إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

ومنهم مسند حضرموت بل مسند الدّنيا كلّها في عصره إذ زلّت عن مرقاته الأصول ، ولم يتّفق لأحد إلى مثل علوّه الوصول : أستاذنا الأبرّ عيدروس بن عمر ؛ فإنّه مجمع المفاخر ، وبحر العلم الزّاخر ، وزينة الزّمن الآخر :

أزالت به الأيّام عتبي كأنّما

بنوها لها ذنب وهذا لها عذر (١)

وهو الإمام بحقّه ، والكمال بصدقه ، وعلى الجملة : فإنّي لا أجد عبارة ترضيني في وصف ما شاهدته من محاسنه ، فضلا عمّا لم أشاهده ، ولم ينته إلى تصوّره إذ ذاك سنّي ؛ إذ الأمر كما قال أبو الطّيّب [في «العكبريّ» ٢ / ٢٨٧ من الطّويل] :

وما حارت الأفهام في عظم شأنه

بأكثر ممّا حار في حسنه الطّرف

جمال يحسر الأنظار ، وكمال يدهش الحضّار ، وجلال يملأ البصائر ، ومقام يملك الضّمائر ، ووقار يأخذ النّفوس ، فلا يبقى لديه رئيس ولا مرؤوس .. إلّا وهم خاضعو الأذقان ، ناكسو الرّؤوس.

كأنّ شعاع عين الشّمس فيه

ففي أبصارنا عنه انكسار (٢)

وحديث يهزّ الشّعور ، ويجلب السّرور ، كأنّما هو اللّؤلؤ المنثور ، وتهتزّ له الجبال الرّكينة ، وكأنّما تنزل عنده السّكينة.

أندى على الأكباد من قطر النّدى

وألذّ في الأجفان من سنة الكرى (٣)

وممّا أستخرج به العجب من القوم ، ولا أزال ممتلئا به في نفسي إلى اليوم .. أنّني وأترابي من الصّغار ـ مع الانطباع على الحركة ـ نبقى في مجلسه الشّريف الساعات العديدة ، وكأنّما على الرّؤوس الطّير.

فبقايا وقاره عافت النّا

س وصارت ركانة في الجبال (٤)

__________________

(١) البيت من الطويل.

(٢) البيت من الوافر ، وهو لأبي الطّيّب المتنبّي في «العكبريّ» (٢ / ١١٠).

(٣) البيت من الكامل ، وهو من قصيدة رائيّة مشهورة لابن عمّار يمدح بها المعتضد عبّاد ، والد المعتمد ، تجدها في «نفح الطيب» (١ / ٩٥). السّنة : النّعاس. الكرى : النّوم.

(٤) البيت من الخفيف ، وهو لأبي الطّيّب المتنبّي في «العكبريّ» (٣ / ١٩٩). عافت : كرهت.

٦٢١

وكيف لا أعجب من شمول السكون ، مع أنّنا لا نعرف كلّ ما يكون ، وإنّما نلتذّ بريّاه ، وننعم بمحيّاه ، وحيّاه الله وبيّاه ، فمع قصورنا عن فهم الكثير مما يسرح فيه من المعاني الرّائقة ، والعبارات الفائقة .. نحسّ كأنّما تبسط له الملائكة أجنحتها ، وتلقي ـ وما تدري ـ له الأكفّ أسلحتها ، لا سيّما إذا ازدحم الجمع يستجلون هلاله ، ويسمعون منه كلمة الجلاله.

فتلقي وما تدري الأكفّ سلاحها

ويخرق من زحم على الرّجل البرد (١)

وقد سبق في القويرة : أنّ شيخنا العلّامة ابن شهاب يقول : (لو لا أنّي رأيت ثلاثة ؛ وهم : محسن بن علويّ السّقّاف ، وأحمد بن محمّد المحضار ، وعيدروس بن عمر الحبشيّ .. لما صدّقت بما يروى عن الرّجال من مقامات الكمال) ولكن جاء العيان فألوى بالرّوايات ، وقد قال أبو عبادة [البحتريّ في «ديوانه» ٢ / ٣١٠ من البسيط]

رأيت مجدا عيانا في بني أدد

إذ مجد كلّ قبيل غيرهم خبر

ولا جرم فقد كان الأستاذ نسخة السّيرة النّبويّة ، لا يحيد عنها شعرة ، ولا يلتفت يمنة ولا يسرة.

فما هو إلّا نبعة من غصونه

وطلعة نور من شريف خلاله (٢)

ولقد زرت هودا عليه السّلام معه في سنة (١٣١١ ه‍) ، ورأيت النّاس حافّين به.

كأنّهم عند استلام ركابه

عصائب حول البيت حان قفولها (٣)

__________________

الرّكانة : الرّسوخ. والمعنى ـ كما في العكبريّ ـ : وما بقي من حلمه الّذي أعطاه الله .. كره النّاس ، فلم يحلّ بهم ، فحلّ في الجبال ، فصار ركانة فيها وثبوتا.

(١) البيت من الطويل ، وهو متداخل من بيتين للمتنبي في «العكبري» (٢ / ٥) ، والبيتان هما :

بمن تشخص الأبصار يوم ركوبه

ويخرق من زحم على الرّجل البرد

وتلقي وما تدري البنان سلاحها

لكثرة إيماء إليه إذا يبدو

(٢) البيت من الطّويل.

(٣) البيت من الطّويل ، وهو للبحتريّ في «ديوانه» (١ / ٤٠٠).

٦٢٢

وهو يسير بسير ضعيفهم ، وكلّما مشى ميلا .. عرض العقبة (١) على مولى له ـ يقال له : فرج ـ يسير أمام دابّته ، ينبو عن جنبه الرّمح ، كأنّه المهر الأرن (٢) من فرط القوّة والنّشاط ، ولكن هكذا كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وما قدر ثنائي عليه بعدما كان ثناء مشايخه عليه الباب الواسع؟! ومن قيّل بين ما يأتي آخر هذا الكتاب من احتياط سيّدنا عبد الله بن حسين بلفقيه في توثيق الرّجال .. وبين ممادحه الضّخمة للأستاذ الأبرّ في أيّام شبابه .. عرف صدق ما أقول.

وصحّ أنّ أبناء الإمام الشّهير عبد الله بن حسين بن طاهر عادوا من زيارة دوعن ، ولمّا سألهم أبوهم : هل عرّجتم على الولد عيدروس بن عمر؟ قالوا : لا. قال : لا تحلّوا الرّحال حتّى ترجعوا فتزوروه ؛ لأنّ الأمر كما قال ذو الرّمّة [في «ديوانه» ٢٧٠ من الوافر] :

تمام الحجّ أن تقف المطايا

على خرقاء واضعة اللّثام

ومع إجماع النّاس على تفضيله ، وإصفاقهم بتفرّده ؛ لأنّ أمره كما قال الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» ٢ / ٤٠٣ من الطّويل] :

ولو لم يقرّ الحاسدون بمجده

أقرّوا على رغم بفضل التّقدّم

 .. فإنه لم يسلم من أذى الحسّاد ، بل كان له منه النّصيب الكاثر ، إلّا أنّه لمّا أبرّ عليهم .. سقطت هممهم عن منافسته ، وكانوا معه كما قال مروان [في «ديوانه» ٧٤ من الطّويل] :

فما أحجم الأعداء عنك بقيّة

عليك ولكن ما رأوا فيك مطمعا

ولمّا لم يجدوا وسيلة لما يشفي ضباب ضغنهم عليه .. أرضوا المعلّم عليّ بن سعيد حميد ابن عبد هود على أن يسحره ـ وكان متمكّنا في ذلك الفنّ ـ ففعل.

