إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

المادة الأولى : تلبية لرغبة الموقّع أدناه : عبد الله بن عمر القعيطيّ ، بالأصالة عن نفسه ، وبالنّيابة عن أخيه عوض .. تتعهّد الحكومة البريطانيّة بأن تمدّ إلى المكلّا والشّحر ومتعلّقاتهما الّتي في دائرة تفويضهما وحكمهما المنّة السّامية ، وحماية صاحبة الجلالة الملكة الإمبراطورة.

المادة الثّانية : يرتضي ويتعهّد عبد الله بن عمر القعيطيّ ، بالأصالة عن نفسه ، وبالنّيابة عن أخيه عوض وورثائهما وحلفائهما .. بأن يتجنّب الدّخول في مكاتبات أو اتفاقيّات أو معاهدات ، مع أيّ شعب أو دولة أجنبيّة إلّا بعلم وموافقة الحكومة البريطانيّة.

ويتعهّد أيضا : بأن يقدّم إعلاما سريعا لوالي عدن ، أو لضابط بريطانيّ آخر عند محاولة أيّة دولة أخرى في التّدخّل في شؤون المكلّا والشّحر ومتعلّقاتهما.

المادة الثّالثة : يسري مفعول هذه المعاهدة من هذا التّاريخ.

وشهادة على ذلك فقد وضع الموقّعون أدناه إمضاءاتهم أو ختوماتهم في الشّحر باليوم من شهر مايو سنة (١٨٨٨ م) اه

وكنت أتوهّم هذه أوّل معاهدة بين القعيطيّ والإنكليز ، ولكن رأيت قبلها أخرى بواسطة (جايمس بلار) والي عدن بتاريخ (٢٩) مارس سنة (١٨٨٢ م) و (١٢) رجب سنة (١٢٩٩ ه‍) جاء فيها ما يوافق الّتي قبلها ، مع زيادات :

أولاها : أنّ عبد الله بن عمر وأخاه عوض بن عمر تمكّنا ـ بواسطة المساعدة لهما من الحكومة البريطانيّة ـ من الاستيلاء على مرفأي بروم والمكلّا في أكتوبر سنة (١٨٨١ م) ، وعلى الأراضي الّتي كان يحتلّها النّقيب.

وبما أنّ الحكومة قد أسدت إليهما مساعدات ومننا أخرى .. فقد وافقوا على المعاهدة الآتية ، وهي معاهدة سنة (١٨٨٨ م).

والزّيادة الثّانية هي : بما أنّ الممتلكات الّتي كانت سابقا في قبضة النّقيب عمر بن صلاح قد انتقلت إلى يد عبد الله بن عمر القعيطيّ ، وهو قد دفع مئة ألف ريال للوالي

١٢١

في عدن لقاء نفقات النّقيب عمر بن صلاح .. فإنّ هذا المبلغ سيصرف بنظر الوالي في عدن عن النّقيب عمر بن صلاح المذكور.

والزّيادة الثّالثة هي : تعهّد الحكومة البريطانيّة بمعاش سنويّ لآل القعيطيّ ، قدره : ثلاث مئة وستّون ربيّة ، ما داموا قائمين بشروط هذه المعاهدة. اه

ولكنّ آل القعيطيّ ترفّعوا عن ذلك المعاش الزّهيد ، ولم يقبضوا منه شيئا من يوم المعاهدة إلى اليوم.

ومقدّم تربة المكلّا (١) هو : الشّيخ يعقوب بن يوسف باوزير ، وهو آخر من وصل إليه العلم من أجداده (٢) المشايخ آل باوزير ، وكانت وفاته بالمكلّا في سنة (٥٥٣ ه‍).

وقال السّيّد علويّ بن حسن مدهر : (إنّ آل باوزير يرجعون إلى الشّيخ حسن الطّرفيّ ، المقبور بجزيرة كمران).

وقال الشّيخ عبد الله بن عمر بامخرمة : (إنّ آل باوزير ينسبون إلى قرية يقال لها : وزيريّة من شرعب باليمن ، على مقربة من تعزّ ، بينهما مرحلة ، تطلّ على تهامة)

وقد اجتمعت بالفاضل السّيّد : محمّد بن محمّد بن عبد الله بن المتوكّل ، فحدّثني عن وزيريّة هذه وقال : (إنّها الوزيرة (٣) لا وزيريّة ، وهي ما بين شرعب والعدين ، بلاد خصبة جدّا ، يمرّ فيها غيل غزير ، لا تزال به خضراء صيفا وشتاء).

وزعم قوم : أنّ الشّيخ يعقوب بن يوسف من آل الجيلانيّ (٤).

__________________

(١) مقدّم التّربة : أي هو أشهر أو أقدم من قبر بها ؛ لذا فهو المقدّم على غيره بالزّيارة لسابقته.

(٢) كذا في الأصل بزيادة هاء الضّمير ، ولعلّ الأصوب بدون الهاء ؛ لأنّ آل باوزير ينتهون في النّسب إليه.

(٣) الوزيرة : عزلة من ناحية الفرع من العدين ، والعزلة أصغر من القرية ، وظهر من هذه العزلة علماء أجلّاء ؛ منهم : الفقيه عبد الله بن أسعد الوزيري ، شارح «اللّمع» لأبي إسحاق الشّيرازيّ ، توفّي بعد سنة (٦١٣ ه‍). وله أولاد علماء أعلام ؛ منهم : الفقيه أحمد الذي بنى الملك المنصور عمر بن عليّ الرّسوليّ مدرسة عرفت بالوزيريّة نسبة إليه ، توفي الفقيه أحمد بن عبد الله هذا سنة (٦٦٢ ه‍) ..

ينظر : «البلدان اليمانيّة عند ياقوت» (ص ٣٠٠) ، و «المدارس الإسلاميّة في اليمن» (ص ٤٦ ـ ٥٠).

(٤) فصّل هذا الموضوع صاحب «الشّامل» (ص ٨٦) بقوله : وبها الشّيخ يعقوب ، معتقد يزار ،

١٢٢

وكان لآل باوزير منصب عظيم ، وجاه واسع ، حتّى لقد كانت لهم دولة بأنقزيجة وهي من جزائر القمر ، وآخر سلاطينهم بها يقال له : (مرسى فوم) ، ولكنّ السّيّد عليّ بن عمر المسيليّ طلب منه أن يولّيه على بعض البلاد .. فلم يرض ، فخرج عن طاعته ، واستعان بفرنسا .. فساعدته بالأموال والعتاد ، وبباخرة حربيّة حاصر بها مرسى فوم ، ولمّا رغب في الصّلح .. اتّعد هو وإيّاه إلى مكان أعدّ فيه الرّجال ، وبمجرّد ما وصل .. غدر به وقتله خنقا ، واستولى على ملكه ، وكان جبّارا ظالما ، معاصرا لسيّدي أحمد بن أبي بكر بن سميط ، ولا تزال لأولاده سلطنة اسميّة إلى اليوم ، وأمّه من ذرّيّة السّيّد أحمد بن عليّ ، أحد آل الشّيخ أبي بكر بن سالم ، وكان له

__________________

ويقال : إنّه ليس من أهل البلد ولكنه غريب جاء إليها فمات ودفن هناك ، وإنّه قديم العهد ، وهذا شيء يتناقله النّاس شفاها ، وقد دوّنه بعضهم فيما بعد.

وقيل فيه : إنّ اسمه يعقوب بن يوسف ، وإنّه شريف حسنيّ النّسب ، ونقل في الجزء الثّاني من «نشر النّفحات المسكيّة» : أنّ للعلّامة السّيّد الشّريف عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد الرّحمن العيدروس العلويّ الحسينيّ المعروف ب (صاحب الدشتة) قصيدة مدحه فيها ونسبه إلى الشّيخ عبد القادر الجيلاني.

