إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

عندكما من العقل ، وقد جرّبت الزّمان وأهله ، لم يزد على ذلك ، فسكتا ، ولكنّهما انصرفا عمّا كانا نوياه ، وأنا على يقين أنّه لم يكن إلّا عن فراسة صادقة ؛ إذ لم تعلم حتّى ثيابهم بما كانوا يبيّتون ، ولقد حفظني بظهر الغيب ، وطبع نشرتين في الذّبّ عنّي لمّا تكلّمت عليّ صحيفة «الوطن» (١) الصّادرة بسنغافورة ، إحداهما خاصّة بي ، والثّانية جامعة لي وللسّادة الأجلّاء الكرام : محمّد بن حامد السّقّاف ، وحسن بن علويّ بن شهاب ، ومحمّد بن عبد الرّحمن بن شهاب ، في الثّناء علينا والنّضال عنّا ، مع أنّ الأخير كان ينافسه ويبتغي له الغوائل ويدبّر له المكايد ، ولمّا خلى مكانه في سنة (١٣٣٢ ه‍) .. لم يستطع أولئك الرّهط الّذين ملؤوا نواحي جاوة بقاقا (٢) وأوراقا أن يشغلوا مكانه بأحد ممّن يرشّحونه ويتمنّون أن لو كان في موضعه ، فانطبق عليهم معه قول الحطيئة [في «ديوانه» : ٤٠ من الطّويل] :

أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم

من اللّوم أو سدّوا المكان الّذي سدّوا

ومن اللّطائف : أنّ سيّدي عثمان وقتما كان بالغرف اعتلّ يوما عن حضور الجمعة ببعض أعذارها ، وكان من عادته التّبكير ، فكلّ من جاء إلى الجامع .. رجع وتوهّم أنّ الوقت لم يدخل ، وهكذا حتّى بقي الخطيب وحده حتّى وجبت العصر.

ومن أهل الغرف : ولده العلّامة البحّاثة ، المحقّق الفقيه محمّد بن عثمان (٣) ، كان من استحضاره «تحفة ابن حجر» كأنّما يحفظها توفّي بسنغافورة سنة (١٣١٦ ه‍).

ومنهم : ولده علويّ بن عثمان ، كان من أهل العقل والدّين والصّلاح ، توفّي حوالي سنة (١٣٤٤ ه‍).

ومنهم : ابنه محمّد بن علويّ بن عثمان ، كان شهما صالحا ، لمّا حضره الموت

__________________

(١) «صحيفة الوطن» : أسبوعية ، كان يصدرها السيد حسن بن علوي بن شهاب في سنغافورة ، وهو مدير تحريرها ، لكنه كان ينسبها إلى غيره تواريا عن الأنظار.

(٢) رجل بقاق : كثير الكلام.

(٣) ترجم له السيد محمد بن حسن عيديد في «الإتحاف» ، وذكر أنه كان ذكيا عالما ، وإذا سئل عن مسئلة .. أجاب وأحال السائل إلى المراجع الكبيرة ، بل ربما ذكر له الجزء والصفحة!.

٨٢١

توضّأ واستاك وأخذ يكرّر الجلالة حتّى فارق الحياة ، وكانت وفاته قبل وفاة أبيه.

ومنهم : أخوه صاحب النّوادر اللّطيفة ، والنّكات العجيبة ، عقيل بن عثمان (١) بن عبد الله بن يحيى ، كان شاعرا أديبا ، له يد في التّاريخ حتّى لقد هنّأني على الرّويّة يوم اقترنت بأمّ حسن وأشقّائه بقصيدة طولى ، كلّ شطر منها تاريخ ، أخذ عن والده ، وعن سيّدي الأستاذ الأبرّ ، وعن والدي ، وله فيه مدائح.

ولغزير الإحسان الوالد أحمد بن عمر بن يحيى فضل عليه ، ولقد حضرت عنده أنا وهو ـ أعني الوالد أحمد ـ قبيل موته بيوم ، فقال لي : مرّ عليّ مثل هذا اليوم العام الماضي وأنا أشقى أهل المسيله حالا ، ثمّ إنّني اليوم ـ بفضله ـ أسعدهم ، يبتدرون إشارتي إذا أشرت ، ويتسابقون في مرضاتي إذا أمرت ، وكانوا لا يردّون عليّ السّلام قبل.

ثمّ قلت له ، أو قال لي : ما أراني إلّا متوفّى في مرضي هذا ، فماذا تفعل؟ فقلت : أرثيك بقصيدة أستهلّها بقولي [من الطويل] :

مصاب أصاب النّاس وهو جليل

غداة أتى النّاعي فقال عقيل

فقال : يكفيني منك هذا ، وإنّه لكثير. توفّي بالمسيله سنة (١٣٤٦ ه‍).

وفي حدود سنة (١٢٩٨ ه‍) كان أحد عبيد الشّيخ صالح بن عائض بن جخير يخفر السّيّد محمّد بن عبد الرّحمن الكاف بتريم ، فاستاء السّلطان الكثيريّ من جرأة الشّيخ صالح وجواره عليه في بلاده ، فانتهك السّلطان الكثيريّ حرمته وطرد عبده ـ والعار مضّاض ـ عند الشّيخ صالح بن عائض ، فلم يكن منه إلّا أن اقتحم الغرف واحتلّها في أسرع وقت ، وطرد عبيد السّلطان منها وجاءت نجدات الدّولة من تريم وسيئون ،

__________________

(١) ولد السيد عقيل بالمسيلة سنة (١٢٩٠ ه‍) ، وتربى في كنف والدته وأخيه محمد ، وتعلم على يد السيد عمر بن عبد الله بن عمر بن يحيى ، ثم طلبه والده إلى جاوة ، فسافر سنة (١٣١١ ه‍) ، كان ذكيا شديد الذكاء ، اشتغل بالتجارة مع والده ، وكان ينظم الشعر. عاد إلى حضرموت سنة (١٣٢٩ ه‍) ، وأصيب بالعمى ، وظل بها إلى أن توفي.

«تاريخ الشعراء» (٥ / ١٤٧ ـ ١٥٩).

٨٢٢

والتحم القتال ، وقتل أحد العوامر وثلاثة من أصحاب الدّولة ، وما زالوا في الحرب حتّى وصل المنصب السّيّد عبد القادر بن سالم العيدروس من بور بطبوله وخيوله وراياته فحجز بينهم ، وأخرجهم منها صلحا لا عنوة من الغرف بعد ما غسلوا العار ، واستجهروا الأبصار ، وسوّيت القضيّة على ما يحبّه الشّيخ صالح.