ولمّا عرف خبره وانكشف أمره .. جاؤوا به إلى حضرة الأستاذ ، فاعترف وقال :

__________________

(١) العقبة : النّوبة.

(٢) الأرن : النّشيط.

٦٢٣

إنّه بإغراء من بعض العلويّين وأحد آل باجمّال ، واعتزم الشّيخ صالح بن محمّد بلفاس قتله ، ولكّن الأستاذ حال بينه وبين ذلك ، واقتنع منه بالتّوبة.

ثمّ إنّه خان وعاود العمل برشوة كبرى من أولئك ، وهرب عن حضرموت ، واشتهر أمره فقتل ، والأمر أجلى من ابن جلا.

وما عسى أن أقول فيمن حفّه التّوفيق .. فالمجال رحب ولكن في الكلام ضيق ، وما يزال بعيني ذلك الوجه الرّضي كأنّما هو فلقة القمر المضي ، لا يكسف نوره بوس ، ولا يغيّره عبوس ، بل كان جبل رضا لا يتحلحل ولا يتكدّر ما عليه من الوسام ، وقد تعوّد أن يطرد البكاء كلّما عرض له بالابتسام ، كأنما عناه تميم بن المعزّ بقوله [من الطّويل] :

وبي كلّ ما يبكي العيون أقلّه

وإن كنت منه دائما أتبسّم

ولقد مات له حفيد يسمى أحمد ، كأنّه زهرة شرف في روضة ترف.

زهرة غضّة تفتّح عنها ال

مجد في منبت أنيق الجناب (١)

قصدت نحوها المنيّة حتّى

وهبت حسن وجهها للتّراب

تعنو له البدور ، كأنّما خلق من نور ، وتلوح عليه شواهد الفتوح ، ويضمّ إلى الشّرف والجمال خفّة الرّوح.

رأته في المهد عتّاب فقال لها

ذوو الفراسة هذا صفوة الكرم (٢)

ولا عبارة تفي وقد بذّ جماله المكتفي ، ومع الكمال النّاجم .. لم يأخذ بقول كشاجم [في «ديوانه» ٦١ من الكامل] :

شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ

من شرّ أعينهم بعيب واحد

دو كانت وفاته في جمادى الآخرة سنة (١٣١٣ ه‍) ، فاشتدّ عليه وجده ، وغلبته

__________________

(١) البيتان من الخفيف ، وهما لأبي تمام في «ديوانه» (٢ / ٢٨٣).

(٢) البيت من البسيط ، وهو لأبي تمام في «ديوانه» (٢ / ٩٤). عتّاب : هم آل عتاب بن سعد بن زهير ، يتصل نسبه بربيعة بن نزار بن معد بن عدنان ، من بني تغلب.

٦٢٤

عينه ؛ لأنّه وإن كان من سادات العارفين الّذين لا تبقى لهم مع الله إرادة .. لم ينس مقام الرّحمة ، بل وفّى كلّا حقّه ، كما قلت عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم من مطوّلة نبويّة [في «ديوان المؤلّف» ١٤٤ ـ ١٤٥ من الكامل] :

واذكر مصارع آله فهم الألى

يتقدّمون إذا الفوارس أحجموا

فلطالما حزن النّبيّ لجعفر

ولعمّه وهو الكميّ المسلم (١)

وبكى عبيدة يوم بدر قبلهم

عيناه تدمع والفؤاد مسلّم (٢)

وقلت في رثائي لثمرة الفؤاد ولدي بصريّ السّابق ذكره في ذي أصبح [من الكامل] :

هذا الكمال فلو أخلّ بمظهر

لأتى إلى أخلاقه يتذمّم

وقلت من أخرى :

وما زال حرب بين صبري ورحمتي

وإنّي لراج فيهما كامل الأجر (٣)

وقد أنكروا فعل الفضيل ومشيه

لدفن ابنه في حبرة ضاحك الثّغر (٤)

وخير الورى في غير ما موقف ذرى

وبلّ الثّرى دمعا يفوق على الدّرّ

أمّا سيّدنا الأستاذ الأبرّ .. فلو رآه أكبر أديب بذلك اليوم الرّهيب .. لما خرج عن قول حبيب [في «ديوانه» ١ / ١٢٣ من الكامل] :

ورأيت غرّته صبيحة نكبة

جلل فقلت : أبارق أم كوكب؟!

ومع ذلك فقد وفّى حقّ المقامين يومئذ فأذال الدّمع باديا ، ثمّ لجأ إلى التّبسّم

__________________

(١) جعفر : هو سيّدنا جعفر الطّيّار بن أبي طالب ، استشهد في غزوة مؤتة. لعمّه : هو سيّدنا حمزة بن عبد المطّلب ، استشهد في غزوة أحد. الكمّي : الشّجاع. المعلم : المشهور.

(٢) عبيدة : هو عبيدة بن الحارث الصّحابي ، من آل بيت النّبوّة ، استشهد في يوم بدر ، عليه رحمات الله.

(٣) الأبيات من الطويل ، وهي في «ديوان المؤلف» ق (٩٦).

(٤) فعل الفضيل : هو ما رواه غير واحد ؛ منهم الحافظ أبو نعيم في «الحلية» (٨ / ١٠٠) قال : عن أبي عليّ الرّازيّ قال : (صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ، ما رأيته ضاحكا ولا متبسما إلّا يوم مات ابنه عليّ ، فقلت له في ذلك! فقال : إنّ الله عزّ وجلّ أحبّ أمرا .. فأحببت ما أحبّ الله).

٦٢٥

ثانيا ، على حدّ قول الرّضيّ [في «ديوانه» ٢ / ٢١١ من الكامل] :

ولربّما ابتسم الفتى وفؤاده

شرق الجنان برنّة وعويل

وذكر الجنان بعد الفؤاد من الحشو القبيح.

وقول الآخر [من الطّويل] :

ضحكت وكان الصّبر منّي سجيّة

وقد يضحك الإنسان وهو حزين

وقال الأوّل [من الكامل] :

ولربّما ابتسم الكريم من الأذى

وفؤاده من حرّه يتأوّه

ثمّ إنّ ابتسامة الأستاذ لم تكن إلّا عن برد الرّضا ، ولكنّها وقعت على والدي وأمثاله من محبّيه وعارفيه أمثال الصّاعقة ، فانقبض رجاهم ، واطلخمّ دجاهم ، وفاضت منهم العبرات وتصاعدت منهم الزّفرات ، وكان له أمر غريب ، ومشهد مهيب ، وزاد الطّين بلّة أنّ سيّدي علويّ بن عمر شقيق الأستاذ ـ وكان جبلا من الحلم والعبادة ، وركنا من أركان الشّرف والسّيادة ـ توفّي قبله في جمادى الأولى من تلك السّنة.