وقال بعض المتأخّرين من المشايخ آل باوزير : إنّه جدّهم ، وإنّه عبّاسيّ النّسب. كلّ هذا قيل ، ولكن لم نر لشيء من ذلك مستندا في كتاب قديم يمكن أن يوثق به ، والتّاريخ نقل ورواية) اه كلامه.

أقول : والّذي عليه بعض مؤرّخي آل باوزير إثبات أنّهم عبّاسيّون ؛ فقد صنّف الشّيخ مزاحم بن سالم بن مزاحم باوزير كتابا سمّاه : «البدر المنير في رفع الحجاب عن نسب آل أبي وزير» أو «دفع الالتباس عمّن لا يعلم أنّ آل أبي وزير من بني العبّاس» .. طبع بمصر بمطبعة التّقدّم العلميّة سنة (١٣٢٩ ه‍) ملحقا به كتابان لبعض آل باوزير في التّصوّف.

وكتب المؤرّخ سعيد عوض باوزير في «صفحات من التّاريخ الحضرميّ» قصّة نزوح جدّهم الشّيخ يعقوب من العراق (ص ٩٧ ـ ١١٢).

وأبيات السّيّد العيدروس الّتي ذكرها صاحب «الشامل» تشير إلى أنّ الشّيخ يعقوب هو سبط الشّيخ عبد القادر الجيلانيّ ، وهي قوله من الخفيف :

لا يقاس علاؤه بعلاء

وهو نسل الرسول ذاك الحبيب

سبط شيخ الشيوخ قطب المعالي

الشريف الجيلاني المرغوب

العفيف المنيف حقا وصدقا

ناده باسمه العلم (يعقوب)

إلخ ، وإنّما أوردتها لتكون شاهدا على قول المصنّف. والله أعلم.

١٢٣

أولاد يزيدون عن المئة ، وسلطته على أنقزيجة انتهت بآل باوزير ، ثمّ انتهت دولة آل باوزير بحكم عليّ بن عمر ، وليس من آل الشّيخ أبي بكر ، ولكنّ أمّه منهم ، وأمّا هو .. فمن آل المسيلة ، ولهذا قيل له : المسيلي.

وللمكلّا ذكر كثير في أخبار بدر ـ أبو طويرق ـ الكثيريّ ، المتوفّى بسيئون سنة (٩٧٧ ه‍) ، وشيء من ذلك لا ينافي كونها خيصة صغيرة لذلك العهد ، لم تعمّر إلّا في أيّام الكساديّ ؛ لأنّه لا ينكر وجودها من زمن متقدّم ، وصغرها لا يمنع ذكرها ، فمن ذكرها .. فقد نظر إلى مجرّد وجودها ، ومن لم يذكرها .. فلحقارتها ، ولأنّها لا تستحقّ الذّكر إذ ذاك.

إلّا أنّه يشكل على ذلك شيئان :

أحدهما : أنّ الشّيخ عمر بن صالح هرهره (١) لم يذكرها في «رحلته» الّتي استولى فيها على حضرموت والشّحر ، ولقد ذكر فيها أنّه أقام بالشّحر ثلاثة أشهر ، وأنّ ما جباه منها في هذه المدّة : خمسة وثلاثون ألف ريال ، مع أنّه متأخّر الزّمان في سنة (١١١٧ ه‍) ؛ فإنّ هذا يدلّ على فرط تأخّرها ، إلّا أن يقال : إنّ الشّيخ عمر صالح احترمها لمكان إخوانه اليافعيّين فيها ، ولكنّه لا يصلح إلّا جوابا عن الغزو لا عن الذّكر.

وثانيهما : أنّ كثرة المقابر بها تدلّ على عمران قديم.

وقد يجاب بأنّها : ربّما كانت كلّها مقبرة للعكابرة وبني حسن ومن داناهم ؛ حرصا على مجاورة الشّيخ يعقوب ، كما هي عادة أهل البلاد ، وأهل البادية أكثر النّاس حرصا على مثل ذلك.

وقد عمّر كثير من تلك المقابر بعد دثورها مساكن ومساجد ، وكنت أشتدّ في إنكار ذلك ، حتّى رأيت كلام «التّحفة» و «الإيعاب» في ذلك.

وحاصل ما فيهما : (أنّ الموات المعتاد للدّفن بلا مانع يدخل في قسم المسبّل ، ويجوز زرعه وبناؤه متى تيقّن بلاء من دفن به ، ولا سيّما إذا أعرض أهل البلد عن الدّفن

__________________

(١) آل هرهرة : فخذ من آل الظبي بطن من يافع ، كانوا سلاطين يافع العليا. وأخبار عمر بن صالح هرهرة في «العدّة المفيدة» : (١ / ٢٤٩ ، ٢٨٤ ، ٢٩٢).

١٢٤

فيه حالا واستقبالا. وإنّما يمتنع الإحياء والتّصرّف فيما تيقّن وقفها ، أو أنّ مالكا سبّلها)

وقال العينيّ ـ وهو من الحنفيّة ـ : (ذكر أصحابنا أنّ المقبرة إذا دثرت .. تعود لأربابها ، فإن لم يعرف أربابها .. كانت لبيت المال). اه وفي شروح «المنهاج» ما يوافقه.

وقال ابن القاسم من المالكيّة : (لو أنّ مقبرة عفت (١) ، فبنى عليها قوم مسجدا .. لم أر بذلك بأسا) اه (٢)

وهذا شامل لما تحقّق وقفها أو تسبيل مسبّل لها.

أمّا ما لم يتحقّق فيه ذلك .. فنحن وإيّاهم على اتّفاق في جواز إحيائه والتّصرّف فيه.

وقال بعض الحنابلة : (إذا صار الميت رميما .. جازت زراعة المقبرة والبناء عليها)

وهذا في غير قبور الأولياء والعلماء والصّحابة ؛ أمّا هؤلاء .. فلا تجوز على قبورهم مطلقا.

وفي شرحي بيتي السّلطان غالب بن محسن من ثالث أجزاء «الأصل» ما يصرّح بأنّ المكلّا لم تزل خيصة في سنة (١٢٤٩ ه‍) ، وأنّ سكّانها إذ ذاك لا يزيدون عن أربعة آلاف وخمس مئة نفس.

ثمّ إنّه لم يكن للعلم شأن يذكر بالمكلّا (٣) ونواحيها (٤) ؛ لانصراف وزير الحكومة

__________________

(١) عفت : زالت وذهب آثارها.

(٢) التاج والإكليل (٦ / ٣٢).

(٣) ذكر السيد محمد بن هاشم في «رحلة الثغرين» عندما ورد المكلا في سنة (١٣٥٠ ه‍) ، أن بها خمس مدارس وهي : المدرسة السلفية ، والمدرسة الوطنية ، ومدرسة الفلاح ، والمدرسة الهاشمية ، والمدرسة السلطانية.

(٤) ونواحيها : ما قرب منها من المناطق الساحلية ، ولا يدخل في هذه النواحي غيل باوزير ؛ فقد كان للتعليم به شأن وأي شأن ؛ إذ كان رباط ابن سلم يغدق على الساحل الخريجين الفقهاء وطلاب العلم الشرعي ، كما سيأتي معنا في الغيل لاحقا.

١٢٥

القعيطيّة السّيّد حسين بن حامد المحضار إذ ذاك عن هذه النّاحية ، بل كان ـ رحمه الله ـ يتعمّد ذلك ؛ لأنّ في العلم والمدارس تنبيه الأفكار ، وهو يكره وجود النّابغين ؛ لئلّا يزاحموه أو يغلبوه على السّلطان ، أو يطالبوه بحقوقهم (١).

وإنّما كان يوجد فيها الأفذاذ النّاقلون بحكم الفلتات ؛ كالشّيخ عوض بن سعيد بن محمّد بن ثعلب ، الّذي تولّى القضاء بها فيما قبل سنة (١٣١٣ ه‍) ، وكالشّيخ عبد الله بن عوض باحشوان (٢) ، والشّيخ سعيد بن امبارك باعامر في قليل من أمثالهم ، لا تحضرني أسماؤهم.

