إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

بالقنفذة ، فسأل عنه باللّغة الدّارجة ، فضحكت منه واستهزأت به بنته آمنة (١) ـ الّتي تزوّجها بعد السّيّد علويّ السّقّاف (٢) صاحب الحاشية على «فتح المعين» ـ واستهزأت بكلامه ، فآلى على نفسه أن يتعلّم النّحو ، وأن لا يتكلّم إلّا بالإعراب ، ولم يحنث.

وكان أبيض القلب لا يعرف حيل آل كثير ، حتّى لقد ذهب مرّة للإصلاح بين آل عبدات وجيرانهم من آل عمر ، فأجابوا على شرط أن لا يخرج أحد من داره إلّا بخفير ، فاقتنع بذلك ، ولمّا اجتمع بأخيه عبد الله .. قال له : أيّ معنى للصّلح إذا.

وانتهى به الصّلاح إلى أن تجوهر قلبه فتفرّس قرب أجله ، فسيّر كتبا للأعيان ، منهم : سيّدنا الأبرّ عيدروس بن عمر بيوم وفاته ، وبات ليلتها يعظ النّاس ويذكر أعيان زمانه بما فيهم ، وممّن فاز ببالغ ثنائه ليلتئذ : الأستاذ الأبرّ ، وسيّدي عبد الله بن حسن البحر ، مع أنّ آل أحمد بن زين ينفسونهما ، ولا سيّما الثّاني ، ثمّ مات من آخر تلك اللّيلة.

وعاد السّيّد عبد الله بن محمّد (٣) إلى المنصبة ، وكان طلب العلم بمكّة المشّرفة وغيرها ، وكان يجعل الطّلاق الثّلاث باللّفظ الواحد واحدة فقط ، وكنت أستشكل ذلك ؛ لإجماع الفقهاء الأربعة على خلافه ، حتّى أمعنت النّظر فيما قرّره العلّامتان ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم ، فرأيت حججا تنقطع دونها ألسنة الاعتراض ، ومع ذلك بقيت على التّوقّف ؛ لأنّ السّادة الحنابلة مع إعظامهم لهذين الشّيخين لم يوافقوهما على هذا القول ، حتّى رأيت ما ذكره الشّوكانيّ في «نيل الأوطار» (٤) وقول الإمام الرّازيّ في تفسير آية الطّلاق من سورة البقرة : (إنّه الأقيس) (٥) .. فانشرح صدري لذكري إيّاه لمن يسألني من العامّة.

__________________

(١) توفيت بمكة سنة (١٣٤٢ ه‍) ، ترجمتها في «الدليل المشير» لسبطها القاضي أبي بكر الحبشي (ص ٦٤ ـ ٦٨).

(٢) العلامة الفقيه ، توفي بمكة سنة (١٣٢٩ ه‍) ، ترجمته في «الأعلام» ، و «سير وتراجم» (١٣٧).

(٣) كان الحبيب عبد الله هذا متوليا القضاء في شبام ، ومن الآخذين عنه العلامة الحبيب عيدروس بن حسين عيدروس المقدم ذكره في الحزم.

(٤) انظر «نيل الأوطار» (٧ / ١١ ـ ٢٠) ؛ فهو البحث المراد.

(٥) انظر «التّفسير الكبير» للرّازي (٦ / ٩٦). وآية الطّلاق هي قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ ...)

٥٨١

وكذلك بلغني عن السّيّد عبد الله بن محمّد أنّه يمنع نفوذ طلاق الغضبان! فقفّ شعري أوّلا ، ثمّ رأيت ما ذكره ابن القيّم في «الزّاد». وفي رسالة أخرى مطبوعة إلى جانبها قصيدة آنقتني (١) لشاعر العراق معروف الرّصافيّ.

ومع ذلك فلم أجسر على تصويبه في ذلك ، حتّى صوّبت النّظر في قوله جلّ ذكره : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

وقد روي : (أنّ التّوراة كانت سبعة ألواح ، فلمّا ألقاها موسى .. تكسّرت إلّا واحدا ، فرفعت ستّة أسباعها ، وفيها تفصيل كلّ شيء ، وبقي منها سبع واحد فيه الرّحمة والهدى) ، إلّا أنّه قد يغبّر على هذه الرّواية إمكان تقريرها حتّى من رضاضها وقد قال تعالى : (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ) مع ما يوجد من الأحكام (٢) والقصص بكثرة في «التّوراة».

ومهما يكن : فلو كان الغضبان مؤاخذا .. لوقع موسى عليه السّلام من ذلك في أمر عظيم لا يكفي للجواب عنه أن يقال : إنّ شرع من قبلنا ليس بشرع لنا ؛ لأنّه لا يقال ذلك إلّا فيما لا يتعلّق بأصول الإيمان والدّين ، أمّا هذا .. فإنّه ممّا يدخل تحتها.

فالقائل بمؤاخذة الغضبان يلزمه من إساءة الأدب على موسى عليه السّلام ما لا ينطلق به لساني ، ولا يخلّصه منه قولهم : إنّ لازم المذهب ليس بمذهب.

والّذي ينبغي أن يقال به في طلاق الغضبان : إجراؤه مجرى المسكر : فإن كان سببه مباحا ، وانتهى بصاحبه إلى الحدّ الّذي يغطّي على عقله أو يحول بينه وبين نيّته .. لم يؤاخذ. وإلّا .. أوخذ.

__________________

ولمعرفة مزيد تفصيل في هذا الموضوع ينظر كتاب : «الإشفاق في أحكام الطلاق» للعلامة المحقق محمد زاهر الكوثري ، مطبوع. وللعلامة الشيخ الفقيه عبد الله باجمّاح العمودي رسالة أيضا في هذه المسألة ، وللعلامة محمد الخضر الشنقيطي مثلها ، وكلها مطبوعة.

(١) آنقتني : أعجبتني.

(٢) الرضاض : الفتات.

٥٨٢

وأمّا القول بالمؤاخذة على الإطلاق .. فجرأة على نبيّ الله موسى ، وعثرة لا ينبغي أن يقال لصاحبها : لعا (١).

أقول قولي هذا ببادىء الرّأي مع وجوب إعادة النّظر واستئناف العناية ؛ لأنّ المسألة ـ كما قرّرنا ـ أصوليّة لا فروعيّة ، فلا ينبغي فيها الاختلاف ، والله أعلم.

ولا يزال في نفسي شيء من قول فقهائنا : إنّ شرع من قبلنا ليس لنا بشرع وما كفاهم ذلك حتّى زادوا في الطّنبور نغمة بقولهم : وإن ورد في شرعنا ما يقرّره ؛ لأنّه مع تقليله لكثير من فوائد قصص التّنزيل وأخباره .. لا يتّفق مع قول الله تعالى في (الأنعام) : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ)

ومخالف لقول النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في كسر رباعية الرّبيّع بنت معوذ : «كتاب الله القصاص» (٢) ووجه المخالفة أنّه لم يرد القصاص بالسّنّ إلّا في الكلام عن غير هذه الأمّة ؛ حيث يقول جلّ وعزّ : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ)(٣).

