شجرا والبذر ذرعا ؛ وإلّا لم يصل إلى مقام اللقاء ؛ إذ من لم يزرع البذر كيف يحصد ومن لم ينقّ الأرض كيف ينمو زرعه؟! فمن لم يعرف الله في الدنيا كيف يراه في الآخرة؟! ومن لم يجد لذّة المعرفة هنا كيف يجد بهجة اللقاء والنظر هناك؟! ومن لم يصقل نفسه كيف يستعدّ لشروق نور الحقّ وتجلّي الكمال المطلق؟! وليس يستألف لأحد في الآخرة ما لم يصحبه في الدنيا ؛ فلا يحسر المرء إلّا ما عليه مات ولا يموت إلّا ما عليه عاش ؛ ولا يكون له في الآخرة إلّا ما حمله من الدنيا.
ثمّ تختلف درجات المشاهدة والتجلّي باختلاف مراتب المعرفة والتجلّي ، كما يختلف النبات باختلاف البذر بالكثرة والقوّة والحسّ ومقابلاتها. فالفاقد لهما رأسا محجوب عن الله أبدا ؛ والمحصّل يشاهد بحسب ما حصل ؛ ولا حدّ لمراتب الاختلاف في ذلك ؛ إذ بحر المعرفة لا ساحل له ومراتبها غير متناهية. فكيف لا والواجب غير متناهي القدرة والكمال ؛ والإحاطة بكنه جلاله وعظمته في حيّز المحال وما يمكن أن يدرك لا نهاية له. فكلّما ازدادت المعرفة في الدنيا عدّة وشدّة اشتدّ اللقاء في الآخرة وضوحا وبهجة حتّى يصل إلى ما لا يحتمله عظماء الإنسان. ثمّ إلى ما يخرج عن حيطة قرباء الإمكان.
وبالجملة : من لم يحصل شيئا من نور الإيمان لم يعقل حصوله وازدياده في الآخرة ، بل إذا حصل منه شيء يزداد ويتمّ فيها ، كما قال سبحانه : (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) (١) و (يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) (٢) وتمام النور إنّما نور في زيادة الكشف والإشراق.
ثمّ لا تظنّ أنّ المعرفة في الوضوح والبهجة كالتخيّل ، وأنّ اللقاء فيهما كرؤية البصر ، وأنّ زيادتهما في اللقاء بالنسبة إلى المعرفة كزيادتهما في رؤية البصر بالنسبة إلى التخيّل ؛ فإنّ الأمر ليس كذلك ؛ إذ لا نسبة لما في حقيقة المعرفة واللقاء
__________________
(١). الحديد / ١٢.
(٢). التحريم / ٨.