إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف

إدام القوت في ذكر بلدان حضر الموت

المؤلف:

السيّد عبد الرحمن بن عبيد الله السقّاف


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار المنهاج للنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ١١١٠

الرّشد مسافات فيح ، تلغب بينهنّ الرّيح ، فناب ذلك الرّجل عنه ، وأساء الصّنيع ، وعمل فيهم بوصيّة الحطيئة (١) ، فتزوّج مخلّفة الشّيخ سعيد عوض ، وخضم (٢) أموالهم خضمة الإبل نبتة الرّبيع ، وليته وقف عند ذلك الحدّ ، بل ما كفاه ذلك حتّى طرد ولد محمّد بن سعيد عن حصن أبيه وجدّه ، فأيّ محبّ لا يشتكي من الألم؟ وقديما كان يقال : من استرعى الذّئب .. ظلم ، وجاء في تلك الديار موضع قول القائل [من الكامل] :

عرصات عزّ كان يذكر أهلها

بالخير خيّم في رباها اللّؤّم

وقد اتّهم هذا الرّجل بالمشاركة في قضيّة عبيد صالح بن عبدات ، فأصابه شؤبوب من البلاء الّذي نزل به ، فكسبوا حصن الشّيخ سعيد من أجله ، وأخذوا شيئا ممّا فيه ، إلّا أنّه استغلّ ذلك فاتّهمهم بأكثر ممّا أخذوا ؛ ليبرّر خيانته بذلك ، ولكنّ الحقائق لا تخفى عند البريء من الغرض. وما في مسيلة آل كدّه الآن أكثر من خمسة عشر رجلا.

ومنها كان عامر بن كدّه قاتل عائظ بن سالمين ، وولده بشر بن عامر ، كان معمور الفناء ، مفتوح الباب ، ولذا تراكمت عليه الدّيون ، وكان يعطي لغرمائه عهدة فوق عهدة من حيث لا يشعر أحدهم بالآخر ، ومرّ ذلك في ستر جوده وكنف سياسته حتّى توفّي في حدود سنة (١٣٦٢ ه‍) ، فانكشف الأمر.

وفي جنوبها مائلا إلى جهة الغرب مكان يقال له : بارفعه ، فيه شخص واحد من آل السّقّاف يحترف بالرّبا.

وجماعة من آل هذبول ، ونحو عشرين رجلا من آل عمر بن طالب.

وإلى جنوبه مكان يقال له : العادي ، فيه نحو عشرة رجال من آل كدّه ، رئيسهم : بدر بن محمّد بن كدّه.

__________________

(١) روى أبو الفرج الأصفهانيّ في «الأغاني» (٢ / ١٨٨ ـ ١٩٠) وصية الحطيئة مطولة .. فلتنظر هناك.

(٢) خضم : قطع.

٥٦١

وفي جنوبه إلى الشّرق : مكان آل الوعل (١) ، فيه منهم نحو عشرة رجال.

ثمّ : مكان آل فحيثا ، فيه منهم نحو عشرين رجلا.

الحاوي (٢)

فيه جماعة من ذرّيّة السّيّد عمر بن علويّ الحدّاد ، أخي القطب الحدّاد ، من أواخرهم : السّيّد جعفر بن طه الحدّاد ، وكان مضرب المثل في القوّة والأيد ، حتّى لقد اجتمع عليه أربعون من الصّينيّين في بتاوي فهزمهم ، وأثخن فيهم ضربا ولكما ، ولمّا رفعت عليه الدّعوى .. قضى له الحاكم الهولنديّ بالبراءة.

وأنشد بلسان حاله قول المرأة [من الطّويل] :

تجمّعتم من كلّ صوب ووجهة

على واحد لازلتم قرن واحد

وكان يخرج باثني عشر جملا موقرة من عدن إلى مكانه الحاوي وحده ، لا يعينه أحد ـ في حطّها وترحالها ـ من خلق الله ، وله أولاد كثير (٣) :

منهم : السّيّد طه بن جعفر ، يكرم الضّيوف ، ويفعل المعروف ، ويصل الأرحام ، ويواسي المنقطعين من الأنام ، وله محبّة في الخيل ، ومهارة في ركوبها عليها كسائر أسرته وأولاده ، وهو الآن بجاوة في قرية تقرب من بتاوي.

__________________

(١) آل الوعل ، منهم الشاعر الشعبي المعروف عايض الوعل ، وهم من بطون كندة.

(٢) ويقال له : حاوي الحوطة ؛ تمييزا له عن الحاوي الشهير الذي بقرب تريم ، وسيأتي ذكره ، وأول من سكنه من السادة آل الحداد هو الحبيب العلامة طه بن عمر بن علوي الذي أصهر على ابنة الحبيب أحمد بن زين وهي الشريفة (الحبابة) سلمى بنت أحمد ومنه تسلسلت ذرية آل طه بن عمر ، وأما آل محمد بن عمر .. فلهم وجود بسيئون ونواحيها ، ومنهم جماعة بشبام.

(٣) لم يذكر سنة وفاته بالأصل ، ولم يترجم له في «نور الأبصار في مناقب الهدار» ، ومن ذريته : السيد الفاضل عباس بن عبد الله بن جعفر الحداد ، ولد بالجهة الجاوية حدود عام (١٣٣٧ ه‍) ، وأخرجه والده إلى حضرموت للدراسة في رباط تريم ، وانقطعت أخباره عن والده بسبب الحرب العالمية ، وعاش زمنا بين شبام والغرفة والحوطة ، ثم استقر به الأمر في الشحر ، وهو بها الآن.

٥٦٢

ومنهم : السّيّد طه بن عليّ (١) ، وصل الحاوي عمّا قريب ، وهو رجل صالح مشارك في طرف من العلم ، وقد سرّني لقاؤه في ربيع الأوّل من عامنا هذا بالحوطة ؛ لأنّه يناهز الثّمانين ، وقد أدرك الرّجال وأخذ عنهم ، فأطربني بأحاديثه الشّهيّة عنهم ، في أخبارهم حتى تذكّرت قول العباس بن الأحنف [من الطّويل] :

وحدّثتني يا سعد عنهم فزدتني

شجونا فزدني من حديثك يا سعد

وممّا أفادني في ذلك اليوم أنّه قال : حضرت مجلسا ببتاوي شهده كثير من أعيان العلويّين ؛ منهم الحبيبان محمّد بن أحمد المحضار ومحمّد بن عيدروس الحبشيّ فأنشد ولدي مشهور قصيدة بصوت شجيّ ، أثلجت خواطرهم ، وملكت سرائرهم ، واستجلبت خشوعهم ، واستمطرت دموعهم ، ولمّا سألوا عنها .. قال ولدي مشهور : إنّها لك ـ يعنيني ـ قال : فأطنب الحبيب محمّد المحضار في تفضيلك وفي الثّناء عليها وعليك ، حتّى استغرق ذلك المجلس الّذي حضره جماعة من أصحابك ؛ منهم : السّيّد عبد الله بن أحمد بن طه السّقّاف ، وما أظن ذلك إلّا قد بلغك من أحدهم.