والشّابّ المنغّص الشّباب أحمد ، قال الشّيخ عمر شيبان ـ وقد أظهر الشّماتة له بعض أهل الظاهر ـ فقال أبياتا في يوم الإثنين (٢٩) جمادى الآخر سنة (١٣١٣ ه‍) [من مجزوء الخفيف] :

نحن بالله عوذنا

والحبيب المقرّب

كلّ من رام ضرّنا

من قريب واجنبي

سهمنا فيه قولنا

حسبنا الله والنّبي

في أبيات ضعيفة التّركيب ؛ لأنّ الله لم يعلّمه الشّعر لعظيم نصيبه من الوراثة النّبويّة فيما أظنّ ، وقد دعا فيها على الشّامت فاستجاب الله دعاءه إن كان الّذي عرفته في لحن القول برغم تكتّم والدي ورفاقه بذلك لبعدهم عن المنافسات رضوان الله عليهم.

٦٢٦

وقد قرأت على سيّدنا الأستاذ الأبرّ ، وسمعت منه ، وحضرت لديه ، وتكرّرت لي الإجازة والمصافحة والتّلقيم والإلباس منه ، وتلقّيت عنه المسلسلات بالفعل بعضا ، والإجازة في الباقي ، وأخلصني بدعائه ، وشملني باعتنائه ، وما ألذّ على لساني وقلمي من ثنائه ، ولله درّ المتنبّي في قوله [في «العكبري» ٣ / ٢٦١ من الكامل] :

ما دار في الحنك اللّسان وقلّبت

قلما بأحسن من نثاك أنامل (١)

وقد ذكرته في «الأصل» و «الدّيوان» بأكثر ممّا هنا ، وكلّه قليل ، لا يشتفي به الغليل ؛ لأنّ محاسنه الفضاء لا يقطعه نسر ، والكثير لا يشمله حصر.

وتحيّرت فيه الصّفات لأنّها

ألفت طرائقه عليها تبعد (٢)

وقد انتهت مناقب السّلف الصّالح إليه ، وما رأى النّاس إجماعا على فضل أحد مثل إجماعهم عليه.

ما زال منقطع القرين وقد أرى

من لا يزال مشاكل يلقاه (٣)

ليس التّفرّد بالسّيادة عندنا

أن توجد الضّرباء والأشباه

ثمّ إنّه لم يزل يعاني الآلام ، في ثبات الأعلام ، حتّى نزل به الحمام ، فاستدعى أهله وأولاده ، وشرب من ماء سقاهم فضله ، وودّعهم وأوصاهم ودعا لهم ، ثمّ أخذ الموت يلتاط به ، حتّى بردت أطرافه ، ونزل به قوم من آل أحمد بن زين الحبشيّ فأمر بتسخين يده كيلا ينكروا بردها ، وأذن لهم وقرأ الفاتحة ، ولمّا نهضوا .. عزم على الصّلاة ، فأريد على التّرخّص في الطّهارة لضعفه وموت أطرافه .. فقال : كيف آخذ بالتّوسعة وهذه آخر صلاتي في الدّنيا وقد قال صلّى الله عليه وآله وسلّم : «صلّ صلاة مودّع» (٤).

__________________

(١) نثاك : خبرك ، وهو هكذا بتقديم النّون. والمعنى ـ كما في «العكبريّ» ـ : ما تكلّم ولا كتب بأحسن من أخبارك.

(٢) البيت من الكامل ، وهو للمتنبي في «العكبري» (١ / ٣٣٣).

(٣) البيتان من الكامل ، وهما للبحتري في «ديوانه» (١ / ٣٣٧).

(٤) أخرجه ابن ماجه (٤١٧١) ، والطّبرانيّ في «الأوسط» (٤ / ٣٥٨).

٦٢٧

فما تلكم الأخلاق إلّا مواهب

وإلّا حظوظ في الرّجال تقسّم (١)

وبعد أن فرغ من صلاة العصر على أتمّ حال .. أمر بأن يوجّه إلى القبلة على شقّه الأيمن ، وما كاد ينتهي من الجلالة حتّى فاضت روحه في التّاسع من رجب سنة (١٣١٤ ه‍) ، ولم يزل حيّا بآثاره المشاهدة ، ومناقبه الخالدة ، ونشره الفائح ، وابنه الصّالح ، غزير الحلم ، ومن له من المكارم أفضل سهم ، والصّادق عليه قول عليّ بن الجهم [من الطّويل] :

فما مات من كان ابنه لا ولا الّذي

له مثل ما سدّى أبوه وما سعى

فلقد خلفه ولده جمال الدّين محمّد على مزايا فاضلة ، وأخلاق كاملة ، وخيرات شاملة ، ولكنّه لم يطل عمره ، بل مات وشيكا في سنة (١٣١٩ ه‍) ، واتّفق أن توارد كثير من أهل هذا البيت الطّيّب ـ نساء ورجالا ـ على حياض المنيّة ، قبيل وفاة الأستاذ الأبرّ وعقيبها ، فكانوا كما قيل [من الخفيف] :

أهل بيت تتابعوا للمنايا

ما على الموت بعدهم من عتاب

وكما قال الرّضيّ [في «ديوانه» ١ / ١٨٢ من الكامل] :

هتف الرّدى لجميعهم فتتابعوا

طلق العطاس بني أب وبني أب

والقائم في مقامه اليوم ، وترتيب مجالسه ومدارسه : حفيده الفاضل المكرّم عليّ بن محمّد بن عيدروس أخو أحمد السّابق ذكره ، نسأل الله أن يسلك بنا وبه الطّريق ، ويلحقنا وإيّاه بأولئك الفريق ، ويعمّر بنا وبه الدّيار ويحيي بنا وبه الآثار ، ولله درّ أبي عبادة في قوله [في «ديوانه» ١ / ٣٣٦ من الكامل] :

لا عذر للشّجر الّذي طابت له

أعراقه أن لا يطيب جناه

ونسيت ـ ما أنساني إلّا الشّيطان ـ ذكر أن لا مناسبة بين كلام سيّدنا الأستاذ الأبرّ في مجالسه وبين قلمه ؛ إذ كان لا يريد من قلمه إلّا تقييد الشّوارد وتحصيل الفوائد ، وكذلك كان شعره ضعيفا.

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للبحتري في «ديوانه» (١ / ١١٢).

٦٢٨

أمّا مجالسه .. فقد كانت بساتين نافحة الأزهار يانعة الأثمار ، كما يعرف بعض ذلك بما حصّله والدي رضوان الله عليه باستذكاره بعد وفاته من كلامه.

ومن فضلاء الغرفة : شيخنا الإمام ، السّيّد : شيخان بن محمّد الحبشيّ (١) ، كان بحرا من بحور العلم ، وجبلا من جبال العبادة ، ونجما من نجوم الإرشاد ، ورجما من رجوم الإلحاد.