وأخبرني الأخ عقيل بن عثمان المذكور بأنّ أهل الغرف خرجوا في نزهة ، ولمّا تهيّأ غداؤهم ـ وكان شربة ـ جاء بعض أعدائهم فطردهم عن موضع الفسحة ، فهربوا وتركوا غداءهم ، ولهذا كان النّاس يعيّرونهم فصاروا يغضبون من ذكر الشّربة كما يغضب آل شبام من وزن الهرّ.

وللأخ عقيل منظومة جميلة في ألقاب البلاد الحضرميّة.

وكان الوالد أحمد بن عمر بن يحيى يصنع بالمسيله عشاء من الشّربة للمساكين في كل ليلة من رمضان ، فغضب آل الغرف وحقدوها عليه! فكانت شبيهة بقصّته مع الشّيخ سالم باسويدان السّابقة في شبام.

وأخبرني الأخ عقيل بن عثمان المذكور أنّ أكثر أهل الغرف مات بحسرة على عدم التّوفيق في قنص الوعول ؛ إذ كان الغالب عليهم الإخفاق والخيبة كلّما صعدوا الجبال ، حتّى إنّهم لمّا عزموا على صعود الجبال مرّة لذلك ، ففيما يستعدّون ويعملون الأسمار والأشعار .. استقدموا شاعرا ليستعينوا به في أفراحهم ، فكان أوّل ما أنشأه لهم قوله :

قال بدّاع القوافي : بارق الجودات رفّ

من خلقنا ما سمعنا زفّ عند اهل الغرف

فطردوه وكادوا يسطون به!!

وقد اعتنت بها الحكومة الإنكليزيّة في السّنوات الأخيرة ، واحتلّتها واتّخذتها مقرّا لإدارتها العامّة ، ولكن بدون استئذان ـ حسبما يقول لي السّلطان عبد الله بن محسن ـ منهم ، وهم ملّاكها ، ثمّ نقلت إدارتها منها إلى سيئون.

٨٢٣

المسيله

بميم مفتوحة ، ثمّ سين مكسورة ، ثمّ ياء ساكنة ، ثمّ لام مفتوحة. سمّيت بذلك لأنّها على ضفّة مسيل عدم الغربيّة.

وعدم ـ بعين ودال مكسورتين ـ : أكبر ـ لا أكثر ـ مجاري السّيول بحضرموت ، تنهر إليه مياه النّجد الجنوبيّ بحضرموت ، عدا ما يسقط إلى السّاحل ، وما يفيض إلى وادي سنا.

وكلّ مياهه تذهب ضياعا لا تنفع إلّا ما في عين المسيل من النّخيل ، وتلتقي مياهه مع مياه سر عند طرف جبل كحلان.

والمسيله هي مسكن السّيّد شيخ بن أحمد بن يحيى ، ولذا قيل لها : مسيلة آل شيخ.

قال السّيّد أحمد بن عليّ الجنيد : منهم : أبو بكر وعبد الله ، ابنا عمر بن طه بن محمّد بن شيخ ، كانا فاضلين ، وقد انتقلا ؛ أي : من قارة الشّناهز إلى عينات ، واستوطناها حتّى ماتا.

فأمّا عبد الله : فقد انقرض عقبه من الذّكور.

وأمّا أبو بكر : فترك ولده عمر ، فعاد إلى المسيله ، وبنى عندهم الحبيب حسين بن طاهر بن محمّد بن هاشم (١) مسجده وداره الّذي سكنه بعده أولاده :

الحبيب طاهر بن حسين ، صاحب النّهضة المشهورة ، المتوفّى بالمسيله سنة (١٢٤١ ه‍) (٢).

__________________

(١) وكانت بها وفاته في (١٢) رجب (١٢٢٠ ه‍) ، ودفن بتريم ، عن عمر ناهز (٧٠) عاما. وكان سبب نزوحه إلى المسيله : هو الاضطراب الأمني ، وشيوع الفوضى في البلاد.

(٢) الحبيب طاهر بن حسين من أكابر أهل عصره ، ومن أراد معرفة أخباره .. فعليه بكتاب حفيده الأستاذ محمد بن هاشم المسمّى : «تاريخ الدولة الكثيرية» ، و «العدة المفيدة» لابن حميد ، و «تعليقات ضياء شهاب» (٢ / ٥٨٧) ، وغيرها.

٨٢٤

والحبيب عبد الله بن حسين ، الّذي لا تستوفي العبارة كنه ما له من الفضل ، المتوفّى بها سنة (١٢٧٢ ه‍) (١).

وفي كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط : أنّ أباهم فرّغهم للعلم ، وسافر إلى جاوة نحو ثلاث مرّات.

ومن آل طاهر : شيخنا السّيّد الجليل أحمد بن عبد الله بن حسين بن طاهر ، كان جبلا من جبال العلم والعبادة ، توفّي بالمسيله لأربع في جمادى الآخرة من سنة (١٣١٧ ه‍)

ومنهم : هاشم بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن حسين بن طاهر ، كان من أهل الصّلاح والعبادة والأذكار ، توفّي بعدن في رجب سنة (١٣١٦ ه‍) ، وله ابن ذكيّ ، ناظم ناثر ، تقلّب في الأعمال المدرسيّة بفليمبان ، ثمّ في جاوة ، ورأس التّحرير بجريدة «حضرموت» ، ثمّ وزر للسّلطان جعفر بن منصور ، وهو الآن يدرّس بمدرسة جمعيّة الأخوّة والمعاونة بتريم.

ومنهم : السّيّد أبو بكر بن عبد الرّحمن بن طاهر ، له جاه ورئاسة بالتّيمور ، ثمّ وصل إلى المسيله ومعه الأعلام الحريريّة المحلّاة بالذّهب التّبر والطّبول والخيول ، توفّي بالمسيله سنة (١٣٣١ ه‍) ، وأبقى عتادا نفيسا ، وأثاثا فاخرا ، وعلوقا مثمّنة ، تولّاها أحد خدّامه بعده ، فعاث بها عيث الجراد بالزّروع ، ولم يبق لأولاده الصّغار إلّا ما لا يسمن ولا يغني من جوع.

ومنهم : أخوه الخفيف الظّلّ : عبد الله بن عبد الرحمن بن حسين بن طاهر ، كان ظاهر التّقوى والورع ، وله معرفة بالطّبّ ، وتعلّق بالسّيّد فضل بن علويّ مولى خيله ، وطول صحبة معه في الأستانة ، ولين جانب ، ولطف أخلاق ، وحسن محاضرة.

توفّي بالمدينة المنوّرة في رمضان سنة (١٣٥٢ ه‍).

__________________

(١) ترجمته الحافلة في «عقد اليواقيت الجوهرية» لتلميذه الإمام عيدروس بن عمر الحبشي (١ / ١٠٢) ، و «تاريخ الشعراء» (٣ / ١٦٢ ـ ١٧٨).