فقلت له : كلّا وإنّ توكّن (٢) غربان الأحساد في صدورهم ليمنعهم عن مثل ذلك ؛ إذ هم كما قال طريح بن إسماعيل الثّقفيّ [من البسيط] :

إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا

شرّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا

وكما قال الشّريف الرّضيّ [من البسيط] :

إن عاينوا نعمة ماتوا بها كمدا

وإن رأوا غمّة طاروا بها فرحا

وللسّيّد طه هذا ولد يقال له : أحمد مشهور ، أديب ذكيّ ، وهو الآن في ممباسا من السّواحل الأفريقيّة ، وقاضي الحاوي الآن هو السّيّد عبد الله بن طه الحدّاد ، حسن السّمت ، كثير التّواضع (٣).

__________________

(١) السيد طه بن علي بن عبد الله الهدار الحداد ، ولد (بجاوة) ، وتوفي بالحاوي سنة (١٣٦٨ ه‍).

(٢) توكّن : عشعش ، والوكن : عش الطائر.

(٣) أضيف في هامش المخطوط : (توفي السيد عبد الله هذا في عامنا بعد إنجاز هذا).

٥٦٣

وادي بن علي (١)

بما أنّنا ذكرنا بعض حصون وقرى السّليل ، وكانت الحوطة في جنوبه ، وهي آخر بلاد وادي ابن عليّ .. اقتضى الحال أن ننتقل إليه ، ثمّ نعود لما نزل عنه من باقي السّليل.

فوادي ابن عليّ داخل في النّجد الجنوبيّ كدوعن ووادي العين وساه وما لفّها ، وهو أكبر أودية حضرموت ، حتّى إنّهم ليقولون : لا يضرّ بحضرموت جدب متى أخصب ، ولا ينفع خصبها متى أجدب.

وهو واسع الأطيان والشّراج ، كثير القرى ، ونحن نذكرها على حسب مواقعها ، مبتدئين من أعلاه الجنوبيّ.

فأوّل قراه : القيرح (٢) ، وديار الزّمالكه وآل منيف. ثمّ : عقدة الوهالين. ثمّ : البريكه لآل ثابت. ثمّ : جروب البريكه.

وهاته القرى والشّراج بين مسيلين للماء ، أوسعها الغربيّ ، وأمّا الشّرقيّ .. فإنّه ساقيتان بينهما العقبة ، ثمّ الظّاهره ، ثمّ تلتقيان.

وأمّا الغربيّ : فمن ورائه قرى كثيرة ، من جنوبه إلى شماله ، أوّلها : الخنم.

ثمّ : خموسة. ثمّ : الظّاهر. ثمّ : ديار آل مبارك. ثمّ : عرض الرّبيخة. ثمّ : زهر الجنان للسّادة آل الحامد ؛ ومنهم : السّيّد الصّالح الجليل ، صاحب المناقب

__________________

(١) ينسب وادي بن علي إلى قبيلة آل علي جابر من الشنافر ، والشنافر يطلق كما سبق على : آل كثير ، وآل علي جابر ، والعوامر ، وآل باجري ينظر «أدوار التاريخ الحضرمي» (٣٧٦) وما بعدها.

ومن فخائذ آل علي جابر : آل يماني ، وآل حسن وهم سكان الوادي ، وآل عامر.

(٢) القيرح هذه لا تعدو كونها بيتين ، فيها السيد المعمر الصالح حسن بن صالح بن حسن الحامد ، المتوفّى سنة (١٤٢٠ ه‍) عن نحو (١٣٠) سنة ، وهو ممن أدرك مسند حضرموت الحبيب عيدروس بن عمر الحبشي ورآه عيانا ، وحصلت له منه الإجازة العامة ، حيث دخل في إجازته لأهل عصره.

٥٦٤

الكثيرة ، والكرامات الشّهيرة حامد بن حسن (١). ومنهم : ولده محمّد ، شهم نافذ في الأمور ، فيصل في الأحكام.

ثمّ : باهزيل. ثمّ : ركبة محيصن. ثمّ : جروب آل جعفر المسيطيّ. ثمّ : موشح (٢). ثمّ : جدفرة الصّيعر. ثمّ : السّفوله لآل سيف. ثمّ : بامعد. ثمّ : بامعدان لآل عبد الله محمّد من آل مرعيّ بن طالب ، كان منهم صديقي الوفيّ ، الشّيخ طالب بن مرعيّ ، رجل شهم ، مستوي السّريرة والعلانية ، إذا وعد .. صدق ، وإذا قال .. وفّى ، ذهب مع ظلم اليابانيّين ، وكان آخر العهد به ـ رحمة الله عليه ـ وله عدّة أولاد نجباء ؛ منهم : محمّد وعوض ، إلّا أنّ الأوّل يتشدّد في مبادىء الإرشاديّين ، والثّاني يتقبّله.

__________________

(١) الحبيب حامد بن حسن الحامد من آل الشيخ أبي بكر بن سالم ، وكان يلقب : (بيّاع السيول) لظهور كراماته وانتشارها بين الناس ، توفي أواسط القرن الرابع عشر.

(٢) موشح هذه كانت بلادا وبيئة مشهورة بكثرة الجن ، وكانوا في زمن الإمام الحداد يتخطّفون الصغار ، فوضع الإمام الحداد راتبه الشهير لما اشتكى أهلها عنده.

وبها سادة من آل العطاس ، منهم السيد الفاضل الحبيب أحمد بن حسين بن محمد بن شيخ بن أحمد بن حسين بن محسن بن حسين بن الحبيب عمر العطاس ، المتوفى نحو سنة (١٣٩٢ ه‍) ، وكان مولده بسدبة ، ثم انتقل إلى موشح وتديرها ، وبها ولد ابنه السيد حسين بن أحمد الموجود بها الآن.

ومن موشح هذه نجع بعض من آل باقلاقل وسكنوا شبام ، وهو الفاضل هادي باقلاقل ، والد سعيد ومبارك ابني هادي ، وكان الشيخ مبارك هذا من الفضلاء الصالحين ، شديد الملازمة للسادة آل سميط ، لا سيما الحبيب مصطفى بن عبد الله ، وكان ابنه الشيخ الفاضل محفوظ بن مبارك من طلاب العلم النابهين ، تخرج من المدرسة الشرقية عند الشيخ محفوظ المصلي ، ولازم السيد عبد الله بن مصطفى إلى وفاته ، وهو مقيم بالخبر شرقي السعودية.