وكان السّيّد أحمد بن جعفر بن أحمد بن جعفر بن أحمد بن زين الحبشيّ (٤) أحد العلماء المحقّقين ، وكان على رأي ابن تيمية يجعل الثّلاث باللّفظ الواحد طلقة واحدة ، وكان له اتّصال وثيق بسيّدنا الحسن بن صالح البحر ، وقد أفتى مرّة بتوحيد الطّلاق ممّن نطق بالثّلاث في لفظ واحد ، فاشتدّ النّكير عليه ، حتّى انعقد لذلك مجلس بدار الحبيب البحر تقاطر له العلماء من دوعن ومن تريم وما بينهما ، ولم

__________________

(١) لعا : كلمة يدعى بها للعاثر ، معناها الارتفاع.

(٢) الحديث أخرجه البخاريّ (٤٣٣٥).

(٣) الجواب على هذا الإشكال ما قرره الحافظ تقي الدين السبكي في «الإبتهاج» بقوله : ليس الكلام فيما لم نعلمه إلا من كتبهم ونقل أحبارهم الكفار ؛ فإنه لا خلاف أن التكليف لا يقع به علينا ؛ ولا فيما علمنا بشرعنا أنه كان شرعا لهم ، وأمرنا في شرعنا بمثله ، كقوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، وقد قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) فإن الإجماع منعقد على التكليف به ، وإنما الخلاف فيما ثبت أنه من شرعهم بطريق صحيح نقبله ولم نؤمر به في شريعتنا. اه من تقريرات الشربيني على شرح «الجمع» (٢ / ٣٥٢).

(٤) توفي ليلة الجمعة (٢٦) محرّم سنة (١٢٨٩ ه‍) ، «العدة المفيدة» (٢ / ٣٢٦).

٥٨٣

ينفصل الأمر بأثر المناظرة مع السّيّد أحمد بن جعفر إلّا بتسليم ما قال ، وكان ذلك حدثان وصول «نيل الأوطار» للشّوكانيّ إلى حضرموت.

ومع ذلك .. فلا أجزم بأنّ الاقتناع كان لذلك ؛ إذ يحتمل أن يكون في صيغة الطّلاق ما يعود عليه بالإبطال على المذهب الشّافعيّ ، والله أعلم.

وفي النّفس شيء ممّا نقله الشّيخ عبد الله باسودان عن السّيّد يوسف البطّاح الأهدل ، من حصول التّثليث مثلا بقول المصلّي في الرّكوع : (سبحان ربّي العظيم وبحمده ثلاثا) ، وفي السّجود مثله ؛ أخذا من حديث «سبحان الله وبحمده عدد خلقه» [م (٢٧٢٦) (٧٩)].

والّذي لا أشكّ فيه : أنّه كلام أجنبيّ تبطل به الصّلاة ، فضلا عن أن تحصل به السّنّة.

ثمّ رأيت العلّامة السّيّد محمّد بن عبد الرّحمن الأهدل نقل عن شيخه محمّد بن أحمد بن عبد الباري الأهدل عن السّيّد عبد الله بن يحيى بن عمر الأهدل مثل ما ذكرته من بطلان الصّلاة بذلك ، وكفى بهؤلاء حجّة ، فلله الحمد على التّوافق.

وكان السّيّد أحمد بن جعفر يقوم من مجالس أصحابه ومدارسهم إذا سمع بما لا يوافق مشارب الوهّابيّة ، ثمّ صار ينكر عليهم أحيانا بلسانه ، ولكنّه لم يصبر حين أنشدوا الأذكار في المسجد على نغمات الدّفوف ، ولم يتمالك أن نهض لتكسيرها ، فلبجوه لبجا (١) شديدا ذهب منه مغاضبا إلى خشامر عند آل الشّيخ عليّ جابر الوهّابيّين ولكنّه غيظ الأسير على القدّ (٢) ، وما أدري أبقي بخشامر إلى أن مات ، أم راجعه قومه؟

وما كان ذلك ليكون في عهد سيّدنا البحر ، وإلّا .. لأدّى الواجب من نصرته.

ورأيت كتابا سيّره له أحد السّادة آل السّقّاف من قسم ، يقول له فيه : (أمّا أهل

__________________

(١) لبجوه لبجا : ضربوه ضربا.

(٢) القدّ : حبل يشدّ به الأسير. قال أبو الطّيّب المتنبّي :

وغيظ على الأيّام كالنّار في الحشا

ولكنّه غيظ الأسير على القدّ

والمعنى : لي غيظ على الأيّام يلتهب في الحشا التهاب النّار ، ولكنّه غيظ على من لا يكترث ولا يبالي بغيظي ، فهو كغيظ الأسير على ما يشدّ به من القدّ.

٥٨٤

حضرموت .. فلا يجادلون بحقّ ، إنّما يقولون : الوهّابيّة أهل البدعة الردية.

فقلنا : وما بدعتهم؟ قالوا : يكفّرون المسلمين ، ويستحلّون أموالهم ، ولم ينظروا إلى نواقض : لا إله إلّا الله ، وقواطع الإسلام بكلمة أهون من أفعال أهل هذا الزّمان.

وأمّا «الدّلائل الواضحة» (١) .. فلسنا برادّيه إلّا بعد نقله ، حيث هو أعجوبة الزّمان ؛ أذعن لمصنّفه من لا يحبّه ، لا سيّما ترجمته لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السّلام ـ رحمه الله ـ والذّبّ عن عرضه وعرض ابن القيّم وابن عبد الوهّاب ، الّذين عمي عن نورهم الخفّاش الّذي يضرّه نور الشّمس ، والجعل (٢) الّذي يضرّه ريح المسك.

والسّلام عليك وعلى أصنائك (٣) سالم ومحسن ، والولد علويّ بن سقّاف الجفريّ ، والخطّ لك وله واحد) اه

وسيأتي لبعض ما في هذه القطعة شرح في تريس إن شاء الله تعالى.

توفّي السّيّد عبد الله بن محمّد الحبشيّ في محرّم سنة (١٣١٤ ه‍) ، وخلفه على المنصبة السّيّد صالح بن أبي بكر بن محمّد الحبشيّ خلفا صالحا ، وكان شهما شجاعا ، إلّا أنّها لم تطل مدّته كثيرا ، بل توفّي في حدود سنة (١٣١٨ ه‍) ، وله أخ اسمه عليّ ، توفّي بالصّرع على إثره في منتصف رمضان من تلك السّنة ، وأخ آخر اسمه محمّد ، توفّي سنة (١٣٢٩ ه‍) ، وانقرض كلّهم من الذّكور ، وبعد وفاة السّيّد صالح .. خلفه السّيّد سالم بن طه الحبشيّ ، وكان فاضلا مضيافا إلّا أنّه كان ليّن العريكة ، دمث الأخلاق ، وفي أصحابه شراسة فتهضّموه ، وبقي على المنصبة إلى أن توفّي سنة (١٣٣٤ ه‍).