٨٢٥

ومنهم : السّيّد الفاضل أحمد بن طاهر بن أحمد بن طاهر بن حسين ، له اعتناء بالأوراد ، توفّي بسنغافورة في (١٥) رمضان سنة (١٣١٤ ه‍).

ومنهم : العلّامة السّيّد عبد القادر بن أحمد بن طاهر بن حسين ، له سعة اطّلاع ، توفّي بالمسيله سنة (١٣٠٠ ه‍).

وقد عاش آل طاهر إلى وفاة الحبيب عبد الله بن حسين مع آل يحيى على عبادة الله ومدارسة العلوم ، والأمر بالمعروف ، والإنكار للمنكر.

وكان عبد الله بن عمر بن يحيى جبلا من جبال التّقوى ، وبحرا من بحور العلم ، توفّي بالمسيله في سنة (١٢٦٥ ه‍) (١) بإثر وفاة ولد له شديد الأسر ، حديد الفهم ، يعرف مواقع رضاء أبيه ويفعل ما يحبّه من غير إشارة ، حتّى لقد ورده السّيّد حسن بن حسين الحدّاد وحده ، فذبح له كبشا ساحّا كبيرا ، وما كاد يستقرّ به المجلس حتّى دعاه وسارّه بقوله : اذبح الكبش الفلانيّ ـ يعني المذبوح ـ وإنّما لم يكتف بعمله حسب العادة ؛ لإيثار الخروج عنها بذبح الكبش الكبير لواحد ، فقال لوالده : إنّه لم يأت إلّا وحده مع خادم واحد ، فيكفي له رأس صغير.

فقال : لا تراجع ، واذبح الكبير ، قال : قد ذبحته. فسرّ منه وقرّت به عينه. واسمه أبو بكر.

وسمعت والدي يروي عن الأستاذ الأبرّ أنّ قصّة ذبح الكبش للحدّاد وقعت للحبيب عبد الله بن حسين مع أحد أولاده ، والّذي يرويه آل يحيى بحذافيرهم : الأوّل ، والأمر قريب ، والتّعدّد بعيد.

ثمّ توفّي بعده بها ولده العلّامة الجليل عمر بن عبد الله في سنة (١٢٧٧ ه‍) ثمّ أخوه الصّوفيّ الفقيه محمّد سنة (١٣٠٨ ه‍) ، ودفن بها.

__________________

(١) العلامة الكبير عبد الله بن عمر بن أبي بكر ، كان واحدا من العبادلة السبعة فقهاء حضرموت ، ولد بالمسيله سنة (١٢٠٧ ه‍) ، وتوفي بها كما ذكر المؤلف ، له ترجمة في : «عقد اليواقيت» ، و «تاريخ الشعراء» (٣ / ٢٠٨ ـ ٢١٤) ، وأخبار متفرقة في «العدة».

٨٢٦

وكان الشّيطان ـ كما قال بعضهم ـ يفرق من الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر فرقه من ابن الخطّاب رضي الله عنه فلم يدخل المسيله في أيّامه ، ولكنّه لم يمت إلّا والشّيطان ممتلىء الصّدر غيظا من طول ما طرد عنها ، فاحتبى إثره في محراب مسجدها.

ونزغ الشّيطان بين أبناء الحبيب عبد الله بن حسين وأبناء الحبيب عبد الله بن عمر بن يحيى على أوقاف المسجد ونظارته ، وكان الّذي تولّى كبر المخاصمة السّيّد عقيل بن عبد الله بن عمر ، وكان له اختصاص شديد بالدّولة الكثيريّة ، فلم يبلّوا غليل صدره ، بل خذلوه ، فسافر إلى الهند وحالف آل القعيطيّ وهجم بهم على تريم ، وكانت حادثة النّويدرة وهي جانب تريم الشّماليّ ، واستولت عليه عساكر القعيطيّ من جهة دمّون ، بمساعدة آل تميم وخيانة من بعض عبيد الدّولة ، وكان ذلك في سنة (١٢٩٢ ه‍) ، ودام الحرب واحتلال النّويدرة إلى سنة (١٢٩٤ ه‍) ، وفي تلك الأثناء كانت وفاة السّيّد عقيل بن عبد الله بن يحيى عن أربعين ربيعا وأربعة أيّام ، أخبرني الفاضل الوالد أحمد بن عمر بن يحيى : أنّ عمّه عقيلا رأى كأنّ قائلا يقول له : عمرك أربعون عاما ، فانزعج ، ولكن عاد فرأى ذلك القائل يقول له : زدناك أربع مرّات ، فاطمأنّ.

فكانت الرّؤيا حقّا ، ولكن لم تكن الزّيادة إلّا أربعة أيّام.

وفي تلك السّنة أيضا انتصر القعيطيّ على العولقيّ وعلى الدّولة الكثيريّة في الحزم وصداع ، حسبما سبق عند ذكرهما.

وبإثر ذلك انعقد الصّلح بواسطة السّيّد عليّ بن عمر الحييد (١) ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم ، والعلّامة السّيّد أبي بكر بن عبد الرّحمن بن شهاب على تخيير الدّولة الكثيريّة بين أن تخرج من تريم ، وتتسلّم عشرة آلاف ريال.

__________________

(١) هو السيد الفاضل الشريف علي بن عمر بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الله الحييد بن أبي بكر بن حسن بن الحسين بن الشيخ أبي بكر.

٨٢٧

وبين أن تدفعها للقعيطيّ فيرتفع بعسكره عن النّويدرة فاختارت هذه ، ووقع النّاس من جرّاء تحصيلها في قرن الحمار ، وكتبت بينهم وثيقة بتاريخ ربيع الثّاني من سنة (١٢٩٤ ه‍) ، أوردناها مع تفصيل أخبار تلك الحادثة مفصّلة في «الأصل» ، وإلى هذه الحادثة الإشارة بقول العلّامة ابن شهاب [في «ديوانه» ١٢١ من الكامل] :

كم فتنة فيها اكفهرّ وبالها

حمد الأنام سراي في إخمادها

وهو بارّ راشد في ذلك ، فلقد كان له السّعي الحثيث في الإخماد ، ثمّ كانت له اليد البيضاء في تحصيل الدّراهم.

أمّا محمّد بن عبد الله بن عمر .. فترك أولادا كراما ؛ منهم : شيخ ، وعمر ، وأحمد ، لهم مساع جليلة ، وفضائل جميلة ، وهم من أخصّ النّاس بأستاذي الأبرّ عيدروس بن عمر ، أقاموا عنده بالغرفة مدّة طويلة للأخذ والتّلقّي عنه. توفّي الأوّل بالمسيله سنة (١٣١١ ه‍) ، والآخران بمكّة بعد أداء النّسكين سنة (١٣١٠ ه‍) وولده عبد القادر بن محمّد حيّ يرزق إلى الآن.