وابن عمه الشيخ الفقيه الدكتور صالح بن سعيد بن هادي ـ المولود بشبام حدود (١٣٦٥ ه‍) ، والمتوفى بالمدينة المنورة في (١٤١٧ ه‍) ـ كان عالما فاضلا ، ذكيا ألمعيا ، خفيف الظل ، درس بشبام على يد السيد عبد الله بن مصطفى ، وبتريم على السيد محمد بن سالم بن حفيظ وشيوخ الرباط ، ثم واصل دراسته الجامعية في الجامعة الإسلامية المدينة المنورة ، وتخرج منها بدرجة الدكتوراه عام (١٤٠٧ ه‍) تقريبا ، وظل مقيما بها حتى توفي في التاريخ المذكور آنفا ، رحمه الله وخلفه بخلف صالح.

٥٦٥

ثمّ : مسجد النّور. ومن وراء السّاقية الشّرقيّة : المصنعه. ثمّ : ظلوم. ثمّ : حبره. ثمّ : النّخش. ثمّ : الرّوضه. ثمّ : ديار الصّويل.

ثمّ : بلاد الغريب (١) وقد كانت معمورة ، وفيها جامع وصدقات واسعة.

وفيها : الشّيخ حارث باشراحيل ، جدّ آل باشراحيل ، والشّيخ عبد القادر باشراحيل ، وهو الّذي بشّر بالحبيب أحمد بن زين ، وهو في بطن أمه ، ولموته قصة توجد في «مجموع» كلام الحبيب أحمد بن عمر بن سميط.

وفيه : أنّه كان في شبابه على زيّ الجند ، حتّى لقيه بعض السّادة بتريم فقال له : ابن من أنت؟ فقال : ابن الشّيخ محمّد باشراحيل ، فقال له السّيّد : حاشا محمّد باشراحيل منك ، فوقعت من قلبه ، وجاء إلى مسجد حارث ، وآلى على نفسه أن لا يخرج منه إلّا بعد أن يختم القرآن ، ثمّ كان من أمره ما كان.

ومن بلاد الغريب أيضا : الفقيه أحمد بن عبد الله بن عمر باشراحيل ، من مشايخ الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ.

وقد ذكرت في الشّحر أنّ آل باشراحيل يرجعون إلى عباهلة حضرموت ، والدّليل على ذلك : قول العلّامة المحقّق الشّيخ عمر بن عبد الرّحمن ، صاحب الحمرا ، في مناقب شيخه العيدروس : (وجدت بخطّ الشّيخ أحمد بن محمّد باشراحيل العبهليّ الحضرميّ ..) إلى آخر القصّة الّتي رواها عن شيخه فضل بن عبد الله بن فضل الّتي لا يعنينا منها إلّا قوله : (العبهلي) ، والظّاهر أنّ الشّيخ أحمد ليس إلّا من آل باشراحيل المذكورين.

والعباهلة هم المشار إليهم بقول نشوان بن سعيد الحميريّ [من الكامل] :

وعباهل من حضرموت من بني

حمّاد والأشبا وآل صباح

قال في شرحها : (العباهلة : الّذين أقرّوا على ملكهم لا يزالون عنه ، ومن ذلك : كتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الأقيال والعباهلة من آل حضرموت.

__________________

(١) بلاد الغريب هذه اندثرت الآن ولم يبق لها أثر.

٥٦٦

وذو حمّاد وذو جدن بطنان من ولد الحارث بن حضرموت بن سبأ الأصغر ، وكذلك سبأ بن الحارث ، وهم الأشباء ؛ منهم : محمّد بن عمر بن عبد الله ، قاتل معن بن زائدة ببست) اه (١) ، وقد فصّلت مقتل معن ب «الأصل».

وفي سنة (٥٨٣ ه‍) بني مسجد الغريب ، وهو أوّل ما بني في القرية.

ومن وراء بلاد الغريب إلى الشّمال : ديار آل عبود. ثمّ : بلعقبة. ثمّ : زبيد ؛ وهي : ديار وشراج كانت لآل عبدات ، ثمّ غلبهم عليها آل مرعيّ بن طالب وأخذوها منهم عنوة عليهم بعقب قتال ، مفصّل خبره ب «الأصل». ثمّ : محلّ الصّقعان. ثمّ : جفل (٢) ؛ وهو مكان واسع ، فيه جملة قرى ، أوّلها من جهة الجنوب : الجدفره : لآل سلامة بن مرعيّ. ثمّ : الجوة : وهي حوطة الشّريفة سلوم بنت زين بن علويّ بن أحمد بن هاشم المقبور بالحسيّسة. ثمّ : سحيل الفقرا : فيه آل باشراحيل وغيرهم.

ومن الاصطلاح أنّ من وضع السّلاح يقال له : تفقّر ، وكان آل باشراحيل وضعوا السّلاح ودخلوا في طريق التّصوّف ، فقيل لهم : فقراء ، ونسبت إليهم هذه القرية. وفيها أيضا آل السّقّاف ؛ منهم :

المرحوم السّيّد عبد الله بن أحمد بن سالم سبول السّقّاف ، السّابق ذكره في الشحر ، وعبد الله هذا أحد صدور العلويّين ووجهائهم ، توفّي بسنغافورة في أيّام اليابان ، وله ولد نشيط يسمّى عبد الرّحمن.

وأكبر ما يطلق جفل على هذه القرية والنّاس يلفظون بها بالجيم ويكتبونها كذلك ، ولكنّ الحبيب محمّد بن زين بن سميط ضبطها في «قرّة العين» بالياء المثنّاة من تحت ، مع أنّها تطلق أيضا على الجهة عامّة ، وفي «تاريخ الطّيّب بافقيه» أنّ الفقيه الصّالح أبا بكر بن محمّد بلحاجّ والوليّ الصّالح عبد الله بن عمر باهرمز توفّيا فجاءة بيفل في سنة (٩٠٤ ه‍).

__________________

(١) «خلاصة السيرة» (٢١٣).

(٢) وتنطق (يفل) ، بكسر الياء والفاء ، وفيها مسجد ينسب لبعض المشايخ آل باصهي فقهاء شبام ، ولعله الفقيه سالم بن عبد الرحمن باصهي القديم.

٥٦٧

وقد بناها آل جميل السّعديّون بمساعدة آل يمانيّ وآل أحمد والصّبرات ، وآل ثعلب ، وصاحب مريمه ، وبعض آل كثير ، وكان هؤلاء اتّفقوا في سنة (٨٤٥ ه‍) للقضاء على الدّولة الكثيريّة ، وحاصروا الحصن الّذي بنته في الغرفة شهرين ، فانتهز تلك الفرصة آل جميل وابتنوا قرية جفل بمساعدة أولئك (١) ، وكان ذلك في أيّام السّلطان عبد الله بن عليّ الكثيريّ (٢) ، المتوفّى سنة (٨٥٠ ه‍).

وقال الشّيخ محمّد بن عمر باجمال في كتابه «مقال النّاصحين» : (حكي أنّ السّلطان عبد الله بن عليّ حاصر بني سعد بقرية جفل في رمضان ، فناداه أحدهم وقال له : أهذه صدقتك؟! ، فارتحل عنهم.