ثمّ خلفه عليها السّيّد عبد الرّحمن بن حسن بن شيخ إلى أن توفّي سنة

__________________

(١) هو كتاب «الدلائل الواضحة في الرد على رسالة الفاتحة» ، للعلامة علوي بن سقاف الجفري ، يرد فيه على رسالة للعلامة طاهر بن حسين بن طاهر ، انظر كلام المصنف عنها في تريس لاحقا.

(٢) الجعل : حيوان كالخنفساء يكثر في المواضع النّديّة.

(٣) أصناء ـ جمع صنو ـ وهو : الأخ الشّقيق والعمّ والابن.

٥٨٥

(١٣٣٦ ه‍) ، ووقع اختيار آل أحمد بن زين ومنصب الحدّاد على السّيّد عمر بن عبد الله بن محمّد بن أحمد الحبشيّ ، وكان فكها أديبا ، له نوادر وولع كثير بالأغاني والأوتار ، وله تهجّد واتّصال بالسّادة الأخيار ، ولهذا ذكرت في تأبينه ما جرى بين معاوية وإحدى نسائه في عبد الله بن جعفر ؛ فلقد سمعته في أغانيه بين جواره وأصحابه ، فقالت لمعاوية : تعال ، فهذا الّذي أنزلته بين جلدك ولحمك كيف يفعل؟! فسكت ، ولمّا كان من آخر اللّيل .. سمعه يرتّل آيات القرآن فأنبهها وقال لها : تعالي فاسمعي مكان ما أسمعتيني.

على أنّ لي في الأوتار كلاما لم أسبق إليه ، فصّلته في الفائدة (٢٤) من «بلابل التّغريد» ، وكانت وفاة السّيّد عمر بن عبد الله في آخر جمادى الآخرة من سنة (١٣٦١ ه‍) ، وخلفه السّيّد عليّ بن عبد الرّحمن الحبشيّ ، وهو رجل لطيف شديد التّواضع ، جميل الأخلاق (١) ، وقد زاده نبلا في عيني ، ومحبّة في صدري : أنّ النّجم الهادي عبد الله بن عمر بن سميط ربّاه في شبام ؛ إذ كان خال أمّه ، وماتت وهو في السّابعة وقد فقد أباه من قبل ذلك ، أطال الله عمره وإيّانا في خير وعافية ، وكانت منصبتهم ولا سيّما في أيّام السّيّد محمّد بن أحمد وولده عبد الله ، عبارة عن دولة قاهرة ، وسلطان نافذ ، إلّا أنّها لم تخل من شيء من الاستطالة ، أمّا الآن .. فقد تلاشى نفوذها بما كان من تداخل الأجانب بحضرموت.

وفي الحوطة بقايا من بني سعد ، ومن آل وبر ، ومن آل الجرو ، ومن آل مشعبي ، وآل باشراحيل ، وآل باطاهر ، وآل سمير ، وآل التّوي ، وآل بشير ، وآل غانم ، وآل باسيف (٢) ، وآل جوبح ، وآل مربش ، وآل الجريديّ وغيرهم.

__________________

(١) توفي السيد علي بالحوطة سنة (١٣٨٦ ه‍) ، والقائم بمنصب آل أحمد بن زين اليوم هو السيد الفاضل شيخ بن عبد الله بن سالم بن طه الحبشي.

(٢) وبها أيضا آل باقلاقل ، وآل جوبح ، وآل مربش ، وسادة من آل بلفقيه ، وأما آل مشعبي .. فشهرتهم في سيئون ؛ لأنهم كانوا تجارا بها ، حتى إن الشاي كان ينسب لهم فيقال : شاهي مشعبي ، وآل باطاهر كثير منهم في الحاوي.

٥٨٦

أرباض الحوطة :

قد علم ممّا سبق أنّ الحوطة في آخر حدّ وادي بن عليّ الشّماليّ ، فأرباضها من مثاوي آل كثير داخلة في حدود السّليل.

أمّا حاوي آل الحدّاد .. فبإزائها إلى الجنوب.

وفي شرقيّها إلى الشّمال : ديار لآل عمر بن سعيد ، تتلوها ديار لأناس من آل عمر بن سعيد أخرى إلى شمالها.

وفي شرقيّ هذه : قرية تسمّى بالفغوة ، للمشايخ آل باوزير ، إلى جانبها ضريح السّيد صالح بن عيدروس البحر والد سيّد الوادي الإمام حسن بن صالح.

وحوالي الفغوة من الجهات : حصون لآل كثير ونخيل منتشر.

وفي جنوبها حصون آل سلامة بن جعفر بن طالب ، كانت لهم قبولة حادّة ، مشوبة بكثير من التّعدّي والبغي ، حتّى لقد كان جعفر بن عبود بن عون ـ وهو من أواخرهم ـ يتخطّف صبيان المساكين ويبيعهم على بني أرض ، وهم يبيعونهم على من يذهب إلى القبلة والحجاز ، وقد حاق به بغيه حتّى مات في سجن الحكومة الكثيريّة.

وحصلت بينهم في الأخير مشاغبات وفتن داخليّة ، أثخنتهم ، فقلّوا وذلّوا ، وما كاد أمر الإنكليز يستفحل إلّا وقد انتهوا من الانحطاط إلى قراره.

ذي أصبح (١)

هي من قدامى بلدان حضرموت ، لها ذكر عند الهمدانيّ وغيره. وكان بها كثير من الإباضية كما ينطق بذلك ما سبق في شبام من شعر إمامهم إبراهيم بن قيس.

__________________

(١) ذو أصبح : هو اسم لأحد أقيال حمير ، واسمه الحارث بن مالك بن زيد بن قيس بن صيفي بن حمير الأصغر ، سمّي ذا أصبح لأنه غزا عدوّا وأراد أن يبيته ثم نام دونه حتى أصبح الصباح ثم قال لجيشه أصبح ، فسمّي ذا أصبح. وهو الذي أحدث السياط الأصبحية .. فنسبت إليه. هذا ما قاله نشوان في شرح قوله :

أم أين ذو قيفان أو ذو أصبح

لم ينج بالإمساء والإصباح

«خلاصة السيرة الجامعة» : (ص ١٩٣). وهناك أقوال أخرى.