وأمّا السّيّد عمر بن عبد الله .. فقد ترك أولادا منهم : المتّفق على صلاحه وتقواه ، السّيّد أبو بكر بن عمر ، المتوفّى بسربايا سنة (١٣٣١ ه‍) (١).

ومنهم : تاجر الآخرة ، المشارك في كثير من فنون العلم ، الوالد : أحمد بن عمر بن يحيى ، المتوفّى بتريم سنة (١٣٥٧ ه‍) ، وكان النّاس ينسبونه إلى الشّذوذ ؛ لأنّه يسامح في الكبير ويشتدّ في الصّغير ، وربّما عزّ عليّ الانفصال عن قولهم : (لأنّه يجود بالألف وقد يضنّ بالدّرهم) وكنت ألوم نفسي ، وأستحيي من نظيره حتّى رأيت

__________________

(١) هو الحبيب المرشد الصالح أبو بكر بن عمر بن عبد الله بن عمر ، وكان من خواصه السيد العلامة علوي بن محمد بن طاهر الحداد ، الذي جمع بعض الكراريس من منثور كلامه ومواعظه ، وللحبيب أبو بكر رسالة حوت فوائد وأذكار (مخطوط) ، وله ذرية منتشرة ، ومن أجلّ ذريته : ابنته السيدة المسندة العابدة الصالحة فاطمة بنت أبي بكر ، المتوفاة بتريم في (١٢) جمادى الأولى (١٣٥١ ه‍).

٨٢٨

ما يشبهه في سيرة عبد الله بن عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما ، وحاتم الطّائيّ ، وعبد الله بن جعفر. وقال البحتريّ [من الطّويل] :

يضيق من الأمر اليسير مخافة

وإن كان أضحى واسع الصّدر واليد

وله أولاد ؛ منهم : ابنه ، قرّة العين ، المنغّص الشباب محمّد بن أحمد ، المتوفّى بتريم في حياة أبيه سنة (١٣٥٤ ه‍) (١) ، وأخوه الفاضل الأديب عبد الله (٢) بن أحمد ، يسكن الآن في سنغافورة ، وهو الّذي كان يصدر مجلّة (عكاظ) في حضرموت بخطّ اليد ، وقد اطّلعت على أعداد منها مليئة بالفوائد.

ولعمري ، لقد كانت المسيله منزل علم ، ومكرع ريّ ، ومهاد تقوى ، وعماد شرف ، بها رست قواعد المجد ، وانبثقت عيون الجود ، واستحصفت (٣) أسباب المكارم ، حتّى لقد وصفها بعضهم بقصيدة قال في مطلعها بحقّ :

الله أكبر هذه المسيله

فيها الهدى والنّور والفضيله

إلّا أنّها تعاورها الظّلمة والنّور ، والغمّ والسّرور ، ولمّا وصلها الوالد أحمد بن عمر بن يحيى في سنة (١٣٤٥ ه‍) (٤) .. أطلع بوحها (٥) ، وأعاد روحها ، فأثّ نباتها ، وانتشر رفاتها ، ولكنّه لم يسلم من أذيّة آل تميم مع انتسابهم إليه وإلى أجداده بالخدمة ، فغادرها إلى تريم ، وكان له بها قصر فخيم ، فعادت المسيله إلى الذّبول ، وغاب عنها القبول.

__________________

(١) كان السيد محمد من ألمع بني يحيى المتأخرين ، ذكيا أديبا شاعرا نحويا ، درس في حضرموت على يد المؤلف وغيره ، وكتب مصنفات في النحو والصرف.

(٢) كان مولده بسنغافورة حيث كان والده يقيم في حدود عام (١٣٢٥ ه‍) ، وتوفي سنة (١٤٠٥ ه‍) تقريبا بدولة بالإمارات العربية عند أولاده ، عن سن عالية ناهزت التسعين.

وكان قد تقلب في مناصب حكومية عديدة. ينظر : «تعليقات ضياء شهاب على شمس الظهيرة» (١ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦).

(٣) استحصفت : تمكّنت واستحكمت.

(٤) عائدا من سنغافورة.

(٥) بوحها : شمسها.

٨٢٩

أشلى الزّمان عليها كلّ حادثة

وفرقة تظلم الدّنيا لنازحها (١)

دار أجلّ الهوى عن أن ألمّ بها

في الرّكب إلّا وعيني من منائحها

وسيأتي ذكر السّيّد عقيل وأولاده في يشحر.

دمح

اعلم أنّ في جنوب الغرف فضاء واسعا تشرع ـ كما سبق ـ فيه الطّريق إلى سواحل حضرموت والمسيله في شرقيّ الغرف ، وذلك الفضاء يمتدّ في جنوبها أيضا. وفي ذلك الفضاء كثير من القرى والمزارع والصّحاري ، ولا ينتهي إلّا بالعقبة المسماة ب : عقبة الغزّ على ما نفصّله.

وأوّل ما يكون من ذلك الفضاء يقال له : دمح.

وفي جنوبه جبل شاهق ، يمتدّ إلى ما شاء الله في جهة الجنوب ، وأمّا من جهة الشّرق .. فإنّه ينقطع حيث ينبسط ذلك الفضاء.

وقد وقع في «الأصل» أنّ هذا الجبل بقرب من السّويريّ ، وليس كذلك حسبما أخبرني من أثق به من أهل تلك الجهة أكثر من ثقتي بمن أخبرني بما انبنى عليه كلامي في «الأصل» ، ومهما يكن من الأمر .. فلم ينخرم التّدليل به على وجود أهل الرّسّ ببلاد حضرموت ؛ لأنّ الغرف والسّويريّ متقاربتان ، وعن تقاربهما نشأ غلط من أخبرني أوّلا وقد نقل الميدانيّ عن ابن الكلبيّ : (أنّ لأهل الرّسّ نبيّا يقال له : حنظلة بن صفوان ، وكان بأرضهم جبل يقال له : دمخ ، مصعده في السّماء ميل) اه (٢)

ولئن كان ذاك بالخاء المعجمة وهذا بالمهملة .. فإنّ الأمر قريب جدّا والتصحيف في مثله كثير ؛ كما صحّفوا (سر) عن (رس).

__________________

(١) البيتان من البسيط ، وهما لأبي تمّام في «ديوانه» (١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣). أشلى : أغرى. النّازح : الّذي ترك دياره ، وبعد عنها.

(٢) «مجمع الأمثال» (١ / ٤٢٩).