ويحكى : أنّه أهدى فرسا لفاضل بالكروس السّعدي ، ولما أراد اللّحوق بأصحابه وهم حرب للسّلطان .. ردّ فرسه ، وقال : حاشا لله أن أستعين عليه بفرسه).

وقد ذكرت لهذه أمثالا كثيرة في «بلابل التّغريد» تستخرج التّرحّم على أهل الوفاء من أعماق القلوب ، وصوادق الألسنة.

وعلى ضدّها ما جاء في الثّورة العربيّة : أنّ الشّريف فيصل بن الحسين تسلّم عشرات ألوف الدّنانير من الأتراك في اللّيلة الّتي أعلن حربه عليهم من صبيحتها.

وإنّي لأعجب ممّن يسمّى : الحسين المنقذ .. بعد ما شاع أنّه أخذ المسلمات من نساء الأتراك وهنّ متعلّقات بأستار الكعبة ، وسلّمهنّ في جملة الأسرى للإنكليز مجرّدات (٣) ، مع أنّ الدّولة العثمانيّة هي الّتي ربّت شحم كلاه.

أقول هذا لا عن تعصّب ، بل لو كانت بي محاباة .. لحابيته ؛ إذ لم يكتب لأحد بحضرموت غيري بنبأ تلك النّهضة المشؤومة ، ولكنّ الدّين فوق كلّ عاطفة ، ولئن

__________________

(١) «تاريخ شنبل» (١٧٧).

(٢) السلطان عبد الله بن علي بن عمر بن جعفر بن بدر الكثيري ، تولى حكم حضرموت من سنة (٨٢٥ ه‍) تقريبا إلى وفاته بعيد سنة (٨٥٠ ه‍) ، «تاريخ الدولة الكثيرية» : (٢٠ ـ ٢٢).

(٣) ولقد كوفىء على فعله هذا بأن سجنته حكومة الإنكليز بجزيرة قبرص ، ومات فقيرا جائعا شريدا طريدا ؛ مصداقية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أعان ظالما على ظلمه .. سلطه الله عليه».

٥٦٨

صحّت الأخبار بأخذه نساء الأتراك القانتات المؤمنات على تلك الحال .. فما هو إلّا أمر عظيم ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

وانظر فرق ما بين هذا وما فعله الإمام يحيى ؛ فلقد أحسن وأفضل ، وأعان وأجمل ، ولم يخذل الدّولة العثمانيّة عندما تقاصرت خطاها ، بل ساعد بما أشرنا إلى قليل منه في «الأصل» ، مع ما بينهما من الأشلاء الممزّقة ، والأرواح الذّاهبة.

فلقد أخبرني العلّامة الشّيخ محمّد بن عليّ بن طه الهتاريّ (١) قال : (أخبرني خليل أفندي ، أمين صندوق الحديدة للأتراك في أيّامهم : أنّ الّذين قتلوا في حروب اليمن من عساكر الدّولة العثمانيّة يبلغون بالإحصاء الرّسميّ سبع مئة وخمسين ألف قتيل) ولا بدّ بالطّبع أن يقتل من اليمانيّين ما يناسبهم ، ولكنّ الإمام يحيى أظأرته الرّحم الإسلاميّة ، فحيّاه الله وبيّاه ، لقد اقتنى بذلك كمالا وجمالا ، وتأثّل به الشّرف الخالد ، والأجر التّالد ، وكانت له العاقبة الحسنة.

وبلغني : أنّه كان يثني على الشّريف محمّد بن عليّ الإدريسيّ بأنّه لم يسلّم أسيرا ولا شبرا من بلاده للأجانب ، على كثرة ما ابتزّ من خزائنهم من أموال.

ومن وراء جفل إلى الشّمال :

حصن آل الرّباكيّ

وهو أطلال حصن داثر ، بقلّة قارة شاهقة ، فيها بئر عميقة ، وفي جانب تلك القارة غار يصل إلى البئر ، كأنّ أحدا حاصر الحصن ، ولمّا أعياه .. حفر بجانب القارّة حتّى انتهى إلى البئر فقطع على أهله الماء.

وقد انتصبت القرائن على أنّ هذه القارة هي قارة الأشباء ، ومنها بيت نشوان بن سعيد الآنف الذّكر ، وقد جاء في «تاريخ شنبل» : أنّ قارة الأشباء عند آل حسن ،

__________________

(١) كان إمام وخطيب مسجد الهتاري بعدن ، في التواهي ، كان فاضلا مشاركا في العلم ، وله اتصال بالعلامة علوي بن طاهر الحداد ، وبينهما مكاتبات.

٥٦٩

وهم من بني سعد كما سيأتي في الحوطة (١).

وفي أخبار سنة (٨٠٨ ه‍) : (أنّ آل جميل بنوا قارة الأشباء) ، وكأنّها خربت سريعا ؛ ففي «تاريخ شنبل» : (أنّ محمّد بن عليّ بنى قارة الأشباء في سنة ٨٢٧ ه‍) (٢).

وفي أخبار سنة (٨٤٠ ه‍) أنّ الكثيريّ أخرب باهزيل بجهة الغريب والأشباء ، وكانتا تحت يده يومئذ.

فكلّ هذه الأخبار ترجّح أنّها هي هذه القارّة ، ولا يغبّر عليه قول ابن الحائك الهمدانيّ : (ثمّ حوره ، وهي مدينة عظيمة لبني حارثة من كندة ، ثمّ قارة الأشباء ، وهي لكندة) اه (٣).

فإنّه قد يفهم من هذا أنّ قارة الأشباء قريبا من حوره ، ولكن يجاب عنه بشيئين :

أحدهما : أنّ الهمدانيّ في «الصّفة» كثيرا ما يخطىء في مواضع قرى حضرموت وترتيبها ؛ كما فعل في النّجير.

والثّاني : أنّ الأشباء (٤) منتشرون في وسط وادي حضرموت وأسفلها ، وقد قال الهمدانيّ نفسه في العجز ـ وهو أسفل حضرموت ـ : (إنّه مقسوم بين الأشبا وحمير) (٥)

وأخرى وهي الظّاهر : أنّ قرية الأشباء في أيّامه كانت في أيدي أهلها الحضرميّين نسبا ، لا في أيدي كندة.

__________________

(١) في حوادث سنة (٧٧١ ه‍) ، (ص ١٣٤).

(٢) «شنبل» (ص ١٦٨) ، ومحمد بن علي هو أخو السلطان عبد الله بن علي الآنف الذكر ، تولى بعده ، وكان معوانا لأخيه في فترة حكمه ، وقد أرسله في عام (٨٢٥ ه‍) إلى الكسر لإخضاع أهلها ، ثم جعله حاكما عليها.

(٣) صفة جزيرة العرب (١٦٨).