ومن أواخرهم : الشّيخ عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن عوض باوزير ، قرأ على الشّيخ محمّد بن سلم ، وله رحلات في طلب العلم إلى الحجاز وعدن وحضرموت ، وكان ذا لسان ونفس طيّب في الوعظ والتّذكير ، توفّي بالغيل في سنة (١٣٥٤ ه‍) ، ودفن إلى جانب شيخه ابن سلم.

وبإثر وصول السّادة آل الدّبّاغ (٣) إلى المكلّا في حدود سنة (١٣٤٣ ه‍) .. فتحوا المدارس وأحسنوا التّعليم ، وكان حزب الأحرار الحجازيّ (٤) يغدق عليهم الأموال ، وتصلهم مع ذلك المواساة من العراق.

__________________

(١) لقد أطال المصنّف وأفاض في ترجمة السّيّد حسين بن حامد في «بضائع التابوت» ، وذكر أمورا خاصّة جرت بينهما ، (٢ / ٢٨٨ ـ ٢٩٦).

(٢) عالم فقيه من سكّان المكلّا ، توفّي قبيل وفاة السّلطان عمر بن عوض ؛ أي في بداية الأربعينيّات الهجريّة ، وكان بارعا في الفرائض كما يقول معاصره فضيلة الشيخ النّاخبيّ حفظه الله.

(٣) وهم السّادة : طاهر الدّبّاغ ، وابنا أخيه : حسين وعليّ ، وهم أشراف حسينيّون ، من أهالي الحجاز.

(٤) حزب الأحرار الحجازيّ : تأسّس إبّان نشوب الحرب بين جلالة الملك عبد العزيز آل سعود وجلالة الشريف الحسين بن عليّ ؛ إذ تنادى طائفة من أعيان مكة وجدّة إلى الحضور إلى دار الشّيخ محمّد حسين نصيف ، حيث قرّروا بأغلبيّة الأصوات إنشاء حزب يدعى (الحزب الوطني الحجازيّ) ، وانتخبوا اثني عشر شخصا من أعيان الأمّة في مكّة وجدّة ؛ ليكونوا الهيئة الإداريّة للحزب ، وقد اختير لرئاسة هذا الحرب الشّيخ محمّد الطّويل ، كما اختير لأمانة سرّه السّيّد طاهر الدّبّاغ ، وقد أصدر الحزب بجدة عدّة نشرات موجّهة إلى الأمّة تدعوها إلى الاتّحاد والتّضامن. «من أعلام التّربية والفكر في بلادنا» للسّيّد محسن باروم : (٥٨ ـ ٥٩).

١٢٦

إلّا أنّهم كانوا يضمرون من التّعليم غير ما يظهرون ، وحاولوا تربية الأولاد على الطّريقة الحربيّة ؛ ليعدّوهم لغزو الحجاز ، واستمالوا رؤساء يافع ، وكان لهم إذ ذاك أكبر النّفوذ في المكلّا ، وربّما تركوا صندوق الذّهب مفتوحا ليروه عندما يزورونهم ، وبالآخرة طالبوهم بعسكر على أن يدفعوا لهم مرتّبات ضخمة ، فالتزموا لهم بخمسة وأربعين ألف مقاتل من يافع ، ولكنّ آل الدّبّاغ تأخّروا بعد ذلك لمؤثّر إمّا من الحجاز ، وإمّا من العراق ، وحاولوا إثارة حفيظة ملك العراق (١) لغزو المكلّا وحضرموت.

وفيما كانت فرقة الكشّافة مارّة بسوق المكلّا ، ترفرف عليها الأعلام العراقيّة .. تكدّر لذلك الشّيخ الأديب عبد الله أحمد النّاخبيّ (٢) ، وكان شريكهم في التّعليم ، ولكنّه لم يصبر على هذا التّطرّف ، فنبّه الوزير (٣) ، ولكنّه (٤) خاف من يافع ـ وكان

__________________

(١) هو الملك فيصل بن الشّريف الحسين بن عليّ الحسنيّ الهاشميّ (١٣٠٠ ـ ١٣٥٢ ه‍) أبو الملك غازي ولد بالطّائف ، وتوفّي فجأة بسكتة قلبيّة في العاصمة السّويسريّة برن ، ونقل جثمانه إلى بغداد ودفن بها ، وهو من أشهر السّاسة العرب في العصر الحديث ، نودي به ملكا على البلاد السّوريّة سنة (١٣٣٨ ه‍) ، ثمّ نودي به على عرش العراق في السّنة الّتي تليها (١٣٣٩ ه‍) ، ينظر : «الأعلام» (٥ / ١٦٥ ـ ١٦٦) ، «ما رأيت وما سمعت» (١٧٩).

(٢) هو الشيخ العلامة الفقيه الأديب المؤرخ ، عبد الله بن أحمد بن محسن بن ناجي الناجي اليافعي ، مولده بجبل يافع في بلدة تسمّى : حمحمة ـ بضمّ الحائين المهملتين ـ المشرفة على وادي ذي ناخب ، ولد عام (١٣١٧ ه‍) ، وهو يحفظ أنّ تاريخ مولده أيّام موقعة حوته التاريخية أي ما بين أجواء (١٣١٤ ه‍) و (١٣١٧ ه‍) وكان والده ضمن الجنود الذين شاركوا فيها من جانب القعيطي ، ثم أخذه والده إلى تبالة ، فدرس بها على يد الشيخ سالم الكلالي ، وهو شيخ فتحه وتخريجه ، ثم دخل المكلا في عهد السلطان عمر ، وشارك في النهوض بالتعليم بها ، وعدّ في أعيانها ، وله مواقف وأخبار كثيرة ، وتقلد عددا من المناصب الحكومية في عهد السلطان صالح ، وأضفى عليه المذكور لقب : (شاعر الدولة) ، وهو الآن مقيم بجدة ، أطال الله عمره في خير وعافية.

(٣) كان ذلك في عهد السّيّد أبي بكر بن حسين بن حامد المحضار ، ويقول الشّيخ النّاخبيّ : إنّ آل الدّبّاغ استمرّوا في التّدريس على منوالهم حتّى نهاية عهد السّلطان عمر ، وكان ابن أخيه السّلطان صالح في الهند ، فبلغته أنباء عن توجّه آل الدّبّاغ السياسيّ ، فكتب رسالة من الهند إلى عمّه السّلطان عمر بالمكلّا أبلغه فيها بما نمي إليه من أخبارهم.

(٤) أي : الوزير المذكور ؛ الّذي استمرّ في الوزارة إلى حدود سنة (١٣٤٩ ه‍).

١٢٧

خوّارا (١) ـ فسكت على مضض ، حتّى قدم الفاضل السّيّد طاهر الدّبّاغ (٢) ، فعرف تهوّر أصحابه فقذعهم (٣) ، ولكنّه بارح المكلّا وشيكا ، فعادت القضيّة إلى أسوأ ممّا كانت ، إلّا أنّ المسألة انحلّت بطبيعة الحال ؛ إذ سافر عليّ الدّبّاغ إلى جازان ؛ لتدبير الثّورة ، فغرق هناك ، وكان آخر العهد به (٤).

__________________

(١) الخوّار : الضّعيف الّذي لا بقاء له على الشّدّة.

(٢) السّيّد محمّد طاهر بن مسعود الدّبّاغ ، ولد بالطّائف سنة (١٣٠٨ ه‍) ، وتوفّي بالقاهرة في شهر رجب سنة (١٣٧٨ ه‍). أرسله والده إلى مصر للدّراسة بها .. فدرس المرحلة الابتدائيّة ، ثمّ عاد وأكمل تعليمه في رحاب المسجد الحرام على أيدي شيوخ العلم بمكّة ، وكانت ملازمته لشيخه العلّامة سيبويه الحجاز الشّيخ محمّد علي المالكي. عيّن مدرسا في مدرسة الفلاح سنة (١٣٣٠ ه‍) ، ثمّ مديرا لماليّة جدّة في عهد الشّريف حسين بن عليّ ، وعند اضطراب حبل الأمن في الحجاز سنة (١٣٤٣ ه‍) عيّن أمين سرّ الحزب الوطنيّ الحجازيّ وسكرتيرا له ، ولم يلبث أن غادر الحجاز بعدها إلى مصر واليمن وحضرموت ، ثمّ إلى الهند وجاوة ، فسنغافورة سنة (١٣٥٠ ه‍) ، وغادرها إلى عدن ومكث بها إلى أواخر (١٣٥٤ ه‍).