٨٣٠

وفوق هذا فإنّ الجبل الفاصل بين القعيطيّ والمهريّ بساحل البحر يقال له : دمخ بالخاء المعجمة كما مرّ في المرافىء ، والأماكن متقاربة ، وكلّها من حضرموت ، فالتّدليل ثابت على كلّ حال.

وقال ابن مقبل ـ وكان وصّافا لكثير من الأماكن الحضرميّة [من الكامل] ـ :

لمن الدّيار بجانب الأمهار

فبتلّ دمخ أو بسلع حرار

خلدت ولم يخلد بها من حلّها

ذات النّطاق فبرقة الأحفار

وقال عنترة بن الأخرس الطّائيّ [من الطّويل] :

لقد حلّقت بالجوّ فتخاء كاسر

كفتخاء دمخ حلّقت بالحزوّر (١)

وهو غير دمخ الواقع بالطّائف الّذي يقول فيه مزاحم العقيليّ [من البسيط] :

حتّى تحوّل دمخا عن مواضعه

وهضب تربان والجلحاء من طنب

والأسماء كثيرا ما تتشابه.

وقال حمزة بن الحسن الأصبهانيّ : دمخ : جبل من جبال ضريّه ، طوله في السّماء ميل.

وقال طفيل الغنويّ [من الطّويل] :

ولمّا بدا دمخ وأعرض دونه

غوارب من رمل تلوح شواكله

السّهلة

ومن وراء دمح في الجنوب مكان يقال له : السّهلة ، لآل بالهنديّ من آل تميم. وفي أوّل سفر لي من حضرموت ـ سنة (١٣٢٢ ه‍) إلى الحجاز ـ بكّرت من سيئون مع المرحوم السّيّد عبد الله بن محمّد بن عمر السّقّاف من مكاننا علم بدر ، وأبردنا بظلّ

__________________

(١) الفتخاء : ليّنة الجناح. الكاسر : العقاب. الحزوّر : المكان الغليظ. وللبيت قصة ذكرها الميداني في «مجمع الأمثال» (١ / ٤٢٩) عند قوله : (طارت بهم العنقاء) ، فليراجعها هناك من أحبّ.

٨٣١

أثل (١) حول الغرف ، ثمّ كان المبيت بهذا الموضع ـ أعني : السّهلة ـ ، ومع امتلاء صدري بالأحزان لفراق والديّ وأهلي .. كان سروري عظيما لمّا علمت أنّ اسم هذا المكان هو السّهلة وتفاءلت خيرا ، كما أنّ والدي رحمه الله تكدّر لفراقي كثيرا ولكنّه لم يقدر على منعي عن الحجّ ، وفي اللّيلة الّتي ركبت من فجرها أو سحرها .. زار بي أحد الفضلاء الصّالحين ، وبمجرّد ما خرجنا من عنده إذا بإنسان يصيح بقوله تعالى : (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) فتبادرت دموع والدي من فرط السّرور رضوان الله عليه.

ومن وراء السّهلة جنوبا : باعلال. وعن يمينه قرية صغيرة كان فيها الشّيخ عبد الله بن سليمان أحد حكّام آل تميم وأولي رأيهم ، قتل في حرب اشتبك فيها مع آل شملان بعد أن سلّم من صلاة الصّبح ، فلم تشغله الحروب عن أداء الفريضة.

وفيها جماعة من المشايخ الزّبيديّين.

ـ ومن ورائهما : الغارين ، لآل محمّد التّميميّين. ثمّ : بريكة ، لآل محمّد التّميميّين أيضا.

يشحر

وهو واد ليس بالواسع في جنوب المسيله إلى شرق ، فيه عين ماء صغيرة.

كان السّيّد عقيل بن عبد الله بن يحيى اشتراه للأمير محسن بن عبد الله بن عليّ العولقيّ ، السّابق ذكره في صداع ، ثمّ وقفه بتوكيل منه على نفسه وأولاده ، وعلى الواردين والصّادرين ، والعلماء والمتعلّمين ، والفقهاء والمتفقّهين ، وفي صيغة الوقف مجال واسع للنّظر ، لا سيّما وقد فهم بعض متأخّري العلماء من كلام ابن حجر موافقته للرّمليّ في اشتراط قبول الموقوف عليه المعيّن ؛ لأنّه لا يتأتّى من السّيّد عقيل حينئذ الوقف على نفسه ، ثمّ القبول ، على ما بسطته في «الأصل» من وجه النّظر.

__________________

(١) الأثل : نوع من أنواع الشّجر.

٨٣٢

وكان السّيّد عقيل بن عبد الله شهما قويّ النّفس ، حميّ الأنف ، كما يعرف من قضيّة النّويدرة.

فتى عنده حسن الثّواب وشرّه

ومنه الإباء الملح والكرم العذب (١)

وكان رجل جدّ ، وله غرائب ؛ منها : أنّه حجّ ، وانعقدت بينه وبين ـ المثري الشّهير صاحب الخيرات الكثيرة ، والأربطة المعروفة بمكّة وجدّة ـ فرج يسر صداقة متينة ، ولمّا عزم السّيّد عقيل على السّفر إلى جاوة بعد أداء النّسكين .. قال له : مثلك لا ينبغي أن يغيب عن حضرموت.

فقال له : لا يمكنني الرّجوع إليها إلّا ببسطة كفّ أستعين بها على حقوق الشّرف والمجد. قال له : كم تؤمّل من جاوة؟ قال : ما أنت وذاك؟

فألحّ عليه ، فقال له : لا يمكنني الرّجوع إلى حضرموت إلّا بثمانين ألف ريال.

فأعطاه إيّاها مع ملء مركب شراعيّ من الأرزّ وما يناسبه من البضائع والحبوب ، وبمجرّد ما وصل إلى حضرموت .. بنى سدّا للماء في مسيال عدم ، كلّفه نحوا من خمسين ألفا من الرّيالات ، فاجتاحه السّيل في ليلة واحدة!

وما زال السّيّد عقيل على كسب الجميل ، وفعل الجليل ، لا يقرّ على ضيم ، ولا يلين لقائد ، ولمّا لم يجد عند الكثيريّ للنّفع والصّنيع موضعا .. انبرى للمضرّة على حدّ قول عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر ـ وكان كما في «طبقات النّحاة» من الفصحاء ـ [من الطّويل] :

إذا أنت لم تنفع .. فضرّ فإنّما

يرجّى الفتى كيما يضرّ وينفعا (٢)

وقال الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» ١ / ٤١٥ من مجزوء الرّجز] :

من معشر لم يخلقوا

إلّا لنفع وضرر

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لأبي تمام في «ديوانه» (١ / ١٤٣).

(٢) البيت للنّابغة الجعديّ في «ديوانه» (١٠٦).