(٤) الأشباء والأيزون : كانوا سكان شبوه من بطون حمير ، وقيل ينسبون ل (حضرموت) القبيلة. وتقدم التعريف بالأيزون. والأول هو ما اعتمده الهمداني في الجزء الثاني من «الإكليل» ، ومن فروع الأشباء : آل هزيل ، وآل فهد ، وآل الحارث. «معجم البلدان والقبائل» للحجري ، والمقحفي.

(٥) صفة جزيرة العرب (١٦٩) ، وفي ص (١٩٣) قال : (مخلاف شبوة ، يسكنه الأشباء والأيزون) اه

٥٧٠

ثمّ رحابة : وهي لآل عبيد بن مرعيّ. ثمّ : سحيل غانم. ثمّ : التّبيقول ، وفيه حصن الشّيخ سالم بن محمّد بن يمانيّ المثري الشهير ، وقد أخبرني بسبب سفره من حضرموت وبما كان يؤمّله يومئذ.

أمّا سبب سفره .. فقال : مرّ ذات يوم جابريّ في ردائه قيد بعير يقعقع ، فظنّه والدي ريالات ، وكان يهوى الشّرّ لقومه آل مرعيّ بن طالب الأقربين ديارا من آل جابر ، فأطلق عليه الرّصاص ، ثمّ خفّ هو وعمّي عبد الله ، فلمّا أكبّ الثّاني عليه ليطعنه وفيه رمق .. استلّ خنجره ومكّنه من ثغرة عمي ، وفاضت روحاهما معا ، ولمّا عرف أبي أنّ الّذي طمع فيه إنّما هو قيد بعير لم يحصل عليه إلّا بثمن غال وهو أخوه .. ندم ، فضاقت بي الدّنيا ، وسافرت وأنا أتمنّى من الله أن أحصل في كلّ شهر على ثلاثين ريالا ، فانثالت عليه الأموال ونمت كما ينمو الدّود حتّى لقد بلغ إيراده الشّهريّ من أجور عقاره بجاوة وسنغافورة ومصر ما يقارب ستّين ألف ريال.

وقد أخرج أبو نعيم في «الحلية» [٣ / ١٨٨] : (أن قلّ يوم إلّا كان عمر بن الخطّاب يتمثّل بهذا [من الطويل] :

وبالغ أمر كان يأمل دونه

ومختلج من دون ما كان يأمل) اه

وهذا البيت منطبق برمّته على الشّيخ سالم ، أمّا صدره .. فممّا تقدّم ، وأمّا عجزه .. فقد عاش بحسرة ؛ لقلّة الأمن بحضرموت ، وعندما بدأ ينبسط فيها .. مات.

وحديثه معي عمّا ذكر كان أوائل سنة (١٣٣٠ ه‍) ببتاوي .. فربّما يزيد أو ينقص ؛ لأنّ الحفظ يخون ولكنّه لا يخرج عن ذلك المعنى.

وقال الشّيخ حسن بن ربيع : لم يكن المقتول جابريّا ، وإنّما هو ابن جوفان والصّفوانيّ من الجوادة ، أطلق الرّصاص عليهما محمّد بن سالم وأخوه عبد الله فخرّ الصّفوانيّ قتيلا ، ثمّ إنّ ابن جوفان قتل عبد الله بن سالم ، ثمّ إنّ محمّد بن سالم قتل ابن جوفان.

٥٧١

وكان للشّيخ سالم ولد شهم شجاع ، هو : الشّيخ عليّ بن سالم بن محمّد بن يمانيّ ، له همّة عالية ، ورأي جزل ، وعنده مشاركة في بعض الفنون العلميّة ؛ لأنّه أطال الإقامة بالحجاز ، وثافن العلماء بمكّة والمدينة ، وقليل ما يحصل منه في تينك البلدتين .. خير من كثير ما يحصل في غيرهما ، والنّصّ ثابت في مضاعفة الصّلاة (١) ، وغيرها لا يخرج عنها.

وكانت بيني وبين الشّيخ عليّ بن سالم هذا صداقة متينة ، ولمّا مات سنة (١٣٣٧ ه‍) .. اشتدّ بي الحزن عليه ، وكان من كتابي لوالده في التّعزية به :

إنّنا كنّا نؤمّل أن نموت ويعيش عليّ ؛ ليبني قصور المجد بما تأثّلته من الأموال.

فأجاب بما معناه : إنّ الّذي تتمنّاه كان نفس ما أتمناه ، ولكن .. لا خيرة لأحد مع الله.

ولمّا كانت ثروة الشّيخ سالم لا تريد الشّرّ ، وكان هو لا يتمنّاه حتّى ولو أركب عليه ولم يكن لأقفال صناديقه مفتاح غير الحرب .. أحبّ أخوه عبد الله أن يوقعه في الشّبكة ، وكان الشيخ عليّ بن سالم أراد أن يعود لمطلّقته بنت ريس بن سعيد ، فأبوا أن يقبلوه ، فحمله عمّه عبد الله أن يقتل الّذي تزوّجها في ليلة زفافه سنة (١٣٢٠ ه‍) ، فأخطأه وأصاب عبد الله بن عامر العاس ، وكان في القوم جماعة من عبيد الدّولة والقبائل الكثيريّة ، وجماعة من أصحاب عبيد صالح بن طالب وغيرهم من القبائل ، نضخ رشاش دمه في ثيابهم ، فظنّ عبد الله بن محمّد والنّاس معه أنّ القيامة ستقوم ، وأنّ حربا ستنشب بين سالم بن محمّد والقبائل الّتي أخفر ولده ذمامهم ، فلا تنغلق صناديقه أبدا ـ وكان سالم بن محمّد يومئذ في طريقه إلى حضرموت فما هو إلّا أن وصل الشّيخ سالم إلى حضرموت ، واجتمع بالشّيخ عبيد صالح بن طالب في دار

__________________

(١) روى البخاريّ (١١٣٣) ، ومسلم (١٣٩٤) : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه .. إلّا المسجد الحرام».

٥٧٢

مشعبي بالحوطة ، فسوّيت المسألة ، ولم تنتطح شاتان ، حسبما سبق طرف من ذلك في القارّة.

ولمّا خاب أمل عبد الله بن محمّد من هذه الناحية .. جاء ذات ليلة إلى بيت أخيه سالم ، وقال له :

إنّني من جملة من لحقه العار بقتل العاس ، فإمّا أن ترضيني ، وإلّا .. كان ما لا تحمد عقباه.

فلاينه الشّيخ سالم ، ثمّ ترك الأرض له من اليوم الثّاني ، وكان آخر العهد به ، إذ توفّي بعدن حوالي سنة (١٣٥٨ ه‍) ، بعد أن ذرف على التّسعين.

وللشّيخ عليّ بن سالم ذكر جميل ب «الأصل».