٥٨٧

واقتصر الطّيّب بامخرمة في كتابه «نسبة البلدان» [خ / ١٢٤] على قوله : (وذي أصبح قرية بحضرموت لآل باعبّاد) اه

وصدق في قوله : (لآل باعبّاد) ؛ فكلّ من أراد أن يبني بها .. لا بدّ وأن يأخذ إجازة منهم ؛ لأنّ أراضيها من جملة أوقافهم ، ولكنّها قد اندثرت وجهلت مقاديرها ، وكثير من بقاعها.

وجامعها الموجود الآن هو من بناء المكرّم عون بن سعيد بن روّاس السّابق ذكره بالحزم.

ومنها كان العلّامة الجليل الشّيخ عبد الله بن سعد بن سمير ، وهو الشّيخ (١٩) من مشايخ سيّدي الأستاذ الأبرّ ، توفّي سنة (١٢٦٢ ه‍) ، وخلفه علما وصلاحا ولده العلّامة سالم بن عبد الله ، وكان السّيّد عبد الله بن عمر بن يحيى جعله وزيرا للسّلطان عبد الله بن محسن بن أحمد حينما كان نائبا عن أخيه غالب في أوائل دولتهم ، واشترط عليه أن لا يخرج عن رأيه ، وأن لا يخلو بأحد إلّا وهو معه ، فبقي على ذلك مدّة يطالع السّيّد عبد الله بن عمر فيها بكلّ ما يجري ، وينفّذ كلّ ما يشير به عليه ، ولكنّ السّلطان عبد الله لم يقدر على ذلك .. فنقضه ، وكان السّيّد عبد الله بن عمر يرشحه لقضاء تريم ليكون تحت إشارته في كلّ كبير وصغير ، ولكن كان أهل تريم وفي مقدّمتهم الجليل عبد الله بن حسين بلفقيه ـ الشّيخ (١٢) للأستاذ الأبرّ ـ مخالفا للسّيّد عبد الله بن يحيى على خطّ مستقيم ؛ حتّى لو قال أحدهما : (تمرة) .. لقال الآخر : (جمرة) ، وما نظنّ بهما إلّا الحقّ ، غير أنّ الهوى يصوّر الشّيء في عين صاحبه بغير ما هو عليه ، وكلّ يؤخذ من كلامه ويترك.

وكان الشّيخ عبد الله أحمد باسودان يفضّل بلفقيه في سعة العلم وغزارة المادّة.

ثمّ إنّ الشّيخ سالم بن عبد الله بن سمير توجّه إلى جاوة ومات ببتاوي في سنة (١٢٧٠ ه‍).

وبذي أصبح سكن قطب الجود ، وكعبة الوفود ، سيّدنا الإمام حسن بن صالح

٥٨٨

البحر (١) ، لقد كان علم هدى ، ومصباح دجى ، ومناط آمال ، وحمّال أثقال ، وغرّة زمان ، وحرز أمان ، ومعقل إيمان ، عقل الدّين عقل وعاية ورعاية ، لا عقل تدريس ورواية ، أمّا العبادة .. فيبيت صافّا قدميه إذا استثقلت بالمؤمنين الوسادة.

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمخلصين المضاجع

فلو زلزلت الأرض زلزالها .. لم يشعر بشيء مع استغراقه بالتّهجّد ، ولقد جرت له في ذلك أخبار لا نطيل بها ، من جنس ما وقع لابن الزّبير ؛ إذ صبّوا على رأسه الماء الشّديد الحرارة لمّا اتّهموه بالرّياء وهو ساجد فما أحسّ به.

ولقد كان يصلّي مرّة ومن ورائه الحبيب محمّد بن أحمد الحبشيّ وأخوه صالح وعتيق ـ السّابق ذكره ، الّذي كان لا يجازف قيد شعرة في تصوير الرّجال ـ ولمّا فرغوا .. قال عتيق : لقد تمثّلت واحدا نثر أمامنا صرّة من الرّيالات ونحن نصلّي ، فقلت في نفسي : أمّا حسن .. فلن يشعر بها أصلا ، وأمّا صالح .. فسيطاعن عليها ، وأمّا محمد .. فسيجمع بيديه ويقول : سبحان الله ، سبحان الله ، فبكى محمّد وقال : لقد جعلتني شرّهم ؛ إذ تلك سمة المنافقين.

وما تفرّسه عتيق هو عين الحقيقة ؛ أمّا الإمام البحر .. فقد زمّت التّقوى أموره ، وامتلك الإحسان شعوره ، فما هو إلّا ملك في المعنى وإن بقي إنسانا في الصورة.

فما دهره إلّا جهاد يقوده

لإحقاق حقّ أو صلاة يقيمها (٢)

كلّما حزبه أمر .. فزع إلى الصّلاة ، فيصير عندها الجبل الخشام (٣) كرمل الفلاة.

وأمّا الشّجاعة : فقد رادى جبال الجور فأزالها ، وكان لهاشم في النّجدة مثالها :

رسا جبلا في الدّين فهو بنصره

إذا ما تراخى الصّادقون مكلّف

__________________

(١) أفرده بالترجمة أستاذه ومعلمه الفقيه الشيخ عبد الله بن سعد بن سمير في كتاب سمّاه : «قلادة النحر في مناقب الحسن بن صالح البحر».

(٢) البيت من الطّويل.

(٣) الخشام : العظيم.

٥٨٩

ترى ملكا في بردتيه وتارة

ترى اللّيث من أعطافه الموت ينطف

إذا سار هزّ الأرض بأسا وقلبه

إذا قام في المحراب بالذّكر يرجف

يلوح التّقى في وجهه فكأنّه

سنا قمر أو بارق يتكشّف

فكثيرا ما قاد الكتائب للطّعان ، ونصب صدره للأقران ، فلقد صدّ عادية قوم في غربيّ شبام جاؤوا ليجتاحوا حضرموت ، وأوقع بهم شرّ هزيمة ، وقد أشكل عليّ أمر أولئك أوّلا ، يمكن أن يكون المكارمة الّذين جاؤوا في سنة (١٢١٨ ه‍) ، والنّاس يقولون : إنّهم الوهّابيّة ، ولكنّ بعض أهل حضرموت يطلقون على المكارمة الباطنيّة لقب : الوهّابيّة ؛ لأنّهم لا يفرّقون بينهم ـ على ما بينهم من البون ـ فالصّواب ـ كما يعرف من بعض المسوّدات ـ : أنّهم المكارمة ، جاؤوا هاجمين مرّة أخرى غير الأولى فكسرهم ، ولكنّ الّذي نقله والدي عن الأستاذ الأبرّ : أنّ بعض آل كثير قاوموا الوهابيّة ، وساعدهم بعض السّادة ، وحملوا السّلاح ، وجرح السّيّد شيخ بن عبد الله الحبشيّ جرحا خطيرا ، فشفاه الله بدعاء سيّدنا الحسن البحر ، ولم يفصح سيّدي الوالد فيما كتبه بأنّ أمير القوم إذ ذاك هو سيّد الوادي مولانا الحسن البحر ، ولكنّني سمعت من لسانه ذات المرّات أنّه هو ، وقد مرّت الإشارة إليه في حوره.