٨٣٣

وقال كعب الأشقريّ [من الطّويل] :

رأيت يزيدا جامع الحزم والنّدى

ولا خير فيمن لا يضرّ وينفع

وقال حبيب [في «ديوانه» ١ / ٤٠٠ من الطّويل] :

ولم أر نفعا عند من ليس ضائرا

ولم أر ضرّا عند من ليس ينفع

وقال عديّ بن زيد [من الطّويل] :

إذا أنت لم تنفع بودّك أهله

ولم تنك بالبؤس عدوّك فابعد

وعندئذ قام بفتنة النّويدرة السّابق ذكرها في المسيله.

ومن مكارم عقيل : أنّه وضع عند أبي بسيط أربعين ألف ريال عن مئة ألف ربيّة هولنديّة بمصرف ذلك العهد على سبيل القرض ، فلمّا تأخّر شغل أبي بسيط .. كتب له النّاصحون ليتلافى ماله بالسّفر إلى سربايا من أرض جاوة ، فلامهم وقال : إنّي أحرج الأوقات أضيّق على صديقي ، لو كان مالي بأسره ينفّس عنه ما وقع فيه .. لأعطيته إيّاه.

ثمّ لم أدر ماذا صار ، غير أنّ هذا من الشّهامة والوفاء بمكان.

يا همّة نبلت عن أن يقال لها

كأنّها وتعالت عن مدى الهمم

وقد خلّف جملة من الأولاد ، أكبرهم : العلّامة الجليل السّيّد محمّد بن عقيل (١) ، كانت له حافظة قويّة ، واطّلاع تامّ ، وإكباب على المطالعة ، وكان بدء أمره

__________________

(١) ولد بالمسيلة سنة (١٢٧٩ ه‍) ، عكف من صغره على مكتبة آبائه وأجداده ، ونهل منها علما كثيرا.

ثم سافر إلى سنغافورة تاجرا وأثرى بها ، رحل إلى بلدان عديدة.

كان له الريادة في إصدار أول صحيفة عربية تصدر في شرق آسيا ، وهي صحيفة : «الأيام» ، صدر عددها الأول في جمادى الآخرة (١٣٢٤ ه‍) (١٩٠٦ م) ، وآخر عدد في ذي الحجة (١٣٢٦ ه‍). وأتبعها بصحيفة : «الإصلاح» ، وكانت أسبوعية ، صدر عددها الأول في شوال (١٣٢٦ ه‍) ، واستمرت إلى ذي الحجة (١٣٢٨ ه‍) ، وكانت رئاسة تحريرها للأستاذ كرامة بلدرم.

ثم أصدر صحيفة : «برهوت» عندما كان مقيما في الصولو بإندونيسيا ، مكثت عامين ثم انقطعت كمثيلاتها.

٨٣٤

على اعتدال في التّشيع حتّى لقد دخل العراق في سنة (١٣٣٠ ه‍) ومعه السّيّد محمّد بن عليّ الحييد والسّيّد يوسف بن أحمد الزّواوي صاحب مسقط ، فلم يرض الشّيعة ولا أهل السّنّة ؛ لخروجه عن سمت الفريقين ، ولكنّه غلا بالآخرة في تشيّعه حتّى اقترب من سادات الأمّة رضوان الله عليهم ، وتأثّر بكلامه كثير ممّن يعزّ علينا انحرافهم ، فلقد بعث لي بنسخة من قصيدة سيّرها للإمام الحالي ، يقول منها في مدحه [من الكامل] :

روح مقدّسة وقلب ضمّه

في قالب التّصوير أحسن هيكل

ويقول فيها عن أهل البيت :

برآء من حسد المشوم وغلظة ال

فظّ الغشوم ومن تقهقر نعثل (١)

وما أرى هذا التّعريض الفاحش عن عقد قلبيّ ونيّة قطعيّة ، وعلّه كان عن ثورة نفسيّة ذهب به الكلام فيها إلى غير ما يريد ، وما أصدق قول بديع الزّمان : الكلام مجون ، والحديث شجون ، واللّفظ قد يوحش وكلّه ود ، والشّيء قد يكره وما من فعله بد ، والعرب تقول : لا أبا لك في الأمر إذا همّ ، وقاتله الله ولا يريدون به الذّمّ ، وويل أمّه للمرء إذا أهمّ.

أمّا الإمام حفظه الله : فإنّه لا يعجبه مثل ذلك ؛ لأنّه ليس من المتعصّبين ، بل هو الّذي اجتثّ عروق التّعصّب من بين الزّيديّة والشّافعيّة حتّى عادوا إخوانا ، وسلك فجّه وليّ عهده ، وباب مدينة ملكه ومجده : ولده أحمد وولده زين الشّباب المأسوف عليه البدر محمّد.

وأمّا أنا : فقد اتّعظت بغلوّ العلّامة ابن عقيل اتّعاظا حسنا ؛ إذ سلمت باستنكاره عن الوقوع في الحمى الّذي لا ينبغي أن يقرب ، لا سيّما وحاميه سيّد ولد آدم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وما للقاصرين أمثالنا والدّخول بين المهاجرين الأوّلين وتعريف

__________________

(١) التّقهقر : الرّجوع. النّعثل : الشّيخ الأحمق.

٨٣٥

طبقاتهم وترتيب درجاتهم؟ هيهات! لقد حنّ قدح ليس منها (١).

وكان العلّامة ابن عقيل قويّ الإرادة ، حميّ الأنف ، وجرى عليه امتحان بسنغافورة وجاوة .. فلم يزلّ نعله ، ولا لان جانبه ، وله رحلات ـ حتّى إلى القارّة الأوربيّة ـ بمعيّة أمير الإحسان السّيّد محمّد بن أحمد السّقّاف (٢) ، وله اتّصال بكثير من أعيان مصر وغيرها. وله مؤلّفات كثيرة ، أجمعها وأحبّها إليه الكتاب الموسوم ب «ثمرات المطالعة» ، ومنها : «العتب الجميل على أهل الجرح والتّعديل» (٣).

غير أنّ الشّيخ الأديب أحمد الحضرانيّ أخبرني عن العبّاديّ الثّقة الّذي كان موظّفا بدار الضّرب في حيدرآباد الدّكن : أنّه ليس له ، وإنّما كان من تأليف العلّامة السّيّد أبي بكر بن شهاب ، فنزل عنه للعلّامة ابن عقيل ، وأنّه كان شاهد ذلك النّزول.

وأنا في شكّ منه ؛ أمّا أوّلا : فلأنّ عبارته وموضوعه أمسّ بعبارة ابن عقيل وجديلته ، وأمّا ثانيا : فإنّه حصيل مطالعات كثيرة ومراجعات وفيرة لا يصبر عليها شيخنا العلّامة ابن شهاب ، وإنّما كان له فهم وقّاد يتيسّر له عفوا معه المراد ، والله أعلم.