وبحاجة الشّيخ عبد الله بن سالم إلى طعن الجابريّ .. ذكرت أنّ ابن المستوفي انتقد قول الشّاعر [من الطّويل] :

ونطعنهم حيث الكلى بعد ضربهم

ببيض المواضي حيث ليّ العمائم

وقال : إنّه ممّا لا يحسن الافتخار بمثله ؛ لأنّهم إذا لم يموتا بالضّرب حيث ليّ العمائم ، واحتاجوا إلى الضّرب حيث الكلى ، أو حيث الحبا .. دلّ ذلك على الضّعف والخوف وعدم التّمكّن ، وإنّما الجيّد قول بلعاء بن قيس من بني ليث بن كنانة [في «ديوان الحماسة» ١ / ١٣ من البسيط] :

وفارس في غمار الموت منغمس

إذا تألّى على مكروهة صدقا

غشّيته وهو في جأواء باسلة

عضبا أصاب سواء الرّأس فانفلقا

بضربة لم تكن منّي مخالسة

ولا تعجّلتها جبنا ولا فرقا

وما أشبه ضربة بلعاء بقول قيس بن الخطيم الأوسيّ [في «ديوانه» ٤٦ من الطّويل] :

طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر

لها نفذ لو لا الشّعاع أضاءها (١)

__________________

(١) الشّعاع : الدم ، والمعنى : لو لا الدم .. أضاءت حتى تستبين.

٥٧٣

ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها (١)

وتدبّر أيّها النّاظر هل ينحطّ شيء من نقد ابن المستوفي على قول الفرزدق [في «ديوانه» ٢ / ٧٩ من الطويل] :

قريناهم المأثورة البيض قبلها

يثجّ العروق الأزأنيّ المثقّف

أم لا؟ والفرق أقرب.

ومن وراء البريكة الواقعة بين المسيلين إلى جهة الشّمال : الحدبه. ثمّ : القوز.

ثمّ : العقده ، وهي مسكن الشّيخ جعفر بن سالم بن مرعيّ بن طالب ، وله أشعار وأخبار في «الأصل» ، وقد مات عن جماعة من الأولاد ، وهم : عمر ، وطالب ، ومرعيّ ، وسالم ، وصالح.

أسنّهم : عمر ، وكان مع السّلطان عبود بن سالم لمّا قتل في صيق العجز ، وهو مكان في غربيّ يبعث ، ينهر إلى حجر ابن دغّار ، وله محاسن.

ومن النّوادر : أنّني وصلت وادي بن علي مرّة في شراء أخشاب ، فأبردت عنده ، فقال لي : لقد رأيت البارحة جدّك محسنا جاء إلى بيتي ، وجلس في مكانك ، وسألته عن عدّة مسائل تتعلّق بالطّهارة والصّلاة ـ وأنا ذاكرها لك ـ فأجابني عنها ، ولمّا أراد الانصراف .. دفعت له خمسة وعشرين ريالا.

ثمّ إنّه ذكر لي الأسئلة فأجبته عنها ، فقال لي : هكذا ـ والله ـ كان جواب جدّك. وعلى الجملة فقد كان معي في اليقظة ـ حسبما يقول ـ كلّ ما كان مع جدّي في النّوم ، ما عدا الخمسة والعشرين الرّيال .. فإنّه لم يكن لها أثر في اليقظة.

أمّا الشّيخ طالب : فقد كان أصدقهم لسانا ، وأبسطهم بنانا ، وأبيضهم جنانا ، وأملأهم جفانا.

عشق المكارم فهو معتمد لها

والمكرمات قليلة العشّاق (٢)

__________________

(١) ملكت : شددت. أنهرت : أجريت الدم كالنهر.

(٢) البيت من الكامل ، وهو في «جمهرة خطب العرب» (٣ / ٢٩٠) ، ضمن أبيات بتغيير بسيط ، والأبيات هي :

٥٧٤

كلم غالية ، وهمم عالية ، ووجه أبيض ، وبنان مبسوط.

مجد رعى تلعات الدّهر وهو فتى

حتّى غدا الدّهر يمشي مشية الهرم (١)

بناه بأس وجود صادق ومتى

تبنى العلا من سوى هذين تنهدم

لم يزل معمور الفناء ، مفتوح الباب ، مهزول الفصيل (٢) ، يقصد بالآمال ، وتشدّ إليه الرّحال ، وقور الرّكن ، أصيل الرّأي.

ما تملّيت مثل ذاك الحجا المع

رق في الحلم والسّجايا العتاق (٣)

خالص الودّ والتّقى في زمان

فرّخت فيه أمّهات النّفاق

لقد كان لآل كثير ركنا ركينا ، وحصنا حصينا ، ولمّا مات في سنة (١٣٤١ ه‍) .. افترق ملؤهم ، واضطرب حبلهم ، فجاء موضع قول عبدة بن الطّيّب [من الطّويل]

وما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنّه بنيان قوم تهدّما

وكان هو صاحب الضّلع الأقوى في حرب قسبل المفصّل خبرها ب «الأصل».

وفي العقده الآن ديار شاهقة ، ومنازل ضخمة ، كلّها لآل جعفر بن سالم. ولم يضنّ الشّيخ أحمد بن طالب بميراث أبيه ، بل بقي يبذل حقوق العزّ والدّين فيه ، فانطبق على كاسب ذلك ما قال ابن مطير [من الطّويل] :

فتى عيش في معروفه بعد موته

كما كان بعد السّيل مجراه مرتعا

وبما أنّ الكرام عرضة البلاء والامتحان .. فقد أصيب أحمد هذا بريح لا يزال منه أسير الفراش ، ولكنّه ممتّع بالعقل والإحساس ، وكلّ أمر أهون من غيره ، والله مع الصّابرين.

__________________

ما لي أرى أبوابهم مهجورة

وكأنّ بابك مجمع الأسواق

حابوك أم هابوك أم شاموا النّدى

بيديك فاجتمعوا من الآفاق

إنّي رأيتك للمكارم عاشقا

والمكرمات قليلة العشّاق

(١) البيتان من البسيط ، وهما لأبي تمّام في «ديوانه» (٢ / ٩٥).

(٢) مهزول الفيصل : يضرب مثلا لمن كثرت ضيوفه ، وكثر منه نحر الفصائل ، فلم تتوفر عنده حتى تسمن.

(٣) البيتان من الخفيف ، وهما أيضا لأبي تمّام في «ديوانه» (١ / ٤٥٤ ـ ٤٥٥).