وفي سنة (١٣٥٥ ه‍) عاد إلى بلاده ، ولقي إكراما وعطفا من الملك عبد العزيز آل سعود ، وعيّن مديرا عامّا للمعارف في المملكة إلى سنة (١٣٦٤ ه‍). ثمّ عيّن عضوا في مجلس الشّورى إلى عام (١٣٧٢ ه‍) حيث طلب إحالته للتقاعد. ترجمته في : «سير وتراجم» (٢٨٢ ـ ٢٨٥) ، «من أعلام التّربية والفكر في بلادنا» (٥٣ ـ ٨٨) ، «الدّليل المشير» (٢١٢ ـ ٢١٤) ، «الانطلاقة التّعليميّة في المملكة» (١٩٧ ـ ٢٠١).

(٣) قذعهم : أفحش القول فيهم.

(٤) لكنّ شاعر الدّولة القعيطيّة الشّيخ عبد الله النّاخبيّ ، وهو أحد معاونيهم في مدرسة الفلاح يقول عن نهاية آل الدّبّاغ : إنّه بعد أن أمر السّلطان عمر بإغلاق المدرسة في أواخر الأربعينيّات الهجريّة ـ حوالي (١٣٤٨) أو (١٣٤٩ ه‍) ـ توجّه الأخوان عليّ وحسين آل الدّبّاغ إلى عدن ، وفتحوا بها مدرسة سمّوها مدرسة الفلاح أيضا ، وأقاموا في عدن بضع سنوات ـ أربع أو خمس سنوات ـ وبعدها راحوا إلى لحج وفتحوا مدرسة أيضا بها ، وأدخلوا الموسيقى في المدرسة .. فكانت أوّل فرقة موسيقيّة رسميّة تكونت على أيديهم في بلاد لحج.

وعادوا إلى عدن في حدود (١٣٥٥ ه‍) ، وحاولوا أن يكوّنوا جيشا لغزو الحجاز به ، وأعدّوا عدّة ليست بالقليلة ، وكانت خطّتهم : أن يقوم حسين بالذّهاب إلى يافع ليجلب الجنود ، ويذهب عليّ إلى الحبشة لشراء السّلاح .. ونفذت أوائل هذه الخطّة ، وسار عليّ الدّبّاغ إلى الحبشة ليجلب الأسلحة ، لكنّ منّيته عاجلته .. فغرق في زورق بقرب السّواحل الحبشيّة ، وليس بالقرب من جيزان وأما حسين فسيذكر المؤلف خبره.

١٢٨

وأمّا حسين : فلم يزل مصرّا على رأيه في الانتقام من الحكومة السّعوديّة ، وكانت خاتمة أمره أن نزل بالحالمين (١) من بلاد يافع ، فمنعه (٢) أهلها آل مفلح (٣) ، فلم يقدر عليه أحد ، ثمّ نشبت بينهم وبين جيرانهم من يافع أيضا فتنة ، ولمّا علموا أنّه السّبب فيها .. اعتزموا قتله ، فغدر بهم فهرب ـ كما فعل الكميت (٤) ـ في زيّ امرأة ، وذهب إلى الحمراء (٥) في آخر حدود يافع ، فأذكى شرّا بينهم وبين آل القويمي من الزّيديّة (٦) ، وكثرت بينهم القتلى.

ولمّا أحسّ بالفشل (٧) .. هرب إلى

 ...

__________________

(١) الحالمين : في بلاد ردفان ، وهي من أعمال محافظة لحج ، وهي منطقة أثرية ، عثر بها سنة (١٩٩٩ م) على قطع أثرية تعود إلى عهود سبأ وحمير.

(٢) أي : حموه من أعدائه وكانوا ظهرا له.

(٣) النسبة إليهم : مفلحي ، وهي قبيلة كبيرة في يافع العليا ، ويطلق اسمها على مركز إداري تابع لمديرية يافع.

(٤) كان خالد بن عبد الله القسري قد حبس الكميت بعد أن قال فيه :

وإنّي وتمداحي يزيدا وخالدا

ضلالا لكالحادي وليس له إبل

فكانت امرأته تدخل عليه .. حتّى عرف أهل السّجن وبوّابوه ثيابها وهيئتها ، ولمّا علم بأنّه سيقتل بالسّجن .. أرسل إليها يأمرها بأن تجيئه ومعها ثياب من لباسها ، وخفّان ، فقال : ألبسيني لبسة النّساء ، ففعلت ، ثمّ قالت له : أقبل .. فأقبل ، وأدبر .. فأدبر ، فقالت : ما أرى إلا يبسا في منكبيك ، اذهب في حفظ الله.

فخرج ، فظنّ السّجّان أنّه المرأة ، فلم يتعرّض له ، فنجا وأنشأ يقول :

خرجت خروج القدح قدح ابن مقبل

على الرّغم من تلك النّوابح والمشلي

عليّ ثياب الغانيات وتحتها

عزيمة أمر أشبهت سلّة النّصل

وللقصّة ذيول وأسباب غير ما ذكر فراجعها ـ إن شئت ـ في «طبقات فحول الشّعراء» (٢ / ٣١٩) ، و «الأغاني» (١٧ / ٢٠). والله الموفّق.

(٥) وهي قريبة من لحج ، وإليها ينسب العلّامة السّيّد الشّريف عمر صاحب الحمراء ابن عبد الرّحمن المتوفى سنة (٨٨٩ ه‍).

(٦) هم من يافع ، وليسوا من الزّيديّة ، كما يقول العلّامة النّاخبيّ اليافعيّ .. وهو أدرى بهم.

(٧) في سرد هذه الأحداث الّتي أوردها المصنّف بعض خلط كما يقول الشيخ النّاخبيّ ؛ إذ إنّ حقيقة الأمر : أنّ حسينا الدّبّاغ ذهب إلى يافع ليعدّ عدّته ، ويجلب منها رجالا يكونون سندا له في تنفيذ خططه الهجوميّة ، الّتي سبق ذكرها في كلام المصنّف ـ قبل أن يجليهم السّلطان عمر من المكلّا إلى عدن ـ وما الفتنة الّتي ذكرها المصنّف هنا إلّا فتنة نشبت بين يافع والإمام يحيى ؛ إذ إنّ حسينا الدّبّاغ لم يزل

١٢٩

القطيب (١) ـ وهي إحدى المحميّات ـ فألفى هناك ضابطا إنكليزيّا ، فأغرى به بدويّا فقتله بجعل دفعه له ، فطلبته حكومة عدن ، بهذه التّهمة فحماه حسن بن عليّ القطيبيّ ، وأبى أن يخيّس بجواره وذمّته ، وبعد أن أقام لديه مدّة .. خطر له أن يخرج متنكّرا إلى حضرموت ، وكانت الحكومة الإنكليزيّة جعلت أربعة آلاف (٢) ربيّة لمن يلقي القبض عليه ، فلمّا انتهى إلى أرباض الهجرين .. أمسك به عاملها ـ وهو الشّيخ محمّد بن عوض النّقيب ، وكان أحد تلاميذه بمدرسة النّجاح (٣) بالمكلّا ـ وهناك أخذه الضّابط السّياسيّ انجرامس (٤) وهو يصيح ويستثير حفائظ المسلمين ، وقد حضر كثير فلم يتحرّك من أحد عرق.

