نعم كان إبليس وجنوده يشكّلون ركب القوى المعارضة المقاومة في وجه الإنسان ، ركبا انشئت من قبل للطموس على معالم الحياة والحؤول دون ازدهارها. (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).
تلك حكمة الله في الخلق والتدبير ، يجعل من القوى العاملة في هذه الحياة أضدادا متعارضة ليتمخّض الجيّد من الرديء ويذهب الزبد جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وعلى ذمّة الخلود.
والآن وقد انكشف ميدان المعركة الخالدة ، المعركة بين خليقة الشرّ في إبليس وخليفة الله في الأرض. المعركة الخالدة في ضمير الإنسان والّتي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان بإرادته وعهده مع ربّه ، وينتصر فيها الشرّ بمقدار ما يستسلم الإنسان لشهوته وينقاد لهوى نفسه ، فيبتعد عن ربّه.
وفي الآيات الّتي تليها (٣٥ ـ ٣٩) عرض نموذجي من تلك المعركة الّتي خاضها الإنسان بدء وجوده وخسرها بعض الشيء ، لتكون تجربة في محاولاته من بعد طول مسيرة الحياة.
(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ).
نعم يعيش هذا الإنسان ـ بل وكلّ مخلوق خلقه الله ـ في ظلّ عناية البارئ البارّ الحكيم في طمأنينة وسلام ، هادئ البال فارغ الخيال ، في رغد ورفاهية من العيش يتمتّع بالحياة حيث يشاء.
فقد أبيحت لهما (لآدم وحوّاء وهما يمثّلان النموذج البشري في بدء تكوينه) كلّ ثمار الجنّة إلّا شجرة واحدة. وربما كانت ترمز للمحظور الّذي لا بدّ منه في الحياة على الأرض ، فبغير محظور لا تنبت الإرادة ولا يتميّز الإنسان المريد (صاحب الإرادة الذاتيّة) من الحيوان المسوق. ولا يمتحن صبر الإنسان ومقاومته تجاه جموح النفس وأطماعها الهابطة ، إلّا بمقدار مقدرته ومبلغ صلابته على الوفاء بالعهد والتقيّد بالشرط. فالإرادة هي مفترق الطرق بين الإنسان وغيره.
(فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ).
تلك هي التجربة الأولى لم ينجح الإنسان فيها كما أراده الله (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(١). فنسي أم تناسى؟ نعم تناسى حيث غلبته الوساوس ولم يقف موقفه الصارم
__________________
(١) طه ٢٠ : ١١٥.