّان بن جذام بن الصّدف بن مرتع بن معاوية بن كندة) اه

ولا يعرف الآن موضع بهذا الاسم بتلك النواحي وإنّما هناك قريتان يقال لكلّ منها : الفشلة ، إحداهما في عرض آل مخاشن ، والثّانية في وادي منوب ، شرقيّ قرية منوب. فيظهر أنّ إحداهما المرادة ، ثمّ سألت الخبراء من أهل ذلك الطّرف فقالوا : ينهر إلى منوب خمسة أودية ؛ أحدها الرّئيسيّ وهو الأوسط : وادي منوب ، وفي غربيّه واديان يقال لأحدهما : العلب ، والثّاني : عيفر ، وفي شرقيّه واديان ، يقال لأحدهما : تريم ، ولعله مصحّف عن تفيش ، فيكون هو المقصود ، والثاني يقال له : الدّليك.

ومن وراء الباطنة إلى شرق : ضبعان.

ثمّ : الفرط ، كلاهما لبني أرض ، يقال : إنّهم من أصحاب الرّصّاص صاحب مسورة (٢) الّذين يقال لهم : بنير ، فتصحّف الاسم على أهل حضرموت بعد ذلك ، فقالوا : بنو أرض.

ثمّ رأيت الشّيخ عمر بن صالح بن هرهرة سلطان يافع ، الّذي استولى على حضرموت سنة (١١١٧ ه‍) .. يذكر في بعض أخباره مع الإمام ما نصّه : (وأمّا السّلطان أحمد بن عليّ الرّصّاص .. فقد كان أرسل ولده ناصر بن أحمد ومعه بني أرض ، بقدر ستّ مئة مسلّحين بالبنادق) اه

__________________

(١) وبها أيضا : سادة من آل الحامد ابن الشيخ أبي بكر.

(٢) مسورة : مدينة أثرية خاربة في وادي مرخه من أعمال شبوة ، كانت عاصمة للمملكة الأوسانية ، وهي مركز قبيلة آل الرصّاص ، السابق ذكرهم.

٤٨٠