ولمّا وصلوا به إلى عدن .. طلبه ملك الحجاز (٥) ، وأمر بإنزاله مكرّما في جيزان ، وأعلن له عاملها عفو الملك عنه ، وأنّه حرّ في نفسه تحت حراسة عسكر بمثابة خدم له ، حتّى يعرف سلوكه.

__________________

يتوغّل في بلاد يافع حتّى وصل إلى حدود مملكة الإمام يحيى ، وكانت معركة بسبب تحرّشات جرت بين الفريقين ، كانت نهايتها هزيمة يافع وفرار حسين الدّبّاغ إلى حضرموت عبر السّواحل كما سيقص المصنف.

(١) قرية تقع بالقرب من بلدة السواط في وادي ميفعة من أعمال محافظة شبوة.

(٢) الّذي يحفظه الشّيخ النّاخبيّ : أنّها خمسة آلاف روبيّة.

(٣) بل هي «مدرسة الفلاح» .. ولعلّ هذا سبق قلم.

(٤) انجرامس ؛ اسمه : هارولد وليم انجرامس ، بريطانيّ ، ولد سنة (١٨٩٧ م) ، شارك كجندي في أحداث الحرب العالميّة الأولى ، نال ترقية إلى رتبة ملازم أوّل عام (١٩١٤ م) ، ابتعثته بريطانيا إلى زنجبار كمساعد لحاكمها سنة (١٩١٩ م) ، زار حضرموت لأوّل مرّة كسائح عام (١٩٣٤ م) ، وكان حينها ضابطا سياسيا في عدن. ثمّ صار مستشارا مقيما في المكلّا سنة (١٩٣٧ م) ، وغادر حضرموت سنة (١٩٤٤ م) ، وخلفه مستشارون آخرون. ومات في بريطانيا ، وكان له ولزوجته (دورين) أعمال خيريّة في حضرموت .. ينظر : «مذكّرات انجرامس» واسمها (Arabic And The Isles).

الصّادرة عن (London ٦٦٩١ ـ John Marry) ، ومذكّرات زوجته دورين المسماة :) A time in Arabia (

الصّادرة عن نفس الدّار سنة (١٩٧٠ م) ، و «حياة السّيّد الزّعيم» ومقدّمة «ديوان شاعر الدّولة» الشّيخ عبد الله النّاخبيّ.

(٥) بل كان يلقّب آنذاك : ملك نجد والحجاز وملحقاتها ، وهو الملك عبد العزيز آل سعود ، رحمه الله ، الّذي صار لقبه فيما بعد : ملك المملكة العربيّة السعوديّة.

١٣٠

فلم يزل يخاطب رؤساء العشائر ، ويعمل أعمالا لا تنطبق مع المنطق ، وكان ذلك إثر مرض لم يزل يتزايد به حتّى توفّي وهو مشمول بإكرام الحكومة السّعوديّة وسماحها.

فمن حين فتح آل الدّبّاغ المدارس .. بدأت المعارف تتقدّم بخطى قصيرة ، حتّى لقد عنيت مدارس المكلّا بما ذكرته في مقدّمة كتابي «النّجم المضيّ في نقد عبقريّة الرّضيّ».

إلّا أنّ السّلطان الحاليّ (١) لمّا كان من جملة العلماء .. أخذ يناصر المدارس ، وأغدق عليها الأموال ، حتّى لقد قيل لي : إنّ ما ينفقه عليها سنويّا أكثر من ثلاث مئة ألف ربيّة ، عبارة عمّا يقارب ربع إيراد المكلّا. وقد استجلب لها ناظرا (٢) خبيرا محنّكا من السّودان ، هو الفاضل الشّيخ سعيد القدال (٣) ، فأدارها أحسن إدارة ، وظهر الأثر وينع الثّمر. فالمكلّا بل وسائر الموانىء اليوم في المعارف غيرها بالأمس.

إلّا أنّني اقترحت على السّلطان يوم كان بمنزلي في سنة (١٣٦٥ ه‍) أن يهتمّ بإيجاد

__________________

(١) وهو السّلطان العالم الفقيه صالح بن غالب بن عوض القعيطيّ ، المتوفّي سنة (١٣٧٥ ه‍).

(٢) النّاظر : لغة : الّذي يحفظ الشّيء ، وفي الاصطلاح : وظيفة استحدثت في العصر الأيوبيّ ، واستمرّت بالّذي بعده ، عدّ صاحبها من أرباب الوظائف الدّينيّة ، والنّظّار وفق هذا المعنى كثيرون ، منهم : ناظر الأشراف : وهو عادة ممّن ينتهي نسبه بأهل البيت ، وإليه رئاسة الأشراف. ناظر الحسبة : مهمّته التّحدّث عن أرباب المعاش ، كبيرا أو صغيرا. ناظر الأحباس : مهمّته النّظر بشؤون الأوقاف. وغير ذلك من المسائل الأخرى. ثمّ تطوّر هذا الاصطلاح ليصبح في العصر العثمانيّ إلى زمن المؤلف منسوبا إلى (نظارة) بمعنى (وزارة). والله أعلم.

(٣) اسمه : القدّال سعيد القدّال ، ولد بالسّودان سنة (١٣٢٣ ه‍) ، كان قدومه إلى المكلّا سنة (١٣٥٩) أو (١٣٦٠ ه‍) ، مشرفا على معارف الدولة بالمكلّا ، بإيعاز من المستر انجرامس ، وأوّل عمل قام به القدّال هو تأسيس (مكتب إدارة المعارف) ، الّذي عرف فيما بعد ب (نظارة المعارف) ، وعين فيه النّاخبيّ وباعنقود ، وغيرهما ، ثمّ صار القدّال ناظرا لعموم معارف الدّولة ، ثمّ رقّاه السّلطان إلى مرتبة سكرتير الدّولة .. فضجّ عليه الشّعب ، وصار من جرّاء ذلك : (حادثة القصر) الشهيرة سنة (١٣٧٠ ه‍). ثمّ غادر القدّال البلاد عقب وفاة السّلطان صالح .. وتوفّي في السّودان سنة (١٣٩٥ ه‍).

كتب عنه كتابا كاملا ابنه د. محمد سعيد ، الأستاذ بجامعة عدن ، صدر من سنوات عن جامعة عدن.

١٣١

مدرسة تحضيريّة لتربية التّلاميذ على الأخلاق الفاضلة ؛ فإنّ الهمم قد سقطت ، والذّمم قد خربت ، ولن تعود سيرتها الأولى إلّا بمدرسة تأخذ بطريق التّربية الصّوفيّة ، أو قريب منها ، مع الابتعاد عن الخلطة (١) ؛ لأنّ أكبر المؤثّرات على الصّبيان المشاهدة ، فلن ينفعهم ما يسمعون إذا خالفه ما ينظرون ؛ إذ المنظور لا ينمحي من الذّاكرة ، بخلاف المسموع .. فإنّه لا يبقى إلّا عند صدق التّوجّه ، فلا مطمع في إصلاح نشء مع اختلاطه بمن لا تحمد سيرته البتّة ؛ ولذا لم يكن لبني إسرائيل علاج من أمراضهم الأخلاقيّة إلّا بإهلاك الجيل الفاسد في التّيه ، وتكوين ناشئة لم تتأثّر بهم.

وفي «الصّحيح» [خ ١٣١٩] : «كلّ مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه ، أو ينصّرانه ، أو يمجّسانه».

فنحن بحاجة ماسّة إلى إيجاد البشريّة الصّحيحة قبل العالميّة ، ومعلوم أنّ التّخلية مقدّمة على التّخلية ، والتّلاميذ ظلّ آبائهم وأمّهاتهم ومعلّميهم ، إن خيرا .. فخير ، وإن شرّا .. فشرّ ، وكثيرا ما أذكّر المعلّمين بخاتمة قصيدة جزلة لي في الموضوع ، وتلك الخاتمة هي قولي [في «ديوان المؤلّف» ٢٠٧ من البسيط] :

وفّوا الكلام وكونوا في الذّمام وفي

خوف الملام على ما كانت العرب

ثمّ إنّه لم يكن عندي تصّور لمناحي التّعليم وأخلاق الطّلّاب والمدرّسين بالسّاحل .. حتّى يسوغ لي الحكم ؛ فإنّما يتناول ثنائي ما ظهر من جمال الأسلوب ، وحركة الانقلاب ، وعموم التّيقّظ والانتباه ، وإجادة بعضهم في الشّعر حتّى يسوغ لي الحكم.

