الحقيقي الكامل لا يلحقه الشوق ؛ إذ المعشوق فيه حاضر في كلّ وقت من كلّ وجه ؛ والشوق لا يتصوّر إلّا إذا كان المعشوق حاضرا من وجه غائبا من وجه ولذلك يتقدّس عشقه سبحانه عن الشوق ؛ لأنّه تعالى نال معشوقه من كلّ وجه دائما ، وكلّ مشتاق إلى مرغوب فإنّه قد نال منه شيئا وفاته شيء ؛ وكذا يتقدّس عشق الملائكة القدسية والعقول النورية أيضا من الشوق لبراءتهم عن القوّة ؛ فالشوق إنّما يكون في ساير مراتب العشق ؛ أعني عشق النفوس الفلكية والإنسانية ؛ فإنّ النفوس الفلكية من حيث هم عشّاق قد نالوا نيلا ومن حيث هم مشتاقون قد فقدوا فقدا لعدم وصولهم إلى الغاية القصوى من / B ١٥٩ / الوصول في حقّهم ولذا يصحبها قوّة وهجران أبدا ؛ فهم واجدون في عين الحرمان وواصلون حين الفرقان ؛ ولا محالة يغشيهم نوع دهشة وحيرة وأذى لذيذ ؛ لأنّه من قبل المعشوق والأذي الذي يصل من المعشوق إلى العاشق يكون لعبده (١) لذيذ ؛ لأنّه يتصوّر وصول أثر المعشوق به إليه ووصول الأثر أثر الوصول وهاتان الجهتان ـ أي جهتا اللذّة والأذي ـ في النفوس الفلكية بإزاء الرجاء والخوف في النفوس الإنسانية الفاضلية الصالحة.
وأمّا النفوس الإنسانية فإن كانت كاملة في العلم والعمل واصلة إلى الغبطة العليا والسعادة العظمى في حياتها الدنيا وبه كان أجلّ أحوالها أن تكون عاشقة مشتاقة ؛ فشبوقها يؤدّي إلى الطلب ؛ فإن أدّى الطلب إلى النيل بطل الطلب وخفّت البهجة ووصلت إلى مرتبة الفناء المسمّاة في عرف العرفاء بالولاية ؛ ففازت بمرتبة المقرّبين ولحقت بالملإ الأعلى ؛ فإنّ الإنسان له سبيل إلى الوصول إلى هذه المرتبة ـ كما تقدّمت الإشارة إليه ـ وإن لم يؤدّ طلبها إلى النيل لا يخلص عن علاقة الشوق في الحياة الدنيا وربّما خلصت عنها في الحياة الاخرى ؛ والنفوس الناقصة المنكوسة المغموسة في عالم الطبيعة غير خالية بحسب جبلّتها وفطرتها عن
__________________
(١). س : عبده.