وكان سيّدنا الحسن البحر لا يقرّ على كظّة ظالم ، ولا على سغب مظلوم (١) ، ولقد جمع كلمة الشّنافر بعد جهد جهيد على ردّ الحقوق وإقامة الحدود ، وأخذ منهم العهود والرّهائن ، حتّى توجّه على رئيس منهم قصاص في قتل ، ولمّا صمّم على استيفائه .. احتال بعضهم على امرأة المقتول ـ وكانت أجنبيّة ـ فعفت ، فدخل الوهن على تلك الجمعيّة ؛ لأنّ أكثرهم بسطاء لا يفهمون ، ولو أنّه اطّلع على قول بعضهم بتحتّم القصاص إذا التزم الكاملون من الورثة بنصيب القاصرين ، أو الّذين يعفون من الدّية .. لأخذ به ؛ لأنّه مع قوّة عزيمته كان من أهل الاجتهاد والتّرجيح.

وكان لا يقوم أحد لغضبه إذا انتهكت حرمة الله أو اعتدي على من لا ناصر له

__________________

(١) الكظّة : امتلاء البطن حتى لا يستطيع معه التنفّس. السغب : الجوع. والمعنى : لا يترك الظالم ظالما ، ولا المظلوم مظلوما .. بل سرعان ما يأخذ الحق من الظالم ويرده للمظلوم.

٥٩٠

سواه ، وكان لا يخاطب عبد الله عوض غرامة فمن دونه من الرّؤساء في المعتبة إلّا باسمه ، مجرّدا عن كلّ صفة ، يسكت لغرامة على آرائه الوهّابيّة ؛ لأنّ بعضها يوافق ما عنده من تجريد التّوحيد ، ولكن لا هوادة له عنده متى انبسطت يده في ظلم من لا ناصر له إلّا الله ، فهو ركن الإسلام ، وموئل الأنام.

ترى النّاس أفواجا إلى باب داره

كأنّهم رجلا دبى وجراد (١)

قلّما تجد جذعا من النّخيل الحافّة بداره إلّا مربوطا بها ـ في أيّامه ـ حصان أو حمار.

ولقد رأى كثرة الوفود مرّة ببابه .. فخرج بمنجله يحتطب ، ثمّ جاء أمامهم بحزمة على رأسه ، وقال لبعض خاصّته : لقد أعجبتني نفسي فعمدت إلى وقذها ، ومازال بها حتّى أماتها كما فعل ابن الخطّاب رضي الله عنه.

وإن كان ليقوم بالمصحف في الجامع ، فقال له السّيّد عقيل الجفري ـ وكان آية في الإخلاص والنّصح ـ : نعم هذا لو كان في بيتك ، فما أجابه إلّا بقول ابن الفارض [في «ديوانه» ٤٦ من الطّويل] :

فأبثثتها ما بي ولم يك حاضري

رقيب لها حاظ بخلوة جلوتي

فاقتنع ؛ إذ كان لا يختلجه أدنى ريب في صدقه.

وبحقّ يقول فيه الإمام المحضار :

ومن في (ذي صبح) (٢) أصبح

وذبّاح بها يذبح

وطبّاخ بها يطبخ

وبو صالح بها ينضح (٣)

بلا عجب ولا كبر

__________________

(١) البيت من الطّويل ، وهو لأبي نواس في «ديوانه» (٤٧٢). الرّجل : القطيع من الجراد ونحوه من الخلق. الدّبى ـ جمع دباة ـ وهي : أصغر ما يكون من الجراد والنّمل.

(٢) ذي صبح : هكذا ينطق اسم البلدة عند العامة.

(٣) إما بالحاء المهملة من النضح ، أو (ينذخ) بذال وخاء ؛ أي : يعطي ويقسّم.

٥٩١

وكان في الجود آية ، وفي الشّفقة بالأيامى واليتامى والضّعاف غاية ، وإن كان جاهه الضّخم في آخر أيّامه ليدرّ عليه بالأموال الطّائلة من شرق الأرض وغربها ، ثمّ لا يبيت عنده دينار ولا درهم ، ولقد أراد جماعة من محبّيه أن يشتروا له عقارا .. فغضب عليهم.

وورده مرّة ألف ريال (١) فلم يمس منه شيء.

جود يحرّك منه كلّ عاطفة

ورحمة رفرفت منه على الأمم (٢)

ولقد كاد مع وقار ركنه يطير طربا عندما تمثّل له جدّي في مناسبة بقول جوبة بن النّضر [من البسيط] :

إنّا إذا اجتمعت يوما دراهمنا

ظلّت إلى طرق المعروف تستبق

لا يعرف الدّرهم المضروب صرّتنا

لكن يمرّ عليها وهو منطلق

لأنّ ذلك حاله رضوان الله عليه ، لا ينزل موضعا إلّا عمّه نورا ، وملأه سرورا.

إن ضنّ غيث أو خبا قمر

فجبينه ويمينه البدل (٣)

وله من التّحنّن على الفقراء ما من أمثلته : أنّ جدّي المحسن طلب يد بنته بهيّة ، فعمل لهم ضيافة حسب العادة ، وبينما هو في انتظارهم .. أطلّ من النّافذة ، فإذا الدّار محفوف بالنّظّارة من المساكين ، فأمر بإدخالهم وتقديم الطّعام لهم ، ثمّ لمّا أقبل جدّي بخيوله ومركبه وطبوله .. استأنف لهم الذّبائح والطّبخ. وله من هذا النّوع أمثال كثيرة ، يعظّم أهل الدّين ، ويكرم الفقراء والمساكين ، وإن كان الأغنياء والرّؤساء في مجلسه لأذلّ منهم في مجلس سفيان الثّوريّ ، وأخرج أبو نعيم [٦ / ٣٦٥] بسنده إلى عيسى بن يونس قال : (ما رأينا الأغنياء والسّلاطين في مجلس قطّ أحقر منهم في

__________________

(١) من الريالات الفرانصة (ماريا تريزا) المتداولة آنذاك.

(٢) البيت من البسيط ، وهو لأبي تمّام في «ديوانه» (٢ / ٩٧). باختلاف بسيط.

(٣) البيت من الكامل وهو للطّغرّائيّ في «ديوانه» ، وفيه لف ونشر مشوّش ، إذ ذكر في الشطر الأوّل الغيث والقمر ، ثمّ ذكر في الشّطر الثّاني الوجه واليمين ، ويناسب الغيث .. اليمين ، ويناسب القمر .. الوجه ، والله أعلم.