٥٧٥

حصن الشّاووش

هو رجل (١) من آل مرعيّ بن طالب الكثيريّين ، أقام زمانا طويلا بحيدرآباد الدّكن من الهند في خدمة النّظام الآصفي ، وترقّى في المراتب العسكريّة حتّى انتهى إلى رتبة شاووش ، فأفاد بها مالا طائلا ، وأكثر ما يفيض الأموال على مثله هناك ؛ كالقعيطيّ ، والعولقيّ ، وغالب بن محسن ، على حساب من تحت رئاستهم من العساكر حتّى جاء صرار جنك فضبط الأمور ، وفي ذلك يقول شاعر الحضارم :

ما اليوم جاء صرّار صرّ الملك صرّ

وألقى سياسه من سياسة لنقليز

إن عاد شي تركوب وإلا شي بصر

وإلا مع الله يا طيور الطّيز ويز

ولمّا وصل حضرموت .. كانت همّته متوجّهة إلى الإصلاح بين آل كثير ، وتوحيد كلمتهم ، وتأطيد الدّولة الكثيريّة بهم ، فبذل فيها أموالا كثيرة ، بسخاء عظيم ، ولم يتمّ له شيء ، إلّا أنّه وقع على شهرة عظيمة ، حتّى إنّه لمّا دخل إلى سيئون .. استقبله سلطانها المنصور بن غالب استقبالا شائقا ، حتّى كاد الأمراء يتساورون على الإمساك بيده في معرض استقباله .. حتّى اقتسموها ، فكانت لأحدهما اليمين ، وللآخر الشّمال ، إلّا أنّ صاحب اليمين ندم ؛ إذ مرّ أكثر الوقت وهي منتزعة منه لكثرة المصافحين!

وسمعت أنّ الشّيخ جعفر بن سالم ـ والد الشّيخ طالب بن جعفر وإخوانه ـ كان وكيلا له ، فأمره ذات يوم أن يعطي أحدا ممّن لا يؤبه به من آل كثير كمّيّة وافرة من الرّيالات ، ليستعين به على الإصلاح ، فقال له : إنّ هذا لا ينيخ ولا يثوّر ، ولا يملك شيئا من أمر الإصلاح فعزله ، وأضعف لذلك الصّعلوك العطاء.

وما زال كذلك حتّى ضحك عليه آل كثير ، وأتلفوا ماله بدون فائدة.

وفي أخبار الكساديّ والعموديّ من «الأصل» : أنّ آل عبد الله أمروا بنفوذ أربع مئة

__________________

(١) اسمه بدر بن علي بن جعفر بن مرعي بن طالب. «العدة» (٢ / ٢٩٣).

٥٧٦

مقاتل في (٢٤) صفر سنة (١٢٨٨ ه‍) لمساعدة العموديّ ، وأكثر خرجهم من الشّاووش بدر صاحب جفل.

وفي أخبار الهجرين منه : أنّ الشّاووش بدرا وصل من الهند إلى عدن سنة (١٢٨٥ ه‍) ، وأنّه متوجّه إلى مكّة بداع من الشّريف محمّد بن عون والسّيّد فضل ، وذلك لتدبير الحملة التّركيّة الّتي سعى القعيطيّ في فشلها ، بواسطة بعض العلماء من آل العطّاس ، فتمّ له ما يريد.

الحوطة (١)

هي مدينة وادي بن علي ، وهي من قدامى البلدان ، وكانت قاعدة ملك بني سعد.

قال الملك الأشرف المتوفّى سنة (٦٩٦ ه‍) : (وآل جميل ، ويقال لهم : بنو سعد ، وليسوا من بني ظنّة ، ومشايخهم : عيسى بن جميل بن فاضل ، وابن أخيه محمّد بن نصّار بن جميل بن فاضل.

__________________

(١) الحوطة وقديما كانت تسمّى : خلع راشد ؛ لأنها كانت منطقة زراعية وبها نخل ومال كثير خلعه ـ أي زرعه ـ السلطان راشد بن شجعنه بن فهد بن أحمد بن قحطان ، وهو من سلاطين العهد الراشدي بحضرموت ، ولد سنة (٥١٧ ه‍) ، وتوفي سنة (٥٩٣ ه‍) ، وهو والد السلطان عبد الله بن راشد الذي ينسب وادي حضرموت له فيقال : وادي ابن راشد ، وهو يمتد من العقاد غربا إلى قبر هود شرقا كما مرّ في التعريف بحضرموت أول الكتاب .. ينظر لمعرفة أخبار آل راشد «أدوار التاريخ» (١٦٩ ـ ٢١٤).

أما إطلاق اسم الحوطة .. فهو من التحويط أو الإحاطة ، فهذا مصطلح عند المتقدمين من الحضارمة ، ويقصد به المنطقة أو البلدة التي يسكنها أحد العلماء أو المرشدين الكبار ويسكنها تلامذته فتكون في حمايته وحراسته من أي اعتداء على أحد من الناس ، محميّة بجاه ذلك الشيخ. ويقابل هذا المصطلح لفظ : (هجرة) عند علماء المناطق الشمالية ، وقد جمع تواريخ الهجر وتراجم علمائها شيخنا العلامة إسماعيل الأكوع ، وتعريف الحوطة بما ذكرته هو التعريف الذي أورده العلامة الفقيه محمد بن عمر باجمّال في «مقال الناصحين». وأما هذه الحوطة ـ وهي حوطة أحمد بن زين ـ ..

فإنها حوّطت بعد سكنى مولانا الإمام الحبيب أحمد بن زين واستقراره بها ، وقد كانت معقلا من معاقل العلم والدعوة إلى الله ، وتبعد الحوطة عن سيئون مسافة (١٠ كم) تقريبا.

٥٧٧

ومن بني سعد : آل حسن. ومشايخهم : عليّ بن جبل بن حسن ، وفاضل ، وابن عمّه عبد الله بن جميل بن حسن بن فاضل) اه

وكان نصّار بن جميل بن فاضل (١) ـ وهو أبو محمّد السّابق ذكره في كلام الأشرف ـ أحد كبار أمراء الطّوائف بحضرموت ، وكانت تحته شبام ، وله غزوات إلى دوعن وإلى تريم وغيرها (٢) ، وكان ظالما ، إلّا أنّه تاب على يد الشّيخ سعيد بن عيسى العموديّ ، وحجّ ولم يتمكن من الزّيارة ، ولمّا وصل إلى مأرب مرجعه من الحجّ .. لاقاه أحد معارفه فلامه ، فعاد ليزور فمات في أثناء الطّريق.

ولبني سعد أخبار كثيرة ممتزجة ب «الأصل» بأخبار الغزّ ونهد وآل يماني ، وآل أحمد والصّبرات وآل كثير.

ولم يزل أمر آل كثير يقوى ، وأمر بني سعد يضعف حتّى صاروا سوقة.

وكان الحبيب أحمد بن زين الحبشيّ (٣) داعيا إلى الله ، وجبلا من جبال العلم ، وركنا من أركان الإسلام.

عليه من النّور الإلهيّ مسحة

تكاد على أرجائه تتدفّق

وكان بالغرفة يصلّي جماعة في مسجد ينسب لبعض الفقراء من أهل الغرفة ، ويدرّس لهم العلم ، فحصل من أولئك الفقراء ـ المنسوب إليهم ذلك المسجد المسمّى بالحمّام ـ أذى ، فتحمّله ، وما زالوا به حتّى أخرجوه من المسجد ، وأخرجوا كتبه ، وآذوا من يتردّد عليه ، فلم ينزعج ولم يظهر منه إلّا الصّبر والثّبات.