توفّي السّيّد ابن عقيل بالحديدة سنة (١٣٥٠ ه‍) ، وقد رثيته بمرثيّة لزوميّة توجد بمكانها من «الدّيوان».

ورثاه جماعة من الأدباء ؛ منهم العلّامة الأخ علويّ بن طاهر الحدّاد ، والشّاعر

__________________

(١) حنّ قدح ليس منها : مثل تضربه العرب للرّجل يتمدّح بالشّيء وهو من غير أهله.

(٢) هو السيد المحسن صاحب المبرات والأوقاف الخيرية ، محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن علوي بن عبد الله بن محمد بن عمر الصافي السقاف ...

ولد بسنغافورة ، وكان والده من أعيان تجارها ، مشهورا بالسخاء والكرم ، واقتفى ابنه المترجم نهجه ، وأجرى الله على يديهما خيرا كثيرا ، توفي السيد محمد بسنغافورة سنة (١٣٢٣ ه‍). تكلم عن جودهما صاحب «التلخيص» (٤٤).

(٣) وقد طبع «العتب» بمصر قديما ، وهو يتناول الدفاع عن بعض الرواة ضعفوا بسبب تهمتهم بالتشيع! وله مؤلفات أخرى غير هذا .. تنظر في ترجمته الطويلة من «التعليقات» لضياء شهاب : (١ / ٣١٨ ـ ٣٢٤) ، «الرابطة» أعداد سنة (١٣٥١ ه‍) ، و «الأعلام» (٦ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠).

٨٣٦

المطبوع : أحمد بن عبد الله السّقّاف ، والكاتب الشّهير السّيد محمّد بن هاشم بن طاهر ، وغيرهم.

وترك أولادا ؛ منهم ـ وهو أكبرهم ـ : عيسى ، له نكات ونوادر ، يسكن الآن بصنعاء. ومنهم : عليّ ، شابّ فاضل ، كريم الأخلاق ، كان كاتم سرّ سيف الإسلام الحسين بن أمير المؤمنين ، وكان بمعيّته في سفره إلى أوربّة ثمّ إلى الحجاز ، توفّي بصنعاء في سنة (١٣٦٣ ه‍).

ومن أولاد السيد عقيل : السّيّد عمر بن عقيل ، كان فقيها حكيما ، ذا رأي أصيل ، وسعي جميل ، وخلق حسن ، توفّي بالمسيله بإثر حمّى خفيفة جدّا (١) في محرّم سنة (١٣٣٩ ه‍) ، وشهد دفنه أخوه العلّامة محمّد ؛ لأنّه وصل حضرموت في أواخر سنة (١٣٣٨ ه‍) ، ولم تطل إقامته بعد وفاة أخيه بل عاد إلى مقرّ تجارته.

ولا بأس إذ جرى ذكر الشّيخ فرج يسر من الإشارة إلى سبب ثروته وزوالها ؛ لأنّ خبر ذلك طريف جدّا ، فقد كان راكبا في أحد المراكب الشّراعيّة ، وكان في خلقه حدّة وشراسة ، وكان ربّان المركب يحبّ أن يغضبه ويتنادر عليه ، فرسى بهم المركب في سيلان (٢) وله بها معارف ، ومن عادتهم أن لا يقلعوا إلّا بعد شحن البضائع منها وهي تستغرق أيّاما ، فكانوا يخرجون للنّزهة صباح كلّ يوم إلى مرسى كلمبو (٣) ، وهناك يحضر الدّلّالون بالأشياء التّافهة لبيعها بالمزاد ، فتواطأ الرّبان مع الحاضرين أن يوقعوا فرج يسر في الشّبكة ، فكان المعروض في ذلك اليوم صندوقان خشبيّان أكل الدّهر عليهما وشرب ، واعترقت الأرضة ظواهرهما حتّى لم يبق منهما إلّا الرّسوم ، إلّا أنّهما

__________________

(١) وقد خلف السيد عمر في فضله وعلمه ابنه العلامة الفقيه الأديب السيد إبراهيم بن عمر المولود بالمسيله سنة (١٣٢٧ ه‍) تقريبا. وقد كان السيد إبراهيم من أعيان علماء اليمن ، وتولى نظارة المعارف في صنعاء وتعز أيام الإمام أحمد. وهو من خريجي الرباط وجمعية الأخوة بتريم ، ودرس على شيوخ عصره ، وله منظومة عذبة حوت أسماء شيوخه سمّاها : «مشرع المدد القوي نظم السند العلوي». ثم تولى منصب إفتاء لواء تعز إلى أن توفي سنة (١٤١٥ ه‍). له ترجمة مختصرة في : «لوامع النور».

(٢) جزيرة سيلان الشهيرة المعروفة الآن باسم : (سيرلانكا).

(٣) وهي العاصمة.

٨٣٧

لا يزالان مقفلين ، فوقعا بتدبير الرّبان عند فرج ، فأخذوا يغمزون ويلمزون إلى أن ضاق صدر فرج ـ وسرعان ما يضيق ـ فعاد إلى المركب حزينا ، ولمّا كان وسط اللّيل .. عزم على رميهما في البحر ، ثمّ ثاب إليه رشده وارتأى أن لا يرميهما حتّى يرى ما فيهما ، فعاد بهما إلى مخدعه وفتحهما .. فإذا بهما مشحونان بالأوراق الماليّة من ذوات الألف ربيّة بما يقوّم بعشرات الملايين ، فمن ذلك كانت ثروته الّتي لم يقف فيها عند غاية من فعل المكرمات ، إلّا أنّ أمرها مخوف ، ولا سيّما إن أمكن معرفة أرباب تلك الأموال ، فعسى أن لا تمكن معرفتهم إذ ذاك ليكون لها وجه من الحلّ.

ولم يكتف بتلك المبالغ الضّخمة حتّى أخذ يوسّعها بالتّجارة ، فاقتنى العدد الكثير من المراكب الشّراعيّة ، يمخر بها عباب البحر الهادي والهنديّ والأحمر والأبيض وغيرها ، حتّى لقد جهّز في بعض المواسم خمسا وعشرين سفينة هي وما فيها من البضائع .. من أمواله الخالصة. ولمّا جاء الإدبار .. وردته في يوم واحد خمس وعشرون برقيّة ، كلّ واحدة بتلف سفينة وما فيها من البضائع ، فلم ينكسف باله ، ولم يتغيّر حاله. على رواية هذا اتّفق جماعة من معمّري الحديدة في سنة (١٣٤٠ ه‍) عن خبرة بحقيقة الأمر ؛ إذ كان رباؤه هو بالحديدة ، إلّا أنّ في النّفس شيئا من البرقيّات ؛ لأنّي لا أدري أكانت متّصلة لذلك العهد أم لا؟

وكان عبدا حبشيّا أعتقه بعض أهل الحديدة ، وكانت أمّ السّيّد الجليل عقيل حبشيّة أيضا ، فهذا مع عشق المكارم وتحمّل المغارم .. هو الجامع بين الرّجلين.