٥٩٢

مجلس الأعمش ، وهو محتاج إلى درهم) ، ولئن صحّ هذا أو لا .. فقد جاء العيان بسيّد الوادي فألوى بالأسانيد.

مناقب يبديها العيان كما ترى

وإن نحن حدّثنا بها دفع العقل (١)

وقد اعترف السّيّد أحمد بن عليّ الجنيد ـ وهو من أقرانه ـ بالعيّ عن وصف ما شاهده من أعماله واجتهاده في سفره .. فكيف بمثلي؟

وهو بذلك جدير ؛ إذ الإمام البحر أكبر من قول أبي الطّيّب [في «العكبريّ» ١ / ٣٥٢ من البسيط] :

لم أجر غاية فكري منه في صفة

إلّا وجدت مداها غاية الأبد

على أنّني لا أريد من عدم النّفاد إلّا ضيق العبارة عن سعة المعاني ، وإلّا .. فكلّ شيء في الحياة نافد ما عداه جلّ جلاله.

وكان جدّي المحسن كثيرا ما يقول : إنّنا لا نعني الجوارح إلّا بطريق المجاز عندما نقول : اللهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا ، وأمّا على الحقيقة .. فلا نقصد إلّا حسن بن صالح ، وأحمد بن عمر بن سميط ، وعبد الله بن حسين بن طاهر ، فهؤلاء الثّلاثة هم أركان الإسلام والشّرف لذلك العهد ، فلله درّ البحتريّ في قوله [في «ديوانه» ٢ / ٧٧ من الطّويل] :

فأركانهم أركان (رضوى) (ويذبل)

وأيديهم بأس اللّيالي وجودها

وقد كان بينهم من التّصافي والاتّحاد ما يشبه امتزاج الماء بالرّاح ، والأجسام بالأرواح ، وكلّ واحد منهم أمّة تنكشف به الغمّة.

لعمرك ما كانوا ثلاثة إخوة

ولكنّهم كانوا ثلاث قبائل (٢)

والمفاضلة بينهم لا تليق بمثلي ، ومن دون ذلك الفلوات الفيح والعقبات

__________________

(١) البيت من الطّويل ، وهو لأبي الفتح البستيّ في «ديوانه».

(٢) البيت من الطويل ، وهو من قطعة لأبي تمّام في «ديوانه» (٢ / ٣٢٢) ، وما أجمل توافق الاستشهاد بهذا البيت مع من ذكرهم من الأعلام وكانوا ثلاثة!.

٥٩٣

الكأداء ، غير أنّ ما يتفضّل به علينا التّاريخ من يوم إلى آخر يجعلنا لا نعدل بالحبيب حسن أحدا ، لا في شهامته ، ولا في شدّته في الله ، ولا في قوّة ثقته به وفرط توكّله عليه وتفانيه في مواقع رضاه.

وبهذه المناسبة ذكرت شيئين :

أحدهما : ما رواه غير واحد أنّ الإمام أبا حنيفة سئل عن الأسود وعلقمة وعطاء أيّهم أفضل؟ فقال : والله ما قدري أن أذكرهم إلّا بالدّعاء والاستغفار ؛ إجلالا لهم ، فكيف أفاضل بينهم؟

هذا ما يقوله أبو حنيفة عن هضم للنّفس فيما نخال ، وإذا نحن قلنا نحوه في أمثال هؤلاء .. فإنّما نتحدّث بالواقع ، ونخبر عن الحقيقة ؛ لأنّ الحكم بالشّيء فرع تصوّره ، والأمر كما قال البوصيريّ [من الخفيف] :

فورى السّائرين وهو أمامي

سبل وعرة وأرض عراء

والثّاني : ما ذكره ابن السّبكيّ في «طبقاته» [٥ / ٣٥٣] وياقوت في مادّة (المقدس) من «معجمه» [٥٤ / ١٧٢] وغيرهما ـ عن بعض أهل العلم قال : (صحبت أبا المعالي الجوينيّ بخراسان ، ثمّ قدمت العراق ، فصحبت الشّيخ أبا إسحاق الشّيرازيّ ، فكانت طريقته عندي أفضل من طريقة الجوينيّ ، ثمّ قدمت الشّام فرأيت الفقيه أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسيّ ، فكانت طريقته أحسن من طريقتهما جميعا).

وقد ميّلت بين الجوينيّ والشّيرازيّ في «العود الهنديّ» قبل اطّلاعي على هذا بزمان طويل بما لا يبعد عنه ، وما ظنّي بالرّاوي لو اطّلع على ثلاثتنا .. إلّا تفضيلهم في التّقوى والدّين ، وإن كان أولئك أغزر في العلم.

فما كان بين الهضب فرق وبينهم

سوى أنّهم زالوا وما زالت الهضب

وكلّا والله لم يزولوا ولكنّهم انتقلوا فعولوا ، وقد جاء فيما يقولوا [من الكامل] :

وإذا الكريم مضى وولّى عمره

كفل الثّناء له بعمر ثاني

وما أحسن قول أبي القاسم ابن ناقياء في رثائه لأبي إسحاق الشيّرازيّ [من الكامل] :

إن قيل مات فلم يمت من ذكره

حيّ على مرّ اللّيالي باقي

٥٩٤

والله أعلم بحقائق الأمور والمطّلع على خفيّ ما في الصّدور.

ولمّا توفّي في سنة (١٢٧٣ ه‍) بقرية ذي أصبح عن عدّة أولاد .. لم يرث حاله منهم إلّا ولده عبد الله (١) ، وكان يسمّيه : قرّة العين ، بسبب أنّه وصل له مال دثر فقال لأولاده : خذوا ما شئتم ، فكلّ أخذ من الرّيالات ما يقدر على حمله .. إلّا عبد الله (٢) فإنّه اقتصر على طلب الدّعاء بالثّبات على الإيمان ، فقال له : قرّت بك عيني يا ولدي ، فأطلق عليه ذلك اللقب من يومئذ ، فكان هو خليفته ووارث سرّه.

أبقى لنا العبّاس غرّتك ابنه

مرأى لنا وإلى القيامة مسمعا (٣)

لقد كان ركن إسلام ، وطود تقوى ، وعمود محراب ، وثمال أيامى ، وموئل يتامى ، ومعاذ مظلوم .. وحامي حمى ، وحارس حدود.

مزايد نفس في تقى الله لم تدع

له غاية في جدّها واجتهادها (٤)

فما مالت الدّنيا به حين أشرقت

له في تناهي حسنها واحتشادها

لسجّادة السّجّاد أحسن منظرا

من التّاج في أحجاره واتّقادها

لقد كان يستجهر النّاس بوسامته وما على جبينه من آثار القبول وارتسامه ، ولا سيّما إذا قام في محفل يذكّرهم بالجلالة ، بوجه جميل ، عاليه جلالة ، وتغشاه من الأنوار هالة.

