الوجه الثاني : أنه لا طريق إلى إثبات هذه المعاني القديمة ، وكلّ ما لا طريق إليه وجب نفيه.
وإنما قلنا : إنّه لا طريق إلى إثباتها ؛ لأنه لا يدل شيء من أدلة العقول على إثباتها ، وقد دلّ العقل على أنه قادر ، وموجود ، ودلّ الإحكام في الصنع والإتقان على أنه عالم ، ودلّ الدليل المتقدم على أنه لا يكون قادرا عالما إلا وهو حي ، ودلّ على أنّه قديم ، وكذلك سائر الصفات على ما مضى بيانه في بعضها.
والباقي سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، وليس في شيء من هذه الأدلة ما يدل على المعاني التي ذكروها ، فثبت أنه لا طريق إلى إثباتها.
وإنما قلنا : بأنّ كل ما لا طريق إليه وجب نفيه ؛ لأنّ إثباتها بغير دلالة يفتح باب كل جهالة.
الوجه الثالث : أنّ تلك المعاني لا تخلو أن تحلّ في الله تعالى أو لا تحلّ. باطل أن لا تحلّ فيه تعالى وتوجب له ؛ لعدم الاختصاص به تعالى ، فكان يجب أن لا توجب له لعدم الاختصاص به.
ثم لو سلمنا أنّها توجب مع فقد الاختصاص فلم تكن بأن توجب له أولى من أن لا توجب له وأولى من أن توجب هذه الصفات لغيره لعدم الاختصاص ، ألا ترى أنّ أحدنا لمّا كان قادرا بقدرة ، وعالما بعلم ، وحيّا بحياة وجب حلول هذه المعاني فيه ؛ ليكون بها قادرا وعالما وحيّا ، وباطل أن تحلّ فيه تعالى ، لأنّ المحالّ كلّها محدثة ، فإنا لا نعني بالمحال إلا المتحيّزات من الجواهر والأجسام ، وقد دللنا على حدوث جميعها. وهو تعالى قديم ، فلا يجوز حلولها فيه ، فكان لا بدّ من أحد أمرين : إمّا أن يكون محدثا لكونه متحيّزا أو محلّا ، وإمّا أن يكون المتحيّز قديما لاحتياج القديم إلى حلوله (١). وكلا الأمرين محال.
__________________
(١) أي حلول المعنى في الذات لتؤثر كما يقولون.