إمام رست للعلم في أرض صدره

جبال جبال الأرض في جنبها قفّ (٢)

أقام في طلبه زمانا بمكّة المشرّفة ، وأخذ عن أراكينها ، وكان سريع المطالعة ، طالع تفسير «الخازن» في أربعة أيّام مطالعة بحث وتحقيق ، وكتب عليه تعليقات ، وله شعر يرتفع عن أشعار العلماء ، منه القصيدة الطّولى الّتي استهلّها بقوله [من الرّمل] :

لمع البرق على أطلال ميّ

وسقى الودق هضيبات لؤيّ

وورد مرّة إلى سيئون سؤال من آل يحيى ، يتعلّق بسجود التّلاوة في الصّلاة ، فكتب عليه السّيّد محمّد بن حامد بن عمر السّقّاف جوابا ، صادق عليه العلّامة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ وجماعة من طلبة العلم بسيئون ، فوافق وصول العلّامة السّيّد شيخان ، فعرضوه عليه ، وطلبوا منه المصادقة ، فأبى إلّا بعد المراجعة ، فأعطوه «حاشية الإقناع» فاستند في ردّ ذلك الجواب إلى عبارة عن المدابغي ، فقال له السيد محمد بن حامد : دعنا من المدابغيّ ، فغضب السّيّد شيخان وقال للسّيّد محمّد : لا صواب في جوابكم إلّا البسملة وما والاها ، فحالا أخذ السّيّد العلّامة عليّ بن

__________________

(١) هو الحبيب شيخان بن محمد بن شيخان بن محمد بن شيخان بن حسين بن محمد بن حسين بن أحمد الحبشي ، ولد بالغرفة سنة (١٢٥٩ ه‍) ، وتوفي بسيئون سنة (١٣١٣ ه‍). نشأ يتيما في حجر والدته وجده لأمه العلامة عبد الله بن حسن الحداد ، وأدرك جملة من الأكابر ؛ كالحبيب الحسن بن صالح البحر ، رحل إلى مكة لطلب العلم عام (١٢٨٣ ه‍) ، وأقام بها (٤) سنوات ، ثم عاد وحصل به نفع عظيم. وله بسيئون ذرية مباركة ، ومن أعلام ذريته : الفقيه حسن بن عمر بن شيخان.

(٢) البيت من الطّويل ، وهو لأبي الطّيّب المتنبّي في «العكبريّ» (٢ / ٢٨٥) ، بتغيير بسيط. القفّ : الغليظ من الأرض ، ولكنه لا يبلغ أن يكون جبلا. والمعنى : ـ كما في «العكبريّ» ـ : أنّ جبال الأرض ، تصغر في جنب الجبال الّتي في صدره من العلم.

٦٢٩

محمّد الحبشيّ الجواب ، وسحب مصادقته ، وشطب اسمه.

وقد نوّهت بهذا في إحدى خطبي بالمحافل العامّة ، وأشهد لتبقى أقدامه وسوقه متورّمة مدّة من شوّال ؛ لكثرة قيامه برمضان ؛ إذ كان يتلو ختمة باللّيل وختمة بالنّهار ، كلّها من قيام.

وكان شديدا على أهل المنكرات ، متجافيا عن أبناء الدّنيا منحرفا عنهم ، يغلظ القول لهم ، ولا يحابي ولا يداهن. وطائفة بني طويح يبغضونه ، ويزعمون أن الحال خرج به عن حدّ الاعتدال ، ولذا لم يجر الأمر بينه وبين العلّامة الشّهير السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ على ما تقتضيه القرابة ؛ إذ كانا مستويين في تعدّد النّسب ، يجتمعان في الجدّ الخامس لكلّ منهما وهو السّيّد محمّد بن حسين بن أحمد الحبشيّ صاحب الحسيّسة.

وقد بدا له أن ينتقل في آخر أيّامه من الغرفة إلى سيئون ، فاشترى أرضا (١) ـ في شرقيّ حوطتنا علم بدر ـ واسعة بثمن يسير لائق بذلك الزّمان ؛ لأنّها كانت غامرة (٢) ، فابتنى له بها دارا واسعة على طبقة واحدة ، لم يقدر على إكمالها ؛ لضيق يده ، وشدّة يبوسة عيشه ، وصار يتردّد بينها وبين الغرفة إلى أن ألقى بها العصا وحطّ الرّحل.

وكان يتردّد على والدي كثيرا ، وكان والدي يجلّه ويكرمه ، ويجعله في مقام أشياخه. قرأت عليه وأخذت عنه وسمعت منه ، مع أنّه لم يأخذ عنه إلّا القليل ؛ كالشيخين عوض بكران الصّبّان وأخيه أحمد ، والأخوين محمّد بن هادي بن حسن ، وشيخ بن أحمد بن طه.

ولا يخلو الجوّ بينه وبين سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر من تكدير نشأ عن وجود بنت الأستاذ الأبرّ في بيته عند ولده محمّد بن شيخان ، فلم يحسنوا عشرتها ، ولم يؤدّوا حقّها ، ومع ذلك فكانت تأتيه منهم قوارص بظهر الغيب.

__________________

(١) عرفت هذه الأرض إلى يومنا هذا باسم صاحب الترجمة .. فيقال : فلان في شيخان ، وذهب إلى شيخان ، وجاء من شيخان ...

(٢) غامرة : مهجورة.

٦٣٠

ويرى بعضهم أنّ ذلك هو السبب في قلّة الانتفاع به ، ولا غرو ؛ فقد أشار القشيريّ أنّ ما وقع للحلّاج سببه الاعتراض على المشايخ ، وذكر اليافعيّ في «تاريخه» [٣ / ٤٧٧] أنّ ما جرى على ابن الجوزيّ سببه الكلام على الإمام الرّبّانيّ سيّدنا عبد القادر الجيلانيّ ، توفّي المترجم في رجب من سنة (١٣١٣ ه‍) وانطبق على ذلك العام قول حافظ إبراهيم [في «ديوانه» من الطّويل] :

فيا سنة مرّت بأعواد نعشه

لأنت علينا أشأم السّنوات

إذ مات بإثره جماعات من أراكين حضرموت ، كان صاحبنا الشّيخ محمّد الدّثنيّ يوصلهم إلى خمسة وعشرين ، كلّهم أعيان ، ومع الأسف لم تكن أسماؤهم مجموعة ، وإلّا .. فقد كان تقييدها من الفوائد ، على أنّ كثيرا منهم يعرف ممّا في غير هذا المكان (١).

لقد أولع الموت الزّؤام بجمعهم

كأنّ الرّدى فيهم تحلّل من نذر (٢)

مضوا فكأنّ الحيّ فرع أراكة

على إثرهم عري من الورق النّضر

وصلّى عليه الأستاذ الأبرّ ، وحصل ساعتئذ نزاع بين السّادة محمّد بن عبد الله الحدّاد ـ السّابق ذكره في قيدون ـ وبين رجل آخر من آل الحدّاد بالغرفة ، ارتفع فيه الصّوت ، حتّى أسكتهم الأستاذ الأبرّ بإشارته ، وسبب ذلك اختلاف الرّجلين في المكان الّذي يصلّى فيه على الجنازة.

وبإثر انتقال الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ من الغرفة ـ حسبما تقدّم بالحوطة ـ بقي بها ولده محمّد بن أحمد إلى أن مات ، ولا يزال بها أعقابه (٣).

وبالغرفة جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن علويّ الحدّاد.