وفي المكلّا : ديوان للحكومة ، وإدارة للكهرباء ووزارة للماليّة ، وليس للسّلطان إلّا مرتّب مخصوص قدره عشرة آلاف ربيّة في الشّهر ، ثمّ رفع إلى خمسة عشر ألف ربيّة ، مع إضافات معيّنة لا يتجاوزها.

__________________

(١) مراد المصنّف هنا بالخلطة : مخالطة الأضداد ، ويقصد بهم : ذوي الطّباع السيّئة والأخلاق الرّذيلة ، المضادّة للطّباع السّليمة والأخلاق القويمة.

١٣٢

وفيها غرفة تجاريّة تراعي أغراض التّجّار وتقدّمها على مصالح الشّعب.

وفيها إدارة للقضاء ، ومجلس عال ، لكنّ ذلك المجلس العالي هو أكبر حجار العثار في طريق العدالة!!

فالحقوق مهضومة ، والحقائق مكتومة ، وطالما رفعت إليّ أحكام ذلك المجلس .. فإذا بها شرّ ممّا نتألّم منه بسيئون ؛ وذلك أنّ وزير الدّولة الّذي يقولون له : (السكرتير) ـ وهو الشّيخ سيف أبو عليّ ـ جعل كلمة ذلك المجلس النّهائيّة لا معقّب لها بحال ، فسقطت عنه مؤنة التّحفّظ ، ولم يحتج إلى مراجعة الكتب ؛ إذ هو في أمان من النّقض ، والشّعب ميت ، والخاصّة نفعيّون يتساكتون.

وإلّا .. فلو احتجّوا لدى السّلطان .. لعدّل الأمر ؛ لأنّه يكره الجور.

أمّا الآن .. فإنّ المجلس يفعل ما يشاء بدون رقيب ؛ فبعد أن ينشق الخصوم إنشاق الخردل .. يصكّهم (١) بتلك الأحكام ـ المضحكة المبكية ـ صكّ الجندل (٢).

ولله درّ العبسيّ في قوله [في «البيان والتبيين» ١ / ١٦٤ من البسيط] :

إنّ المحكّم ما لم يرتقب حسبا

أو يرهب السّيف أو حدّ القنا .. جنفا

ودفاتر التّسجيل شاهدة بصدق ما أقول ، لا تخفى على من له أدنى إلمام بالفقه.

وفي الحفظ عن «جمع الجوامع» : (أنّه لم يقع أن قيل لنبيّ من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم : احكم بما شئت ففيه الصّواب ، وإنّما الاختلاف في الجواز) (٣).

__________________

(١) يصكّهم : يضربهم.

(٢) الجندل : الحجارة.

(٣) ما عناه المصنّف صحيح ، ونصّ عبارة «جمع الجوامع» : (مسألة : يجوز أن يقال لنبيّ أو عالم : احكم بما تشاء فهو صواب. ويكون مدركا شرعيّا ، ويسمّى التّفويض. وتردّد الشّافعيّ ، قيل : في الجواز ، وقيل : في الوقوع. وقال ابن السّمعانيّ : يجوز للنّبي دون العالم. ثمّ المختار : لم يقع) اه

فالجمهور على عدم الوقوع مطلقا ، وخالفهم موسى بن عمران من المعتزلة فقال بالوقوع ؛ مستندا

١٣٣

غير أنّ الحفظ يخون ، والعهد بعيد.

ومثله عند غيره من أهل الأصول ، وقد قال تعالى لأشرف الخلق : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وقال لداود عليه السّلام : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ)

فإن قيل : إنّ في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) تفويضا مطلقا .. قيل : لا ، وإنّما هو بما أراه الله من الحقّ ، كما يشهد السّياق ، وقد جاء في «التّحفة» [٧ / ٩٨] قبيل (الوديعة) ما نصّه : (قال بعضهم : وفيما إذا فوّض للوصيّ التّفرقة بحسب ما يراه .. يلزمه تفضيل أهل الحاجة ... إلخ).

على اتّساع شقّة الفرق بين ما تراه وبين ما أراك الله ، وقد روي عن عمر رضي الله عنه : لا يقولنّ أحدكم : قضيت بما أراني الله ؛ فإنّ الله لم يجعل ذلك إلّا لنبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم. ولكن ليجتهد رأيه ؛ لأنّ الرأي من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان مصيبا ؛ لأنّ الله كان يريه إيّاه ، وهو منّا الظّنّ والتّكلّف. ثمّ ما أبعد البون بين ما تراه الأدنى ممّا أراك الله ـ كما تقدّم ـ وبين ما تشاء في الآية (٤٨) من (المائدة) : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) وفي الّتي بعدها : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ)

ولكنّ المجلس العالي بالمكلّا وقع من وزير الدّولة على ما لم تحصل عليه الأنبياء

__________________

إلى حديث السّواك ، وإيجاب الحج : «لو قلت نعم .. لوجبت» ، ورد عليه الجمهور بعدم دلالة ذلك على المدّعى ، لجواز التّخيير أو الوحي .. «شرح الجمع» (٢ / ٣٩١ ـ ٣٩٢) ، مع حاشية البناني.

ومعنى : (ففيه الصّواب) أو (فهو صواب) كما هو النّصّ : أي موافق للحكم الإلهي ، قال البناني : فهو صواب .. من جملة المقول للنّبيّ أو العالم .. وحاصل ذلك : أن يجعل الله تعالى مشيئة المقول له ذلك دليلا على حكمه في الواقع ، بأن لا يلهمه إلّا مشيئة ما هو حكمه في الواقع. اه

١٣٤

من ربّها ، فصارت أحكامه شرّا من الأحكام العرفيّة ؛ لأنّها ليست إلّا عبارة عن مشيئة وهوى الاستئناف ، بل رئيسه فقط ، من دون تقيّد بقانون شرعيّ ولا عرفيّ ، وإنّما قلنا شرّا من الحكم العرفيّ ؛ لأنّ الحاكم العرفيّ بمصر وغيرها يكون تحت مراقبة البرلمان ، بخلاف هذا .. فلا مراقبة عليه أصلا ، وهل تقبل هذا أمّة في بعض أفرادها نبض من الحياة؟!! كلّا ، ولكنّ المتنبّي يقول [في «العكبريّ» ٤ / ٩٤ من الخفيف] :

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميّت إيلام

هذا مع أنّ هوى السّلطان ـ كما سبق ـ العدل ، وغاية ما يتمنّاه الإنصاف ، لكنّ الأمّة انتهت إلى ذلك الحدّ من السّقوط والانحطاط .. فسحقا ، سحقا.

وسيأتي في الظّاهرة من أرض الكسر ما يستخرج عند التّمثيل العجب العجاب ، ويستلفت أنظار طالبي الحقيقة في هذا الباب.

وسكّان المكلّا اليوم يزيدون عن خمسة وعشرين ألفا.

وفيها عدّة مساجد ، أشهرها :

الجامع القديم (١). ومسجد الرّوضة : بناه صاحب الأحوال الغريبة ، السّيّد عمر ـ المشهور ببو علامة ـ ابن عليّ بن شيخ بن أحمد بن عليّ ابن الشّيخ أبي بكر بن سالم ، المتوفّى في شبام سنة (١٢٧٨ ه‍) (٢) ، وقد أنكر عليه بعضهم بناءه بشطّ البحر محتجّا بما جاء في رسالة للسّيوطيّ في الموضوع ، وهي مدرجة ب «الحاوي» (٣). وجامع السّلطان عمر (٤) : وهو أنزه مسجد رأيت.