ومن وراء يشحر إلى جهة الجنوب الغربيّ مكان يقال له :

الصّاري ، وهو قرية صغيرة لآل مقيدح الجابريّين ، لا يزيد سكّانها الأكرة عن سبعين شخصا.

ثمّ : شريوف ، وهو واد أكثر أمواله للسّادة آل عبد الله بن حسين العيدروس والمشايخ الزّبيديّين.

ثمّ : رضيح ، وهو واد مبارك ، كان للحبيب علويّ بن أحمد العيدروس ، ثمّ انقسم بين ورثته ، ثمّ استخلص أكثره المنصب السّيّد محمّد بن حسين السّابق ذكره في

٨٣٨

تاربه ، وكان تحمّل ديونا في الحرب الّتي جرت بسبب مسجد آل بو فطيم ، أثقلت كاهله ، ولكنّه قضاها من موسم واحد فيه صادف غلاء وسلامة من الجراد الّذي اجتاح أكثر زرع حضرموت في ذلك العام.

وبإثر وفاته استولى إمارة رضيخ ولده المنصب محمّد بن محمّد ، وفي أيّامه دخل آل عمّه عبد الله بن حسين بالشّراء من إخوانه إلى ما لأبيهم من ميراث أبيه فيه ، فأقلقوا راحته ، وجرت بينهم منازعات لا تزال آثارها في نفوس الطّرفين إلى اليوم. وقد قال حبيب [في «ديوانه» (٢ / ١٠٢) من الكامل] :

حسد القرابة للقرابة قرحة

تدمي عواندها وجرح أقدم (١)

وقد مرّ في الحسيّسة أنّ آل العيدروس ألّفوا جمعيّة أهمّ أغراضها : إصلاح ذات بينهم ، ولكنّها لم تفعل شيئا إزاء هذا ؛ لأنّ تلك الجمعيّة معقودة بما يهواه السّيّد عبد الله بن حسين العيدروس ؛ إذ هو القائم بأكثر كلفتها ، وكان متعصّبا على ابن أخيه .. فلم تتداخل جمعيّتهم في ذلك ؛ مراعاة لخاطره.

ثمّ حصن ابن ضوبان ، لآل جابر ، ومنه تنشعب الطّرق ، فتذهب طريق إلى النّعر ؛ وهو مسيل بين جبلين ، تنصبّ فيه المياه من عدّة جبال واسعة.

ومتى ارتفعت عن ذلك المسيل وتسنّمت الجبل .. فأوّل ما تمرّ به .. حرو ، وفيه حوض يحفظ الماء مدّة ليست بالطّويلة ؛ لأنّه غير مجصّص. ثمّ ريدة الجوهيّين. ثمّ بضي.

وتذهب الأخرى في ذلك الفضاء الواسع توّا. وأوّل ما يمرّ الذّاهب فيها بالرّدود ، قرية لا بأس بها للمشايخ الزّبيديّين وآل جابر. ومن الزّبدة بها الآن الشّيخ يسلم بن سعيد.

ثمّ سونه ، وهو واد صغير للزّبدة. ثم حكمه ، وهو واد آخر أوسع وأكثر عمارة من سونه ، لآل جابر وللزّبدة.

__________________

(١) القرحة : الجرح الّذي امتلأ قيحا. عواندها : سيلانها ، من عند الدّم .. إذا سال.

٨٣٩

وتصعد من وادي حكمه في عقبتها طريق إلى رسب ، ومنها إلى عثه عقبة كأداء ينزل منها إلى الأرض المتّصلة بالسّاحل على مسافة يوم للرّاكب المجدّ.

وفي أثناء عقبة حكمه عين صغيرة عذبة باردة.

وفي قطع معيّنة من شراج حكمه تداع بين الزّبدة وابن متيهم ، وحاصله : أنّ ابن متيهم باسط ذراعيه على تلك القطع منذ نحو مئة سنة ، ومعه خطّ بالقسمة بين الزبدة وبين أبيه ، فادّعى الزّبيديّون أنّ يده غاصبة بطريق الشّراحة الظّالمة ، وشهد لهم شهود منهم ، وصدر لهم حكمان ضدّ ابن متيهم من قاضي تريم لما قبل اليوم بأكثر من عشر سنين ، فسئلت عن الحكمين .. فأفتيت ببطلانهما ؛ لأنّ الشّهود شهدوا بأنّ فلانا غصب هذه القطع ، والحال أنّهم لم يشهدوا زمن الغصب ، ومن شرط الشّهادة بالتّسامع في الغصب أن يقول الشّاهد : (أشهد أنّه مغصوب) لا (أنه غصب) ـ بصيغة الفعل الماضي ـ لأنّ هذه صورة كذب ؛ لاقتضائه أنّه رأى ذلك وشاهده.

هذا ما قرّره الفقهاء بالاتّفاق ، وانضمّ إلى ذلك ما قرّروه في الأيمان أنّ استدامة الغصب ليست بغصب ، فالشّهادة باطلة.

ويزيد الحكم الثّاني بأنّ أحد شهوده كان من المدّعين في الأوّل.

ثمّ تكرّرت الأحكام ، وخبط القضاة والمستأنفون ، واختلفوا.

ومن المدهش : أنّهم لم ينفصلوا عن الاعتراضين اللّذين ذكرتهما بحال ، وكأنّهم لا يلجؤون إلى الكرّاس ، وإنّما يأخذون ممّا في الرّاس.

وأحيلت القضيّة في الأخير إلى استئناف جديد لا ندري ماذا يفعل. والمسألة مشكلة لا من حيث النّصوص العلميّة ، ولكن لاختلاف مشارب أهل النّفوذ ؛ فأحدهم يؤيّد الزّبدة ، والأخر يؤيّد ابن متيهم والحقّ في ظاهر الأوضاع الشّرعيّة إلى جانب ابن متيهم ، وأمّا في باطن الأمر .. فالشّبهة قائمة ، والله أعلم.

وفي غربيّ حكمه : واد واسع يقال له : بايوت ، يسكنه كثير من آل نهيم الوزيريّين ، وغيرهم. ورسب ، وهو لآل جابر ، ومنذ اثنتي عشرة سنة تعرّضوا

٨٤٠