__________________

(١) ممن مات في تلك السنة : الحبيب عبد اللاه بن عمر بن سميط بشبام ، والحبيب شيخان بن علي بن هاشم السقاف بالمكلا ، والعلامة عبد الله بن محسن السقاف ـ عم المؤلف ـ والسيد المنصب عبد القادر بن أحمد بن عبد الرحمن الحداد بالحوطة ، وجماعة غيرهم.

(٢) البيتان من الطويل ، وهما للشريف الرضي في «ديوانه» (١ / ٥٠٦).

(٣) ومن عقبه : السيد الجليل الحبيب هاشم بن شيخ بن هاشم بن محمد بن الحبيب أحمد بن زين الحبشي ، عداده في أهل المدينة المنورة ، توفي بها سنة (١٢٩٥ ه‍).

٦٣١

منهم : الشّيخ الرّابع من مشايخ سيّدنا الأستاذ الأبرّ ، وهو : السّيّد الإمام عبد الله بن حسن بن عبد الله بن طه بن عمر المذكور ، المتوفّى سنة (١٢٨٥ ه‍) (١).

ومنهم : الفاضل الجليل ، أحد تلاميذ والدي السّيّد حسن بن أحمد الحدّاد (٢) ، توفّي بالحرشيّات مرجعه من الحجّ سنة (١٣٤٩ ه‍) ودفن بالمكلّا (٣) ، وقد سار ولده المبارك أحمد (٤) الموجود الآن بالغرفة في طريقه.

ومن صلحاء الغرفة : الشّيخ عمر عبود بلخير ، كان قطعة من النّور ، كأنّما هو من فرط العبادة وصفاء السّريرة وصدق الفراسة ، ملك من الملائكة ، أخذت عنه ، ولبست منه ، توفّي بالغرفة في حدود سنة (١٣١٦ ه‍).

وكان بالغرفة كثير من آل باحفين ، وآل فضل ، وآل عطوفه ، وآل مسلّم ، ومنهم : آية الورع ، ومثال النّزاهة ، صاحب القصّة المذكورة ب «الأصل» ، أحمد بن سالم بن عمر بن مسلّم ، المتوفّى بها في سنة (١٣٥٢ ه‍).

ومن أهل الغرفة : آل شيبان ؛ منهم : الرّجل الصّالح ، حليف المكارم ، وحمّال المغارم ، عوض بن عمر شيبان (٥).

لا يتبع المال أنفاسا مصعّدة

ولا يعير العطايا زفرة النّدم (٦)

توفّي بالغرفة سنة (١٣٢٩ ه‍).

ومنهم : ابنه ـ الّذي حظي بخدمة سيّدنا الأستاذ الأبرّ ، وكان يده ولسانه وموضع

__________________

(١) هو العالم الصالح ، الزاهد المتبتل ، عبد الله بن حسن بن عبد الله بن طه بن عمر بن علوي الحداد ، ولد الحبيب المترجم بالغرفة سنة (١٢٠٨ ه‍) ، ونشأ بها ، وسكنها حتى توفي يوم الإثنين في رجب (١٢٨٥ ه‍)

(٢) هو السيد حسن بن أحمد بن حسن بن عبد الله ، حفيد السابق ، ولد بالغرفة سنة (١٢٨٧ ه‍) ، وتولى القضاء بها ، وتوفي سنة (١٣٤٩ ه‍).

(٣) في قبة الحبيب شيخان بن هاشم السقاف.

(٤) ولد بالغرفة سنة (١٣١٤ ه‍) ، وتوفي بها في رجب سنة (١٤٠٣ ه‍) ، أخذ عن جمع غفير من الأكابر. «نور الأبصار» (١٣٩ ـ ١٤٠).

(٥) ترجم له السيد محمد بن حسن عيديد في «الإتحاف» ، وهو مجاز منه.

(٦) البيت من البسيط ، وهو للشريف الرضي في «ديوانه» (٢ / ٣٠٦).

٦٣٢

ثقته ، ونجيّ روحه ، وأنيسه في خلواته ، وكاتبه وجامع بعض مناقبه ـ عمر بن عوض بن عمر شيبان (١) ، المتوفّى بالغرفة في سنة (١٣٥٦ ه‍).

ومنهم : آل بلخير ، أسرة الشّيخ عمر السّابق ذكره. يقال : إنهم من ذرية أبي الخير الكندي الآتي ذكره أوائل تريم.

ومن آل الغرفة : آل ابن ثعلب (٢) ؛ فإنّهم لمّا تفرّقوا بعد زوال دولتهم بتريس .. توطّن بقاياهم بالغرفة.

ومن أهلها : آل بن ذياب ، وآل بلجون ، وآل طرموم ، وآل باحارثة ، وآل عمران ، وآل منقوش ، وآل باحلوان ، وأصلهم من اليمن من بلدة يقال لها : برط من أعمال صعدة ، ولكنّ جدّهم قيس بن زمليّ بن عمر عبد الله بن قاسم بن عبد الله بن فضل بن ناصر الدّين عبد الله باحلوان .. جاء هو وأولاده أحمد وبوبكر وزمليّ وعبد الله في جيش الصّفيّ أحمد بن حسن فاتح حضرموت للمتوكّل على الله إسماعيل ، وبقي أميرا على الهجرين من جهة الإمام إلى أن توفّي بها سنة (١٠٦٨ ه‍) ، ثمّ انتقل أولاده السّابق ذكرهم إلى الغرفة ، وانتشروا ، وهاجر ناس منهم إلى جاوة ، وأعقبوا هناك.

وزمليّ والد قيس هو مؤلّف كتاب «رشيدة الإخوان» الّذي نقلنا عنه في وادي عمد ، وغيره.

وناصر الدّين باحلوان هو أمير زيلع ، وهو صاحب الشّيخ أبي بكر العدنيّ.

__________________

(١) ترجم له السيد محمد بن حسن عيديد في «الإتحاف».

(٢) آل بن ثعلب ، يعود أصلهم إلى حضرموت القبيلة كما ذكر العلامة الناخبي في كتابه «حضرموت» ، وأخبر أن هذه القبيلة هي الوحيدة التي بقيت معروفة بحضرموت كونها من قبيلة حضرموت. ونذكر استطرادا هنا : أن من بقايا قبيلة حضرموت الأم المشايخ آل الحضرمي ذرية الشيخ الولي الكبير إسماعيل الحضرمي صاحب بلدة الضحي بتهامة اليمن ، ومنهم العلامة الفقيه الشيخ إسماعيل بن زين الحضرمي الضحوي ، المتوفى بمكة المكرمة سنة (١٤١٥ ه‍) ، وهو من العلماء المبرزين ، وله طلاب كثيرون ، ومصنفات فقهية. وآل الحضرمي هؤلاء غير آل الحضرمي الذين هم من يافع العليا ، وأما آل بن ثعلب هؤلاء .. فقد كان أسلافهم يحكمون بلدة تريس ، وسيأتي ذكرهم فيها.

٦٣٣

أمّا حالات الغرفة السّياسيّة : فقد كان آل كثير ينتسبون للشّيخ عبد الله القديم عبّاد بالخدمة ؛ لأنّ جدّهم تربّى به.