وانتقل إلى الحوطة الغربيّة ـ وهو المكان المسمّى بالبهاء في غربيّ خلع راشد ـ

__________________

(١) في ولايته عمّر مقدّم جامع شبام سنة (٦٤٣ ه‍) بأمر الملك المنصور الرسولي.

(٢) كما جاء في حوادث (٦٤٤ ه‍) عند «شنبل» ، وبنى قارة العزّ تحت تريم سنة (٦٥٥ ه‍).

(٣) ولد الحبيب أحمد بن زين في الغرفة سنة (١٠٦٩ ه‍) ، وتوفي سنة (١١٤٥ ه‍) ، كان إماما عالما ، عاملا فقيها ورعا ، أخذ عن كثير من علماء عصره ، وفي مقدمتهم العلامة الحبيب عبد الله بن أحمد بلفقيه ، والحبيب الإمام عبد الله بن علوي الحداد الذي هو شيخ فتحه وتخريجه ، أفرده بالترجمة تلميذه العلامة محمد بن زين بن سميط بكتاب سماه : «قرة العين».

٥٧٨

وبنى بها مسجده وداره ، ولم يزل يتردّد إلى خلع راشد للتّدريس في مسجد جدّه أحمد بن محمّد صاحب الحسيّسة ـ وهو أصل الجامع الموجود اليوم (١) ـ وإلى شبام للأخذ عن علمائها.

قال السّيّد عليّ بن حسن العطّاس في «سفينة البضائع» : (جئت إلى شبام وأنا في نحو (١٤) سنة ، وقصدت عند الخال بكّار بن محمّد بن أحمد بن عقبة ، وسرت أنا وهو إلى مسجد ابن أحمد (٢) ، وفيه سيّدي العلّامة محمّد بن زين بن سميط ، فبينما نحن جلوس ، وأنا بغاية الشّوق للحبيب أحمد بن زين .. إذ دخل علينا كأنّه البدر في تمامه ، وعليه كساء فاخر أبيض ؛ قميصان وعمامة ، وشال أبيض مشجّر بأسود) اه

توفّي الحبيب أحمد بالحوطة فجأة في سنة (١١٤٤ ه‍) ، ودفن بشرقيّ الحوطة ، وعملت عليه قبّة ، ولم يتمكّن الوهّابيّة من هدمها ؛ لاستعجالهم مع نوع من المجاملة لآل كثير ؛ لأنّ بعضهم كان عونا لهم على تنفيذ كثير من الأمور.

وله عدّة أولاد ؛ منهم : علويّ ، وقد توفّي بشبام ، وكان أهلها يهابونه هيبة عظيمة ، حتّى لقد قال الحبيب عمر بن زين بن سميط : لقد مات اليوم من يستحيا منه ، وآل شبام لا يسمّون إلى اليوم بعلويّ ؛ إجلالا له.

ومنهم : جعفر (٣) ، وهو الّذي خلف أباه ، له مظهر عظيم ، إلّا أنّه من أهل الأحوال الّتي يتطرّق إليها انتقاد الفقهاء بحقّ ، وفي «المواهب والمنن» : أنّ القطب الحدّاد ألبسه وألبس إخوانه مرارا عديدة ، وكان الحبيب أحمد بن زين يزور القطب

__________________

(١) يعني به الإمام أحمد صاحب الشعب ، المتوفى سنة (١٠٣٨ ه‍) ، وهذه فائدة عزيزة.

(٢) مر ذكر مسجد بن أحمد في شبام ، وهو مسجد قديم يعود بناؤه إلى القرن العاشر تقريبا ، وفي بعض المصادر أنه ينسب إلى الشيخ أحمد جبير شراحيل ، وقد قام الحبيب أحمد بن زين بعمارته وترميمه لشغفه الكبير بعمارة بيوت الله ؛ إذ بلغ عدد المساجد التي عمرها أو بناها أو جددها (١٧) مسجدا ، فكان شيخه الإمام الحداد يسميه : (أبا المساجد).

(٣) توفي الحبيب جعفر بن أحمد سنة (١١٩٠ ه‍) تقريبا ، وكان يسمّى : جعفر السلطان ؛ لعظم جاهه ، ترجم له باسودان في «الفيض» ، وأفرده بالترجمة السيد الفاضل عبد القادر (قدري) ابن حسين الحبشي ، وسمّاها : «ذخيرة الأوطان».

٥٧٩

الحدّاد آخر عمره في كلّ سنة فيلبسه ويلبس أولاده ، وكانوا كلّهم أئمّة فحولا علماء ، سادة وقتهم ومكانهم.

وفيها يقول الحبيب حسن ابن القطب الحدّاد : كنت أقرأ أنا والسّيّد أحمد بن زين في بعض الكتب ـ وأظنّه «المستطرف» ـ فانتهت بنا القراءة إلى ذكر الممتّع ، وكان الحبيب جعفر أصيبت إحدى عينيه وهو صغير ، ولم ننتبه لحضور جعفر إلّا بعد القراءة ، فحصل معنا الأسف.

توفّي الحبيب جعفر بخلع راشد ، وخلفه ابنه العلّامة الجليل أحمد بن جعفر (١) ، فانتقل إلى خلع راشد ، وكان له اثنا عشر ابنا.

بنو أغرّ من الأقوام شاد لهم

مجد الحياة وأقناهم إلى الأبد (٢)

يقفون منه خلالا كلّها حسن

إن عدّدت غادرت فضلا على العدد

فابتنى لهم ديارا في خلع راشد بعددهم ، فتديّروها. كان بناء الدّيار لا يكلّف كثيرا حسبما يعرف ممّا يأتي في حاوي تريم ، عن بناء القطب الحدّاد لأولاده ، ولم يبق من أعقاب الحبيب أحمد بن زين بالحوطة الغربيّة المسمّاة بالبهاء إلّا القليل.

ولمّا مات الإمام أحمد بن جعفر .. خلفه ولده الفاضل محمّد بن أحمد ، المتوفّى بخلع راشد سنة (١٢٥٣ ه‍) ، وهو الشّيخ الرّابع من مشايخ سيّدي الأستاذ الأبرّ عيدروس بن عمر.

وخلفه ابنه عبد الله بن محمّد بن أحمد ، وكان فقيها نبيها على القيام بمنصبه.

ثمّ نزل عنه لأخيه صالح بن محمّد (٣) ، وكان كاسمه صالحا ، وكان لا يتكلّم إلّا بالعربيّة الفصحى ، ولذلك سبب ، وهو :

أنّه وصل إلى بيت مفتي الشّافعيّة بمكّة السّيّد محمّد بن حسين [الحبشي] أيّام كان

__________________

(١) توفي سنة (١٢٢٠ ه‍).

(٢) البيتان من البسيط ، وهما للبحتريّ في «ديوانه» (١ / ١٣١). أقناهم : أعطاهم ما يقتنى ـ يجمع ـ فأغناهم.

(٣) توفي سنة (١٣٠٣ ه‍).

٥٨٠