__________________

(١) وهو المعروف بجامع البلاد ، وتعرف المنطقة الّتي يقع فيها بحافة البلاد ، وهو مسجد قديم يعود بناؤه إلى القرن العاشر الهجري كما قيل لي.

(٢) وفي بعض المصادر : أنّ وفاته سنة (١٢٧٩ ه‍) في جمادى الآخرة ، ومسجد الرّوضة بني في حدود سنة (١٢٥٠ ه‍).

(٣) واسم الرسالة : «الجهر بمنع البروز على شاطىء النهر» ، انظر «الحاوي للفتاوي» (١ / ١٣٣).

(٤) بني مسجد السّلطان عمر سنة (١٣٤٩ ه‍) تقريبا ، كما يقول العلّامة النّاخبيّ ، وكان قد حضر بناءه ، وكان موضعه مبركا للجمال على أكمة صغيرة.

١٣٥

ومسجد النّور (١). ومسجد باحليوة. ومسجد السّلطان غالب بن عوض (٢). وغيرها (٣).

وبها كانت وفاة العلّامة الجليل الصّادع بالحقّ ، النّاطق بالصّدق ، السّيّد شيخان بن عليّ بن هاشم السّقّاف (٤) العلويّ ، وكان رباؤه بالغرفة ، ثمّ تنقّل في القرى ، ثمّ سار إلى جاوة ، ثمّ عاد إلى الوهط ولحج ، وكان له جاه عند سلاطينها عظيم ، ثمّ عاد إلى الشّحر ، وجرت بينه وبين السّيّد عبد الله عيديد (٥) أمور ، ثمّ سار إلى المكلّا ، وبها توفّي سنة (١٣١٣ ه‍) ، وعليه قبّة صغيرة لا يزال أبناؤه في شجار بشأنها ؛ إذ كان علويّ يحمل صكّا بشرائها ، وعمر يدّعي تسبيلها.

وترك أولادا : أحدهم : محمّد (٦) بلحج. والثّاني : جعفر (٧) ، وهو حافظ للقرآن ، مشهور بالصّلاح ، بسربايا من أرض جاوة. والثّالث : عبد الله (٨) كان خفيف الظّلّ ، مقبولا ، راوية لأخبار من اتّصل بهم من الرّجال ، وفيهم كثرة. والرّابع : ـ وهو أكبرهم ـ : علويّ (٩) ،

__________________

(١) ويقع إلى جانبه رباط النّور ، بناه بعض فضلاء المكلّا.

(٢) وهو المعروف بالغالبيّ.

(٣) وقد بنيت في المكلّا بعد عصر المؤلّف مساجد كثيرة ، من أكبرها : (جامع الإمام الشافعي) ، و (جامع الشّرج) ، و (جامع الشّهداء) ، و (جامع خالد بن الوليد) ، والأخيران في الديس.

(٤) وكان مولده سنة (١٢٤٨ ه‍) ، أخذ عن جمع من علماء حضرموت الداخل ، ومن أجلهم الإمام عبد الله بن حسين بن طاهر.

(٥) هو السّيّد عبد الله بن سالم عيديد ، من أهل الشّحر ، توفّي سنة (١٣٠٦ ه‍) ، ترجم له في «نشر النّفحات» (١ / ٣٢٦ ـ ٣٣٠).

(٦) محمّد هذا .. ترتيبه الثّالث بين الأبناء ، وكان قد توطّن مدّة بلحج ، ثمّ انتقل إلى دار سعد ، وبها توفّي ، وأخواله من العوالق.

(٧) جعفر بن شيخان ، ولد بالمكلّا ، ثمّ هاجر صغيرا إلى جاوة ، وكان يرسل أولاده إلى حضرموت ليربّيهم عمّهم علويّ بن شيخان.

(٨) توفّي بالمكلّا قبل أخيه علويّ ، وهو شقيقه.

(٩) علويّ بن شيخان ، أكبر أبناء السّيّد شيخان ، شقيق عبد الله المتقدّم ، أمّهما من آل باعبّاد ، كان عالما جليلا زاهدا مهابا ، كان إذا دعاه السّيّد الوزير حسين بن حامد .. أتاه ، ولم يأكل ولم يشرب شيئا من ضيافته ، وجاءه مرّة السّلطان عمر بن عوض القعيطيّ فكلّمه من سطح داره ولم يخرج إليه ، فعاد السّلطان بعد أن تصبّب عرقا ، توفّي بالمكلّا عن عمر ناهز التّسعين في حدود عام (١٣٧٠ ه‍). وهو

١٣٦

بالمكلّا ، وله أولاد (١) فتحوا بها مدرسة أهليّة منذ عشر سنوات. والخامس : عمر ، وهو أصغرهم ، بالمكلّا أيضا (٢).

ولئن قلّ العلم بالمكلّا في الأزمنة السّابقة .. فقد كانت ملأى بفحول الرّجال.

ولقد أخبرني الثّقة أنّ وسط البقعة ـ المسمّاة بالحارة منها ـ كان مزدانا (٣) ـ في حدود سنة (١٣٢٨ ه‍) ـ برجال لم تعوّض عنهم ؛ كالسّيّد حسين بن حامد ، وأخيه عبد الرّحمن ، وسعيد وأحمد وعوض آل بو سبعة ، وعليّ بامختار وأولاده ، وآل زيّاد من يافع ، وسعيد باعمر ، وعبد الله بن عوض باحشوان وعوض بن سعيد بن ثعلب السّابق ذكرهما ، وعمر وأحمد وعبد الرّحمن آل لعجم (٤) ، وعقيل بن عوض بلربيعة الشباميّين ، وبو بكر وعبد الصّمد وعبد الكريم آل بفلح ، وسالم عمر وعوض عمر آل قيسان ، والشّيخ عمر بن عبد الله عبّاد ، وابن عمّه الشّيخ حسن بن عبد الرّحمن عبّاد ، وأحمد ومحمّد وسعيد آل مسلّم الغرفيّين ، وعمر الجرو ، وولديه : عبد الله وعليّ ، وسالم وسعيد آل بشير هؤلاء من خلع راشد ، والشّيخ عبد الله بارحيم ، وآل غزّي ، وآل غريب ، وغيرهم.

فهؤلاء كلّهم من نقطة صغيرة من الحارة ـ دع ما سواها ـ كانت العيون بقربهم تقرّ ، والنّفوس بجوارهم تستبشر ، فتواتر نعيهم ، واشتدّت الواعية (٥) بهم.

__________________

أحد شيوخ العلّامة النّاخبيّ حفظه الله تعالى.

(١) إنما هما ولدان ، وهما السّيّدان : محمّد ومحسن ، وهذه المدرسة الّتي ذكرها المصنّف سمّياها : (المدرسة الهاشميّة) ، قامت على أنقاض (مدرسة الفلاح) الّتي تقدّم ذكرها. وكان قيام هذه المدرسة في حدود (١٣٦٠ ه‍).

(٢) تتمّة : ومن أولاد الحبيب شيخان ممن لم يذكرهم المصنّف : عليّ بن شيخان ، ولد بقرسي بجاوة ، وعاش وتوفّي بها. وأبو بكر بن شيخان ، توفّي بشقرة ، أمّه من آل الفضلي.

(٣) مزدانا : مزيّنا.

(٤) آل لعجم فرع من أسرة آل باذيب ، من شبام.

(٥) الواعية : الصّراخ على الميت.

١٣٧

فلو قيل هاتوا فيكم اليوم مثلهم

لعزّ عليكم أن تجيئوا بواحد (١)

وفي غربيّ المكلّا قرية يقال لها : شرج باسالم (٢) ، وفي شمالها إلى الغرب بستان مسوّر يسمّى (القرية) ، وذلك أنّ كثيرا من الأيتام نجعوا من المنطقة الكثيريّة بحضرموت في أيّام المجاعة الّتي ابتدأت من سنة (١٣٦٠ ه‍) إلى المكلّا ، فأدركهم عطف السّلطان ، وتصدّق عليهم بذلك البستان ، وبنوا لهم فيه بنايات تؤويهم ، فأنقذوهم من المجاعة ، وعلّموهم من الجهالة ، وقد نيّف عددهم على المئتين والخمسين ، ولكنّ كلّ من اشتدّ ساعده ، وعرف أهله .. رجع إليهم ، والباقون بها اليوم يزيدون على المئة ، في عيش رغيد ، وتعليم نافع ، وحال مشكور (٣).