من البيض الوجوه بني عليّ

لو انّك تستضيء بهم أضاؤوا (٥)

هم حلّوا من الشّرف المعلّى

ومن كرم العشيرة حيث شاؤوا

__________________

(١) ينطق بكسر الدال وترقيق اللام الأولى ؛ (عبد اللّاه).

(٢) ينطق بكسر الدال وترقيق اللام الأولى ؛ (عبد اللّاه).

(٣) البيت من الطّويل ، وهو لأبي الطّيّب المتنبّي في «العكبريّ» (٢ / ٢٦٨) ، والمعنى : قد خلّف ـ أبوك ـ العبّاس طلعتك ، يا ابنه ؛ فهو على حذف حرف النّداء ؛ أي : قد خلّف طلعتك لنشاهد فضلك وكرمك ، وليبقى ذكرها إلى يوم القيامة.

(٤) الأبيات من الطّويل ، وهي للبحتريّ في «ديوانه» (١ / ١٢٧ ـ ١٢٨).

(٥) البيتان من الوافر.

٥٩٥

تزيده تلك السّجّادة نورا ، فتمتلىء بمرآه القلوب سرورا ، وما زال كأبيه علم المهتدين ، وأسوة المقتدين ، ومنهل الشّاربين ، ومأمن الخائفين إلى أن دعاه الحمام (١) ، وهو يردّد كلمة الإسلام بقريته ذي أصبح ، في سنة (١٣١٩ ه‍) عن غير أولاد ذكور.

وكانت صغرى بناته ، وموضع رعايته ، وأحبهنّ إليه .. هي زوجتي المعمّة المخولة ؛ إذ كانت أمّها هي البرّة التّقيّة رقوان بنت سيّدنا الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر ، المتوفّاة على أبلغ ما يكون من الثّبات على الإيمان في الحجّة من سنة (١٣٦٢ ه‍).

تخيّرتها من بنات الكرام

ومن أشرف النّاس عمّا وخالا (٢)

وهي أمّ أولادي : حسن ، ومحمّد ، وعيدروس ، وأحمد ، وعلويّ ، وشقائقهم الموجودين اليوم ، وقد مات لي منها : بصريّ ، واشتدّ حزني عليه ، ورثيته بعدّة مراث توجد بمواضعها من «الدّيوان» ، وعليّ ، ورثيته بمرثاة واحدة ، وأكبر وجدي عليه ؛ لأنّه جدّد الجروح الّتي لم تكن لتندمل على بصريّ [من الطّويل] :

فما سرّ قلبي منذ شطّت به النّوى

نعيم ولا كأس ولا متصرّف

وما ذقت طعم الماء إلّا وجدته

سوى ذلك الماء الّذي كنت أعرف

ولم أشهد اللّذّات إلّا تكلّفا

وأيّ نعيم يقتضيه التّكلّف

وقد أشرت في بعض مراثيه إلى تكذيب زهير بن جناب في قوله [في «ديوان الحماسة» ٢ / ١٠٢ من الوافر] :

إذا ما شئت أن تنسى حبيبا

فأكثر دونه عدّ اللّيالي

وممّا صغّر المعرّيّ في نفسي قوله [في «سقط الزّند» ٢٠ من الطّويل] :

فإنّي رأيت الحزن للحزن ماحيا

كما خطّ في القرطاس رسم على رسم

__________________

(١) الحمام : الموت.

(٢) البيت من المتقارب.

٥٩٦

فله اليوم منذ قضى سبع وعشرون عاما ، والجرح عاند ، والصّبر يعاند ، ولا أزال أتمثّل بقول البهاء زهير [من الوافر] :

فيا من غاب عنّي وهو روحي

وكيف أطيق من روحي انفكاكا

يعزّ عليّ حين أدير عيني

أفتّش في مكانك لا أراكا

ختمت على ودادك في ضميري

وليس يزال مختوما هناكا

فوا أسفي لجسمك كيف يبلى

ويذهب بعد بهجته سناكا

ويعجبني قول ابن الرّوميّ في رثائه ليحيى بن عمر بن حسين بن زيد بن عليّ [من الطّويل] :

مضى ومضى الفرّاط من أهل بيته

يؤمّ بهم ورد المنيّة منهج

فلا هو أنساني أساي عليهم

بلى هاجه والشّجو للشّجو أهيج

وقول المرار العدويّ [من البسيط] :

لم ينسني ذكركم مذ لم ألاقكم

عيش سلوت به عنكم ولا قدم

وقد مات لي منها أيضا غير هذين ، ومع فرط الحزن .. فلم نتدرّع إلّا بالصّبر ، ولم نستشعر إلّا الرّضا ، ونحتسبهم عند الله فرطا وذخرا ، ونرجو بهم مثل ما رآه مالك بن دينار عن بنته في الدّار الأخرى :

وهوّن بعض الوجد عنّي أنّني

أجاوره في داره اليوم أو غدا

ويعجبني قول شبيب بن شبّة للمهديّ في التّعزية عن بنت : ثواب الله خير لك منها ، ورحمة الله خير لها منك ، وأحقّ ما صبر عليه .. ما لا سبيل إلى ردّه ، وهو مثل قول الآخر [من الكامل] :

اصبر نكن بك صابرين فإنّما

صبر الّرعيّة بعد صبر الرّاس

خير من العبّاس ربّك بعده

والله خير منك للعبّاس

وخير منه ما عزّى الأشعث به ابن أبي طالب ، وأشار إليه أبو تمّام بما لا حاجة إلى

٥٩٧

الإملال به ، وقد أشرت في بعض المراثي إلى أنّ نصيبي من الرّحمة كان أوفر ، وأنّ حظّها من الرّضا بقضاء الله كان أكثر ، وهي كما قال حسّان [في «ديوانه» ٣٧٧ من الطّويل] :

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (١)

راضية بعيشها ، قانعة برزقها ، مصونة في قصرها ، من اللّاء يقول في مثلهنّ الفرزدق [في «ديوانه» ١ / ٤٠٧ من الكامل] :

رجح ولسن من اللّواتي بالضّحى

لذيولهنّ على الطّريق غبار (٢)

وكما يقول قيس بن الأسلت [من الطّويل] :

ويكرمنها جاراتها فيزرنها

وتعتلّ عن إتيانهنّ فتعذر

وليس بها أن تستهين بجارة

ولكنّها من ذاك تحيا وتخفر

وقول عليّة بنت المهديّ [من الطّويل] :

فما خرّقت خفّا ولم تبل جوربا

وأمّا سراويلاتها فتمزّق

أي : لشدّة لزامها ؛ من فرط الصّون والعفاف.