وكانوا يزورون الشّيخ محمّد بن عمر فيها ، ويتردّدون عليه بها ، ويتبرّكون بدعائه ، كما كانوا عليه مع عمّه ، حتّى لقد كاد من اعتقادهم فيه يكون هو الأمير لا على الغرفة فقط .. بل على كلّ ما تحت نفوذهم من بلاد حضرموت.

وفي الحكاية (٣٤٩) من «الجوهر الشّفّاف» ما يعرف منه أنّ جاه آل باعبّاد كان أضخم من جاه العلويّين ـ وسيأتي ما يؤكّده في مدوده ـ غير أنّ السّلطان عبد الله بن عليّ بن عمر الكثيريّ المتوفّى سنة (٨٩٤ ه‍) (١) هو الّذي ابتدأ بإساءة الأدب على آل باعبّاد ، فابتنى حصن الغرفة على القارة الّتي بها حصون آل عبود بن عمر الآن ، فعظمت الرّزيّة على المشايخ بضغطه عليهم ، وعزموا على التّحوّل من الغرفة.

أمّا بدر بوطويرق : فقد دلّت الأخبار على أنّ وطأته عليهم كانت أشدّ ؛ إذ تدخّل في كلّ شيء من أمرهم ، ونزع عنهم نظارة أوقافهم ، وصار يولّي ويعزل ، وبعث مرّة من الشّحر بعزل الشّيخ محمّد بن عقيل عبّاد ، وإبداله بالشّيخ حسين بن عليّ عبّاد.

ولمّا ضعفت دولة آل عبد الله الكثيريّين (٢) .. استبدّ عليهم آل كثير بأمر الغرفة ، وجعلوا لآل باعبّاد الاستقلال الاسميّ ، وهم يفعلون ما شاؤوا بدون أن يتناهوا عن منكر يفعلونه بها قطّ ؛ إذ لا وازع إلّا منصبة باعبّاد ، وما سلاحها إلّا أمثال التّمائم ، وقد قال أبو الطّيّب [في «العكبري» ٤ / ١١١ من الطّويل] :

ديار اللّواتي دارهنّ عزيزة

بطول القنا يحفظن لا بالتّمائم

__________________

(١) عبد الله بن علي ، تقدم ذكره قريبا ، وكانت وفاته سنة (٨٥٠ ه‍) ، وهذه الحادثة إنما جرت لابنه بدر بن عبد الله المتوفى في ذلك التاريخ. وإزالة للوهم والإشكال .. فهناك عبد الله بن علي الكثيري مات سنة (٨٩٨ ه‍) ، وعبد الله بن علي الكثيري الأسقع قتل سنة (٨٧٥ ه‍) على يد السلطان جعفر بن عبد الله .. وهذان غير السلطان الآنف الذكر ، وخبرهما عند «شنبل» وغيره.

(٢) آل عبد الله هم السلاطين نسل بدر بوطويرق ، من ذرية حفيده عبد الله بن عمر بن بدر ، وهم سلاطين حضرموت إلى ما قبل الثورة ، فيقال لهم : آل عبد الله ، ولغيرهم : آل كثير ؛ تمييزا لبيت السلطنة عن غيره.

٦٣٤

وفي سنة (١٣٤٤ ه‍) نشبت الحرب بين آل خالد بن عمر (١) ، الّذين يرأسهم صالح عبيد وعمر عبيد ، وبين آل بابكر الّذين يرأسهم عوض بن عزّان بن عبد الله بن عوض بن ناصر بن عبدات ، بالسّبب الّذي سبقت الإشارة إليه في بابكر ، فلم يكن من آل بابكر إلّا أن وضعوا بعض عسكرهم بالغرفة بإشارة من عبيد صالح بن سالمين بن طالب ؛ لأنّ عبد الله بن محسن بن قاسم ـ الّذي كانت عامّة كلف الحرب على كيس أبيه ـ كان يستنصحه ويأخذ بإشارته ـ وهو له غاشّ ـ فلم يسع عوض بن عزّان إلّا الموافقة ، فتضرّر أهل الغرفة.

ونصحت أنا عبيد صالح بن سالمين ، فوعدني أن يشير عليهم برفع عسكرهم عنها ، ولم يفعل ؛ لأنّه كان يبغضهم في السّرّ ـ وإن تظاهر بمساعدتهم فيما يرى النّاس ـ فلم يكن من صالح عبيد بن خالد بن عمر إلّا أن هجم على الغرفة وأخذ أكثرها عنوة ، ثمّ أخذ البقيّة الباقية عن رضى من عوض بن عزّان بن عبد الله بن عوض بن ناصر ، إزاء ثمان مئة ريال قبضها من آل خالد ، حسبما يخبرني هو بنفسه.

ولمّا وضعت الحرب أوزارها بين آل عبدات بعضهم بعضا ، ورسخت قدم صالح عبيد بالغرفة .. سيّر الكتب لقبائل آل كثير ، وللسّيّد حسين بن حامد (٢) ، ولدولة آل عبد الله بسيئون وتريم يخبرهم بأن لا قصد له إلّا إصلاح الغرفة وحفظها وتأمينها ، ويدعو إلى المشاركة في الرّأي ، فعادت أجوبتهم عليه بما يبرّر صنيعة ، ثمّ جاشت جوائشهم ، والّذي تولّى كبر أمرهم هو : الشّيخ سالم بن جعفر بن سالم بن مرعيّ بن طالب ، والشّيخ عامر بن جعفر بلفاس ، وساعدهما السّيّد حسين بن حامد ، ودولة آل عبد الله ، وحاصروا الغرفة وآل خالد بالحول ، واحتلّوا الجبل الّذي يطلّ على الغرفة من جنوبها ، وأذكوا نار الحرب ، وصوّبوا المدافع ، ولم يظفروا بطائل.

ثمّ تدخّلت حكومة عدن ، وطلبت إيقاف الحرب ووصول المتحاربين ، فذهب

__________________

(١) من آل كثير ، وهم المسمّون : آل عبدات.

(٢) كان السيد حسين بن حامد آنذاك مقيما بشبام لأمور سياسية ونفسية اقتضته أن يبعد عن المكلا ؛ لوجود السلطان عمر بها ، كما يعلم من كلام المؤرخ البطاطي في كتابه «إثبات ما ليس مثبوت».

٦٣٥

الشّيخ صالح عبيد عن طريق البرّ ، وذهب الآخرون عن طريق الشّحر ، وأكثروا من العرائض هناك ، ولم يحصل للقضيّة حلّ نهائيّ ، ونشر الشّيخ صالح عبيد كتابا في ذلك فرّقه بين النّاس من إنشاء الفاضل النّاقد الشّيخ عبد القادر بن عبد الله باحميد .. فلم يردّ عليه أحد.

وأريق في تلك الفتنة دماء غزيرة من أبرياء أهل الغرفة ، يغضب لقتلهم جبّار السّماء.

وبقي على إمارة الغرفة عمر عبيد بالنّيابة عن أخيه صالح (١) ، وكانوا متساندين في أمورهم ، وكان الشّيخ عمر عبيد من الموقّعين على «هدنة الثّلاث سنين» (٢) الّتي اقترحها الضّابط السّياسيّ (انجرامس) ، وأوّلها ـ فيما أظن ـ سنة (١٣٥٦ ه‍).