وفي شمالها : البقرين ، والدّيس (٤). ثمّ : الخربة. والحرشيّات. وثلة عضد (٥).

وهذه هي ضواحي المكلّا وأرباضها ومخترفات أهاليها (٦).

وفي شرقيّ المكلّا على السّاحل : روكب (٧) وفيها جامع. ثمّ : بويش (٨) ، تبعد قليلا عن السّاحل ، وفيها عيون ماء جارية ، ومزارع (٩).

__________________

(١) البيت من الطّويل.

(٢) والشرج هذا صار اليوم من ضمن أحياء المكلا ، ولم يعد قرية مستقلة كما ذكر المؤلف.

(٣) وتوجد هذه الأيام منطقة حديثة على غرار هذه القرية التي ذكرها المصنف تسمّى : قرية الصومال ، تقع قريبا من فوّه ، أقيمت لسكنى المنكوبين من بلاد الصومال الفارين من جحيم الحرب الأهلية بها ، والفضل في إنشائها يعود للسيد مفتي الساحل العلامة عبد الله محفوظ الحداد رحمه الله.

(٤) وهما الآن في ضمن أحياء المكلا ، واتصل العمران بهما.

(٥) في «الشامل» (٨٨) أنّها : ثلة العليا ، وهي للمشايخ آل باعمر العموديّ.

(٦) مخترفات أهاليها : أي منتزهاتهم في زمن الخريف ، لكنّ الدّيس اليوم يعتبر حيّا من أحياء المكلّا.

(٧) روكب : قرية ساحلية قديمة ، تقع على بعد (١٥ كم) إلى الشرق من المكلا ، وبها سوق للوزيف ؛ أي : السمك المجفف ، وسكانها العكابرة.

(٨) بويش : وهي تبعد عن مدخل المكلّا بنحو (٥ كم) ، وقد اختفت المزارع والعيون الّتي ذكرها المصنّف ، وبرزت فيها نهضة عمرانيّة في السّنوات العشر الأخيرة.

(٩) لمن أراد التّوسّع ومعرفة القرى الواقعة خارج المكلّا والشّحر والّتي تربط بين المدينتين ، وكذلك

١٣٨

شحير

كانت بلدة لا بأس بها ، ولكنّها خربت من سابق الزّمان ، ولهذا قلّ ذكرها.

ويقال : إنّ البرتغال جاؤوا إليها فهزمهم أهلها (١) ، وقتل منهم في هذه الوقعة خلق كثير ، فخافوا أن يعودوا إليها بتجهيز أقوى .. فهجروها ، ولم يبق بها إلّا العوابثة (٢).

وعندما تولّى بدر بوطويرق على الشّحر .. استرضى قبائلها على خمس الوزيف (٣) الّذي يأتي به الصّيّادون ، واشترط عليهم أن يقاتلوا معه .. فرضوا بذلك.

وكان يقال للشّيخ عبد الرّحمن ـ الملقّب بالعكظة (٤) ـ ابن أحمد بن عبد الرّحيم مولى الدّعامة باوزير : صاحب شحير.

ولا يبعد أن يكون هو أوّل من اختطّها ؛ فإنّ البرتغاليّين الّذين حاربوا أهلها إنّما كانوا أثناء القرن العاشر ، وقد توفّي جدّه عبد الرّحيم سنة (٧٤٧ ه‍) (٥) فالأمر محتمل جدّا.

وفي حدود سنة (١٢٥٥ ه‍) : استولى علي ناجي على شحير ، وولّى عليها رجلا من آل البطاطي كان معه ، ولا تزال أطلال حصنه قائمة إلى الآن ، وبقيت تحت أيدي آل بريك ، حتّى انتهت دولتهم بالكثيري.

__________________

وصف الطّرق والوديان .. ينظر «الشّامل» (٨٨ ـ ١٠٨).

(١) كان مجيء البرتغال في النّصف الأوّل من القرن التّاسع الهجريّ ، في زمن السّلطان بدر بوطويرق.

«أدوار التّاريخ الحضرمي» (٢٣٨ ـ ٢٣٩) ، و «تاريخ الشّحر» (١٥٧) ، و «تاريخ الدّولة الكثيريّة» (٤٠) ، و «الشّهداء السّبعة» ، و «تاريخ باحسن» ، و «حاضر العالم الإسلامي» (٣ / ١٧٠ ـ ١٧١).

(٢) العوابثة : قبيلة معروفة ، الواحد منهم : عوبثانيّ.

(٣) الوزيف : هو صغار السّمك ، يجفّف ويملّح.

(٤) العكظة : بلهجة الحضارمة تعني : الزرع الذي يقطع ويبقى أصله (جذره) في التربة ، فينمو مرة أخرى عقب الجذاذ ، وفي المثل العامي : العيضه في العكظه.

(٥) «تاريخ شنبل» : (١٢٢).

١٣٩

ثمّ استولى عليها عوض بن عمر بعد أن اشترط عليه قبائلها الإعفاء من الضّرائب ، وإبقاء عوائدهم.

وسكّانها نحو الألف نسمة.

الغيل (١)

هو واقع في شمال شحير ، وهو أرض واسعة ، فيها عيون ماء غزيرة جارية ، عليها نخل كثير ، وأكثر ما يزرع عليها التّبغ ، وهو أجود ما يكون ، يرسل منها إلى عدن وإلى مصر وإلى الحجاز ، يتغالى فيه أهل تلك الجهات ؛ لأنّه مضرب المثل في الجودة ، ويكون له إيراد عظيم.

و (الغيل) منسوب إلى : الشّيخ عبد الرّحيم باوزير ـ مولى الدّعامة ـ ابن عمر ـ صاحب الغيل الأسفل (٢) ، المسمّى بغيل عمر ، وغيل باسودان ـ ابن محمّد ـ صاحب عرف ـ ابن سالم ـ المقبور بالجويب (٣) قريبا من حورة ـ ابن الشّيخ عبد الله ـ مولى المحطّة بالشّحر ـ ابن عمر ابن الشّيخ يعقوب بن يوسف باوزير مقدّم تربة المكلّا ، السّابق ذكره.

وفي الحكاية رقم (١٦٤) [١ / ١٩٠] من «الجوهر الشّفّاف» للخطيب ما يعرف منه أنّ هذا الغيل كان موجودا من قبل سنة (٧٤٣ ه‍) ، ويتأكّد ذلك بأنّ وفاة الشّيخ

__________________

(١) الغيل : الشّجر الملتفّ ، أو المكان المرتفع من الغابة الّذي يأوي إليه الأسد ، والغيل : الماء الذي يجري على وجه الأرض ، وكلاهما مقصود هنا ، وقد صار الغيل علما على بلدة غيل باوزير هذه.

(٢) يراد بالغيل الأسفل : الّذي داخل وادي حضرموت ؛ احترازا من الأعلى الّذي بالسّاحل ، وهو الّذي يجري الكلام عنه وعن تاريخه. وسمّي الغيل الأسفل بغيل عمر نسبة للشّيخ عمر بن محمّد باوزير ، وهو في وادي عدم بكسر العين والدال المهملتين ، ونسب أيضا لآل باسودان ؛ لأنّهم كانوا يسكنون به قبل ولادة الشّيخ عمر بن محمد باوزير الّذي هو سبط آل باسودان. كذا في «حدائق الأرواح» (٤١١) (خ).

(٣) الجويب : بقعة بحضرموت الدّاخل بالقرب من حورة في وادي العين.

١٤٠