قائمة بحقّ ربّها ، صالحة في دينها على جانب واسع من المعرفة والأدب ، لا يعرض لها حال إلّا تمثّلت ببعض بيت ؛ إذ كان عندها مئات الأطراف من الأبيات ،

__________________

(١) الحصان : العفيفة. الرّزان : المرأة الّتي عليها الثّبات والوقار. ما تزنّ : لا تتّهم. غرثى : جائعة.

الغوافل : النّساء الغافلات. والمعنى : لا تأكل لحوم النّاس لأنّها لا تتكلّم في أعراضهم.

(٢) رجح : صاحبات عقول راجحة. وظاهر معنى البيت ـ كما في «المثل السائر» (٢ / ٦٢ ـ ٦٣) ـ أن هؤلاء النساء يمشين هونا لحيائهن .. فلا يظهر لذيولهن غبار على الطريق. وليس المراد ذلك ، بل المراد أنهن لا يمشين على الطريق أصلا ؛ أي : إنهن مخبآت لا يخرجن من بيوتهن ، فلا يكون إذا لذيولهن على الطريق غبار. اه بلفظه من «المثل السائر». وهذا من المبحث البلاغي (نفي الشيء بإيجابه) ؛ كقولهم عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (لا تنثى فلتاته) وظاهر هذا الكلام أنه تكون في مجلس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هفوات .. لكنها لا تنثى ـ أي : تذاع ـ وليس ذلك مرادا البتة ، بل المراد : أنه لا هفوات فيه أصلا. ومثله بيتنا هذا كما في نفس المرجع والله أعلم.

٥٩٨

ولكنّها بالأكثر لا تستوفي البيت حفظا ولا تقيمه لحنا ، غير أنّها متى أنشدت بجملة منه .. ذكّرتني بباقيه فأنشدته إن حضرت.

وكانت إحدى بناتها ـ وعندها شيء من العلم ـ لا تقتدي بها (١) ؛ تزعم أنّها لا تحسن الضّاد ، بل تبدلها ظاء ، ولكنّ أكثر أهل العلم كما ذكره ابن كثير في «تفسيره» [١ / ٣١] على اغتفاره.

وأنا وإيّاها ـ ولله الحمد ـ في عيش طيّب ، وبال رخيّ ، وسكون تامّ ، ومودّة ورحمة ، واسترسال ومؤازرة ، لا نختلف في شيء قطّ من أمر الدّنيا ، وإليها ـ مع أنّها أمّيّة لا تكتب ولا تحسب ـ أمر البيت كما قضى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بين عليّ وفاطمة ، إلّا أنّ من شأنها :

١ ـ بطء الحركة ، ومن طبيعتي الاستعجال.

٢ ـ وهي مبتلاة بضياع المفاتيح ـ وكلّها في يدها ـ فكثيرا ما أعدم حاجتي عند طلبها.

٣ ـ وقد تقصر عن فهم إشارتي ولا تستوضحها ؛ اعتمادا على فهمها ، أو خشية أن تقطع عليّ فكرا أو كتابة أو مطالعة ، من أمثلة ذلك : أنّه وردني ضيف وهو السّيّد عبد القادر بن عمر بن محمّد بن أحمد الحبشيّ بعد ما ترجّل النّهار (٢) ، فأشرت بذبح جدي لا تزيد قيمته عن أربع روبيّات ، فذهب وهمها إلى شاة تزيد عن ثلاثين ، وأدخلوا اللّحم على حاله لم تؤثّر فيه النّار.

٤ ـ وأنّها لا تلوم أحدا من أولادها .. إلّا كنت معها عليه ، ومتى انعكست القضيّة .. كانت معه إلبا عليّ ، مع اعتقادي أنّي مصيب في الحالين.

أمّا من هذه المواضع .. فإنّ الشّيطان يجد السّبيل المهيع (٣) ، فيذكي جمرات الغضب ، ويثير معركة النّزاع ، ويقف مع النّظّارة ، ولا تسل عمّا يجري حينئذ.

وربّما يكون أوّل المعركة العتب الجميل لشيء صغير من أنواع ما تقدّم ، فيحصل في

__________________

(١) أي : في الصلاة.

(٢) ترجّل النّهار : ارتفع.

(٣) السبيل المهيع : الطّريق الواسع.

٥٩٩

الاعتذار لون من التّلبيس ، فعند ذلك يشتعل الوطيس ، ويبلغ ما يريده الشّيخ إبليس.

ومن سيّئاتها : أنّها لم تغرس لنفسها هيبة في صدور أولادها تعينها على ما يجب على الأمّ من التّأديب والتّثقيف والتّعليم والتّهذيب .. بل تلقي لهم الحبال على الغوارب ، فلا تعاتب أحدا على تقصير ، ولا تزجره عن إساءة أدب ، ولا تكلّف أحدا بعمل ينفعه عند الحاجة ، فهي تسيء إليهم من حيث تريد الإحسان.

غير أنّه يكفّ من ثورتي عليها لذلك قول الإمام مالك : (الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمّهات) ، وقول الشّعرانيّ : (لقد كنت في عناء من تأديب ولدي عبد الرّحمن ، حتّى وكلت أمره إلى الله .. فصلح) أو ما يقرب من هذا.

ومن جرّاء ذلك : استهان الخدم بأوامرها ؛ ولطالما أشرت عليها أن تعزم عليهم بقشر الباذنجان الأحمر ـ لأنّي أكره قشره وبذره ـ .. فلم يفعلوا يوما ما ، وإنّه ليأتيني في كلّ وجبة بقشره وبذره على ما لا أحبّ ، فإما أن تكون مستخفّة بعتبي ـ على شدّته في بعض الأحيان ـ وإمّا أن يكون الطّهاة غير مبالين بأمرها وإرشادها ، ومهما يكن من الأمر .. فإنّ إفراطها في المياسرة مع رعيّتها .. قد أتعبنا وإيّاها ، وأدى إلى خسائر جسيمة وإلى خلل لا يحتمل ، ولا سيّما في تدبير أمر البيت ؛ لأنّني أجعل تبعة تقصيرهم عليها ؛ بحكم قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «والمرأة راعية في بيت زوجها ، ومسؤولة عن رعيّتها» (١).

ومتى عاتبتها وأجابت بما لم ترعو عنه من الأجوبة الباردة .. أصعبت لها القول ، وناشبتها الشّرّ ، فزاد النّكد ، واشتدّ التّعب ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

ومن النّوادر : أنّني لمّا ذاكرتها مرة بمسألة الشّاة .. تنصّلت من الذّنب ، وأحالته على شؤم ناصية الضّيف ، وقالت : إنّه قد جاءك مرّة ، وأرسلت في شراء لحم له فأنسي الرّسول ، ثمّ استأنفت رسولا فجاء به متأخّرا ، واقتضى الوقت إدخاله عليه في مثل حال لحم الشّاة.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨٩٣).

٦٠٠