ولمّا مات صالح عبيد بجاوة .. وصل ولده عبيد صالح من سنغافورة إلى المكلّا ، ومنها بطريق السيارات المستحدثة إلى تريم ، ومنها إلى مكانه الحول ، ولم يجلس مع عمّه عمر إلّا يوما واحدا بإثره مات الشّيخ عمر في سنة (١٣٥٧ ه‍) فاستقلّ ولده عبيد صالح بالغرفة.

ولمّا انتهت هدنة الثّلاث سنين .. لم يشعر النّاس إلّا بمنشورات توزّع بين النّاس

__________________

(١) لأن الشيخ صالح هذا كان صاحب تجارة وثروة في جاوة ، يصرف منها على أخيه عمر عبيد وعلى ثورته.

(٢) هدنة الثلاث سنين هذه .. كتبت سنة (١٩٣٢ م) ، فقد نجح المستر انجرامس في توقيعها بين مجموعتين من فخائذ آل كثير هما : آل الفاس ، وآل مرعي بن طالب ، ومن بنودها : تعيين حدود مدينة الغرفة. والكف عن تبادل إطلاق النار بين الغرفة والمناطق الكثيرية المجاورة لها. وحرية الخروج والدخول من وإلى الغرفة. وحق أهل البلاد بالتمتع بحرية النفس. وعدم فرض رسوم وضرائب على السكان. وإرجاع العبيد والجواري اللاجئين في الغرفة إلى ملاكهم ، والحفاظ على الملكية الشرعية.

قال بعض الباحثين : وتعتبر هذه الاتفاقية بحق شهادة لإثبات أفضلية الأوضاع الاجتماعية في الغرفة عنها في المناطق الكثيرية الأخرى حينئذ ؛ بدليل لجوء العبيد والجواري إلى الغرفة هروبا من الاستغلال والاضطهاد الكثيري لهم ، ورغبتهم في التمتع بالعدل والمساواة تحت رعاية الحكم الإرشادي الجديد في الغرفة. اه «بحوث المقاومة الشعبية» (٥٤).

٦٣٦

بهدنة لمدّة عشر سنوات ، وفيها وعد بتحسين القضاء ؛ لأنّ الجور تفشّى عن مجلسه بسيئون المؤلّف من السّادة : محمّد بن أحمد كريسان ، وعيدروس بن سالم السّوم ، وعبد القادر بن عبد الله الحامد ، والشّيخ محمّد مسعود بارجا ، في مدّة الثّلاث السّنين تفشيا هائلا .. فكان الوعد بإصلاحه من بين سائر الأمور شاهد عدل ودليل صدق على ما تقرّر من فرط فساده وجوره.

ولم يطلبوا توقيعا من أحد على تلك الهدنة بخلاف الأولى ـ فإنّها لم تكن إلّا بالرّضا ـ فلم يرض عبيد صالح بن عبدات بالإذعان لهذه الهدنة بالضغط والإكراه.

وحدث أنّ عبيده ضربوا مولى لابن عمّه حسن بن عوض بن عبدات ، وكان مطرودا في أيّام عمّه عمر من الغرفة ؛ لتعدّيه على المساكين من الرّعايا.

فرفع الأمر إلى سيئون ـ وكان يحسد صالح عبيد ابن عمّه ويبتغي له الغوائل ، ويتطلّب له العثرات طمعا في أن تسند الحكومة إليه إمارة الغرفة ـ فطلبت حكومة سيئون بقوّة الضّابط (انجرامس) إرسال الضّاربين إلى سيئون للمحاكمة .. فامتنع عبيد صالح عن إرسالهم ؛ لأنّه لا يعترف لصاحب سيئون بولاية على بلده الغرفة فليست المحاكمة من اختصاصه ، وحدثت أمور أخرى نشب بها الحرب بين سلطان سيئون وعبيد صالح.

وفي ربيع الأوّل من سنة (١٣٥٩ ه‍) ألقت الطّائرة كتابا على عبيد صالح يعزم عليه بالحضور إلى سيئون للمحاكمة ، فردّ عليه بأنّه مستعدّ للمحاكمة إلى الشّريعة في الموضع الّذي لا تأثير لدولة الكثيريّ ولا لدولة القعيطيّ عليه.

ثمّ طلب من الضّابط السّياسيّ أن يقوم بتأديبه ، فامتنع إلّا بمبرّر لرميه عليه ، فأمضى نحو ستّين من العلويّين ومن لفّهم بسيئون على مذكّرة تبرّر حربه.

وكان الغبن لو ذلّوا ونالوا

فكيف إذا وقد ذلّوا وخابوا؟! (١)

فجهّزوا عليه جيشا يقدّر بنحو أربع مئة مقاتل بسائر المعدّات من المدافع

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو للشريف الرضي في «ديوانه» (١ / ١٢٥).

٦٣٧

والرّشّاشات وغيرها ، وشرعت الطّيّارات ترمي بقنابلها على ضواحي الغرفة ثمّ عليها ، وتكرّر الهجوم من الجيش البرّيّ ، إلّا أنّه يتراجع في كلّ مرّة.

وقد وصفت الحالة وما جرى على الغرفة من الأنكاد بقصيدة مؤثّرة توجد بموضعها من ثالث أجزاء «الدّيوان».

ودام الرّمي من الطّائرات ومرابطة الجيش حول الغرفة تسعة وعشرين يوما (١) ، ولكن لمّا انضمّت إيطاليا إلى ألمانيا في الحرب الأخيرة .. اهتمّ الإنكليز لذلك ، وسعى لإيقاف حرب الغرفة ، ونشرت إعلانات بأنّ الشّيخ عبيد صالح أذعن لما حكم به عليه ؛ وهو : مغادرة الغرفة في ظرف ستّة أشهر. ودفع غرامة مقدّرة بنحو ثلاثة وثلاثين ألف ربيّة.

وهذا نصّ الإعلان : (ليكن معلوما لدى العموم أنّ عبيد صالح بن عبدات ، أمضى اليوم على وثيقة ، مطيعا لأوامر الحكومة ، أي دفع (٢٥٠٠٠) ربيّة ،

__________________

(١) كان السبب الأول في إشعال فتيل هذه الحرب غير العادلة هو حقد المستر إنجرامس.

وأما البداية .. فقد كانت في مكتب المستشارية البريطانية في سيئون ؛ إذ أصيب جهاز اللاسلكي فيها بخلل ، فأراد انجرامس أن يستخدم الجهاز المماثل الموجود في شبام ، ولما أراد اختراق الغرفة .. اعترضه الحراس ، ولما أذن له بالدخول .. وجد باب الخروج مغلقا ، وأخذه الجنود إلى ابن عبدات بعد تمنع ، ولما قابله .. أخذ ابن عبدات يوبخه على تصرفاته المشينة ، مؤكدا له أن الغرفة هي أرض مستقلة عن التبعية ل (بريطانيا) ، ثم خرج انجرامس ذليلا ، وقد أضمر الشر في نفسه.

بعد هذا .. قامت طائرات سلاح الجو الملكي البريطاني بالقصف الجوي على الغرفة بالقنابل لمدة (٣) أيام دون جدوى ؛ إذ كان الجنود من الحموم متمركزين في أعالي الجبال وأرغموا الطائرات على المغادرة وعدم الاقتراب من سماء الغرفة ، وكان هذا القصف متزامنا مع المساعي البريطانية لتمديد الهدنة إلى (١٠) سنوات قادمة.

ولما أنّ ابن عبدات كان صعب المراس ورجل موقف .. فلم يتقبل هذا التمديد ، فقامت القوات البريطانية بضربه للمرة الثانية ، ولكنها استمرت هذه المرة لمدة (٢٩) يوما ، فضربت الغرفة من الجو (٩) طائرات قاذفة قنابل (فنسنت) بدءا من يوم الأربعاء (٢٤) أبريل (١٩٤٠ م) ، وقدمت من المكلا فرق من الجيش النظامي وشنت هجوما عسكريا ، لكنها باءت بالفشل في اقتحام الغرفة ، واضطرت للانسحاب تحت ضربات رجال المقاومة التابعين لابن عبدات. والغريب أن عددا من القنابل التي رميت بها الغرفة لم تنفجر ، بل كانت تسقط دون أن تحدث أي أضرار تذكر ، وكان الجنود يجمعونها ويعرضونها أمام أسوار الغرفة!!.

٦٣٨

و (٨٠٠٠) ربيّة ، قيمة (٤٠٠٠٠) حبّة رصاص ، وأن يغادر حضرموت وهو دافع ستّة آلاف ربيّة ، وقد سمح له بأن يدفع الباقي ويغادر حضرموت في ضمن ستّة أشهر ، وقد تعهّد أن لا يعمل أيّ اضطرابات أخرى) اه

غير أنّه لم ينفّذ شيء من ذلك ، ولم يظهر له أثر (١).

وبقي الشّيخ عبيد صالح على حاله متملّكا بالغرفة يأمر وينهى ، ويحكم ويرسم ، غير أنّه بدأ في سنة (١٣٦١ ه‍) يجور على رعاياه ويأخذ حبوب الفلّاحين بثمن بخس ، ينسؤهم (٢) بالثّمن لا إلى غاية محدودة ، ثمّ يردّ عليهم بعضه للاقتيات الضّروريّ بأغلى ممّا أخذه منهم ، فاشتدّ البلاء ، وضجّت الأرض والسّماء ، وأحدث جمركا على الطّريق ، يأخذ من كلّ ما يمرّ بها من البضائع نحو العشور ، واستهان بالدّولة الكثيريّة ، وتخطّم أنوف الشّنافر ، وأبقى عليهم بالعجز عن النّصفة عارا لا يفنى ، كما قال إياس بن الوليد [من البسيط] :

تبقى المعاير بعد القوم باقية

ويذهب المال فيما كان قد ذهبا

وتعالم النّاس حينئذ بأخبار شنيعة عن جوره بحقّ وبباطل ، فتألّمت من ذلك ، وأنشأت قصيدة فصّلت الأمور فيها ، كان إنشاؤها لخمس من شوّال سنة (١٣٦٣ ه‍) ، وأنشدتها حينئذ لكثير من رادتي (٣) ، ومنهم : السّلطان عبد الله بن محسن بن غالب ؛ لأنّه كان من محبّيه وتربطه به قرابة دنيا ؛ إذ كانت جدّتاهما أختين ، وتناولته بكثير من المعتبة والمذمّة ، وأقذعت له ، ولكن ذكر لي بعض أعدائه أنّه اطّلع على وصيّته بين أوراقه الّتي أعجلوه عن أخذها يوم جلائه ، وفيها الأمر بردّ كلّ مظلمة إلى صاحبها ، والفضل ما شهدت به الأعداء ، فعدت لبعض ما كنت عليه من ظنّ أمثليّته.

__________________

(١) إن هذه مزاعم تفتقر إلى دليل مادي ، فهي في واقع الأمر محض افتراء استعماري أرادت به بريطانيا إبراز قوتها في المنطقة وإضعاف حركة المقاومة الوطنية في الغرفة. «بحوث المقاومة» (٦٩).

(٢) ينسؤهم : يؤخّرهم.

(٣) أي : الذين يرتادون مجلس المؤلف.

٦٣٩

وبالحقيقة : أنّه أعان على نفسه بترفّعه عن أبناء جنسه بعد سلامته من تلك الحرب الضّروس الّتي فرّج الله عنه منها بالطّليان ، وخرج منها وقلوب النّاس معه ، وبعض أهل الخبرة لا يعيبه إلّا بسلامة صدر انطلى عليه بسببها غشّ جليس له لا يهمّه إلّا حمايته عن نصح العقلاء كيلا يشيروا عليه بإبعاده ، وقد ضاقت به الأرض ولم يجد ملجأ بحضرموت إلّا إليه.

واتّفق أنّ أحد السّيّاح الإنكليز أراد أن يمرّ بالطّريق الّتي تلي بحيره ، وهو قد حماها بعسكره كيلا تهرّب البضائع من ناحيتها بعدما جعل العشور ضربة لازب على كلّ وارد ، فمنعوا السّائح المرور ، ولمّا أظهر العناد .. أطلقوا عليه الرّصاص بقصد التّخويف ، ولكنّ الحكومة الإنكليزيّة رأت أنّ شرفها مسّ بذلك الإطلاق ، فأنذرته ، ثمّ جهّزت إليه جيشا عرمرما لم تعرف البلاد مثله ، يقوده الجنرال السّيّد أحمد بن محضار العيدروس (١) الآتي ذكره في بور ، فيه من المدافع الضّخمة ، والدّبّابات الهائلة ، والسّيّارات المصفّحة بالفولاذ ما تتفسخ له العقول ، ومع ذلك .. فقد ثبت وبقي يدافع ويطلق الرّصاص بدون جدوى ؛ لأنّه لا يؤثّر في تلك السّيّارات ، وانسلّ عنه لواذا (٢) كلّ من كان معه ، ما عدا قاضيه الشّيخ محفوظ المصلّي اليافعيّ (٣) ، وحينئذ بخع بتسليم نفسه ، فأركبوه على السّيّارة العسكريّة إلى مطار القطن ، حيث أخذوه بالطّائرة إلى عدن ، ولم يشمتوا به عدوّا ، ولم يؤلموا به صديقا ، ولم يمكّنوا أحدا من منافسيه ومبغضيه حتّى من النّظر إليه ، فشكر العقلاء من النّاس للدّولة الإنكليزيّة تقديرها لشهامته وأنفته.

__________________

(١) في بعض المصادر أن اسمه : الميجر جنرال أحمد عبد القادر العيدروس ، القائد العام لقوات ولاية حيدرآباد ، جاء مرافقا للكولونيل دي. جي ـ ايجرتون ، كمستشار عسكري لجميع القوات التي ستقتحم الغرفة. «بحوث المقاومة» (٩١).

(٢) لواذا : عائذا.

(٣) الشيخ محفوظ بن سعيد بن ثابت المصلّي ، وكان قدومه إلى الغرفة بعد سنة (١٩٣٧ م) إثر عزل الأمير علي بن صلاح من ولاية شبام على يد انجرامس ، وتلا ذلك تدخل الحكومة وأصحاب الجاه والنفوذ في شؤون القضاء بالدولة.

٦٤٠